إن السؤال عن الإنسان هو من المسائل العريقة في الفلسفة إلى درجة تكاد تتحول فيها الفلسفة إلى أنثروبولوجيا على حدَ تعبير كانط و لذلك فان كل تعريف للإنسان هو صياغة لهيئة فلسفيَة مخصوصة سواء كان ذلك في إطار البحث عن الوجود بحيث يكون الإنسان مرتبطا بنظام يسوس الكون (لوغوس) أو في مجال عمليَ يكون فيه الإنسان و نمط وجوده محورا البحث.
إن التناول الأنتولوجي للإنسان إذا يختلف عن التناول الذي يقصده في حيثياته العمليَة المتغيَرة و كذلك انفتاحه عن العالم و هو ما يفتح الموضوع على لحظتين : تعنى الأولى بالكشف عن العنصر الماهوي في الإنسان الذي هو نفس ارتكازا على مقاربتين تتمثل إحداهما في النفس باعتبارها ماهية ثابتة ترجعنا إلى ما به نكون نحن ما نحن و تلامس الأخرى عنصر الزمن في الماهية أي ما يجعل من الأنا دائم الحضور الأمر الذي يفتحنا على اللحظة الثانية و التي تعيد السؤال في الإنسان لا باعتباره نفسا و إنما جسدا مفتوحا على كلَ الإمكانيات.
إن غرضنا من السؤال عن ماهيتنا أي ما به نكون نحن ما نحن هو الإقرار بأن ذلك منوط بالنفس وحدها فهي ما يشير إلى الماهية المبنيَة على أساس أنتولوجي لا إلى الجسد الذي هو مغاير لها و متميَز عنها.
يتم التعرَف على الأنا إذا باعتبارها نفسا و هو ما يتطلب إقامة الفرق الجوهري بينها و بين الجسد فكلاهما تحدَه خصائص تميَزه من الناحية الأنتولوجيَة و حتى الابستمولوجيَة فإذا كان الجسد بانتمائه إلى العالم المحسوس و المرئي يقدَم لنا معرفة متعلَقة بالظواهر التي نتلقاها بحواسنا فذلك يجعل من المعرفة النسبيَة نظرا لتغيَر المحسوسات و كثرتها و من ثمَة تكون هذه المعرفة دون الحقيقة لأنها تبقى رهينة المحسوس فهل يعني ذلك أنَه لا سبيل للمعرفة الحقيقيَة و التي تتجاوز الكثرة و تقول الوجود ؟
يتوضح في هذه اللحظة الفرق الأساسي بين النفس و الجسد : فالنفس باعتبارها الجزء اللامرئي من الإنسان قادرة على اختراق المحسوس و التأمل في الوجود الحقيقي غير أن ذلك غير ممكن إلا بالابتعاد قدر الإمكان عن الجسد فهو "قبر للنفس" مثلما بين أفلاطون في محاور الفيدون (66أ 66 ب) و من ثمَة فان بالنفس وحدها تحصل المعرفة أي بالتأمل بعيدا عن كلَ ما شأنه أن يشوش على النفس نظرها في الوجود كانفعالات الوجود وأهوائه و هنا تتبين الفرق المعرفي و الانتولوجي بين النفس و الجسد فكلاهما ينتمي إلى عالم . و بالنفس وحدها يقترب الإنسان من الحقيقة أي من ماهيَة الأشياء أو بعبارة أخرى إنا بماهيَتنا ندرك ماهيَة الأشياء , فالنفس طبيعتها غير طبيعة الجسد فهي أولا مرئيَة و بالتالي فهي لا تخضع للصيرورة و التغيرَ اللذان يطرآن على المحسوسات إنها خالدة لانتمائها إلى العالم المعقول و يرجع القول بخلود النفس و ثباتها و وحدتها إلى ثلاثة حجج يقدَمها أفلاطون في الفيدون في مستوى (70س- 78أ) فالنفس خالدة لأنها سابقة على وجود الجسد قبل الولادة باقية من بعده أي من بعد الموت و اندثاره ذلك أن الحياة تنبعث من الموت في كلَ مرَة مثلما أن كلَ شيء يولد من نقيضه وهي حجَة توالد الأضداد التي تعود إلى تقاليد قديمة فيثاغوريَة و آسيويَة (الفيدون : 70س- 72ي) و إذا كانت النفس سابقة بالوجود عن وجودها مع الجسد من الحياة فهي تمتلك معرفة تنسى عند التحاقها بعالم المحسوسات و يتم تذكرها بفعل التأمل : إن وجود هذه المعرفة التي نحييها بالأسئلة و نكتشف وجودها فينا هي ما يؤكد خلود النفس: إذ في انعدامها تنعدم كلَ معرفة . أما و قد تبين لنا أن النفس خالدة لا يبقى مجال للشك في أن ماهيَة الأنا أي قوامها هي النفس خاصَة و أنَها بسيطة لأنَ المركَب هو من خصائص العالم المحسوس و هي بذلك تمثل وحدة الأنا.
نخلص من ذلك أن الجسد بالنسبة للنفس كشيء خارجي نستعين به و نتحكم فيه و بالتالي فهو متخارج عنها , الأمر الذي يجعلنا نقرَ بأن النفس هي ما يعطينا الشعور بالأنا بل هي ماهيته.
و لعلَ الحديث عن الماهيَة لا يستدعي البحث فيما تكون هذه الأنا بل أيضا فيما يضمن استمرار الشعور بالأنا و ديمومتها, فالما نحن هي إشارة إلى الزمن و الاستمراريَة . ففيم تتمثل علاقة الأنا بالديمومة ؟ وكيف أحافظ على الشعور بالأنا في حضرة الزمان المتحرَك ؟
إن الحديث عن علاقة الأنا بالزمان هو من المسائل العريقة في التفكير الفلسفي غير أن التقسيم الثنائي للعالم قد جعل من النفس التي هي ماهيَة الإنسان خارجة عن الزمن أي خالدة و لكن مما يتأتى الشعور الدائم بالأنا ؟ إذا كانت الديمومة كما يعرَفها برغسون هي الشكل الذي يأخذه تتالي حالات الوعي عندما يسلَم نفسه للحياة فانه ذو صلة حميميَة بالأنا إن لم يكن الأنا هو ذاته الديمومة. فالأنا يتشكل داخل الديمومة و هو ما يصنع وحدته بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات خارجيَة و هي في الحقيقة تغيرات تطرأ على "الأنا السطحي" في معايشته للظواهر من خلال الحواس , أما " الأنا الباطني الجوَاني" الذي هو حصيلة أحاسيس متشابكة فانه ما يقيم وحدة الوعي بالذات. انه المكان الحقيقي للشخصيَة و للذات. إن المشكلة المتعلقة إذا باستمرارية الشعور بالأنا تجد الإجابة الأولية عنها في مفهوم الديمومة الذي هو ليس الزمان بالمعنى الخارجي المنقسم إلى ثلاثة لحظات و إنما هي علاقة الأنا بذاتها داخل مجموعة الأحاسيس المتشابكة من أزمنة مختلفة و لعلَ هذا ما يسميَه بول ريكور " الجوهر اللا متغير من الشخصيَة".
إن النفس التي بها نحن ما نحن ليست بهذا المعنى مجرَد ماهيَة بسيطة و خالدة بل هي أنا دائم الحضور رغم ما نسنده له من حالات متغيرة.
يدور السؤال عن الأنا نفسي إذا في فلك النفس بماهي استمرار في الكينونة لا بماهي ماهية ذات عنصر مخصوص مطلق و ثابت فحسب , فالديمومة إذا هي ما يضمن استمرار الشعور بالأنا و هذا الشعور يدخل في تركيبة الأنا بماهو ماهيته الجديدة التي لا تجعل بجمودها من الأنا روحا خالصة بل هي تفاعلات و أحاسيس متشابكة تستمرَ في الزمن دون أن تفقد بفعل عوامل التبدل شعورها بالتواصل , فالأنا نفسي هو تلك القوَة أو الكوناتوس الذي يراوغ الزمان و يحافظ على استمرار الأنا و يشحنه بما يمكنه من الوجود.
و لعلَ الوجود في الزمن هو من أكثر الأمور التي تدفعنا للتساؤل عن مأتى شعورنا بأنفسنا و كأننا "نختبر الوجود" باستمرار حسب دولوز فتتالي الأحداث التي يختبرها الإنسان تولَد فيه الشعور بالتواصل خارج كتلة الزمن المتجانسة ذلك أن الأمر يتعلق بالأنا الباطني- لدى برغسون- المخالف للأنا السطحي و الخاضع للتغيًر بفعل تواصله مع العالم الخارجي . أما المشاعر و الأحاسيس الإنسانية إنما هي العمق الذي يلامس به الإنسان ماهيته مثلما أن حصيلة التفاعلات التاريخية و الثقافيًة تتجاوز زمن الأنا المفرد و هذا ما أشار إليه "تايلور" في كتابه مصادر الأنا نفسي . من هنا لم يعد الأنا موضوعا ينظر إليه من الخارج باعتباره جزءا من مجموعة بشريَة بل هو صانع نفسه من خلال تأوَله لذاته و بحثه في جينيالوجيته الاجتماعيَة و علاقاته الحميميَة و في فضاء التبادلات الثقافيَة إذ لا تستقيم ماهيَة الأنا إلا داخل مواقفه إزاء التساؤلات الدينيَة و الايتيقيَة و السياسيَة.
يبدو أن الأنا قد صار أكثر انفتاحا مما كان عليه داخل التصور الماهوي الكلاسيكي . فليست الماهية ما نكون به نحن ما نحن من جهة الثبات خارج إطار الزمن و التاريخ و الثقافة بل هي ما يضمن وجودنا في خضم التغيرات الثقافيَة و التاريخية لذلك فان التصور الماهوي للأنا لا يتمظهر بشكل موافق لهاجس التعرَف على ذواتنا إلا في سياق الديمومة و الامتداد في الزمن و هنا نفهم إلحاح هيدغر على علاقة الأنا الحميمية بالزمان فهو ماهية وجود الإنسان. غير أن هذا التصوَر للأنا يقودنا إلى طرح مسألة أخرى تتعلَق بطبيعة الأنا نفسي لا من جهة مفهومية فحسب بحيث يتم التعبير عنها بمفاهيم مجردة كالنفس أو الديمومة بل من جهة تمظهرها و تجسَدها هنا و الأنا إذ يؤدي القول بأن الماهيَة هي النفس إلى إقصاء بعد بالغ الأهمية من الأنا و هو الجسد . فنحن لا نستحضره إلا عرضا و لا نتمثل هالا كموضوع خارج عن ماهيتنا و صميم وجودنا و الحال أن غالب أفعالنا و إرادتنا و مشاعرنا تتأتى من الجسد فإذا كان الكوناتوس أي القوة الكامنة في الطبيعة هي ما يدفعنا إلى التواجد باستمرار فان ما يجسَد هذا الكوناتوس و يفعله هو الجسد برغباته باعتبارها دافعا للفعل و الحركة . فليس الجسد مجرَد آلة تحركها النفس بل هو ذاته وجها من وجوه هذا الأنا نفسي. بهذا النحو يصير الأنا نفسا و جسدا غير منفصلان عن يعضهما البعض إذ هما وجهان أو ضربان لجوهر واحد هو المطلق أو الله فإذا كانت أفعال الإنسان تتجسَد في جسده فإنها نابعة منه ضرورة فالجسد رغبة أو دافع يحركنا باستمرار. يتطلب هذا الأمر إعادة النظر في مكانة الجسد من الأنا و لعلَ التنقيب الجينيالوجي عن الوعي أو النفس خير دليل على هذه المراجعة فالحديث المطول عن ماهية الإنسان قد أدت إلى ازدراء الجسد و كأنه شيء أو جسم عاطل أو آلة بينما هو دينامكية عاقلة و ملكة للحكم و الفهم و التنبؤ و الاختيار أو كما يقول نيتشة في هكذا تحدث زاردشت " إني بأسرى جسد و لاشيء سوى جسد و أما الروح فهي كلمة تشير إلى جزء من هذا الجسد" .
فالجسد ملتصق بي محدد لوجودي في علاقاته و أصله و بنائه و حمولته و حركته و تحولاته و وعيه و حسه و فكره و قوته و اناه و موته. انه جسدي الخاصَ الذي لا ينقطع وجودي عنه و استمراريتي مرتبطة باستمرار يته و حقيقته حقيقتي فهو ليس لحم و دم فحسب بل واقع و إحساس و تفاعل مع كل المعطيات المحيطة بي لذلك من العبث أن أتحدث عن الجسد كما لو كان أمامي أو كشيء أسكنه أو بعبارة ديكارت "كالربان في سفينته" بل لعلَ العبارة الأفضل و الأدقَ هي أن نقول " أنا جسدي" بالمعنى الذي تحمله عبارة "أنا أفكر" الديكارتيَة من جهة تطابق الأنا و الجسد تطابقا لا نميَز فيه بين وحدتين.
و لمن كيف ينبجس التفكير في الأنا من خلال الجسد ؟ و بأيَ معنى يكون الجسد هو محور التفكير في الأنا؟
إن حضور الجسد في العالم هو في الحقيقة تواجد بالنسبة لذاته بل للعالم الخارجي و من ثمَة ينبعث التفكير إذ يتم هذا الحضور في مجال الديمومة فالجسد الموضوع و الجسد المعيش يتأثران بعامل التغير و الاستمراريَة. إن الجسد حركة و الحركة هي ما يجعل من الشيء يوجد مثلما أن جوهر العالم و الطبيعة هي الحركة و لقد تُرجمت هذه الحركة في الكثير من التصورات فقد تأخذ من جهة ما هي دوافع غريزيَة و عدوانيَة تجعل من الأنا مجموعة قوى متصارعة تلغي تماما الصورة المثاليَة للأنا الديكارتي المستقل بذاته.
إن الأنا جسد ينمو ويكبر و يتفاعل و يشبع و يتألم و ينام و يفكر و يحلم و يبني مواقفه و يتخذه أشكالا شتى أنه يتمأسس و يتسيَس وتمارس عليه كل أنواع العنف و التسلَط مثلما يبيَن ذلك ميشال فوكو في تاريخ الجنسانيَة هذ الجسد الذي به نكون هو مجال الحياة و فضاء تمظهرها . انه " يشع مقاصد" و يجعل من الأشياء موجودة بالنسبة لي بل لعلَه هو مركز إرادتي أو بعبارة ريكور في كتابه فلسفة الإرادة
« en dernier ressort, c’est aux muscles que se termine le vouloir »
لا يمكن للمرء أن يتمثل ذاته خارج الجسد بل لعلَ الانطلاق من الجسد يؤدي الى نفي الذات اذ صارت الأنا خرافة أو حكاية خياليَة مثلما بيَن نيتشة في كتابه أفول الأصنام .
إننا نسكن العالم كجسد و رغم أن هذا الحديث عن الجسد يظلَ مجرد خطاب بينما التفَكر في الامتداد أي الجسد ينبغي أن يتم عبر الانتقال من حالة الانفعال إلى الفعل حسب سبينوزا و لذلك ليس من اليسير أن نتغاضى على دور النفس المفكرة أو الذات التي هي فضاء كل تمظهرات الوجود.
إنما الذات بهذا المعنى وحدة مرَكبة لا تختزل في النفس فحسب و لا في الجسد وحده بل نحن ما نحن بانخراطنا الرمزي في العالم.
السؤال عن الماهية يفتح طريق تساؤلات أنتولوجية و عمليَة فإذا كان الأنا يتعرف على نفسه في مرحلة أولى بما يميزه بإطلاق فانه لا يفتأ رغم ذلك يصطدم بتوترات تخصَ حياته العمليَة يعيد على ضوئها اكتشاف نفسه و تأولَها.