عاش الدين على مر التاريخ علاقة غير متكافئة والمجتمع، والشاهد على ذلك هو أنه بقدر ما توجب أن تنبث بينهما شيمة وحيدة من شيم التكامل، كان الدين يُنظر إليه كمحرك إبستيمولوجي، بينما اعتبر المجتمع مفعولا به وتابعا له، هذا وإن تمكن العقل من مراجعة كيفية تمثله العالم مفرزا لنا إصلاحا دينيا، ومفهوما جديدا للدولة المدنية بدل الدولة الدينية في أوربا، فإنه لا زال وللأسف لم يكتسب جرأة السؤال وضرورة الانعتاق من دائرة الدين الضيقة التي لازالت تبسط يدها على كل شيء عندنا.
قد نغامر معتبرين أن سؤال الاصلاح الديني في ثقافتنا العربية، ظهر وبشكل جد محتشم خلال القرن الثاني من الهجرة مع الفكر الاعتزالي، الذي حاول تأسيس تصوره للدين على بنية عقلية صرفة، تضع كل الأشياء تحت القراءة النقدية بما فيها النص المقدس، منفلتة من التأويل الفقهي الوحيد إلى التفسير العقلي القارئ للأشياء وفق منطقها وليس وفق حمولتها الدينية، بيد أن الأمر عرف ما عرف من دسائس ومؤامرات أقبرت العقل لصالح الخرافة، فتحوا معها الدين من أسلوب تمثل للعالم إلى غاية الغايات، وبما أن مسار التاريخ أخذ هذا الشكل غير السليم، فقد تلبسنا على غرار منطق العصور الوسطى لبوس الدين كقانون نحتكم إليه في كل شيء، ومنه فقد بات ديدنا وليس وسيلة، كما أصبح نموذجا وأيقونة بدل أن يكون سيمولاكر ونسخة متغيرة في كل آن وحين.
عندما نعود إلى التاريخ الإسلامي العربي نبحث في أبرز تحولاته الكبرى قبل وعند وبعد ظهور الإسلام، نجد أن هذا الأخير قد أضفى تبدلا ملحوظا في بنية تفكير العرب، ناهيك عن العلاقة بينهم وبين العالم وظواهره، والحال أن أبرز عيب سجله إيانا نفس التاريخ ليس يكمن إلا في المزج بين ما هو سياسي وبين ما هو ديني، فكنت ترى النبي حاملا للوحي الإلهي، وعلى رأس الدولة سياسيا، وفي نفس الوقت قائدا حربيا... إذ الحاصل من هذا المزج يضعنا أمام ما قلناه آنفا كون أن الدين تمكن من النفاذ على كل الأشياء، فاستحال معضلة بعدما كان منهجا وموقفا من الوجود، والحال أن هذا المزج وضعنا أمام المتسلطة دينيا وليس أمام الدولة المدنية التي تحكم باسم الإنسان وليس باسم السماء.
إن جل الدول التي كانت ضمن اللاعبين الكبار في صنع أكبر القرارات إبان العصور الوسطى، لم تكن لتنأى بنفسها عن هيمنة الدين، بيد أنه بإحلال العقل محل النص المغلق، بدأنا أمام انفلاتات أعادت للإنسان إنسانيته، ومنه تمكن المدافع عن العقل من رسم حدود للدين، كما للقانون، كما للسياسة، مستفيدا من تلك التطاحنات باسم الدين والتي لم تكن لتصنف إلا ضمن مظاهر وحشية الإنسان وهمجيته، على النقيض من ذلك لم نطرح نحن فكرة فصل الدين عن كل مظاهر الحياة إلا بتعرفنا على أوربا الغازية، ولم يكن مطلب الفصل مبنيا على تربة خصبة ساهمت فيها عوامل داخلية بقدر ما كانت نتاجا عن صدمة الحداثة والهوة السحيقة التي تفصل بين غرب متقدم يحكم باسم القانون، وشرق متخلف جدا يدخل الدين في كل الأشياء حتى التافهة منها، والحق أنه بصدمتنا هاته أضفنا للصاع صاعين عندما عمل رواد النهضة المتنورين كفرح أنطون وشبلي الشميل وجرجي زيدان وقاسم أمين... على الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، ليس استجابة لمنطق الواقع بقدر ما هو تعبير عن سخط إزاء الاستبداد الإسلامي، وبما أن الأمور أخذت هذا المسار فإنها لم تجد حاملا لمشروع هذا الاصلاح الديني لتتحول من مطلب مشروع إلى جريمة يعاقب عليها القانون باسم الارتداد والزندقة، ليس من طرف أهل الحل والعقد فقط وإنما من طرف العامة أنفسهم، لهذا كان لا بد من قراءة الواقع قبل الإنصات لحماس التغيير، مثلما كان لا بد من التفريق بين خصوصية أوربا التي كانت تعاني من استبدادها الديني كنسيا، وبين العالم الإسلامي الذي لم يعرف نهضة في العلم والفلسفة والفن والأدب.
إن هذا الخلل المنطقي الذي جعلنا نطلب شيئا ليس بقوة منطق الواقع وإنما كرد فعل، أبعد العامة عن المتنورين مثلما وسع من تلك الهوة بين الحاكم بأمر الله والعاملين على نزع القداسة منه، لهذا قد لا نتعجب مثلا عندما نرى أن جل العرب ولحد الساعة يصنفون كل من يناضل بعلمنة الدولة إلى كافر زنديق، بينما يباركون للذين يحصرون الدين في ثنائية التحليل والتحريم، ومنه فإن مطلب فصل الدين عن الدولة بشكلها الرسمي لازال بعيد المنال حيث لا نتوفر لحد الساعة على التربة الخصبة لتحقيقه، وهو ما يجعل البعض ينظر إلى تحقيقه كنزع للقداسة من خليفة الله على أرضه، بما أنه ضرب سافر لأولي الامر منا، فالنبي عيسى في نهاية الأمر لم يكن رجل دولة على غرار النبي محمد، حيث أن تمسيح الدولة جاء بإيعاز من رجال الكنيسة وليس من الرجل نفسه، بينما يكاد الأمر يختلف تمام الاختلاف مع نبي الإسلام، وهو ما يضعنا أمام اعتقاد لا شعوري بضرب ضمني في شخصية النبي كما في خلفاءه، وبما أن التراكم كان سيد الأمر فقد ورثنا هاته المعضلة منذ ذلك الأمد لحد الساعة.
إذا ما عملنا على الانصات لنبض الواقع وتمحيص خصوصياته، نجد أن الدين متوغل في المجتمع أكثر من توغله في الدولة، وهو الأمر الذي يحد من عزائمنا ويبعدنا عن المحاسبة الذاتية، ودليلنا على ذلك هو عندما نحصر زلاتنا في القدر مثلما نحكم على فشلنا بحكمة سمائية صرفة، ومنه فقد بات المجتمع تابعا للدين، رغم تنافي الطبائع بينهما، إذ الدين ثبات وانغلاق، بينما المجتمع تغير وانفتاح وتأرجح بين إرادات القوى، المجتمع أيضا علاقات مترابطة بين الأفراد وليس نظرة وموقفا من الوجود، والمجتمع أيضا يتأسس على منطق المصالح بينما الدين ينبني على قانون الجزاء والحساب، من ثمة كان الأجدر من أن نفتح نقاش حول فصل الدين عن المجتمع أولا قبل الدولة، لأن المشروع الأول سيمهد للثاني في كل من الأحوال.
في نفس السياق وبعد أن توقفنا على بنية الدين واختلافها وطبيعة المجتمع، لا بد من الوعي أن منطق الاصلاح ليس يمكن له التحقق إلا بالعمل على تشجيع منطق السؤال والجرأة على المقدس، وقراءته تحت ضوء الخصوصية الكونية، إن مطلب فصل الدين عن الدولة حلم من خلاله سنتخلص من تبعيتنا للماضي، وتجديد بنيتنا التفكيرية أيضا، لكنه قد لا يتحقق اليوم مادام لم يجد له حاملا سياسيا ما عدا بعض النتف التي تحصره في جانبه السياسي وليس الفكري، بينما توجب علينا كي لا نقلد التجربة الأوربية، أو التجربتين اللبنانية والتونسية، على تربية الناشئة على منطق الشك في كل البديهيات، مثلما تشجيعهم على قوة الإرادة وروح النقد البناء، ومتعة طرح الاسئلة، آنذاك وآنذاك فقد سنؤسس للإنسان الذي سيؤسس بدوره فضاءه الخاص الذي يرسم حدودا بين المجالات الحساسة، أي بيد الدين والدولة والمجتمع.