تُعد مسألة سيطرة وسيادة الأنماط التقليدية في فلسفة المعرفة وأشكالها البلاغية في خطابنا الفلسفي العراقي**، واحدة من كبرى الإشكاليات المهمة التي لازالت تلعب أدواراً مختلفة في صناعة "النص الفلسفي التقليدي"، ذلك النص الذي اتسم بغياب البعد الإشكالي والنقد الابستمولوجي لتاريخية مجمل أنساقه الفلسفية السابقة، بوصفها تشكيلات أيديولوجية عملت على تكريس ممارسات أكاديمية إرتكاسية/نمطية في كتابة النص الفلسفي؛ واختيار ثيماته الفلسفية، بل وحتى في فهرسة وتداول ذلك النص. وعند تتبعنا لطبيعة تحولات النص الفلسفي منذ لحظة انبثاقه الأولى، المتمثلة في جيل الرواد المهندسين لذلك لنظام المعرفي ولنظرياته الفلسفية، سنجد أن اغلب الاجيال المتعاقبة على تلك التصورات بقيت منشغلة في نفس القضايا التقليدية للفلسفة، كقضية المعرفة التجريبية؛ والمعرفة المثالية؛ وتواريخ الفكر الفلسفي في شقيه الاسلامي والغربي. واللافت في الأمر اننا وإلى يومنا هذا نجد أن طرق ومناهج تناول "نظرية المعرفة" الفلسفية لم تتعرض إلى التغيير والنقد والتحويل، وكأنها نظرية مستقلة عن بقية الخطابات الثقافية؛ والسايكولوجية واللغوية. ومن المفارقات الأخرى والكبرى في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، انه تعامل مع نظرية المعرفة بطريقة "ارثوذكسية/ماقبل النقد الابستمولوجي"، بمعنى أن جيل الرواد ومنذ لحظة تدشينه للنص الفلسفي، عمل على استبعاد هذا النص من الثورات الحاصلة في مناهج العلوم الإنسانية وخطاباتها المختلفة، فلا يمكننا أن نجد مثلا، قراءات نقدية وتحليلية لنظرية المعرفة من خلال اعتماد احدث نظريات الفسيولوجيا؛ والسايكولوجيا؛ والتحليل النفسي؛ والدراسات الثقافية وتحليل الخطاب ونظريات الثقافة والمادية الثقافية...الخ، بل على العكس من ذلك، نلحظ وجود حالة من الاهمال الأيديولوجي في تحقيق أي "تواصل ابستمولوجي" بين نظرية المعرفة وعلوم اجتماع المعرفة التاريخية.
أضف إلى أن ذلك الجيل من الرواد اعتمد منذ البدء على سياسات معينة في إنتاج/وإعادة إنتاج النص الفلسفي، بتجاوزها المتواصل لعملية قراءة/وتأويل "لوغوس" نظرية المعرفة. ونتيجة لذلك، سيطرت المناهج القبلية والتجريبية والحدوسية والغنوصية في نظرية المعرفة التقليدية، بوصفها مناهج قارة وثابتة ومحدِدِة لشكل وبنية نظرية المعرفة في فضاء المؤسسة الأكاديمية الفلسفية، وذلك للحفاظ على سيادة: "أيديولوجيا المعرفة وعقلانية الوجود الارسطو-افلاطوني". وبالتالي، تبقى نظرية المعرفة منفصلة عن النظام السيميو-تاريخي (اي السيميوتيك التاريخيhistorical semiotics) الذي يُشكل المحتوى الذهني والمفاهيمي لاستعمالات اللغة في بنية الحياة اليومية. بعبارة أخرى، إن استبعاد مناهج السيميو-تاريخية عن تاريخ نظرية المعرفة الفلسفية، سيؤدي بالضرورة الى استبعاد نظريات تأويل تاريخية مفاهيم الذهن وتطور اللغة والمعنى في السياق الثقافي.
من هنا، ستنصب قراءتنا التأويلية هذه على مراجعة الأرشيف الفلسفي والميتافيزيقي وتواريخ الرسائل الجامعية المحفوظة فيه. فعبر جولاتنا بين دهاليز ذلك الأرشيف، لاحظنا افتقار اغلب تلك الرسائل الجامعية إلى قراءات نقدية وتحليلية لبنية نظرية المعرفة من الناحية الانطولوجية؛ المنطقية؛ الثقافية والسوسيو-لسانية ( sociolinguistics)...الخ، وكأن هنالك حالة أشبه بوجود "سلفية اكاديمية معتمَدة ومتعمّدة" في تكريس أشكال ارثوذكسية ولا تاريخية في إنتاج نظريات معرفة أيديولوجية، تؤسس لبقاء كل ماهو سلطوي/بديهي/شمولي/ ميتافيزيقي، او بما يُعرف بسيطرة (النزعة الموضوعانية objectivisme) على تاريخية العملية الفلسفية، الأمر الذي جعل من نظرية المعرفة بعيدة تماما عن التساؤل الابستمولوجي/والانطولوجي، لذلك رأى الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر: ((إن الفضيحة الحقيقية للفلسفة تتمثل في اللاتساؤل النقدي لسلطوية ومركزية نظرية المعرفة في الفلسفة المعاصرة...لان نظرية المعرفة امتزجت في ذاتها بنظام ميتافيزيقي دوغمائي مُفترض))(1). وبطبيعة الحال، إن نسيان الخطاب الفلسفي التقليدي لسؤال نظرية المعرفة الإشكالي، سيؤسس بالضرورة لنسيان الوجود والكينونة، طالما كان المنطق القبلي/والموضوعاني هو المؤسس للنظام المعرفي والانطولوجي للوجود، رغم أن ((سؤال الوجود سابق على كل اسئلة الفلسفة وإشكالاتها))(2).
لكن كيف يمكن لخطابنا الفلسفي الذي أستغرق منذ تأسيسه في الفلسفات الافلاطونية والارسطية أن يستأنف سؤال الكينونة والفلسفة؟ وكيف له أن يتحرر من هيمنة تلك الأنساق الشمولية والميتافيزيقية؟ وهل ينبغي لنا أن نعود لأعمق وأقدم مدونات ارشيف ذلك الخطاب بوصفها قدَرَنا الميتافيزيقي، الذي شطر وجودنا بين جدل الأنساق النظرية والابستمولوجية المنفصلة عن جدل المعرفة؟ ثم لماذا بقي سؤال المعرفة والوجود في خطابنا الفلسفي بعيدا عن التساؤل والنقد؟وهل تمأسست كتاباتنا ورسائلنا الفلسفية ايضا، بذلك النسيان الانطولوجي للوجود وللإنسان وللمعرفة؟
في الواقع، إن عملية إعادة فتح الأبواب الموصدّة لأرشيفنا الفلسفي، هي في جوهرها، محاولة لإعادة استنطاق "وقائع وحقائق" لازالت راسخة في مُتخَيّل الخطاب الفلسفي العراقي، ذلك الخطاب الذي لم يدرك إلى هذه اللحظة، طبيعة العلاقة الانطولوجية المتداخلة بين نظرية المعرفة والوجود واللغة، رغم أن تلك العلاقة حُبرّت لها آلاف الأوراق والكتب والرسائل والاطاريح الجامعية، إلا أن "إشكالية الذات العارفة/المتماهية في نظام منطقي بديهي صارم" بقيت هي الإشكالية المركزية/والمسيطرة على ذلك النتاج الفلسفي، كما كان الحال عليه في الفكر الغربي، الذي هو الآخر، طالما عانى من تلك المركزية، لدرجة أن: ((المجتمع الغربي وضع قيمة كبيرة للذات العارفة، دون أن يضع ادنى اعتبار للذات الموجودة، ولم يخجل من حقيقة المستوى الضئيل لوجودها، بل ولم يفهم أيضا ماذا يعنيه ذلك الوجود، ولم يدرك أن معرفة الانسان تعتمد على مستوى وجوده))(3).
لذلك، اتسمت اغلب كتاباتنا الفلسفية بالتجريد النظري والتعالي المفاهيمي، مما جعلها بعيدة عن طرح أي إشكالية ثقافية ذات مساس بوجود الانسان في العالم، فماذا يعني أن تزداد تلك الكتابات حجما وكما وتراكما، على حساب نسيان سؤال الوجود!! فأي ((معرفة تُنتَج بمعزل عن الوجود، ستكون معرفة نظرية ومجردة، وغير قابلة للتطبيق العملي في الحياة، وغير نافعة في الواقع، فبدلا من أن تخدم الناس في حياتهم وتمكنهم بطريقة افضل على تحدي الصعوبات التي تعترضهم، نراها تعمل على تعقيد حياتهم وتجلب لهم مشاكل واضطرابات وكوارث جديدة لم يألفوها من قبل))(4).
وهنا يقع بالضبط جوهر الخلاف والانشقاق الاكاديمي، أي الانشقاق الحاصل في تاريخ النص الفلسفي العراقي، الذي ظل يُعيد إشكالية الانفصال التداولي بين كل من: المعرفة ونظرياتها وسؤال الوجود المنسي. الأمر الذي جعل من المعرفة تتشكل بطريقة بيداغوجية تسيرّها مجموعة من الأنساق والأهواء التي تتحرك لصالح جهات محددة، ليتحول بذلك مفهوم الوجود الى مفهوم شخصي وليس إشكالي، طالما كان يخدم قضايا ايديولوجية وليست فلسفية. لذلك نرى أن المعرفة لم تتصل بالوجود، الذي لازال مفهوما ميتافيزيقيا في النص الفلسفي العراقي، ذلك النص الذي بقي هو الآخر، يشتغل ضمن مركزياته وأولوياته ومصالحه التي تأسست على طرفي نقيض مع ما يتلاءم مع هموم وانشغالات الوجود اليومي، ((لان المعرفة الغير منسجمة مع الوجود لا يمكن لها أن تتسع بما يكفي ويتناسب مع احتياجات الانسان الواقعية. لذلك ستكون دوما: معرفة بشيء واحد متوازية مع جهل بالأشياء الأخرى؛ معرفة بجزء دون معرفة بالكل؛ معرفة بالشكل دون معرفة بالمحتوى))(5).
-في جدل إقطاع البلاغة وبلاغة الإقطاع...مقاربات ابستمولوجية وثقافية
مما سبق، يتضح كيف أن الإشكالية الانطولوجية وإشكالية الوجود اليومي في العالم، إلى جانب اشكالات المعرفة ونظرياتها التقليدية، ظلت جميعها محكومة "بأنساق ايديولوجية قديمة". أضف إلى أن الخطاب الفلسفي الراهن لم ينجح في تجاوز تلك الأنساق وتقويضها. الأمر الذي ادى إلى انحسار الفلسفة وتحويلها إلى تقنيات قديمة في كتابة ونشر النص الفلسفي الرسمي، تلك التقنيات التي عملت في بنيتها الكلية على شطر المكتوب الفلسفي إلى شطرين: شطر يؤسِس لخطاب فلسفي نخبوي؛ وشطر يؤسِس لإلغاء "تاريخية ألعامة" من على بسيطة الخطاب الفلسفي. فعوضا من أن يكون ذلك الخطاب "ظاهرة انطولوجية"، نراه قد تحول إلى "ظاهرة وعظية أو إيقونة وعظية" تعتاش على أنقاض "المنطق القديم" وأنظمته الميتافيزيائية والاستبدادية -بحسب العلامة علي ألوردي- فتحولت الفلسفة بذلك، إلى "بلاغة اقطاعية أو إقطاع بلاغي"، تُصنِف البشر وفق منطقها الفلسفي /النخبوي المتعالي.
ومن المدهش ان خطابنا الفلسفي لاسيما التعليمي/المنهجي منه، لا زال يعتمد على تلك "البلاغة ونظامها الابستمولوجي الاقصائي" في تأليف ونشر الكتب المنهجية والمخصصة منها للمرحلة الاعدادية. ففي الكتاب المعنون بـ(مبادئ الفلسفة وعلم النفس) للصف الخامس الأدبي، الذي اشرف على اعداده مجموعة من مختصي الفلسفة، وتضمن على بعض من المقدمات التاريخية والنظرية لنشأة فكرة الفلسفة وتطورها عبر التاريخ، إلى جانب استعراض مناهج ونظريات العلوم النفسية والسيكولوجية والاجتماعية التقليدية...الخ. لفت نظرنا في ذلك المنهج، اعتماده على الطريقة الهرمية/التراتبية في اغلب تصنيفاته الأيديولوجية للمجتمع وللمعرفة وأطرها السوسيو-ثقافية وطبقاتها الاجتماعية. حيث تستند تلك الطريقة على أساس الفصل الابستمولوجي الحاصل بين: المعرفة العامية والمعرفة النخبوية، متخذة من مناهج العلوم التجريبية معيارا في تأسيس مثل تلك التصنيفات. فبحسب ذلك المنهج الدراسي: ((هنالك اساليب مختلفة للتفكير، فالإنسان العامي له اساليبه في التعبير عن معارفه والتي تتضمن (الاساطير والخرافات) وعدم معرفة التجارب العلمية والتحقق منها...وهناك صفات للتفكير لدى الفلاسفة، فأنهم يستخدمون قدراتهم (العقلية) وما افادوه من حقائق العلم. اما اساليب التفكير العلمي فهي تعتمد (المنهج العلمي التجريبي) والطرائق المعروفة للوصول إلى صياغة القوانين العلمية. والخصائص العامة للتفكير العامي هي: ...المعرفة العاميّة: هي المعلومات والتجارب الشخصية التي اكتسبها الانسان دون الاعتماد على التجارب العلمية والدراسية المنهجية.. وهذه المعرفة عبارة عن معارف لا تقوم بينها روابط وعلاقات بل على أساس خرافي، كالربط بين الظواهر الحسية وبين الظواهر الغيبية. ان هذه المعرفة لا ترتقي إلى مستوى التعميم والوصول إلى قانون يفسر الظواهر المحسوسة. ويتصف التفكير العامي بما يأتي:1- المبالغة: صفة من صفات رجل الشارع يعبر بها عن الحوادث بطريقة مبالغ فيها ،قد تكون مختلفة تماما لما حدث فعلا. اذن، فأول ما تتصف به المعرفة العامية هو عدم الدقة التي ينشدها العالم والفيلسوف. 2- التعميم الخاطئ: أن الفرد غير علمي او رجل الشارع اوالعامي يعمم في احكامه نتيجة حادثة أو حادثتين، دون الاعتماد على الحقائق والوقائع. 3- الذاتية المسرفة: أن اراء رجل الشارع تعتمد على الذات أو العاطفة أو بما يرضي مزاجه الشخصي، ولا تعتمد افكاره على الموضوعية في الحكم على الأشياء أو الظواهر. 4-الربط الخاطئ بين الظواهر: مثلا، ينسب الشخص العامي (المرض) إلى الارواح الشريرة، أو يفسر حادثة (موت) شخص بظاهرة نعيق البوم، في حين لا توجد رابطة أو علاقة بين الظاهرتين مطلقا. ان هذا النوع من التفكير ينسب الاحداث إلى (علل أو اسباب)غيبية، لا يمكن التثبت منها بالتجربة الحسية، فكسوف الشمس، وخسوف القمر قد ينسبها مثل هذا التفكير الى (حوت خرافي يبتلعهما) أو غيرها من العلل الوهمية الغيبية. خصائص التفكير العلمي: هناك صفات معينة يتصف بها التفكير العلمي، تجعل البحث ناجحا لانه قائم على أسس صحيحة تعتمد على اكبر جهد ممكن في سبيل جمع اكبر عدد من الظواهر التي يقوم بدراستها. 1-الشك المنهجي: أن الباحث الذي يبحث عن أليقين لابد أن يتخلص من الأفكار الخاطئة التي تفسد بحثه وتعوق من انطلاقه. ومن خلال الشك المنهجي يستطيع أن يتحرر من كثير من الأفكار الخاطئة. 2-الموضوعية: تعني الموضوعية أن يقوم الباحث بالبحث في ظاهرة ما دون تدخل ذاته وعواطفه ومزاجه الشخصي، ويتعامل مع موضوع دراسته كما هو في الواقع، لا كما يتمنى ويرغب. فالعلم يصف الأشياء وتقريرها كما هي. يرى (كلود برنار) اذا اختلف العلماء مثلا على دراسة ظاهرة من الظواهر، فأنهم يحسمون الخلاف بالالتجاء إلى الواقع، ومحك الصواب عندهم هو (التجربة) التي يمكن تكرار اجرائها للتثبت من صحة النتائج بطريقة موضوعية. 3-التكميم: أي تحويل الكيفيات إلى كمية ومقدار، فأذا درس الباحث (الصوت) رده إلى (الذبذبات)، واذا درس الحرارة ردها إلى (الموجات) الحرارية... 4-التعميم: يقصد بهذا المبدأ ان الباحث يقوم بأحصاء غير محدود من الظواهر وتعميمها.... 5-التجربة: أن العالم الذي يدرس ظواهر الطبيعة الواقعية لا يستمد حقائقه الا من التجربة الحسية. 6-التحقق: يعني التأكد من صحة النتائج التي يتم التوصل اليها عن طريق إعادة اختبارها،وذلك بالرجوع إلى التجربة في الواقع.... خصائص التفكير الفلسفي: تختلف الموضوعات التي يدرسها كل من الفلسفة والعلم، فالعلم يدرس الظواهر الحسية ويقوم بدراستها بالمنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد المشاهدة والتجربة، اما الموضوعات التي تدرسها الفلسفة فهي مختلفة لأنها تصطنع مناهج أخرى تسمى(مناهج الاستنباط العقلي)، انها لا تدرس الظواهر الجزئية- كما تفعل العلوم ألطبيعية- بل تدرس الوجود بشكل عام-الوجود المادي، والوجود غير المادي. واهم خصائص التفكير الفلسفي هي: أولا- الشك: من الخطوات الاساسية للمعرفة الحقة، والمقصود هنا: من اجل الوصول إلى الحقيقة وعدم التسليم بكل ما يقال إلا بعد التأكد منه. ثانيا-الاستقلال:أن الفيلسوف يستخدم عقله في معرفة الأشياء، ولا يعتمد في تفكيره على اجماع الناس..لأنه قد يجمع الناس على الاعتقاد ببعض الخرافات والأساطير التي لا يقبلها العقل السليم. ثالثا-المرونة: وتعني أن الفيلسوف يكون قادرا ومستعدا للتخلي عن آرائه اذا ثبت عدم صحتها..وهذا يدل على الروح العلمية الصادقة.رابعا-التجرد من العاطفة: يجب عدم ادخال العاطفة في الموضوعات التي يتم البحث فيها –أي ابعاد التأثيرات الانفعالية عن التفكير))(6).
إن بنية النص أعلاه، تطرح علينا إشكالات لامتناهية. فالملاحظ على ذلك المنشور التعليمي، تبنيه لمفاهيم فلسفية ونظريات علمية وأراء كوسمولوجية وسيكولوجية، تنهل جميعها من منهل "بلاغة المنطق الفلسفي القديمة" أو بما يُعرف "بصخرة المنطق القديم"، ذلك المنطق المتمركز على الفلسفات الأفلاطونية والارسطية التقليدية -بحسب رؤية العلامة ألوردي- حيث تتجلى سيطرة "بلاغة الافندية الجُدد" ولسانيات "الميث-أفلاطونية" المستندة على "بلاغة الاتكال الميتافيزيائي"، في لغة وأسلوب عرض الأفكار الفلسفية وتاريخها وفي خطاب تبويبها وتصنيفها لطبيعة انماط المعارف: الفلسفية؛ العلمية؛ العادية؛ النخبوية والعامية...الخ.
فمن الملاحظ على طبيعة ذلك التصنيف انه حدد لكل شكل من اشكال المعارف المذكورة أعلاه، خطابا معرفيا غير متداخل مع بقية الخطابات المعرفية الأخرى. فخطاب التفكير العلمي مثلا، جرى عزله ضمن نمطه العلمي التجريبي، فأصبح من الصعوبة بمكان، أن يتفاعل مع خطاب التفكير الفلسفي، وذلك لان بنيته المعرفية لا تتفق وبنية المعرفة الفلسفية، وهذا ينسحب أيضا على خطاب التفكير الفلسفي، الذي أصبح هو الآخر، غير قادر على الانسجام مع خطاب تفكير العامة، لما تتصف به بنية ذلك الخطاب الفلسفي من نزعات نخبوية ومتعالية على الوجود التجريبي/الحسي للحياة اليومية للعامة.
هكذا نرى كيف كرست "بلاغة الإقطاع وإقطاع البلاغة"، لواقع فلسفي افلاطوني يؤسس "لخطاب العزلة وسياسة النبذ والإقصاء"،فبحسب منطق تلك البلاغة، تم تصنيف "انطولوجيا الوجود اليومي" وفق تراتبيات وهرميات أيديولوجية، عملت على اقصاء كل ما هو فلسفي اصيل في تلك الانطولوجيا، واختزالها بمصطلحات غير علمية أو فلسفية أو حتى قيّمية، فتارة دعتها "بالعامية"، وتارة أخرى "بالعامة"، وأخرى "برجل الشارع"، ذلك الرجل المتصف بكونه انسان "ما قبل المرحلة المنطقية" و "ما قبل الفلسفة" و "ما قبل العلم" و "ما قبل التفكير التجريبي"، بل انه مستثنى حتى من قانون الفطرة الكوني الذي تحدث عنه ذلك المنهج الدراسي. فعلى ما يبدو، أن "رجل الشارع" هو كائن منبوذ من لائحة العلم والفلسفة، لم يُعاد التفكير به أو اكتشافه من جديد، فهو بكل بساطة، انسان لا "يخضع للتقييس التجريبي والضبط المنطقي/العلموي الصارم"، وغير مشمول بنعمة وبركة "الاستنباط وسلطوية العقل والعقلانية القديمة"، التي لطالما تباهت بها بلاغة الفلسفة البرهانية المفرطة في ولائها لكل ماهو ايديو-ميتافيزيقي. الأمر الذي جعل من تاريخ الفلسفة، تاريخا يتأسس دوما على حساب العاميّ أو رجل الشارع، ذلك "الثالث المقموع من العلم والفلسفة والتاريخ".
واللافت أن خطاب الإقصاء والإخصاء "لكينونة العامة وإنكار وجودها في العالم اليومي" ضمن ذلك المقرر الدراسي، جاء متزامنا مع اقصاء مشابه لإشكالات المناهج التاريخية والدراسات التاريخية الجديدة. بمعنى آخر، أن ذلك المنشور المنهجي لم يخصص حيزا لبحث ما يُعرف تقليديا في أقسام الفلسفة بـ(فلسفة التاريخ). حيث بدا ذلك المنشور مجردا عن أي رؤية تاريخية أو نقدية لتاريخ الفلسفة من جهة، ولتاريخ علاقتها مع الوجود اليومي والأيديولوجي والسياسي...الخ، من جهة أخرى. الأمر الذي يثير أكثر من تساؤل عن السبب في حصول ذلك التزامن والإهمال؟ فهل كان غياب مناهج الدراسات التاريخية الجديدة والحوليات/والهستروغرافيا التاريخية المعاصرة، متلازم بالضرورة مع غياب الوجود اليومي أو وجود الإنسان العادي؟ وإذا لم يتبنَ ذلك المنشور خطاب "التاريخية الجديدة ومناهجها الابستمولوجية والثقافية"، التي تخرج عن مجمل فلسفات التاريخ الرسمية والأيديولوجية، فهل هذا يعني أن المنشور الفلسفي قد تبنى مسبقا، تلك الفلسفات؟
ان غياب فرضيات ونظريات الدراسات التاريخية الجديدة والحوليات التاريخية في المنشور الفلسفي أعلاه، يشير بطريقة ما أو بأخرى، لتاريخ من "التشكيلات الأيديولوجية/الشمولية" التي تطبعّت بها عمليات تشكيل النص الفلسفي الرسمي والنخبوي، والتي اختزلت دور الفلسفة إلى مجرد "وظيفة" في دوائر الدولة الرسمية، تعمل على تسيير ممارسات تقديس لغة "التاريخ الشمولي". فمن خلال اعلاء خطاب المكتوب الذي يمثل "بلاغة الدولة وهويتها" على حساب "الخطاب الشفاهي العامي"، تحددت أهم ملامح مهمة الفلسفة في إعادة نشر ذلك المكتوب، لتثبيت منطق الهيمنة الشعورية واللاشعورية على جسد لغة اليومي وتاريخه المقهور، والذي لا يمكن له أن يتحقق دون تبخيس للغة الطبيعية/اليومية ووصمها بالالتباس والغموض، ومن ثم، باللاموضوعية؛ واللاعقلانية واللاعلمية...الخ.
فهل من الممكن أن نعتبر ذلك المنشور الفلسفي " جزء من كل"، أي انه حلقة ضمن سلسلة بسيطة من سلاسل الفكر الفلسفي الرسمي والأيديولوجي، الذي لطالما احكم بقبضته الفلسفية وأنظمته المنطقية والبلاغية/ماقبل الحجاج والتداول على شكل ومضمون العملية الفلسفية المتكونة عبر التاريخ؟ حيث نلاحظ أن طرق كتابة ونشر النص الفلسفي العراقي، لم تنجح في تحقيق أي قطيعة ابستمولوجية مع كل من: المنطق القديم الذي ظل مهيمنا على تاريخ تلك الفلسفة من جهة ،ومع فلسفات التاريخ "التعبوية والشمولية الرسمية" التي جرى كتابة النص الفلسفي تحت كنفها من جهة أخرى.
من هنا نرى كيف أن ظاهرة التمييز بين اشكال التواريخ في الخطاب الفلسفي الراهن لم يُولَ لها أي عناية وأهمية، ربما لان خطابنا الفلسفي لا زال خطاب "نخب وموظفين" يَنظرون إلى العالم من فوهة ابواب اقلامهم ومكتوبهم الفلسفي المقدس ونثرهم اليومي في قاعات دروس الفلسفة. هذا ما جعل التاريخ يسير بخط واحد واتجاه واحد غائي لا يحيد عنه قيد أنملة، فكما توجد ايديولوجيا واحدة فلابد من وجود تاريخ واحد لبطل واحد وحزب واحد، وبما ان الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فكيف يمكن أن يكون هناك ثمة تاريخ للاختلاف/والمغايرة وللتعددية في بنية ولغة انطولوجيا الحياة اليومية للعامة؟ وهل تبقى ثمة حكمة للتاريخ اذا ما ظهر العامة على سطح التاريخ؟
والمدهش والغرائبي في كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)، انه لا زال يتبنى طروحات انتروبولوجية استعمارية وكولونيالية في تصنيف المجتمعات الإنسانية، كمصطلح "الانسان البدائي" مثلا، على الرغم من أن تاريخ علم الإناسة والانتروبولوجيا، أعاد النظر بذلك المصطلح وبمنطقه وبثقافته منذ الخمسينيات. فعلى حد تعبير الاستاذ علي حرب، في دراسته الانتروبولوجية الموسومة (نحو اعادة قراءة لإشكالية التوحش/التمدن)، ان تلك التصنيفات((..اخذت تتزعزع منذ زمن على يد بعض الانتروبولوجيين، وبالأخص منذ كلود-ليفي ستراوس. فقد وجه هذا الاخير منذ الخمسينات من هذا القرن، نقدا صارما لفكرة التقدم وللمفهوم الغربي للتاريخ. وقد تواصل هذا الاتجاه النقدي، من بعده، على نحو أكثر جذرية واتساعا، خاصة عند بيار كلاستر الذي رأى أن النظرة التطورية إلى التاريخ لا تطلعنا على حقيقة المجتمعات البدائية، وذلك بقدر ما تعكس نظرة الغرب إلى ذاته، أي بقدر ما تنطلق في حكمها على العالم البدائي من المصطلحات والمعايير التي تستخدمها المجتمعات الاوربية....لقد سعى كلاستر الى "الالتقاء" بالآخر المتمثل بالبدائي، فقاده ذلك إلى أن يطرح مشكلة التاريخ بتعابير جديدة وان يعقل السيرورة الإنسانية من منظور جديد. مما يعني...إعادة الاعتبار للحضارات غير الاوروبية بغية إعادة تقويمها واكتشافها. وبهذا فأن الاتجاهات الجديدة في الانتروبولوجيا تفتح افاقا جديدة لمعرفة الاخر والذات معا))(7).
فإذا كانت الانتروبولوجيا الغربية، قد أعادت النظر بمفاهيمها العرقية والمركزية التي تكرس لواقع الهيمنة على الآخر البدائي الخارج عن الكتابة وطقوسها المُعقْلنة، فلماذا يلجأ خطابنا الفلسفي إلى إعادة تبني مثل تلك الاراء العرقية؟ ألم يقرأ خطابنا الفلسفي منذ الخمسينيات تهافت وسقوط مثل تلك النظريات تحت مطارق النقد الابستمولوجي والانتروبولوجي الذي أفسح المجال لإعادة اكتشاف "آخريتنا" المنسية والمجهولة في جينالوجيا الانسان البدائي؟ ألم يفكر خطابنا الفلسفي الراهن في وجود الآخر المغاير؟ ولماذا يحكم خطابنا الفلسفي على ذلك الآخر بالنفي لمجرد كونه انه آخر لا يفكر على طريقة الفلاسفة والعلماء؟ وأي منطق تعليمي هذا الذي يبيح لنفسه مهمة تقسيم الثقافات الإنسانية إلى: عليا/سفلى؛ عالمة/جاهلة؛ متمدنة/متوحشة؛ متحضرة/بدائية؟ وهل كانت تلك التقسيمات محض صدفة، وبعيدة عن تأملات النسق الشمولي الرسمي؟ فلماذا هناك ثمة وجود لتاريخ رسمي مكتوب وليس لتاريخ عامي شفاهي منطوق؟ وإذا كان ذلك "المصنف الدراسي والمدرسي" قد استثنى من خطابه الفلسفي "رجل الشارع" و"العامة" و"انطولوجيا الوجود اليومي"، فإلى من يوجه خطابه؟ فهل كان ذلك المصنف يحاكي ذاته المتورِمة/والمتضخِمة وموروثه الفلسفي اليوناني/الغربي فحسب؟
الهوامش:
(*)باحث من العراق- مختص في فلسفة/وخطاب الدراسات الثقافية العراقية
(**)للوقوف عند اهم تصنيف لتاريخ نظرية المعرفة في خطابنا الفلسفي الأكاديمي يُنظر:
أ.د. حسن مجيد العبيدي : نظرية المعرفة في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر،دراسة منشورة في مجلة دراسات فلسفية،بغداد،العدد الواحد والعشرون،2008
(1)Charles B. Guignon: Heidegger and the Problem of Knowledge, Hackett Publishing Company, USA, 1983, P.13.
(2)Ibid, P.14.
(3)P. D. Ouspensky: In Search Of The Miraculous, Routledge & Kegan Paul, London, 1975, P.65.
(4)Ibid, P.65.
(5)Ibid, P.65.
(6)د.خليل ابراهيم رسول وآخرون:مبادئ الفلسفة وعلم النفس للصف الخامس الادبي، وزارة التربية-المديرية العامة للمناهج، العراق-بغداد،الطبعة الثانية،2010،ص26-29.
(7)د.علي حرب: التأويل والحقيقة، دار التنوير للطباعة والنشر-بيروت،الطبعة الثانية،2007،ص143.
وللمزيد حول علاقة الانثروبولوجيا والفلسفة والانسان البدائي، ينظر: الفصل الثاني (من الاثنوغرافيا إلى الفلسفة) من كتاب (كلود ليفي ستروس: قراءة في الفكر الانثروبولوجي المعاصر) لمؤلفه (د.عبدالله عبد الرحمن يتيم)،اصدارات بيت القرآن،المنامة-البحرين،الطبعة الاولى،1998.