بادئ ذي بدئ وقبل الخوض في تحليل وتلخيص هذه المقالة التي بين أيدينا، لابد لنا من إعطاء لمحة موجزة عن هذا الفيلسوف العظيم إيمانويل كانط Emmanuel Kant (1724-1804) فيلسوف وعالم ألماني، مؤسس المثالية الكلاسيكية الألمانية، ولد وتعلم وعمل في كونيجسبرغ حيث كان محاضرا ثم أستاذا ما بين سنة 1770 و 1796 بنفس الجامعة.
يعتبر كانط واضع ومؤسس المثالية "النقدية" أو "المتعالية"، وقد صاغ في المرحلة المسماة بالمرحلة "قبل النقدية" أي قبل سنة 1770 فرضيته الكونية حول مفهوم "السديم"، حيث يذهب فيه إلى أن نظام الكواكب نشأ وتطور عن "غيمة سديمية".
وفي الوقت نفسه الذي قدم فيه كانط فرضيته هاته عن وجود "عالم أكبر" من المجرات خارج مجرتنا، طور نظريات تقهقر دوران الأرض بفعل التمزق الجذري ونسبية الحركة والسكون، حيث لعبت هذه الدراسات والتي كانت توحدها الفكرة المادية عن التطور الطبيعي للعالم والأرض، لعبت دورا هاما في تشكيل الجدل.
كما وقد صمم كانط في أعماله الفلسفية في المرحلة قبل النقدية، وتحت تأثير النزعة التجريبية والشكية عند هيوم، صمم الاختلاف بين الأسس الواقعية والأسس المنطقية، وأدخل إلى الفلسفة مفهوم الأجسام السالبة، ففي كل هذه الأعمال يتقيد دور المناهج الاستنباطية الشكلية في التفكير لصالح التجربة.
وفي سنة 1770 انتقل كانط إلى نظرة الفترة "النقدية"، فظهر كتابه "نقد العقل الخالص" عام 1781، وأتبعه بكتابه "نقد العقل العملي" عام 1788، ثم "نقد ملكة الحكم" عام 1790.
ويعرض كانط في هذه الكتب وبطريقة متماسكة، النظرية "النقدية" في المعرفة والأخلاق وعلم الجمال، ونظرية ملاءمة الطبيعة، وقد برهن كانط في أعماله خلال الفترة النقدية على استحالة بناء مذهب من الفلسفة التأملية "ميتافيزيقا" باللغة الاصطلاحية لذلك الوقت، دون دراسة تمهيدية لأشكال المعرفة وحدود قدرات الإنسان المعرفية، بحيث أفضت دراستها بكانط إلى النزعة اللاأدرية، وإلى التأكيد بأن طبيعة الأشياء كما توجد هي نفسها أي "الأشياء في ذاتها" غير المتاحة للمعرفة الإنسانية من حيث المبدأ، فالمعرفة ممكنة فقط بـ"الظواهر". أي الطريقة التي تتكشف بها الأشياء في خبرتنا، والمعرفة النظرية الحقة متاحة في الرياضيات والعلم الطبيعي فحسب، والحقيقة أنه توجد في عقل الإنسان أشكال قبلية أولية للتأمل الحسي، مثل الأشكال الأولية عن الرابطة، أو التركيب، بين تعدد الأشكال الحسية ومفاهيم العقل، وهذه على سبيل المثال هي أساس قانون ثبات الجواهر، وقانون السببية، وقانون تفاعل الجواهر، ففي العقل حسب كانط أنه يوجد شوق كامن، شوق لا يمكن قمعه نحو المعرفة المطلقة إذ هو ناشئ عن متطلبات أخلاقية عليا، وتحت ضغط هذا الشوق يسعى عقل الإنسان إلى حل مشكلة نهائية أو لا نهائية العالم في الزمان والمكان، وإمكان وجود عناصر لا تنقسم في العالم، وطبيعة العمليات التي تتم في العالم، ومشكلة الله باعتباره موجودا جوهريا بصورة مطلقة.
وقد اعتقد كانط أن الحلول المتعارضة قابلة للبرهنة عليها بدرجة متساوية: فالعالم متناه ولا متناه، والجزيئات التي لا تنقسم أي الذرات موجودة، ولا وجود لمثل هذه الجزيئات، وكل العمليات مشروطة سببيا، وهناك عمليات وأفعال تحدث حرة، ويوجد ولا يوجد موجود جوهري بصورة مطلقة. وهكذا، فإن العقل بطبيعته تناقضي، أي تقسمه التناقضات، لكن هذه التناقضات ظاهرة فحسب، ويتأسس حل هذا اللغز بالحد من المعرفة لصالح الإيمان، بالتفرقة بين "الأشياء في ذاتها" و"الظواهر"، والاعتراف بأن "الأشياء في ذاتها" غير ممكنة المعرفة، وهكذا فإن الإنسان وفي نفس الآن ليس حرا (كموجود في عالم من الظواهر) وحر (كذات في العالم المجاوز للحس وغير الممكن معرفته)، ووجود الله لا يمكن البرهنة عليه للمعرفة، وفي الوقت نفسه هناك مصادرة الإيمان الضرورية، التي يرتكز عليها اعتقادنا بوجود الأمر الأخلاقي، الخ.
هذه النظرية في الطبيعة المتناقضة للعقل والتي استخدمها كانط كأساس لثنائية "الأشياء في ذاتها" و"الظواهر" وكأساس للاأدرية، أعطت دفعة لتطور الجدل الوضعي في المثالية الكلاسيكية الألمانية، ومن ناحية أخرى، بقيت هذه النظرية في فهمها للمعرفة والسلوك والجهد الإبداعي، أسيرة الثنائية واللاأدرية والصورية.
وفي علم الجمال رد كانط الجمال إلى متعة "نزيهة" لا تتوقف على ما إذا كان الشيء الموصوف في عمل فني وجودا أم لا، ويحدده الشكل وحده، ولكن كانط عجز عن تطبيق تصوره بطريقة متماسكة، ففي علم الأخلاق وعلى النقيض من الطبيعة الصورية للأمر المطلق، قدم كانط مبدأ القيمة الذاتية لكل فرد، التي لا ينبغي أن يضحى بها لخير المجتمع ككل، أما فيما يخص علم الجمال، وعلى النقيض من التصور في فهم الجميل، أعلن كانط أن الشعر هو الشكل الأعلى للفن، لأنه قادر على أن يصور المثل الأعلى، الخ.
وقد كانت نظرية كانط في دور التطاحنات في السيرورة التاريخية للحياة الاجتماعية والحاجة إلى سلام دائم نظرية تقدمية، كما وقد اعتبر كانط التجارة والاتصالات الدولية، بمنافعها المتبادلة للدول المختلفة، وسائل لإقامة السلام والحفاظ عليه.
ورغم ما يعج به المذهب الكانطي من تناقضات فإنه أثر تأثيرا كبيرا في التطور اللاحق للفكر الفلسفي والعلمي، بحيث كشف مؤسسو الماركسية اللينينية في نقدهم لكانط، أن الأسباب الاجتماعية وتناقضاته وتهافته تمتد جذورها في تخلف وضعف البورجوازية الألمانية في ذلك الوقت، وقد استغل الفلاسفة المثاليون في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين الذين استبعدوا منهم الجانب المادي في فلسفة كانط وفي نظريته عن "الشيء في ذاته"، فقد استغلوا جوانب التهافت فيه واستعاروا نظرياته الخاطئة لتبرير نظرياتهم الرجعية.
وبالعودة إلى المقالة التي هي بين أيدينا بالإضافة إلى مقالة ما هي الأنوار؟، والتي تسلط الضوء على قيمة أساسية في فلسفة كانط وهي قيمة الحرية، مجسمة في حرية التفكير بما تحمله من استتباعات خطيرة حول الاعتقاد من جهة وحول التنوير من جهة أخرى.
لقد نشر هذا المقال في أكتوبر 1786 في المجلة البرلينية الشهيرة، وهي نفسها التي نشر فيها مقال عن جواب ما هو الأنوار؟، فهذه المقالة يرجع سببها في الأصل إلى الخصومة التي قامت حول مذهب وحدة الوجود بين جكوبي JACOBI ومندلسون MENDELSSOHN، فقد سعى جكوبي إلى أن يجعل من ليسينغLESSING أحد دعاة السبينوزية البارزين، وذلك في رسائل إلى مندلسون حول مذهب اسبينوزا (1785)، في حين أنه كان يمثل أحد رموز التنوير، إذ كانت التهمة بالسبينوزية في ذلك الوقت بمثابة إدانة للتنوير برمته، وقد بين مندلسون في "الدروس الصباحية" ثم في "رسائل إلى أحباء ليسينغ" أن السبينوزية المفهومة جيدا ترجع إلى فلسفة ليبينتز LEIBNIZ وأن الصراع الذي كان قد أشار إليه جكوبي بين العقل والخلقية لم يكن مجديا ما دمنا نعتمد على الحس المشترك والعقل السليم.
وفي أوائل 1786 توفي مندلسون تاركا التنوير دون حماية، فإذا بكانط والذي كان قد رفض في البداية رغم نداءات أصدقائه المستنيرين أن يتدخل إلى جانبهم، يرى نفسه مضطرا رغما عنه إلى التدخل في الصراع، ولو للرد فقط على الاتهام بالسبينوزية الذي كان يعد ضده.
لهذا الغرض جاء هذا المقال بغية الرد على كل هذه الإشكالات التي كانت مطروحة في تلك الفترة، وبالتالي ينمحي هذا الغموض الذي كان يكتنف هذا الموضوع.
وكما ألفنا من كانط على إجاباته المباشرة كما في نص ما التنوير؟ فإنه يجيب هنا بشكل مباشر كذلك دون تمهيد أو مراوغة: مهما ارتقينا بمفاهيمنا، وأيا كانت الدرجة التي نغض بها النظر هكذا عن الحساسية، فإن التمثلات المتصورة على نحو حسي ملازمة دائما لتلك المفاهيم، ومن شأنها أن تجعلها مؤهلة للاستعمال التجريبي، وهنا يتساءل كانط بقوله كيف نريد إضفاء معنى ودلالة على مفاهيمنا إن لم نخضع لها حدس ما؟
وإذا طرحنا من هذه العملية العينية للفهم وتدقيق الصورة التي تخالطها أي الإدراك الحادث الذي توفره الحواس، ثم حتى الحدس الحسي الخالص، وبذلك لن يبقى إلا هذا المفهوم الخالص للفهم الذي يتضمن قاعدة التفكير. وبهذه الطريقة يكون المنطق العام نسفه، وربما ما زالت العديد من مناهج التفكير القائمة على الاكتشاف كامنة الاستعمال التجريبي لفاهميتنا وعقليتنا، وقد تغني فعلا الفلسفة، بالعديد من المبادئ إذا اتفقنا على استخراجها بعناية من تلك التجربة.
وإذا كان كانط لم يذكر اسم مندلسون في نص الأنوار، إلا أنه يعتبره من يتمسك بمبدأ من قبيل هذا النوع في كتاباته التي ذكرناها، ذلك أن المقصود هو تلك القاعدة التي بمقتضاها لابد من التوجه في الاستعمال التأملي الخالص للعقل، وذلك بواسطة وسيلة في التوجه التي يسميها تارة الحس المشترك، وتارة العقل السليم، وأخرى الفاهمية الإنسانية المجردة. وقد أحدثت الخصومة التي قامت بيت مندلسون و جكوبي إلى الإساءة لتصور مندلسون عن قدرة الاستعمال النظري للعقل في مسائل اللاهوت، نتيجة الالتباس الذي ترك فيه ممارسة هذه القدرة على الصعيد النظري، كما أن العقل السليم المشترك نفسه يهدده الاستخدام كمبدأ للحماس والإطاحة بسلطة العقل.
إن كانط لا يريد أن ينسب إلى أي منهما طريقة ضارة في التفكير فهو يعتبر عمل جكوبي بمثابة حجة شخصية (هي الحجة التي لا تصلح إلا ضد الخصم) للدفاع عن النفس. إذ يبين كانط أن العقل لا هو إحساس مزعوم أو حدس متعالي، كما بين مندلسون أن العقل الإنساني المجرد بحصر المعنى، فهذا العقل هو وحده الملزم شرط أن يستبعد كل من الإدعاء الذي يطبع ملكة العقل التأملية الخالصة واستبعاد سلطتها، وشرط أن لا يترك للعقل بقدر ما هو تأملي خالص شيء سوى وظيفة تطهير مفهوم العقل من تناقضاته، ودرء هجماته السفسطائية الخاصة عن مبادئ العقل السليم الذي يمكن أن نقدم له قاعدة في تطبيقاته على معرفة الموضوعات الفوق حسية، من خلال مساعدة من مفهوم التوجه.
إن التوجه في حقيقته يعني انطلاقا من جهة معينة من السماء (لنقل الأفق بجهاته الأربع) لتحديد الجهات الأخرى، لذلك نحتاج إلى الشعور بفارق في شخصية (بين يميني ويساري)، إذ لا أتوجه جغرافيا رغم كل المعطيات عن السماء إلا على أساس مبدأ ذاتي يسمح بالتمييز، فحتى الفلكي يُضل الوجهة إذا انتبه إلى ما يرى فحسب وليس في آن واحد إلى ما يحس، وعلى هذا الأساس يمكن توسيع المفهوم الجغرافي لهذا الأسلوب في التوجه بطريقة رياضية، وهو ما يحصل عندما أتوجه في غرفة مظلمة معروفة لدي في الذاكرة، إذ أحدد المواضع وفق مبدأ ذاتي مميز، وإذا وسعنا في هذا المفهوم فهو لا يتمثل في القدرة على التوجه في المكان فقط، بل في القدرة على التوجه عامة في التفكير أي منطقيا، ذلك أن قيادة استعمال العقل ستكون وظيفة موكولة إلى العقل وحده، انطلاقا من الموضوعات المعروفة بالتجربة إلى التوسع فيما وراء حدودها، فلا يجد موضوع للحدس بل مكانا لهذا الأخير فقط، وعلى أساس ذلك لن يقدر العقل على إخضاع أحكامه لقاعدة معينة بكيفية موضوعية، بل وفق مبدأ ذاتي مميز فحسب، وهذه الوسيلة الذاتية والوحيدة لا تُكون سوى الشعور بحاجة العقل الخاصة، إذ يمكن أن نبقى بمأمن من أي خطأ شريطة ألا نجازف بحكم معين إذا لم نكن نملك معرفة، ذلك أن الجهل في حد ذاته هو إذن السبب في حدود معرفتنا لا في أخطائنا.
وعندما تضطرنا حاجة فعلية إلى الحكم، بل إحدى الحاجات التي تغري العقل في حد ذاته، ويفرض علينا الافتقار إلى المعرفة حدودا من حيث العناصر التي يتطلبها الحكم، فإنه لابد من قاعدة بمقتضاها نقدر على إصدار حكمنا، وذلك لأن العقل يتطلب الاستجابة له في هذه اللحظة أو تلك، بحيث إذا ثبت سلفا كما قيل من قبل أنه لا وجود في الحالة الراهنة لحدس للموضوع، فلن يبقى لنا إلا أن ننظر بدء فيما إذا كان المفهوم الذي نريد المجازفة معه بعيدا عن كل تجربة تخلو من التناقضات، ثم أن نخضع على الأقل العلاقة بين هذا الموضوع وموضوعات التجربة للتصورات المحضة للتفهم، الأمر الذي يمكننا من التفكير في شيء فوق حسي قد يصلح للاستعمال التجريبي لعقلنا، لأنه من غير هذا الاحتياط لا نستطيع إطلاقا استعمال مفهوم كهذا وإنما نتحمس بدل أن نفكر.
وبهذه الوسيلة (المفهوم وحده) يبدو أننا لن نحصل على شيء فيما يتعلق بوجود هذا الموضوع وارتباطه الحقيقي بالعالم، ولكن تتدخل الآن أحقية الحاجة لدى العقل من حيث هي مبدأ ذاتي، في أن يفترض ويقبل شيئا لا يستطيع إدعاء معرفته بواسطة مبادئ موضوعية، وبالتالي يتوجه للتفكير في فضاء لا نهاية له وبحكم حاجته الخاصة وحدها، وهو فضاء الما فوق حسي.
يمكن إذن التفكير في العديد من الموضوعات الفوق حسية، ذلك أن العقل يجد في كفاية ما، لينكب عليها بالنظر إلى الأسباب الموجودة في العالم والمكتسبة للحواس، بحيث لا يشعر بضرورة الاستنجاد بتأثير الأرواح الخالصة للطبيعة، ذلك أن القبول بها يسيء إلى العقل، وبالنظر إلى أن العقل في حاجة إلى افتراض الواقع كمعطى لإثبات إمكانية كل شيء، ونظرا إلى أنه يعتبر تنوع الأشياء بمثابة حدود فحسب من جراء أشكال النفي الملازمة لها، فإنه يرى نفسه مضطرا إلى أن يضع كأساس أصلي إمكانا وحيدا وهو إمكان الكائن بلا حدود، وبما أن مبدأ التعين العام يمكن عقلنا من أن يميز بين الممكن والواقع، فإننا بالتالي نجد أساسا ذاتيا للضرورة، أي حاجة في عقلنا ذاته إلى أن يضع كأساس لكل إمكان وجود كائن مطلق بين الكائنات الأكثر وجودا فعليا (كائن أسمى)، فينتج عن ذلك الدليل الديكارتي على وجود الله، إذ أن الأسباب الذاتية لافتراض شيء ما بالنسبة إلى استعمال العقل تجريبا، تعتبر موضوعية، وأن الحاجة تبعا لذلك تعتبر تمييزا، ذاك هو شأن هذا الدليل وجميع الأدلة التي قدمها مندلسون في دروسه الصباحية، فهي لا تصلح لشيء من أجل البرهنة، ولكنها مع ذلك ليست عديمة الفائدة البتة. فالتصديق انطلاقا من الأساس الذاتي لاستعمال العقل يكون بالغ الأهمية، لكن ينبغي أن لا نمرر ما يكون مجرد افتراض انتزعته الضرورة على أنه تميز حر كي لا نكشف عن نقطة ضعفنا، ومندلسون لم يكن بلا شك يتصور أن الحديث القطعي باعتماد العقل الخالص في مجال الما فوق حسي يقود رأسا إلى الحماس الفلسفي، وأن نقد قدرة العقل هذه يستطيع هو وحده أي العقل أن يتدارك هذا العيب.
فبوسعنا وعلى هذا الأساس أن نعتبر حاسة العقل على نحو مزدوج، أولا من حيث استعماله النظري، وثانيا من حيث استعماله العملي، فالاستعمال النظري يجب أن نسلم بوجود الله، إذا أردنا الحكم في الأسباب الأولى لكل ما هو حادث في هذا العالم. أما حاجة العقل من حيث الاستعمال العملي، فهي أشد أهمية لأنها لا مشروطة، ذلك أننا سنضطر إلى افتراض وجود الله ليس فقط عندما نريد إصدار حكم، بل لأننا ملزمون بإصدار حكم، ذلك أن الاستعمال العملي المحض للعقل يقوم على الإلزام بالقوانين الأخلاقية، إذ تؤذي إلى فكرة الخير الأسمى، فهو لا يصير ممكنا إلا بالحرية، كما أن هذه القوانين الأخلاقية تؤدي إلى السعادة القصوى بقدر ما توزع خيرات الطبيعة في تناسب مع الخليقة، والحال أن العقل في حاجة إلى التسليم بمثل هذا الخير الأسمى وإن كان تابعا، وإلى التسليم بعقل فائق خير أسمى مستقل، للحيلولة دون أن يعتبر هذا الأخير مع الخليقة برمتها مجرد مثل أعلى فحسب، إن لم يوجد على الإطلاق شيء تكون فكرته ملازمة للخليقة.
لم يتجه مندلسون إذن في التفكير التأملي الخالص إلى نتيجة معرفة صادرة عن العقل، بل توجه في هذا التفكير وبلا علم منه لنتيجة الحاجة التي يحسها العقل، وبما أن السبيل في التوجه هو مبدأ ذاتيا فحسب، فإن مندلسون قد أخطأ هنا بالتأكيد، عندما نسب مع ذلك إلى التأمل الخالص قدرة كبيرة كافية لكي ينجز وحده كل شيء عن طريق البرهان، ولم يكن القبول بضرورة التأمل الخالص ممكنا، إلا إذا تم الإقرار بعدم كفاية البرهان، وكانت فطنته ستقوده في النهاية إلى هذا القرار لو كُتب له في الحياة مدة أطول، ومع ذلك يبقى له الفضل، لأنه بحث عن المحك الأخير لقابلية حكم ما، وذلك في العقل وحده وليس على أي صعيد آخر أبدا، سواء أكان اهتدى العقل في اختيار قضاياه بالتمييز أو بمجرد الحاجة وبقاعدة مصلحته الخاصة، وهو ما جعل مندلسون يطلق على العقل في استعماله النهائي اسم العقل الإنساني المشترك.
ولكن بما أن عبارة قرار العقل السليم في المسألة الراهنة لا تزال ملتبسة، وأنها قد تحمل كما كان مندلسون نفسه يفهم ذلك الخطأ، على أنه حكم صادر عن تمييز العقل، أي أنه حكم مستوحى من العقل كما يتراءى ذلك لصاحب النتائج جكوبي، لذلك سيكون من الضروري إطلاق اسم آخر على هذا الحكم، كتسمية الاعتقاد من قبل العقل أو الاعتقاد العقلي، فالاعتقاد العقلي من قبل العقل، هو الاعتقاد الذي لا يقوم على معطيات أخرى سوى تلك التي يتضمنها العقل الخالص، والحال أن الاعتقاد يعتبر نقيض المعرفة، على أنه إذا أكمل تدريجيا بأسباب من نفس النوع يمكن أن يصير الظن معرفة، وفي المقابل عندما يكون أسباب التصديق بحسب طبيعتها غير صالحة إطلاقا من الناحية الموضوعية، فلا يستطيع الاعتقاد أبدا أن يتحول إلى معرفة بأي استعمال للعقل، وبالمقابل فإن الاعتقاد المحض من قبل العقل لا يمكن أبدا أن تحوله المعطيات الطبيعية للعقل والتجربة إلى معرفة، أي أنه حاجة ضرورية لدى العقل إلى أن يفترض فقط وجود كائن أسمى لا أن يبرهن عليه، ومن جهة أخري فإن الاعتقاد العقلي الذي يقوم على الحاجة إلى استعمال العقل بقصد عملي يمكن تسميته مسلمة للعقل، لأن هذا التصديق شريطة أن يتوافر الجانب الأخلاقي، لا يقل أهمية من حيث الدرجة عن أي معرفة، وإن اختلف عنها تماما من حيث الطبيعة.
فالاعتقاد المحض من قبل العقل هو إذن، العلامة الدالة التي تسمح للمفكر التأملي بالتوجه عندما يغزو عقليا مجال الموضوعات الفوق حسية، ولكنها تسمح في المقابل للإنسان الذي وُهب عقلا مشتركا ولكنه سليم من الناحية الأخلاقية، بأن يشق طريقه بنية عملية ونظرية على حد سواء، تناسب غائية تعينه كلها، ذلك أن هذا الاعتقاد العقلي يجب أن يوضع أساسا لكل اعتقاد آخر وحتى كل كشف.
فالاعتقاد بمفهوم وجود الإله، لا يمكن أن يوجد إلا في العقل، ولا يمكن أن يصدر إلا عنه، لا أن يرد علينا من إلهام أو من خبر كيف ما كانت سلطته، فعلى الرغم من أنني - كما يقول كانط - لا أتبين البتة كيف يتسنى لظاهرة ما أن تنكشف وإن كيفيا، ما لا يمكن أن يدرك إلا بالفكر لا أبدا بالحدس، فمن الواضح مع ذلك أن للحكم فقط فيما إذا كان الله هو الظاهرة التي تنكشف لي وتؤثر في شعوري باطنيا أو من الخارج، يجب أن أواجهها بمفهومي العقلي عن الإله، ثم أن أنظر فحسب إن كان يناقضها، حتى إن لم يوجد كذلك في كل ما به تنكشف لي تلك الظاهرة مباشرة أي شيء يناقض هذا المفهوم، فإن تلك الظاهرة أو الحدس لن يقيم مع ذلك حجة على وجود كائن آخر، إذ لا يمكن لأي تجربة ولا لأي حدس أن يكونا متناسبين لهذا المفهوم، فلا أحد يستطيع أن يقتنع فورا بوجود الكائن الأسمى عن طريق حدس ما، فلابد من أن يسبق ذلك اعتقاد عقلي، وعندئذ قد تعطينا بعض الظواهر والتجليات الفرصة للنظر فيما إذا كنا بالتأكيد على حق، في أن نرى إلها فيما يكلمنا أو أن يتجلى لنا، وفي أن نثبت هذا الاعتقاد إذا دعت الضرورة لذلك.
إذن إذا أنكر على العقل الحق في أن يتكلم عن الموضوعات الما فوق حسية، مثل وجود الله أو مصير العالم، فإن الباب يبقى مفتوحا على مصراعيه أمام ضروب الحماس والخرافات وحتى للإلحاد، ومع ذلك يؤكد كانط أن كل شيء في الخصومة بين جكوبي ومندلسون، ينزع إلى هذا القلب لتمييز العقل والمعرفة بواسطة قوة مزعومة في التأمل الخالص، أم كان أيضا قلبا للاعتقاد العقلي، وفي المقابل يسلم كل شخص باعتقاد شخصي، لذلك يرى كانط أنه يمكن التسليم بهذه النتيجة الأخيرة عندما نرى بعضهم يسلم بأن المفهوم السبينوزي للإله هو المفهوم الوحيد المتفق مع مبادئ العقل، ومع ذلك يستوجب الإدانة، لأنه رغم الإقرار بأن العقل التأملي الخالص نفسه تعوزه حتى القدرة على تبين إمكان كائن، بحيث ينبغي أن تصور الإله على مثاله، إذ لا يمكن بوسع العقل تبيان عدم إمكان موضوع ما، والإقرار مع ذلك بحقيقته الواقعة انطلاقا من مصادر أخرى.
يخاطب كانط ذوي الملكات الذهنية والأفكار الرحبة بقوله: هلا فكرتم مليا فيما تفعلون وفيما ستؤدي إليه حملاتكم على العقل؟، لا شك أنكم تريدون أن تظل حرية التفكير في مأمن من الانتهاكات، إذ بدون هذه الحرية لا يلبث الاندفاع الحر لنبوغكم أن يزول، وإذا اعتمدتم على مثل هذه الطريقة سيحدث لحرية التفكير ما يلي:
1. يتعارض الإكراه المدني مع حرية التفكير: فبِسلب سلطة عليا حرية الكلام تُسلب تلقائيا حرية التفكير، لأنها تحجب عن الناس حرية تبليغ أفكارهم علنا.
2. تتخذ أيضا حرية التفكير بمعنى تتعارض فيه مع الإكراه المسلط على الضمير الخلقي، الأمر الذي يحدث مثلا عندما يُنصب بعض المواطنين أنفسهم أوصياء على الآخرين في أمور الدين.
3. تعني أيضا حرية التفكير أن العقل لا يخضع لأي قانون آخر سوى القانون الذي يَسنه لنفسه، ونقيضها هو قاعدة استعمال العقل بلا قانون، ذلك أن حرية التفكير تتحمل في النهاية تبعات ذلك وأنها تضيع ليس من جراء سوء الحظ، بل نتيجة ادعاء حقيقي.
وهو ما يحصل عندما يُظل العبقري في اندفاعاته كونه تخلص من نير قوانين العقل، والقاعدة المتبناة عندئذ ببطلان عقل مشرع أعلى نسميها حماسة بينما يسميه هؤلاء المحظوظون من قبل الطبيعة الخيرة إشراقا، وبالتالي يصبح كل فرد يتبع إلهامه بينما العقل وحده يستطيع أن يفرض نفسه على كل فرض، ونظرا إلى ذلك فإنه مترتب حتما عن هذه الإلهامات الباطنية الوقائع، الخارجية المؤيدة ببعض الشهادات، وبالتالي يمكن لبعض التقاليد أن تفرض نفسها، وعموما ينتج عن ذلك خضوع العقل خضوعا تاما للوقائع أي للخرافة، لأن هذه الأخيرة ترتد على أي حال إلى شكل قانوني، ومن ثم إلى حالة توازن.
ولكن العقل الإنساني لا ينفك عن التوق إلى الحرية، لذلك فإنه حين يكسر قيوده، ينقلب حتما استعماله الأول لحرية فَقدَ منذ أمد طويل التعود عليها، إلى مغالاة وثقة متهورة في استقلال قدرته عن كل قيد، وبالتالي فإن قاعدة استقلال العقل عن حاجته الخاصة تعني رفض الاعتقاد، إن أن الأمر يتعلق بعيب في اعتقاد العقل بحالة شاقة في الذهن الإنساني تبدأ بتجريد القوانين الأخلاقية من كل سلطتها، لتولد نمط من التفكير يسمى إباحية فكرية أي عدم الإقرار بأي واجب، ولكي لا يصل الأمر إلى فوضى عارمة، فإن السلطة تتدخل لتلغي حرية التفكير وتحضر هذا النشاط، وهكذا تنتهي حرية التفكير إلى أن تقوض نفسها بنفسها عندما تجرؤ على الاشتغال في استقلال عن قوانين العقل.
وفي الأخير يترجى كانط أحباء الإنسانية، بأن يقبلوا ما يبدو لهم أكثر جدارة بالاعتقاد، بعد تمحيص دقيق وصادق، سواء تعلق الأمر بوقائع أو بمبادئ تعود إلى العقل، دون نكران على العقل ما يجعله الخير الأسمى، أي امتيازه بأنه المحك الأخير للحقيقة، وإلا إذا كنتم غير جديرين بهذه الحرية، وفقدتموها بالتأكيد، وحُملتم زيادة على ذلك عبئ هذه النكبة لتلك الطائفة الكبيرة من الأبرياء، الذين لولا ذلك لكانوا على استعداد لممارسة حريتهم بشكل قانوني، ومن ثم بشكل نهائي أيضا من أجل خير هذا العالم.