عندما نطرح سؤال الرغبة والمتعة، فإننا نستدعي ذلك المجهود الذي بذله مجموعة من الباحثين المغارية للإقتراب من الأسئلة الحقة للفكر والفلسفة. ذلك أن التفكير في الرغبة والمتعة، هو تفكير في الحياة، وفي إمكانية العيش على نحو آخر. في هذا السياق تتموضع مساهمات ثلة من الباحثين، يمثلون ما أطلق عليه الباحث عبد العزيز بومسهولي ب"التجارب الفلسفية الجديدة". ما يجمع هؤلاء الباحثين هو هم التجاوز؛ تجاوز ذلك التصور اللافلسفي للفلسفة بردها إلى تربتها الحقة كتجربة للفكر وحياة للكائن في الحاضر. فقد مضت عقود طويلة - يقول عبد الصمد الكباص- والإيديولوجيا تقدم كمنتوج مسجل تحت إسم الفلسفة بالمغرب. الشئ الذي فرض تحولا عميقا في قضية الفكر ومهمة الفلسفة، جعل من سؤال الحاضر والحق في الجسد، المنطلق الأول والأخير لكل تجربة فكرية أو وجودية. ولاقتحام هذه التجربة ، دعا الباحث حسن أوزال إلى مجاوزة سؤال ما الإنسان؟ باتجاه سؤال: كيف ينبغي للإنسان أن يحيا؟.
الجسد والتقنية: المفارقة المدهشة
أسارع إلى التأكيد على ذلك التحول الذي أصاب الإنسان والوجود مع سيادة التقنية وتطور العلم، والذي صار بموجبه المشروع الإنساني يدرك كجسد، أي كبناء مسترسل للرغبة (1)، وكرهان للمتعة(2)، وبالتالي كعلة تأسيسية(3). تزامن ذلك مع ظهور فلسفات رفعت تحديا كبيرا من أجل تحرير الرغبة وتحويلها من مجرد طاقة يحكمها قانون النقص، إلى شكل من امتلاك الحاضر الذي ينشده الكائن الحداثي(4). لكن تحقيق هذا المشروع محكوم بعمل التقنية نفسها، والتي لا تخضع لا للأمر الأخلاقي ولا للغاية الإيتيقية أو الإستطيقية.
هكذا صارالإنسان خاضعا للتأثيرالرهيب لتقنيات العرض الحديثة وللأنظمة الآلية والتكنولوجية، التي أضحى معها الجسد مسلوبا من مقوماته العضوية وخاضعا لإيقاع الإتصال وتقنيات المعالجة والتغيير والتفخيم. فلم تعد الحواس معطى فيزيولوجيا، ولا اللذة والإنفعال مقوما وجدانيا من طبيعة الجسد، بينما أصبحت مادة للإتصال والتبادل وملكا للوسيط(5). بل أكثر من ذلك، اتخذت العملية الإنتاجية، يقول كمال شياع، سيرورتين؛ سيرورة الإنتاج المادي، وسيرورة إنتاج الذوات المنتجة، أي أجساد البشر وعقولهم، حاجاتهم وعلاقاتهم، أذواقهم ورغباتهم. لا ينظر الباحث عبد الصمد الكباص إلى التقنية بصفتها عائقا أمام تحقيق الرغبة، بل يؤكد على أن التقنيات الطبية الجديدة، تحول الجسد إلى أرضية لاختبار الزمان بمنطق مختلف، وصياغة الوجود كتجربة مغايرة، تجعل من الجسد تجربة جديدة غير معهودة بالنسبة للكائن الإنساني(6). إن حقيقة عصرنا تكمن في هذا الإنقلاب الذي لحق الوجود والموجود بفضل مفعولات التقنية، بعيدا عن المنظومات الإيديولوجية والأديان والفلسفات التي كثيرا ما انشغلت بالبناء اليوتوبي للعالم (7). يندرج هذا الإنقلاب في إطار التطور الذي شهده النظام الرأسمالي، والذى أفضى إلى تحولات عميقة، مست كل مناحي الحياة، وأدت إلى بروز أنظمة تحكم وإخضاع جديدة، وأهمها الإعلام و التسويق.
الرغبة والحياة: تحديات مجتمع الإستهلاك
ما يميز الحياة المعاصرة ، هو الإمتداد السريع للرأسمالية إلى كل جسم المجتمع الإنساني. لكن ما يثير في هذا النمط من الإنتاج، هو العمل الخطير والوقح لهذه الآلة المجردة/الرأسمالية، التي تضاعف السيولات النقدية والصناعية والتكنولوجية، في نفس الوقت الذي تصبح فيه وسائل الإستغلال والمراقبة والحراسة أكثر مهارة وانتشارا، أي جزيئية بمعنى من المعاني(8). تزايدت فعالية هذا العمل مع تطور مجموعة من العلوم الإنسانية والتجريبية والتقنية والبيوتقنية، وابتكار تكنولوجيا سياسية راحت تغزو الجسد، والصحة، وطرق التغذية، والسكن، وشروط المعيشة، وحيز الوجود بأسره(9). فترتب عن ذلك نتائج خطيرة مست الإنسان والمجتمع والطبيعة، بل ومستقبل البشرية. ويكفي التدليل على ذلك، بالنفور المتزايد من "الإنسان" المدجن والمنمط والخاضع، والتغيير المثير والمقرف الذي حول مجموعات بشرية إلى مجتمعات استهلاكية، والتدمير المرعب للموارد الطبيعية وانتشار التلوث وتهديد التوازن الإيكولوجي، وانتشار أمراض لم يسبق أن عرفتها الإنسانية، والتسابق المحموم نحو التسلح، وأخيرا شيوع مرض العصر: الردة الإرتكاسية إلى طباع الأسلاف. هذه بعض خصائص "عصر التقنية "، عصر السرعة والفعالية والعقلانية، عصر المراقبة والإنضباط و"الحرية".
لا تطرح التقنية - حقيقة عصرنا - أي إشكال أوصعوبة أمام التطلعات التحررية، خاصة مع ما راكمه الطب وعلوم أخرى من تحولات جوهرية تغير أسس نظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، الشئ الذي يمنح الجسد قيمة قصوى لا ينبغي التفاوض في شأنها. ذلك ما دفع الكباص إلى التأكيد على الخاصية الأساسية للجسد، والمتمثلة في كون الإنسان، والعالم الإنساني يبنى من خلال الحواس، إنه عالم حسي. بل منبع السعادة فيه هي الحواس ذاتها (10). لكن التأكيد على سيادة مجتمع الإستهلاك، و خاصية البلاهة والغباء التي تميز الكائنات البشرية المعاصرة، تبرر دور مبتكرات التقنية وخاصة تكنولوجيا التواصل والإتصال في إنتاج أجساد طيعة، ومنمطة وارتكاسية؛ أي فقيرة من حيث الأحاسيس، أجسادا ثقيلة تحمل حواسا دون تفعيلها بشكل أمثل.
فهل بإمكاننا بناء هذا العالم بواسطة حواسنا؟
وهل يمكن لنصيحة ميشيل أونفراي أن تفيدنا في تحصيل السعادة: " إذا أردتم أن تجعلوهم سعداء، فاذهبوا إلى منابع كل سعادة وكل المتع، أي الحواس" ؟(11).
وكيف نؤسس لذلك "التعاقد المتعوي" الذي دعا إليه الباحث حسن أوزال؟
تضعنا التحديات السالفة الذكر،على محك التجربة اليومية، فالمجتمع الإستهلاكي يخلق رغبة غير منتجة رديفة للنقصان، إنه إذ يحول دونما قيامنا كأجساد، يرمي إلى تكديسنا كأجسام معاقة مشمولة بالحرمان والنقص، وتحيا متعة الإمتلاك لا متعة الوجود (12). بل أضحى هذا المجتمع مأهول بالأجساد المريضة التي لا تتوقف عن نشر عصابها وكربها، وخصيها المعشوق، وحقدها ضد الحياة، أي العدوى القذرة بتعبير جيل دولوز. ذلك هو مأزق الكائن البشري في عصر "الحداثة"، الذي شخص ملامحه جيل دولوز حين قال: "رغم ترديدنا "لنرقص" فإننا مع ذلك لسنا مرحين، ورغم ترديدنا "أي تعاسة" هي الموت فإنه كان من اللازم أن نعرف الحياة كي نحصل على شئ يمكن فقدانه"(13). نتحصل من كل ذلك، أن للحياة أولوية على الرغبة، ذلك ما أكد عليه فريديرك نيتشه حين قال في اعتباراته اللاراهنية: " امنحني الحياة، وسأصنع لك منها ثقافة"، وألح عليه جيل دولوز بواسطة واجبه الإيتيقي:" يجب تحرير الحياة حيثما هي أسيرة". يصبح الوضع غير محتمل مطلقا، إذا استحضرنا ابتذال الحياة المعاصرة، والتشويه الممنهج للرغبة، والتسارع إلى إنجاز مهمة القتل، وتأسيس "تعاقد مضاد" مبني على صيغة فريدة لتدبير العلاقة مع الحقيقة(14) مبنية على نشر الرعب والفزع والملل والتعاسة، وبالتالي الدفاع عن"ثقافة مؤلمة" حسب تعبير الكباص.
ماهية الفكر ومهمة الفلسفة: تحرير الرغبة وتأسيس المتعة
هل علينا مواصلة البحث عن الحقيقة، كما دعا حسن أوزال في كتابه " تضاريس فكرية"؟(15)
أم علينا اقتفاء أثر المتعة والإستلذاذ كما جاء في كتاب " منطق الفكر ومنطق الرغبة"؟
أم علينا بتمجيد الرغبة وتأسيس المتعة، كي نكون جديرين بوجودنا، كما يدعو الكباص؟
وهل بمجرد أن نرغب ، نستطيع أن نبني جسدا ومكانا، وزمانا جديدا؟
أكد عبد الصمد الكباص على أن المهمة المركزية للفكر والفلسفة، هي مواجهة سؤال الحاضر الذي هو سؤال الجسد نفسه، في حين اعتبر صاحب "أنطولوجيا الحاضر"، حسن أوزال، أن سؤال الحاضر يجب أن يتأسس على بناء المتعة وفن الإستلذاذ. تتمثل جدة سؤال الحاضر، في ذلك التحويل الذي أجراه الباحثان على مهمة الفكر ودور الفلسفة، والذي أزال الستار عن تلك الخدعة التي وضعت العصر الذهبي للإنسان في ماضي سحيق، في حين كان من المفروض اعتبار ذلك من العوائق التي تحول دون الإقتراب من العصر الذهبي المنشود بتعبير شليغل، بل عدم الإيمان بوجود أي عصر ذهبي سوى عصرنا الحاضر. أكيد أن أكبر مشكلة فلسفية ثابتة ، يقول ميشال فوكو، هي مشكلة العصرالحاضر، مشكلة من نحن في هذه اللحظة الدقيقة. لذلك ألح على أن المسألة السياسية والأخلاقية والإجتماعية والفلسفية المطروحة اليوم، هي تحرير أنفسنا وتنمية أشكال جديدة من الذاتية برفض نموذج الفردية الذي فرض علينا منذ قرون(16). ولن يتحقق ذلك إلا عبر تشخيص الصيرورات الراهنة.
تلك هي المهمة التي اضطلع بها الباحثان حسن أوزال وعبد الصمد الكباص، عبر طرح سؤال الحاضر/الجسد، ومفهومي الرغبة والمتعة، في علاقتهما بما يعارضهما. فهناك تقليد رهيب يعترض على ربط الرغبة بالمتعة أو الإحتفال ، بل يرى الرغبة ملكية للمحظوظين. لذلك دعا أوزال إلى تحرير الرغبة بتمجيد التلقائية والإشباع، الشيء الذي يخالف موقف جيل دولوز، الذي قال بأن الرغبة ليست داخل الذات وليست ميالة إلى موضوع، وأكد على طابعها البنائي والتنسيقي. في نفس الآن، صار الجسد مع الكباص منقسما إلى نظامين؛ نظام للحاجة ونظام للرغبة، وألح على ضرورة الإنشغال بالنظام الأخير، الذي هو مأوى المتع واللذات والحيز الأمثل لتفعيل "الحاسة السادسة" (17) وتحقيق الذات.
إن الإختلاف الذي يسم مفهومي الرغبة والمتعة، نابع من صعوبة إدراك الجسد وآليات اشتغاله. إذ من اللازم موضعة سؤال الجسد، فيما وراء المجال المرئي، ليلامس فضاء الرموز والصور والتاريخ والجنسانية، أو بطريقة أخرى تدبير علاقة الحياة والمعرفة(18) خارج التصور الميكانيكي للفيزيولوجيا وعلم النفس الكلاسيكي. ذلك ما دفع الباحث والأستاذ ادريس كثير إلى الإقرار بصعوبة التعبير عن الحدث(19). لكن هذه الصعوبة تتلاشى بمجرد الإقتراب من التجارب الفلسفية الجديدة وأعلامها. يتضح ذلك من خلال تثمين ادريس كثير لتجربة عبد الصمد الكباص، والتي اعتبرها انفتاحا على مفاهيم ومصطلحات وموضوعات متنوعة، وعلى فلسفات مختلفة. بينما لاحظ عبد الصمد الكباص في تجربة حسن أوزال توليفا غير مسبوق، تجتمع فيه لحمة الحاضر عبر استراتيجية المتعة(20). لكن الأستاذ كثير، ينصحنا بضرورة التدقيق في المفاهيم والمصطلحا ت، كي نفهم منطق الفلسفة وأهمية الإبداع الفلسفي.
الهوامش:
1-عبد الصمد الكباص: الرغبة والمتعة، إفريقيا الشرق، 2014، ص56.
2-حسن أوزال:منطق الفكر ومنظق الرغبة، إفريقيا الشرق، 2013، ص57.
3-عبد العزيز بومسهولي: الجسد والعالم، موقع الأوان، 10 مارس 2011.
4-عبد الصمد الكباص: الرغبة والمتعة، مرجع سابق، ص68 وص 69.
5-محمد هشام: الحيوية: فلسفة تميز علوم الحياة، مجلة فكر ونقد، عدد 32، أكتوبر 2000، السنة الرابعة، ص36.
6-عبد الصمد الكباص: الرغبة والمتعة، ص55.
7-عبد الصمد الكباص: الرغبة والمتعة، ص55.
8- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان، إفريقيا الشرق، 1999، ص185.
9-جيل دولوز: المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1987، ص145.
10-عبد الصمد الكباص:الرغبة والمتعة، ص31.
11-عبد الصمد الكباص:الرغبة والمتعة، ص31.
12-حسن أوزال: تضاريس فكرية نحو فلسفة محايثة، المطبعة والوراقة الوطنية الداوديات، 2012، ص29.
13-جيل دولوز-كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان، إفريقيا الشرق، 1999، ص80.
14-مداخلة عبد الصمد الكباص، في اللقاء الذي نظمه مركز عناية للتنمية والاعمال الإجتماعية حول كتابه:" الرغبة والمتعة"، 26 مارس 2015.. www.dailymotion.com/video/x2sefcn
15-حسن أوزال: تضاريس فكرية، ص47.
16-أوبيردريفويس –بول رابينوف: ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، ص193.
17-الإسم الذي أطلقه عبد الصمد الكباص على حاسة التذوق.
18- Centenaire Maurice Merleau Ponyt (1908-2008). Le Corps en Acte : Sous la direction d’Alain Berthoz et Bernard Andrieu, Press Univertsitaire de Nancy. « Le corps comme œuvre d’art : note sur une ontologie sensible de Merle chez Ponty » articleTerezinha Petrucia DA NOBREGA, p273.
19-مداخلة ادريس كثير، في اللقاء الذي نظمه مركز عناية حول كتاب: "الرغبة والمتعة".https://www.youtube.com/watch?v=__gV7aulJBk.
20-عبد الصمد الكباص: الجسد أفق تحرري للحياة، مجلة الدوحة، عدد60،أكتوبر 2012.