نفتتح موضوع الهوية بسؤال: من هو مدرس الفلسفة؟ تعلمون جيداً من هو مدرس الفلسفة ولكنني أريد من وراء هذا السؤال التنبيه إلى تعدد جسم تدريس الفلسفة بحيث تشمل هيئة تدريس الفلسفة مختلف من يدرسون الفلسفة في: التعليم الجامعة، التعليم الثانوي التأهيلي، مراكز التكوين، المدارس العليا، مؤسسات التعليم الخصوصي...
في الحقيقة يشكل هذا التعدد غنى لتدريس مادة الفلسفة، وعلى الرغم من اختلاف درجات المدرسين في سلم الأجور والتعويضات، وطبيعة المناهج والبرامج التي يدرسونها وتنوع الفئات التي يعلمونها، فإنهم يشتركون جميعا في مهمة التدريس والتأطير والتي تتمحور أساساً على عملية إعادة إنتاج الأفكار والمعارف الفلسفيّة والحفاظ على التقاليد العريقة للدرس الفلسفي.
1 - عملية إعادة الانتاج:
تتم في نظرنا عملية إعادة الإنتاج تلك في أشكال مختلفة:
· التكرار: من جهة أن الترداد الممل للأطروحات الفلسفيّة ومناهج الفلاسفة ومذاهبهم ومدارسهم وسيرهم وأهم أعمالهم ومساهماتهم ومقولاتهم الأبرز، شرحاً وتحليلاً وتأويلاً في الدروس المدرسيّة والجامعيّة أو في الكتب والمقالات والندوات، لا يخدم إلا وظيفة واحدة هي الحفاظ على الارث الفلسفي في عراقته وأصالته.
· الأستاذيَّة: يتذكر كل واحد منَّا المرحلة الانتقاليَّة التي مرّ منها: من الجامعة أو البطالة أو التعليم الابتدائي، أو مهنة أخرى إلى الفصل مروراً بمركز التكوين. وهي مرحلة تستهدف بالأساس تشكل الوعي بمهمة ومهنة الأستاذية: تتعلم كيف يمكنك أن تكون أستاذا على مختلف المستويات، النفسية والاجتماعية والنظامية. ففي مراكز التكوين تتم عملية تدجين واسعة لحصول الوعي بمرتبة الأستاذية.
· البحث الجامعي والحر: ونقصد الرسائل والأطروحات والبحوث الجامعيَّة، والانتاج الحر غير المقيَّد بالمؤسسة والذي لا صلة مباشرة له بمناهج التدريس.
· الأنشطة الفلسفيَّة: أي مختلف الندوات والمحاضرات والأيام الدراسيَّة والمقاهي الفلسفيَّة والتكريمات والاحتفالات والتتويجات، ومعرض الكتاب، وحفلات توقيع الكتب... أي مختلف الأنشطة مؤسساتية كانت أو غير جمعوية.
هل يستطيع مدرسو الفلسفة بمختلف أنواعهم أن يشدوا عن هذه القاعدة أي إعادة الإنتاج نحو الابداع والانتاج الفلسفي غير النمطي وغير المقيد بالشروط الأكاديمية؟ تلكم معضلة كبيرة لازمت تدريس الفلسفة عندنا منذ ما يزيد عن نصف قرن، والتفكير في أدوات هذا الابداع وأشكاله والطرق إليه نادرة جداً، وهي معضلة لم تحظى بالعناية الكافيَّة: كيف السبيل نحو إبداع فلسفي خالص وحر يستحق أن نسميه إنتاجاً فلسفيّاً؟
نجد مقاربة مميزة - قلما تم التوقف عندها - لدى عبد الله العروي، حيث يقول: "تنشأ الفلسفة وتتطور وتنبعث في الجدل، فهي لا تستطيع بإعادة النظر في مسائل قديمة بنفس العبارات، أن تنقذ نفسها من المفارقة التاريخية التي تتربص بها دائما. ولا تتجدد إلا باتخاذها على عاتقها ما تطرحه الممارسة الاجتماعية اليومية من مسائل تظهر بادئ ذي بدء في شكل نقد – جدلي. فقد مضى علينا وقت طويل حتى أدركنا أن لينين قد أثار مشاكل خطيرة، أخلاقية وعلومية في كتاباته القصيرة التي كان يكتبها في المناسبات ضد رفاق حزبه الاشتراكي – الديمقراطي الروسي طيلة السنوات الممتدة من 1900 إلى 1910، كذلك لم نتوقف عن نقد خصب المجادلات التي مزقت الماركسية الغربية في برلين، فيينا أو بودابست في عصر الثورة الألمانية (1920 – 1924).
(...) أفليس الانفلات من التاريخ، من الديالكتيك، من الحدث، في الواقع، منذ أفلاطون هو وسواس الفلسفة الدائم. والحال أنه أقيم الدليل كذلك، منذ زمن طويل وفي المجالات الثقافية المختلفة أن تجديد الفلسفة نادراً ما يأتي، مع ذلك إلا من تأمل في الفلسفة المعاصرة. لو أننا بحثنا اليوم عن المكان الذي يحتمي فيه التأمل الفلسفي في البلدان لما عثرنا عليه بالتأكيد في الأماكن الهادئة التي يتردد عليها أساتذة الفلسفة. (...) إن الكتاب العرب المعاصرين، المتكلمين الجدد يكادون لا يمسون الفلسفة أبدا إلا في حلبة الجدل"[1].
يشترط الإبداع الفلسفي وفق هذه المقاربة الجدل، أي خوض الصراع الفكري حول المسائل الأكثر حيوية التي تهم الشأن العام، وهو مجال الفلسفة السياسية بامتياز. لذلك فإن فلسفة لا تدخل معترك السياسة ولا تدلي بدلوها في قضاياها الأكثر ملحاحية، فهي بعيدة كل البعد عن صفة الابداعية، غير أن الاماكن الهادئة التي تحدث عنها العروي لم تعد كما كانت: صارت أماكن مدرسي الفلسفة اليوم أكثر صخبا، حيث يتواجدون أكثر في سوق السيارات والعقارات والمدارس الخصوصية، والدروس الليلية. والقليل منهم يلجأ إلى الأماكن الهادئة التي تحدث عنها العروي في سياق مغربي تاريخي خاص (مرحلة الستبعينيات). فكيف يريد العروي أن يتحقق شرط تجديد الفلسفة بما هو تأمل في الفلسفة المعاصرة؟
2 - الهوية والهوية المهنية:
لستم بحاجة إلى أن أذكركم بمفهوم الهوية كما تناولته الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السيّاسيّة والأنثربولوجيا وعلوم النفس، ولهذا أكتفي بالقول أنه مفهوم زئبقي يصعب حصره في معايير معينة لأنه ينفلت من كل تحديد، وعليه أكتفي بالتمييز بين الهوية بمعناها الواسع والتي تشير إلى ما يشكل جوهر الذات الفرديَّة وبين الهويَّة المهنيَّة، لأنه يستحضر التمييز السوسيولوجي بين الشخصيَّة القاعديَّة / الرئيسيَّة والشخصيَّة الوظيفيَّة.
وأستعمل هنا مصطلح الهويّة المهنيَّة بالاستناد إلى المهنة profession التي يؤديها مدرس الفلسفة وليس إلى وظيفته fonction ، لأن هناك مدرسون أسندت لهم وظائف أخرى غير التدريس من قبيل المكلفين بالمهام الإدارية أو الإرشاد التربوي أو التأطير والمراقبة التربوية أو المصاحبة الميدانيَّة، كما قد تكون وظيفته اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو ثقافيَّة باعتباره - أو من المفترض فيه - أنه مثقف، لذلك تختلف الوظيفة عن المهنة.
نقصد بالهويَّة المهنيَّة مجموع السمات التي تُحدد معالم المدرس والتي تسمح بأن ننعته بأنه مدرس، ويتدخل فيها العديد من العوامل بما هو فرد ينتمي إلى جماعة اجتماعيَّة وإلى محيط مدرسي معين مشروط بسياقات داخليَّة وخارجيَّة. ولهذا الغرض سأميز بين مستويين سيمكناننا من فهم أدق لهوية مدرس الفلسفة:
· مستوى معياري: ويخص كل ما له صلة بالتشريع المدرسي (من النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية إلى المذكرات الخاصة بالمادة...)، وبالقوانين المنظمة للوظيفة العموميَّة... كل هذه التشريعات والقوانين لا تنظر إلى مدرس الفلسفة كمدرس معزول عن باقي هيئة التدريس ككل، ولا نجد فيها ما يخص مدرس الفلسفة، لأنه يمثل جزءً من كلٍّ وظيفته الأساس هي التلقين واعداد المترشحين للامتحان والحفاظ على قواعد التربيّة والمواظبة وتمثل القيم التي يحددها الاطار العام لمناهج التربية والتكوين.
حضور هاجس البحث عن خصوصيَّة وفرادة مدرس الفلسفة لن نجده في تلك القوانين والتشريعات، قدر ما نجد بعض ملامحه الخفيَّة وغير المباشرة في تشريع وتنظيم حصري، وأقصد بذلك تحديداً منهاج المادة والتوجيهات التربويَّة وبعض القواعد الديونطولوجيَّة غير المصرح بها والتي تعود إلى تقاليد الدرس الفلسفي وأعرافه ومكتسباته وهو ما نروم مقاربته في المستوى الثاني.
· مستوى أمبريقي: نقصد به ما ينتمي إلى واقع الممارسة، أي مجال الخبرة والممارسة العمليَّة للتدريس كما نعاينها في تجاربنا المختلفة والمتنوعة معاً، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الموجود بين الأجيال، فقبل الألفية الثالثة كان للمدرس حرية التصرف والاختيار أكثر مما هي متاحة اليوم، لأن وجود المنهاج والتوجيهات التربويّة قد قلص من حريّة التصرف في المضامين وفي المناهج وآليات التدريس وأصبحنا أمام وصفات – تجارية - نمطيَّة تجعل من الدرس واحداً في مختلف الفصول، وهناك من يكتفي بأسطر ملخصة يحفظها المتعلم لاجتياز الامتحان.
لا نستند في هذا المستوى على مادة موجودة حلّلت سلفاً هويّة المدرس من هذا المنظور ولكننا سنعتمد بالأساس على ما يشاع عن مدرس الفلسفة أو ما يعتقد مدرس الفلسفة أنه منوط به: أي على التمثلات السائدة حول مدرس الفلسفة والتي تأتيه من الخارج: المؤسسة أو هيئة تدريس مواد أخرى أو من الأحزاب والجمعيات أو من الأسر وحتى من المتعلمين، من جهة، ومن جهة أخرى على تمثلات المدرسين لأنفسهم.
· التمثل الخارجي: ينظر إلى مدرس الفلسفة من الخارج ك: نقابي، سياسي، جمعوي، ملحد، مشاغب، مختلف عن المدرسين الأخرين، مرشد، منصت... ولكنها تمثلات لا تقبل التعميم، فقد تنطبق على حالات بعينها أو على عينة من المدرسين.
· التمثل الذاتي: ينظر معظم المدرسين إلى نفسه كمدرس نقدي يحث على التفكير وإعمال العقل والشك، يعلم منهج التفكير، يخلخل البداهات والدوكسا، يبني رأيا نقديا مغايرا للسائد، يحرص على فرادة مادته ولا ينظر إليها كمادة مدرسيَّة، رغم أن هذا النوع من التمثل بدأ يضمحل نتيجة تغيرات حقيقيَّة عادة ما لا يتم الانتباه اليها، ولربما يستوحي المدرس مجموع سلوكاته او بعضها من مدرسيه السابقين كنوع من التقليد.
3 - ايديولوجيا مول الفلسفة:
ينبع تغير جسم مدرسي الفلسفة من التغيرات التي عرفها المغرب، ولهذا أمكننا القول – دون الجزم في ذلك – أن هناك ثلاثة رؤى ايديولوجية تلون بها مول الفلسفة: المدرس الماركسي أو المتمركس، المدرس الإسلامي أو الإسلاموي، المدرس التقنوي أو التكنوقراطي.
فلمَّا اجتاح المد اليساري المجتمع المغربي في السبعينيات كان معظم وأغلب المدرسين يساريين، وبالنظر الى قوة التغيرات الحالية فالطابع الغالب على المغاربة هو سيادة رؤيتين مختلفتين تماماً عن اليسار ونقصد بالأساس الرؤية التكنوقراطيَّة والرؤية الإسلاموية، وليس بغريب أن يتطبع مدرس الفلسفة وأن يتأثر بهذه التحولات المجتمعية لأنه جزء منه ولا ينفصل عنه، ولكن الغريب في الأمر ومما لا يعيه المتأثرون بهاتين الرؤيتين أنهم قد يتحولون إلى أعداء الفلسفة من الداخل وهم حقيقة كذلك.
أقصد بالرؤية التكنوقراطيَّة (أو النزعة التقنوية) في التدريس: أنني موظف أقوم بوظيفة التدريس وبعدها أصبح حراً لي أماني وتطلعات لا تستطيع الوظيفة أن تحققها لي: السعي وراء الربح السريع والرفاهيَّة أو مراكمة المال: إذن نحن أمام وجه آخر غير خفي بل معلن ومحط تباه واسع: مدرس سمسار، فلاح، مستثمر عقاري، مستثمر في القطاع المدرسي الخاص...
أما الرؤية الإسلاموية فهي عملية ايديولوجيَّة وسياسيَّة، بحيث يلعب المدرس أدوارا هامة في التجييش الايديولوجي وفي تجنيد الشباب لجماعات ايديولوجية وسياسية معينة. ليس عيبا أن يتمثل المدرس ايديولوجيَّة معينة ولا أن يتشبع المتعلم بقيم ايديولوجيَّة وبفكر ايديولوجي، ولكن العيب في ألا نسائل تلك الايديولوجيَّة: ماذا لو افترضنا أن كل المغاربة يسيرون على النحو الايديولوجي أو السياسي الذي تريد؟ هل تستطيع أن تبني عالم اليوطوبيا الذي تحلم به؟ وماذا لو حققت عالم يوطوبياك؟ هل ستبلغ السعادة والرفاه؟
ايديولوجيو الحركات الاسلاميَّة واهمون ومخادعون: واهمون في أنه يمكن ارجاع التاريخ إلى الوراء نحو بناء دولة الخلافة كما كان عليه الأمر أيام الرسول وهذا يعبر عن نكوص خطير جداً على مستوى الوعي، ومخادعون لأنهم يتصورون يطوبياهم وكأنها الجنَّة الموعودة: أي ارجاع العالم الأرضي نسخة للعالم السماوي، عالم لا يوجد فيه مخالف وملحد وكافر ونصراني ويهودي... عالم التقوى والنعيم المطلق فيما يشبه مملكة الرب المسيحيَّة التي سادت في القرون الوسطى. فأبدا ليس العالم الزمني والأرضي هو العالم القدسي السماوي. وقع في نفس شباك هذا الوهم ايديولوجيو اليسار في فترة السبعينيات حيث زرعوا أفكارهم في جيل كامل بعيداً عن آليات التفكير الفلسفي. وقد ساهمت في ذلك بطبيعة الحال اختيارات الدولة في وضع البرامج والمقررات. هل يفكر ايديولوجيو الحركات الاسلاموية الموزعين على كراسي تدريس الفلسفة في هذا الأمر؟ ألم يستفيدوا من تجربة اليسار السبعيني الذي مركس الدرس الفلسفي؟ أليس هناك امكانيَّة للخروج من رغبتهم الجامحة في أسلمة الفلسفة؟
لا شيء يمكنه مواجهة أدلجة الفلسفة غير الايمان بالبعد الكوني للفكر الفلسفي بما هو جزء من الفكر البشري ككل. فلا وجود لفلسفة إسلاميَّة أو مسيحيَّة وحتى إن وجدت فهي تندرج ضمن مجال فلسفة الدين فلما يتم تحقيب الفلسفة وفق الأديان، تأملوا معي التناقض الموجود في مسألة التحقيب: الفلسفة اليونانية، الاسلامية المسيحية، الحديثة والمعاصرة: فالأولى تأخذ الاسم من الشعب والبلد في حين أن الثانية والثالثة من الدين والرابعة والأخيرة من تحقيب زمني، لذا يمكن أن نعيد النظر في هذه التقسيمات واخضاعه لتقسيم زمني وتحقيب تاريخي: الفلسفة الكلاسيكية والفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة.
4 - عن سلطة مول الفلسفة:
نستعير هذا التعبير "مول الفلسفة" من النعت الحقيقي الذي يطلق على مدرس الفلسفة من طرف المتعلمين ومن زملاء العمل والمهنة. وقد يرى فيه البعض نوعا من القدح كأن تقول مول القزبور، النعناع، الزريعة، الحانوت... وعدم تقبله يعبر عن وهم النخبة، وعن الرغبة في الفرادة، مع الانتباه الى الصورة المشوهة التي تروج حول المدرس، بحيث صارت كلمة الأستاذ تنطق دون تمييز، تستعمل في الحانات والمقاهي دون أدنى شعور بالفرادة، ولربما قد ساهمت السلطة السياسية في ذلك لأغراض محض سياسية.
يحيل هذا التعبير في نظرنا على سلطة التملك، أي من يمتلك الفلسفة، ويسند إلى المدرس حق امتلاك وتملك الفلسفة، رغم أن سلطة المدرس عموما تتعرض لعملية تفكيك كبرى بفضل اصلاحات تروم في جوهرها تسليع التعليم، بحيث إن مخطط المهننة الذي يروج له منذ ما يقارب العقد دون أن يرى النور بعد سيضرب العديد من المكتسبات التاريخية التي ناضلت عليها الشغيلة التعليمية لعقود خلت. فسلطة المرس تبدأ وتتجلى في قوة قراراته ومسؤوليته في اقتراح مواضيع الامتحانات وتصحيحها وفي عمليات المراقبة، وفي مختلف المجالس (التدبير، التعليمية، الأقسام، المداولات، التأديب...) التي لم تعد لدى مدرسي اليوم غير عبء يجب التخلص منه، بحيث يكتفي معظمهم بتوقيع المحاضر دون حضورها لهذا يجب توخي الحذر من تصريف سلطة المدرس لغير المدرس.
يمثل المدرس حلقة أقوى وأضعف في الآن ذاته: فهو الجندي الحارس للجماهير المتعلمة (دركي ورجل أمن المجتمع قبل رجال الدرك والأمن)، إنه حارس أمن حقيقي يسهر على التهذيب والترويض وحسن سلوك المتعلم المفعم بالحيوية والنشاط الزائد. وفي نفس الوقت يلام على كل شيء: عن تدنى مستوى التعليم، غياب وانعدام الأمن والضبط، انحراف المتعلمين، عن عدم تقويم سلوكهم وفشلهم... ففي الامتحانات تظهر بجلاء قوة المدرس: الدركي الحقيقي.
ورغم قوته تلك التي تمنحها له سلطته التربوية، فإنه خاضع لكل السلطات التربوية: الوزارة، الاكاديمية، المديرية الاقليمية، مدير المؤسسة وطاقمه الاداري، الآباء، المجتمع المدني، المراقب التربوي...
5 - رهان مول الفلسفة:
ماذا عساه يفعل مدرس الفلسفة بعد أن يفرغ من وظيفته التربوية والتعليمية؟
يبدو أنه آن الآوان للتمييز بين الأستاذ العمومي والمفكر الحر بغرض حصول انتقال واع من الدور الوظيفي إلى الدور الطبيعي. نعم أقول الدور الطبيعي لأن المنخرط في حركية ودينامية الفكر الفلسفي تنتظره مهام جمة لدعم التفكير الحر وحفز الناس على التساؤل والنقد والهدم وبناء الخطاب الحجاجي.
يقوم الأستاذ العمومي بمهام وظيفية منهكة لا تتجاوز سقف إعادة إنتاج المتداول في تاريخ الفلسفة كعملية لا تكتمل أغلب الظن بل تشوبها اختلالات فضيعة، وتضمن له تلك الوظيفة أجرة (كجراية لا غير) لتجديد قوة عمله الذهنية (في عصر بلترة العمل الذهني)، في حين يتجه المفكر الحر نحو الانفلات من تقلبات اليومي وانشغالات الوظيفي ليكتسح قارات حساسة منتقاة من المعيش ومن معاناة البشر في عالم توتاليتاري مسكون بأصنام غير واعية: الاستهلاك، الاستغلال، اللهو، الوهم، التسليع...
التسليع: أكبر صنم عززته الرأسمالية وشرعت له الليبرالية، يخترق وجدان الإنسان المعاصر بشكل جنوني ولا نستطيع الانفلات منه.
الاستهلاك: صنم ثنائية الطلب والعرض يقود إلى إيهام الناس بأن الرفاهية تكمن في القدرة على الاستهلاك المفرط والجنوني دون الانتباه إلى الخطر الذي يحدق بمصير الكوكب. ويؤدي العماء السلعي جراء الوفرة الملحوظة في الأسواق إلى استلاب حقيقي لمعنى الحياة ولفن العيش.
الوهم: لا أحد منا بممكنته التخلص من أوهام العصر التي هي أوهام الذات حول نفسها وحول العالم. وهي أوهام شتى تحيط بالبشر من كل حدب وصوب، وصارت أقنعة لا بد منها لتحقيق التوازن النفسي والعاطفي والمادي والسياسي أيضا. تأتي الأوهام من التنشئة الاجتماعية ومن القلق المفزع الملازم للحياة المعاصرة.
اللهو: يزداد اليقين أن اللهو هو الطريق الملكي نحو السعادة، في الوقت الذي لا يعدو أن يكون غير لعبة لتجديد قوة العمل يدويا كان أو ذهنيا. فلماذا نلهو وفي أي سياق؟ لا نلهو لأننا لهاة بالطبيعة، وإنما لأننا مرهقون من فرط الاستغلال، لأننا مبعدون كليا عن شروط حياتية طبيعية، نسكن الأقفاص حيث تحيط بنا الجدران من كل صوب، ونخرج إلى الجدران، لنسير بين الجدران، تلك التي تصد في وجهك أي أفق بصري.
إن الاستكانة لأصنام العصر يوصد الأبواب أمام التفكير الحر، ويجعل الأستاذ العمومي في ترداد واجترار لعبارات وأقوال عادة ما تصطدم بآراء المتعلمين.
6 - نحو فلسفة أخرى:
- ليست الفلسفة مجرد مفاهيم ولا مجرد لغة تسبح في سماء المعقولات بل هي فكر حي ينمو ويتطور بيننا، إنها إحساس وشعور ووجدان.
- ليست الفلسفة مجرد ميدان معرفي وفكري قائم الذات له أهله، بل هي أيضا توجد في الفنون والأدب والعلم ورؤى العالم وفي الدين، توجد بين الناس في يومهم المقيت والمثقل بفيض من التمردات والمقاومات الجياشة...
- ليست الفلسفة مجرد مهنة لتجديد قوة العمل الذهني، بل هي ممارسة يومية تكرس النقد وتسعى الى بناء نظام حجاجي عقلاني.
- ليست الفلسفة مجرد تراث محفوظ في الكتب، بل هي أيضا تراث شفوي يدعم المكتوب والمتداول.
- ليست الفلسفة رهينة الاقسام والمدرجات بل هي فكر ترحالي يجوب الشوارع والمقاهي والبلدات
من المؤكد جدا أن هذا لا يعني السعي نحو الابتذال ولكنه يقف ضد من يختزل الفلسفة في التفكير المجرد والميتافيزيقي ويشحن المتعلمين بالمثاليات، في سبيل فلسفة فعل تتجذر في تربتها وواقعها وتواكب وتفعل في الممارسة العملية للناس، للمهمشين للمضطهدين وللمقصيين من دائرة الإنتاج، فلسفة تنبني على الاحساس والانفعال والشعور، فلسفة تستشعر عمق الذات الإنسانية كما نحياها... فأي نفع وفائدة وأية غايات للفلسفة غير هذا؟
[1] - عبد الله العروي: "أزمة المثقفين العرب: تقليدية..أم تاريخانية؟ بيروت – لبنان، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1978، ص 85 – 86.
المقال هو نص مداخلتي في ندوة الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة – فرع الرحامنة يوم 27 يونيو 2016.