لقد حان الوقت اليوم لإعلاء مفهوم المواطنة على حساب مفهوم الدين، وذلك بناءً على مجمل التحولات التي بات يعرفها العالم الإسلامي من سياسية وفكرية وذهنية واجتماعية، والحال أنه انطلاقا من هذا الشأن فقد باتت مشكلتنا الكبرى الراهنة تكمن في كيفية تمثل الدين وفي نظرتنا إليه، حيث أصبحت الطقوس الدينية حكرا على ممارسة نفعية بدل أن تكون نشاطا يسمو بالروح ويهذب النفس، لهذا ولكي نخوض في الأمر أكثر فأكثر فإننا سنعمل في هكذا قول على الوقوف بداية عند نتائج سوء فهمنا للدين، كي نقف تثنية عند استيهاماتنا الدينية وكيف تحول الإسلام من منير إلى ظلام، أو بالأحرى كيف انتقلنا من خطاب منظم إلى خطاب مدمر.
ظهر الإسلام في بلاد العرب وتحديدا بشبه الجزيرة العربية، وكتب القرآن باللغة العربية وليس بلغة أخرى، كما يعتبر نبي الإسلام عربيا ناهيك عن مجمل صحابته وتابعيه وتابعي تابعيه، من ثمة فإن الإسلام وبناءً على ما تقدم لا يمكن له أن يتأثر ببنية الذهنية العربية... تقول الدراسات الأنثروبولوجية والتاريخية أن العرب ينحدرون أولا من سلالة نوح التي استوطنت شبه جنوب شبه الجزيرة العربية، وليس من بابل كما يعتقد البعض بما أن بابل كانوا يسكنون مجالا خصبا وأنهم أهل مدينة وأهل حضارة، عكس العرب الذين غلبت عليهم البداوة فكانوا ميالين لشظف العيش حسب ابن خلدون وهو ما يبرز في قساوة لغتهم وميلها للتشديد والعنف بدل التخفيف، لكن وبفضل التقلبات المناخية الكبرى التي عرفها العالم قبل أزيد من عشرة آلاف سنة، أي خلال العصر الجليدي والذي نجمت عنه ظاهرة التصحر وارتفاع درجة الحرارة، عمل العرب على الهجرة نحو الشمال حيث استوطنوا مناطق عدة من قبيل العراق القديم ومصر وبلاد الشام وفلسطين...
هذا وينقسم العرب إلى أنواع متعددة نحصرها في أربعة أساسية، وهم العرب البائدة والعرب العاربة والعرب المستعربة ثم أخيرا العرب المستعجمة، في نفس السياق فإنه لا شك أن المناخ يؤثر على طبائع القوم مثلما تؤثر الثقافة واللغة والأعراف... فإن العرب لم يسلموا بدورهم من هاته القاعدة، هذا وإذا عدنا نبحث عن أصل كلمة العرب يمكن أن نجدها في اللغة العبرانية "عرابا" والتي تعني فيما تعنيه الفوضى والتحرك، أي عدم الركون إلى مكان ساكن، ودليلنا في هذا الشأن هو احتراف العرب لنشاط الرعي والتجارة، وكما نعلم مسبقا فإن هذين النشاطين يبتغيان في الفرد عدم الاستيطان وعدم الارتباط بالمكان الواحد، إما بحثا عن الكلأ أو انتقالا من بلاد لأخرى.
الرعي يربط الإنسان بالطبيعة، والراعي الذي يرحل من مكان لآخر تأخذ نفسه بعدا قاسيا، لأن الرعاة الرحل إنما يفعلون هذا الأمر لأنهم يستوطنون مناطق قاسية مناخها وظروفها، وهو ما يجعل قسوة الطبيعة تنتقل إلى علاقاتهم مع أنفسهم ومع الآخرين، في حين أن التجارة تفرض على ممتهنها جانبا كبيرا من الحيلة والمكر والخداع، كما تشترط في ممتهنها أن يوظف كل الطرق للانقضاض على ما يجب الانقضاض عليه، بما أن التجارة كذب في نهاية المطاف، وتزيين وتجميل لما لا تتوفر فيه الزينة والجمال.
لقد ظهر الإسلام إذن في هذه الظروف، قساوة الطبيعة بصحرائها القاحلة من جهة ومناخها الجاف من جهة أخرى، من ثمة فقد كان عرب ما قبل الإسلام خاضعين لهذا المنطق، وبما أنهم اختلفوا دوما من حيث انحدارهم، فقد كونوا شيعا وقبائل لكل قبيلة منطقها وقانونها الخاص، حيث كانت العلاقة بينها إما خاضعة للمعاداة المعلنة، أو الهدنة التي تتحين أول فرصة لتكسيرها، والحال أن الإسلام عندما حل كدين جديد عند العرب فقد عمل على كسر شوكة كل القبائل ونبذ هذا الأمر، وفي نفس الآن عمل النبي بدهاء كبير على إعطاء كل قبيلة مكانتها وميزتها مقارنة بقبيلة أخرى، ثم أوجد لنفسه أيضا حيلة أخرى تمثلت في الزواج المتعدد حيث أصبحت جل القبائل القوية مصاهرة للنبي، بيد أن هذا الأمر سينتهي أجله فور وفاته، والحال أن التاريخ كفيل لمعرفة ما حصل عند موت النبي وكيف أن الجميع تصارع مع الجميع طمعا في الخلافة، باسم العصبية القبلية بطبيعة الحال...
يقال أن أصعب شيء يمكن أن نغيره في المرء هو ثقافته وذهنيته، من ثمة ورغم أن العرب عرفوا دولة أو منطق الدولة، فقد كانت هذه الأخيرة محكومة دوما ليس بالسياسة ومدى الأحقية في التسيير، وإنما بالشرف القبلي أو حظوة النسب، حيث الأمويون استغلوا نسبهم القرشي، والعباسيون أعطوا لأنفسهم حظوة الحكم بفضل انحدارهم من العباس، نفس الشيء نجده مع الفاطميين والأغالبة ثم الأدارسة في المغرب الإسلامي... وفي ذلك لأمارة على إعطاء الحظوة لكل المنتمين للنسب الحاكم حيث كانوا يستفيدون من أرفع المراتب وإن لم يكونوا أهلا لها، بل إن الصراع كان يطالهم بين أبناء العمومة والأخوة وفي ذلك مرض للدولة بسبب الطمع.
والحال أن هذا الأمر أثر سلبا ومن حيث لا ندري على أمر تسيير شؤون الدولة، مما جعلنا أمام دولة تحكم باسم النسب الشريف بدل الأهلية السياسية، وباسم الدين بدل المواطنة والقانون، وباسم الإسلام بدل الاختلاف، وإن كان في الإسلام نفسه قولا كبيرا وهو ما سيجعلنا نعرج عند نتائج حالتنا الراهنة حيث يعتبر الإسلام لاعبا كبيرا فيها، لدرجة أنه تحول من دين إلى مشكلة كبيرة، نقتل بواسطتها ونذبح عن طريقها، ونسحل باسمها...
مشكلتنا الأساسية في هذا الشأن تكمن في إدخال الإسلام في كل ممارساتنا اليومية حتى التافهة منها، كدعاء الدخول إلى البيت أو الخروج منه وابتهالات الاستيقاظ أو النوم، وأدعية السفر واللباس وما بعد العطس والتثاؤب وخلال الجماع، وعند الدخول إلى المرحاض... أما الطامة الكبرى في هذا الشأن والتي تربي فينا طابع الخمول والعجز عن مواجهة الواقع ومثبطاته هي مشكلة القدر والتسيير، إذ فشلنا قدر من عند الله، ومصائبنا أيضا، وحوادثنا وجفافنا وفيضاناتنا وهلم جرا، إننا عباد مسيرون طبعا، لهذا فإنه ما من مصيبة في الأرض إلى من فعل القدر، والحال أن التسليم بهذا الشأن يضرب في الذات الإلهية وفي العدل الإلهي، إذ كيف يمكن أن نتحدث عن جواز يوم الحساب ونحن لسنا مسؤولين عما فعلناه بما أنه مقدر، من ثمة كان لا بد من إعادة نظرتنا إلى الإسلام، وأن منطق الحياة لا يرتبط بالدين لوحده، بقدر ما أنه تدبير وتسيير وإبداع ومنافسة.
عندما نعود إلى حالتنا الراهنة نجد أنها باتت تتأسس على أحداث القتل هنا وهناك، أو التهديد بالقتل وسفك الدماء في المناطق المنيعة من الذين يتربصون بها، والحق أن للدين وسوء فهم الدين اليد الأولى والأخيرة في تبرير هذا الشأن، صحيح أن النص القرآني مقارنة بنصوص باقي الديانات يخمل طابعا عنيفا بين طياته، لكن كان لهذا الطابع ظروفه الخاصة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، العالم يعرف تغيرات كبيرة على كل المستويات، من ثمة فإن كل تضييع للوقت إنما يضيع علينا فرص التغيير وتحقيق التقدم، لهذا فالعبرة ليست في الدين وإنما في ماذا أقدم لهذا الوطن.
في نفس السياق فإن أكبر جريمة نقترفها في حق الإسلام اليوم هو عندما نقتل شخصا يخالفنا المعتقد، على العموم لا أحد منا رأيه صائب مهما كان انتماؤه الديني ومهما كان معتقده، كما لا واحد منا رأيه خاطئ، الأفكار لا نفرضها على بعضنا البعض، وإذا أصبحت بنيتنا العامة تتاسس على هذا المنطق فإننا ستصبح أمام التأويل الوحيد الذي سيقتل فينا حس النقد، والأمم بدون نقد وعقل هي أمم جاهلة تماما، لهذا فإنه لا يجب على كل دولة تنشد التقدم أن تعاقب أفرادها لا لشيء سوى لأنهم اعتنقوا مذهبا أو فكرة أو ديانة، بقدر ما يجب أن تعاقب من يخون حس المواطنة، الجريمة جريمة تتعلق بالقانون وليس بالدين، من ثمة فإننا في حاجة ماسة اليوم إلى المواطن الذي يبني وليس إلى المؤول للدين الذي يهدم وفي ذلك حكاية أخرى.