في واقع الأمر إن ذلك المنهج الدراسي "المصنِف"، يطرح علينا مجموعة من الإشكالات الفلسفية والنظرية والابستمولوجية والتاريخية. فلا يمكن النظر إليه على انه منشور تعليمي منهجي فقط، بل لابد من أن نتعامل معه، بوصفه "نصا يختصر تاريخ التناص التعليمي والمنهجي المتبع في أقسامنا الفلسفية"، والذي من خلاله تم تشكيل ووضع مناهج ودروس وجداول وبرامج التعليم الفلسفي المُعتمدة في تدريس مقررات المواد الفلسفية لطلبة أقسام الدراسات الفلسفية في جامعاتنا. فالمتتبع لطبيعة أسلوب كتابة "المصنف أعلاه"، سيجد انه يكاد لا يختلف عن اساليب تلقين المواد الفلسفية وتاريخها في مؤسساتنا الأكاديمية. فمنذ كنا طلابا في قسم الفلسفة، كانت الرؤى الفلسفية في محاضراتنا لا تكاد تختلف في شيء عن تصنيفات المنهج الدراسي المذكور، لاسيما فيما يتعلق "بخصائص الفكر الفلسفي" المتسمة بالعقلانية والموضوعية والاستقلالية عن العامة ووجودهم اليومي. فمثل تلك النظرة هي ليست وليدة اليوم -كما ذكرنا سابقا- بل لها تاريخ طويل من "التناص الأيديولوجي واللاتاريخي"، خاصة فيما يتعلق بترشيح مصنفات فلسفية معينة دون أخرى، أصبحت من قدماء الفلسفة المتربعين على تاريخ تدويل وتدريس الفلسفة. فعلى سبيل المثال، اعتمد قسم الفلسفة على المؤلفات التالية: (تاريخ الفلسفة اليونانية) و (تاريخ الفلسفة الوسيطة) و(تاريخ الفلسفة الحديثة) - وهي مؤلفات تعود للفيلسوف الأرسطي الكبير الأستاذ الراحل يوسف كرم- وجرى تداولها كمناهج تدريسية رسمية غير قابلة للتحاور والحجاج في الدرس الفلسفي، لان "سياسة التلقين والتلخيص من قبل أساتذة الفلسفة لما هو مُقرَر"، كانت أشبه بالمنهج التدريسي المعتمد، الذي لا يحتاج إلى كبير عناء لفهم الفلسفة وتاريخها، فما عليك إلا ان "تحفظ تلك المواد عن ظهر قلب حتى يحين موعد إيداعها في موعد الامتحان المحدد"، لتكتشف فجأة، انك أصبحت فيلسوفا على الطريقة التلقينيةّ!
لكن من اغرب المفارقات الفلسفية الكبرى التي وقعنا فيها آنذاك، إننا لم نكن نتعرف على الأطر الابستمولوجية لتلك الفلسفات ومناهجها النقدية والثقافية، بقدر ما كنا نتتلمذ على الإيمان بالمذهب الارسطي العقلاني الخاص بالأستاذ كرم، أي أن الذي تعلمناه آنذاك هو "الرؤية الارسطية الكرمية –نسبة إلى الأستاذ يوسف كرم- المُعممة كمنهج فلسفي وانطولوجي وتعليمي، التي لطالما نذر لها روحه من اجل ارساء قواعدها وأطرها المنهجية والعقائدية والدينية معا". بعبارة أخرى، إننا ومن حيث لا نعلم اصبحنا نُقدِس العقلانية الارسطية؛ والعقلانية الغربية؛ والعقلانية التومائية - نسبة إلى توما الاكويني وهي نزعة تقابل نزعة التمركز على فلسفة ابن رشد- فلم نعد نفهم الفلسفة إلا من خلال ذلك "البرادايم الكرمي الشمولي"، فأصبح شعار الفلسفة آنذاك :ما أمركم به يوسف كرم خذوه وما نهاكم عنه اجتنبوه. لقد كاد ان يكون هذا حديث قدسي لولا انه حديث موضوع!
حاول الأستاذ كرم جاهدا تطبيق النزعة الارسطية في خطاب الفلسفة العربية الإسلامية، على اعتبار ان الفلسفة الارسطية هي الطريق الامثل للوصول إلى اعلى مراحل العقلنة والعقلانية وميتافيزيقا الحياة الروحية والدينية. واللافت في الموضوع أنه لم يفصل رؤيته الفلسفية ومنهجه المعرفي والارسطي المعتمدة في مؤلفاته الأساسية: (العقل والوجود) و(الطبيعة وما بعد الطبيعة)، عن كتبه التعليمية والمخصصة عن تاريخ الفلسفة الاوروبية المذكورة أعلاه. حيث نراه لا يتوانَ في نقد المناهج الغربية وفلسفاتها التجريبية والمادية، مؤسسا بذلك لمجمل رؤيته الارسطية والميتافيزيائية، وهذا ما اشار اليه الاستاذ ناصيف نصار، حينما رأى أن الاستاذ كرم طرح في مؤلفيه الرئيسيين لفلسفته الارسطية (( ... مشكل المعرفة العقلانية منتقدا التجريبية والمثالية معا، ومنتهيا الى فكرة هي أن العقل يمكن أن يعرف الواقع الخارجي في ذاته. مستعملا بالضبط منهج التجريد....لقد تصور يوسف كرم فلسفته كأنها عودة إلى الفلسفة التقليدية الصادرة عن ارسطو تلك التي طورها فلاسفة العصر الوسيط من امثال ابن سينا وابن رشد وتوما الاكويني. واعتقد ان هذه الفلسفة المنتقدة والمهملة من لدن معظم الفلاسفة المعاصرين هي وحدها الفلسفة الحقيقية. يقصد انها الفلسفة التي تستجيب إلى متطلبات العقل و متطلبات الايمان. ولذلك خصص كل جهده الفلسفي لنقد المعاصرين ولإحياء الفلسفة الارسطية التومائية، معتقدا انه يخدم قضية الحياة الإنسانية، التي لا يمكن أن تتجاوز في نظره اليقين العقلي والإيمان الديني))(8).
من كل ما سبق، حاولنا أن نسلط الضوء على مسألة تداخل البرادايم الفلسفي لمشروع كرم بطريقة شعورية أو لاشعورية في بنية المنشور الفلسفي العراقي الراهن، خاصة كما تجلى لنا ذلك سابقا في كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)، حيث رأينا كيف أن ذلك المصنف حاول أن يقفز على الواقع التاريخي الراهن، بعقلانية مجردة ومتعالية ومنزهة حتى عن ملامسة اجساد العامة بوصفهم عالم ما تحت فلك القمر، أو قل أن شئت "عالم الكون والفساد". وهنا يمكن أن نلحظ بعض من "آثار المد الكرمي-الأرسطي"، فالأستاذ كرم تجاوز، هو الآخر، انطولوجيا الوجود اليومي في العالم، فما كان مسيطرا على مخيلته الفلسفية هو "النموذج الانطولوجي الأرسطي الشمولي والمتكامل والمفارِق لكل ما هو فاسد ومحسوس". لذلك رأينا كيف أن خصائص الفكر الفلسفي والعلمي والعامي الانفة الذكر في المنهج الدراسي المذكور أعلاه، كانت تمثل خصائص الميتافيزيقا الارسطية التي جاء بها "البرادايم الكرمي"، وهي نفسها الخصائص التي استحوذت وسيطرت على مفاهيم خطابنا الفلسفي السابق واللاحق، بل وهيمنت على يوميات الدرس الفلسفي ومناهجه التعليمية. فلا اتذكر اننا خلال مراحل دراستنا في قسم الفلسفة، قد بحثنا في اشكالات الوجود اليومي وعلاقته بنظريات المعرفة؛ ومباحث الوجود والانطولوجيا؛ أو علاقة ذلك الوجود باللغة اليومية، التي لطالما أُهملِت هي الأخرى من البحث والنقد والتدريس، بل لا اتذكر اننا قد قمنا بإجراء مسح ابستمولوجي ونقدي لفلسفة الراحل يوسف كرم ومساءلة ارائه الميتافيزيائية التي اصبحت قدرنا المحتوم.
فعلينا أن لا نصاب بالدهشة من جينالوجيا الآراء الفلسفية الميتافيزيائية، التي تضمنها ذلك المنهج الدراسي، الذي حاول أن يُعيد إلى الأذهان ما هو مكرر ومتفق عليه مسبقا. وعلينا أن لا نتعجب من استمرار مسلسل الاهمال والنسيان "لانطولوجيا الوجود اليومي وبراكسيس الفلسفة التاريخي"، فهي انطولوجيا اعتادت أن تُوضع في سهلة مهملات "الأستذة وأفندية الفلسفة الُجدد"، الذين يبذلون قصارى جهدهم اليوم من اجل يتطابقوا بطريقة ارثوذكسية مع "خطاب الفلسفة اللاتاريخي"، الذي لطالما تغنى بالعقلنة والعقلانية والعقل المطلق والشمولية، التي لا تعبر في النهاية إلا ((....عن نزعة ، أو عن أيديولوجيا ما))(9). وهنا لابد لنا من أن نميز بين "التاريخانية الأيديولوجية" و"التاريخانية النقدية"، فالأولى تعني ((...الخاصية المطلقية للخطاب التاريخي، اذ يتجاوز كل المحددات التاريخية المرحلية والموضوعية، وبالتالي فهو تاريخ يتجاوز التاريخ، يتعالى ثابتا، ابديا كونيا ومطلقا. ان حلمه أن يحقق وحدة التاريخ والوعي المطلق، هذا التحقيق خارج الممارسة، ولذلك نعتبره ايديولوجيا.هذا الوعي الكلي أو التصور الكلي أو هذه الشمولية المتعالية تستمد قدسيتها من الماضي، اقول من الماضي وليس من التاريخ.هذا الماضي الذي نحياه في كل لحظة، ففي كل لحظة نحيا الماضي ونحييه، هل هذا الفعل مجرد اعادة وتكرار ام اختلاف؟.... أن الخطاب التاريخاني هو خطاب وعي في علاقته مع ذات تاريخية هذا الوعي يعي ذاته باعتباره وعيا، كليا، كونيا ومطلقا. وتتحدد علاقته بالذات التاريخية من حيث هي ذات تتجاوز محدداتها الموضوعية. فمسألة معرفة وتحديد دور هذه الذات وطبيعتها مسألة جوهرية: ذات تاريخية مجردة ومطلقة ام ذات تاريخية ملموسة وجماعية؟ ذات تاريخية تعتبر ذاتها مجرد وعي فقط ام تحقيق تاريخي: فالجواب عن هذا السؤال هو الذي يفصل بين التاريخية–النقدية والتاريخانية الأيديولوجية: الأولى تجاوز جدلي ..ونقدي في النظرية والممارسة....والثانية اعلاء لشمولية ثابتة وازلية عبر ذات مطلقة ومجردة خارج الممارسة. هذا ما يفصل كذلك بين الرؤية الميتافيزيقية للوعي والذات والرؤية الجدلية لهما؛ بين الوعي الكلي والمطلق والوعي الملموس؛ بين الذات كنتاج لمسلسل من التناقضات التاريخية وبين الذات الخارقة المتعالية))(10).
وقد اتضح لنا مما سبق ذكره، أن خطاب التاريخانية الأيديولوجية هو الذي شكل مضمون العملية الفلسفية وتكوينها التاريخي في خطابنا الفلسفي السابق واللاحق. وقد انعكس ذلك سلبا على طبيعة التمييز بين ما هو فلسفي وبين ما هو سياسي أو بين ما هو عملي وما هو يوتوبي، لاسيما عند بعض من اساتذة الفلسفة الذين كانت لهم طروحات نظرية وفلسفية، كان يعوزها الدقة الابستمولوجية والتاريخية، والتي هي عنصر ضروري ينبغي أن تتوفر عليه مثل تلك التنظيرات لتتجاوز أفق التاريخانية الأيديولوجية وتتحول إلى تاريخانية نقدية. وقد كان لأستاذ تاريخ الفلسفة اليونانية الدكتور حازم طالب مشتاق تمييزا ابستمولوجيا بين كل من: "المفكر الفلسفي" و"القائد السياسي"، حيث:((...يحصر الأول اهتمامه بالغايات، ويحدد المبادئ، ويرسم الصورة الكاملة للمثل الأعلى، ويتعامل مع الحقائق المطلقة والنظريات المجردة. وينشد مجتمعا كاملا لا يمكن أن يصلح إلا للملائكة. ويتطلع الثاني إلى الوسائل والأساليب التي تحقق تلك الغايات والمبادئ، ويترجمها إلى مؤسسات وأعمال، ويتعامل مع حقائق التاريخ، وظروف الواقع، وطبائع الانسان. وينشد مجتمعا فاضلا يمكن أن يصلح للبشر. عظمة الفيلسوف تقوم على العلم، وتتجلى في التفكير اذا كان صحيحا. وتقوم عظمة القائد على العمل، وتتجلى في التطبيق اذا كان ناجحا))(11).
يضعنا النص السابق في قلب الاشكاليات الفلسفية والابستمولوجية التي تتطلب منا وقفة نقدية وتحليلية، خاصة في تمييزه بين المفكر السياسي والمفكر الفلسفي. فالملاحظ على ذلك التمييز انه يكاد أن يكون تمييزا ميتافيزيقيا عاما افتقر إلى التحديد الاصطلاحي والتاريخي. فمثلا تعامل الاستاذ مشتاق مع مصطلح الفيلسوف بوصفه كائنا طوباويا غير قادر إلا على إنتاج الأفكار الطوباوية المجردة والمتعالية. فهل ينسحب هذا التمييز على كل الفلاسفة ومدارسها وتاريخها؟ وماذا عن الفلسفات المادية والتاريخية، هل يظهر فيها الفيلسوف كما تصوره الاستاذ مشتاق، أي لا شغل يشغله سوى الأفكار المجردة التي لا تصلح إلا للملائكة؟ ألم تكن خصائص المفكر الفلسفي التي جاء على ذكرها الأستاذ مشتاق تنطبق أكثر على البرادايم الطوباوي/الأفلاطوني حصرا وليس عاما، ذلك البرادايم الذي شكل سياقا فلسفيا سائدا آنذاك، أي في مرحلة بدايات تشكيل العملية الفلسفية العراقية؟ ثم ألا يبدو وصف الأستاذ مشتاق، لقدرة المفكر السياسي على تحويل ما هو مجرد إلى ما هو تاريخي وعملي، اقرب إلى الوصف الأفلاطوني المجرد منه إلى الوصف التاريخي الملموس؟ وهل اثبت التاريخ تحول الشعارات والأيديولوجيات إلى ممارسات تاريخية واقعية؟!!!
والغريب أن الاستاذ مشتاق تعامل مع خطاب الفلسفة والفيلسوف بطريقة تبدو اقرب إلى "الوعظ الفلسفي المثالي" منه إلى "النقد الابستمولوجي". لذلك ظهر نصه خال من أي ممارسة ابستمولوجية أو قطيعة ابستمولوجية تُعيد قراءة تاريخ ما نُسي التفكير به في ذلك الخطاب، ومُؤسس لرؤية "تقليدية للتاريخانية الأيديولوجية" التي اعتادت أن تنظر الى التاريخ بطريقة خطية وغائية تتألف من :ماض وحاضر ومستقبل، فيكون بذلك قد قطع الامل لولادة ما يُعرف بتاريخ "القطائع والتبعثر والتشظي" في خطاب الدراسات التاريخية والحوليات التاريخية، ليبقى التاريخ نسقا منتظما، غير مشتت أو مبعثر، محكوما بإرادة "المفكر السياسي" الذي لا تعنيه تواريخ العامة واليومي، فما كان يعنيه هو "التاريخ الرسمي" للدولة المسيطِرة، وهذا التاريخ هو الذي تعلمناه في دروس ومناهج التعليم الفلسفي، وكأن التاريخ في خطابنا الفلسفي تاريخا راكداً وثابتاً ، لأنه تاريخ "منطق السلطة وسلطة المنطق"، فهو تاريخ: (( لا يخبط خبط عشواء، ولا يتألف من وقائع متقطعة...وأحداث مستقلة منفصلة، تتحقق عفوا أو عبثا أو اعتباطا، تحققا مشوشا جنونيا، تتحكم فيها وتسيطر عليها، دوافع غامضة أو اسباب خفية أو قوى مجهولة، هي الحظوظ والصدف والأقدار. بل يمثل وحدة عضوية وحركة دائبة وصيرورة دائمة، ويتألف من سلسلة من الحلقات المتصلة والمراحل المتعاقبة والظاهرات المتكررة، المتشابهة في خصائصها المشتركة وخطوطها العريضة على الأقل، تقود مقدماتها إلى نتائجها، وتؤدي عللها إلى معلولاتها، وتسودها قوانين عامة، تخضع لها التجارب، وتقاس بها الحقائق. وهكذا يكون الحاضر ابنا للماضي وابنا للمستقبل، في وقت واحد وعلى حد سواء. ومن هنا، يكون العلم بالتاريخ شرطا ضروريا لازما للسياسة علما وعملا. ولا يستطيع المفكر أو القائد أن يفهم ظروف الواقع السياسي أو اتجاهات الصراع الفكري أو حقائق التطور القومي، إلا اذا فهم التاريخ، اولا وقبل كل شيء، فهما شموليا...صحيحا، يستخلص النتائج، ويستخرج الدروس))(12).
هكذا يتحول التاريخ إلى "فعل دوغمائي" -عوضا عن أن يكون "فعلا لغويا و بلاغيا"- يصدر فقط من خلال خطاب "المفكر السياسي"، الذي يُصادِر "تاريخ الفاعل الفلسفي والفعل المتفلسف". وهذا ما لاحظناه من خلال التمييز المذكور آنفا للأستاذ مشتاق، فحسب تلك الثنائية صُنِف التاريخ إلى: تاريخ للأذهان وتاريخ للأعيان،وهذا التاريخ الأخير يمثله السياسيون بوصفهم الفاعلين الحقيقيين واللاعبين الأبديين في مسرح التاريخ. تلك الثنائية حكمت بقبضتها على الفلسفة والفلاسفة – دون أي دليل فلسفي أو تحليلي- بالتوقف عن صناعة التاريخ وإعادة كتابته من جديد، وكأن فلاسفة امثال: ماركس ونيتشه وفرويد وريكور وغرامشي وغيرهم، لم يؤسسوا جميعا لجينالوجيا التاريخ ولمساءلة القيّم الثقافية واللغوية والميتافيزيقية التي شكلت تاريخ الانطولوجيا الإنسانية؟ لان تاريخ الفلسفة -بحسب رأي الأستاذ مشتاق- قد توقف عند الفلسفة الافلاطونية التي شطرت الوجود الى نصف يتأمل ونصف يتماهى في المثل المتعالية ونصف يفكر في الالتحاق بالخدمة الإلزامية المُجندة في جبهات الميتافيزيقا المجردة!
لكن ربما قد حمل تصنيف الكاتب على شيء من الصحة التاريخية، سيما وان الفلسفة في خطابنا الأكاديمي قد توقفت عند اللحظة التأملية الأفلاطونية والمنطقية الارسطية منذ أيامه في الستينيات والى يومنا هذا. فلا زالت كتاباتنا تُبدِع في إجراء عمليات التجميل المابعد-حداثوية لملامح وجه الأفلاطونية المتحولة إلى كومة من "تجاعيد فلسفية" شكلت خطابنا ومناهجنا التعليمية. وإلا كيف يمكننا أن نقرأ خطاب التصنيف الاجتماعي والإنساني والطبقي لمنهج تعليمي مثل كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس)؟
فمن اغرب ما وقفنا عليه في هذا المؤَلف التعليمي، هو "التمييز الفلسفي الجديد والمبتكر" لأنواع الفلسفة، وهو تمييز يوضح لنا مدى تغلغل بلاغة المؤسسة الايديولوجية القديمة، التي اعتادت على التصنيفات الافلاطونية والنخبوية كما مر بنا أعلاه. فإذا كنا قد اطلعنا مع الاستاذ مشتاق على ثنائية "المفكر الفلسفي" و"المفكر السياسي"، فأننا مع هذا المنهج الدراسي، سنشهد ثنائية جديدة لا تقل غرابة عن سابقتها وهي تتعلق "بأنواع الفلسفة"، حيث يقسمها :(( الى (فلسفة ساذجة) وهي التي نجدها في اقوال الناس العاديين عندما يتذمرون ويقلقون من موقف معين من الحياة ،فيعبرون عن ذلك بالكلام عن القدر والمصير...الخ، وهذه فلسفة بسيطة لا تعبر عن وعي قائلها ولا تدل على عمق افكاره. وهناك (فلسفة محترفة) وهي فلسفة تعتمد المنهج في دراستها، وتشمل جوانب متعددة في عرضها، في نظرتها للحياة والمجتمع عموما.. فهي تتصف بالوعي العميق في التفكير والشمولية في الرأي، لذلك فهي فلسفة تعبر عن فكر انساني ناضج. ويوجد عنصر مهم جدا يفرق بين الفلسفة الساذجة والفلسفة المحترفة، إلا هو استخدام المصطلحات في الفلسفة المحترفة، وهي (الأدوات) التي يمكن بواسطتها فهم الفلسفة، لان هناك كثيرا من الأفكار يصعب ادراكها بدون المصطلحات أو المفاهيم التوضيحية، لأنها أفكار عقلية صرفة -في كثير من الأحيان- يتطلب ادراكها استخدام مفاهيم أو مصطلحات معينة متفق عليها من قبل الفلاسفة أو المفكرين في جميع ميادين الفلسفة:الاخلاقية، والسياسية، والجمالية، والمنطقية، ومابعد الطبيعة.))(13).
يبدو أن المنهج التعليمي أعلاه، لم يكتفِ بتصنيف الناس والمجتمعات الإنسانية إلى مجتمع منطقي ومجتمع ما قبل المنطقي (على الرغم من أن ذلك التصنيف يعود الى كلاسيكيات الاناسة والانثروبولوجيا الفرنسية خاصة لعالم الاناسة الفرنسي ليفي بريل في كتابه العقلية البدائية، الذي تعرض إلى موجات خطيرة من النقد من قبل الفلاسفة والانتروبولوجيين، وذلك لاحتواء مصنفه على اراء تحط من قيمة العقل البدائي وترفع من شان العقل الغربي الذي هو المنطقي بحسب وجهة نظر الكاتب)، أو الى انسان متفلسف وإنسان الشارع...الخ. فها هو يطرح علينا تمييزا آخر بين الفلسفة الاحترافية والفلسفة الساذجة. فهل يمكن تخيل مثل ذلك التصنيف اللاانساني واللافلسفي؟ أمكتوب على جبين العامة أن تُحرَم من ابسط حقوقها، أي من حقها في التعبير عن وجودها العرضي والعبثي والافتراضي في هذا العالم الزائف؟ هل لأنها لا تتوفر على لغة مفاهيمية عالية الدقة والصرامة المنطقية، فلا يُسمح لها أن تُعبِر عن تراجيديا وجودها المُصادَر مسبقا؟ وهل نجحت لغة فلاسفة الاحتراف أو فلسفة المحترفين في وصف "تاريخ السَحق والبطش والقتل العشوائي" الذي أصبح من الاقانيم الميتافيزيقية التي تُمأسس تاريخية العامة؟ ألم تكن نشأة الفلسفة الأولى، نشأة مكتوبة بنثر ميتافوري بعيد عن التمأسس المفاهيمي والتمركز الميتافيزيقي؟ وكيف قرأ كتاب (مبادئ الفلسفة وعلم النفس) المقولة الفلسفية التالية: "أن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الارض"؟ فهل كانت الارض حكرا على الممنهجين والمتماهين بترسانة اصطلاحية وعلموية مجردة، على اعتبار ان هؤلاء هم من خصهم زيوس واتباعه بنعمة التفلسف الاحترافي؟ وماذا عن مفهوم الحقيقة؟ كيف تشكل في ذلك المصنف؟ وهل ظل هو الآخر، حكرا على رواد الاحتراف الفلسفي المجرد والمتعالي؟ ولماذا ذكر المصنف الفلسفي عبارة ارسطو التي تفضل حب الحقيقة على صداقة أفلاطون، دون تحديد نوع وماهية الحقيقة التي دعى اليها ارسطو، فهل كانت حقيقة ملموسة وتاريخية ام كانت مجردة ومتعالية؟ ولماذا بقي مفهوم الحقيقة في الفلسفة السفسطائية غائبا ومسكوتا عنه كسابق عهده في خطابنا الفلسفي؟ هل لأنه يقف بالضد من مفهوم الحقيقة الأفلاطوني والارسطي الداعم للايدولوجيا الرسمية؟ أم لان خطاب الفلسفة السفسطائية، خطابا يتعارض ابستمولوجيا وانطولوجيا مع الفلسفة الافلاطونية والارسطية؟
ولماذا غاب تناول مبحث "الإنسان بوصفه مقياس كل شيء" في الخطاب السفسطائي عن ذلك المصنف؟ ولماذا لم يتم التوقف عند هذه العبارة المفصلية في تاريخ الفلسفة، التي انعرجت بالفكر الفلسفي من مرحلة التفكير التأملي إلى مرحلة التفكير التداولي المتأسس على "شرعية الوجود اليومي للعامة في انطولوجيا الخطاب والتداول البلاغي/ألحجاجي الجديد"، والذي يقف بالضد من "البلاغة الاستدلالية الأرسطية والأفلاطونية المصادِرة لبلاغة المخاطَب/المتلقي اليومي" –حسب تعبير الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف–؟ فلماذا تغافل مصنفنا الفلسفي عن مفهوم القطيعة الابستمولوجية للخطاب الفلسفي السفسطائي/الجيل الثاني منه، ذلك الخطاب الذي تحولت الفلسفة بموجبه إلى ممارسة لغوية وبلاغية في عالم اللغة والخطابات اليومية؟ ولماذا سكت مصنفنا عن محاولات تهميش وإقصاء الخطاب السفسطائي -التي قام بها كل من أفلاطون وارسطو للحفاظ على بيروقراطية لوغوس الفلسفة المُسيطِر في أثينا- الذي أعاد الاعتبار إلى بلاغة "العامة" من خلال جعل بلاغتهم "مقياسا لكل شيء" في فلسفتهم؟
ما نريد ان نخلُص اليه في تلك العجالة الفلسفية، هو ان تاريخ الفلسفة عندنا تاريخ ما قبل كل من : فلسفة الخطاب؛ والتحليل الثقافي والنقد البلاغي، أي انه تاريخ لم يتشكل إلا على انقاض "المنطق القديم"، ذلك المنطق الذي لم تتعرض قداسته الفلسفية للنقد والتقويض من قبل كثير من رواد الفلسفة العراقية. ولا زال خطابنا الفلسفي حتى الوقت الراهن يعتاش على مخلفات بلاغة ومنطق أساتذة الفلسفة الاستدلالي/النظري/البرهاني بالضرورة، أو على قدماء الفلسفة، الذين لم يُحدثوا اي قطيعة ابستمولوجية على جميع الأصعدة، بدء من المنطق، الذي ظل منطقا وضعيا/رياضيا/برهانيا/صنعيا، لم يضع المتكلم أو ما يُعرف بـ"بلاغة المُخاطب" في حسبانه واعتباراته، بل لم يولِ أي أهمية لنظريات الحجاج والبلاغة الجديدة التي شغلت الأوساط الفلسفية البلجيكية والهولندية والاميريكية والألمانية منذ الاربعينيات والى يومنا هذا. فلماذا اعتمد اساتذة الفلسفة على المنطق الرياضي البرهاني وليس المنطق الحجاجي أو البلاغي؟ هل لأنه منطق لا يؤمن بوجود "آخر مختلف" للفلسفة يستحق التفكير فيه؟ أم لان ذلك الآخر هو مجرد "رجل شارع وعامي" لا يستحق أن نضيع وقتنا الثمين معه؟ فلماذا بقيت كثير من الأفكار والنظريات الفلسفية والبلاغية والانطولوجية منسية ومجهولة منذ تأسيس خطابنا الفلسفي والى يومنا هذا؟ ولماذا يتكرر مشهد إلغاء وتهميش انطولوجيا الوجود اليومي في خطابنا الفلسفي؟ أسُنة فلسفية متبعة عندنا، تلك التي تتأسس على تهميش فئة اجتماعية وتُسيِد أخرى عليها؟ ولماذا لم نشهد تحولات ابستمولوجية وفلسفية كتلك التي يشهدها العالم العربي؟ ولماذا زهد أساتذة الفلسفة عن أي مشروع فلسفي وثقافي أو نقدي؟ ولماذا هناك ثمة ادلجة وليس ثمة فلسفة في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا هناك ثمة عدم وليس ثمة وجود في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا استمر منطق العداء وعدم التواصل مع حقول العلوم الإنسانية في خطابنا الفلسفي؟ ولماذا لم تتم إعادة قراءة بلاغة أرشيف الفلسفة؟ ولماذا لم يتم إنتاج لغة فلسفية جديدة تتجاوز القديمة؟ ولماذا ثمة فلسفة محترفة وليس ثمة فلسفة ساذجة ؟
الهوامش:
(*)باحث من العراق- مختص في فلسفة/وخطاب الدراسات الثقافية العراقية
(8)ناصيف نصار:ملاحظات حول نهضة الفلسفة في الثقافة العربية الحديثة،مجلة الثقافة الجديدة،المغرب،السنة الثانية،العدد الخامس والسادس،1977،ص62.
(9)سليم رضوان:من اجل فلسفة عربية للممارسة،مجلة الثقافة الجديدة،المغرب،السنة الرابعة،العدد الرابع عشر،1979،ص114.
(10)المصدر نفسه،ص115-116.
(11)د.حازم طالب مشتاق:الفكر السياسي والواقع التاريخي،مجلة كلية الآداب-جامعة بغداد،العدد الواحد والأربعون،1970-1971،ص161.
(12)المصدر نفسه،ص161-162. وللمزيد حول مفهوم التاريخ الجديد وخطاب الحوليات التاريخية، ينظر، جاك لوغوف:التاريخ الجديد،ترجمة د.محمد الطاهر المنصوري،مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت،الطبعة الأولى،2007. وينظر أيضا،حسن قبيسي:الفكر التاريخي والأسطورة والواقع الحنظلي،مجلة الفكر العربي-بيروت،العدد الرابع والأربعون،1986.
(13) د.خليل إبراهيم رسول وآخرون:المصدر السابق،ص11