ملخص
تعتبر الفلسفة تراثا انسانيا؛ فهي حوار وجدال ومواجهة أكثر من كونها موضوعا أو تيار ا معرفيا محددا، ولما كانت الفلسفة تمثل اتجاها معينا ينشد الوصول إلى المعرفة ، فهي من الكثرة والاتساع يجعلها مفهوم كلي للطبيعة والإنسان والتاريخ في زمان ومكان معين ، لأنها – أي الفلسفة – تعبير عن مصالح اجتماعية وقوى معينة، وبالتالي فهي ليست اضافة يسعى اليها الإنسان أو يرفض السعي اليها وفق ارادته ، بقدر ما هي وظيفة حتمية في عملية وعي الإنسان بعالمه. وبمعنى آخر هي نشاط فكري ينشأ استجابة لحاجة اجتماعية تتأثر وتتلون بظروف المجتمع وأحداثه. هكذا فلن يكون مدار نقاشنا في هذا المقال؛ الوقوف على المسار الطويل الذي قطعته الفلسفة واختلاف مدلولاتها من بيئة إلى اخرى أو تلونها بألوان عصرها، بقدر ما سنتوقف عند مسالة حساسة في تراثنا الفكري تهم الصلة بين الدين' -الاسلام- والفلسفة، وطبيعة الصلة التي جمعت بين المكونين (الفقهاء – الفلاسفة ) على ارض الاسلام ( الدين) وإمكانية نمو التفكير الفلسفي في تربة الدين .
في البدء كانت الترجمة
تجدر الإشارة إلى انه في صدر الاسلام كان الرسول يجلس إلى اصحابه يتلو عليهم ايات القران ويحدثهم في شؤون الدين والدنيا، ويجيب عن اسئلتهم ويفتح امامهم ابواب التأمل والتفكير في الآيات والأحاديث مفسرا لهم ما خفي عنهم من امور العقيدة والتشريع والفقه والمعاملات، فكان القران والأحاديث وقتئذ عماد الدراسات الإسلامية الأولى؛ مما ادى إلى الاهتمام بتدوين القران ونسخه في عدة نسخ وجهت إلى الولايات الإسلامية في عهد عثمان بن عفان. غير أنه لما خرج المسلمون من الجزيرة العربية لنشر الاسلام في الولايات والأمصار وبلاد فارس وبلاد الشام ومصر وجدوا ثقافات غريبة عن ثقافتهم الام؛ منها المذاهب الدينية الوثنية والمسيحية واليهودية المختلطة بالفلسفة اليونانية التي انتشرت في الشرق على يد فلاسفة اليونان حينما فروا من اضطهاد الرومان، حيث نشأت مدارس فلسفية في الإسكندرية وأنطاكية وحران وجنديسابور.
هكذا واجه المسلمون حركة الجدل الكبرى التي بدأتها طوائف وثنية ومسيحية ويهودية لمواجهة الدين الاسلامي، سلاحهم؛ الاساليب المنطقية والحجج الفلسفية. ولما أصبحت هذه التيارات المتنوعة عنصرا فعالا وأساسيا في التركيب الاجتماعي والثقافي في العالم الاسلامي الجديد مع انتشار الاسلام شرقا وغربا، وعند امتزاج العرب بغيرهم من سكان الاقاليم المفتوحة، اضطروا إلى دراسة علوم وفلسفات هاته الشعوب ومذاهبهم الدينية عن طريق ترجمتها من اليونانية واللاتينية والعبرية والفارسية والسريالية إلى اللغة العربية، وقد كان لكتب الفلسفة والمنطق والطب والفلك والرياضيات الحصة الاكبر من الترجمة .
وتذكر كتب التاريخ ان حركة الترجمة بدأت في عصر الامويين على يد: " خالد بن يزيد الاموي" و "عمر بن عبد العزيز" ، إلا انها اتسعت وتنوعت شاملة الفلسفة والمنطق الارسطي في عهد العباسيين وخاصة ايام جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، هذا الأخير – المأمون – كانت له اليد الطولى في شأن الترجمة ، بحيث كان هو الخليفة الذي ارسى دعائم الانفتاح على ثقافات الآخر .
وإذا كانت الفلسفة اليونانية قد انتقلت إلى العالم الإسلامي في فترة اتسمت بالتسامح والانفتاح على ثقافة الآخرين فإنه في فترات التشدد كانت هناك خشية من العمل بالفلسفة ومن تعلمها ، فكلما ازدادت شوكة أهل السنة- المتشددين - كان هناك عدم الثقة لدى البيئات الدينية في الاشتغال بعلوم الأوائل[1] بالرغم من كل التبريرات التي قدمها الفلاسفة حول مشروعية الفلسفة وأنها تساير الدين في هدفه من دون ادنى خطر .
بحيث ان الكندي الملقب بفيلسوف العرب -على سبيل المثال- برر مشروعية تعلم الفلسفة في رسالته إلى المعتصم مبينا انها علم الحق، وعلم الربوبية ولذلك ينبغي ان "يعظم شكرنا للآتين بيسر الحق فضلا عمن اتى بكثير من الحق، اذ اشركونا في ثمار فكرهم، وسهلوا لنا المطالب الخفية، بما افادونا من المقدمات المسهلة لنا سبل الحق...وينبغي ان لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق، وإن أتى من الاجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا فإنه لا شيء اولى بطلب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق ولا التصغير بقائله ولا بالاتي به"[2] . ان الكندي من خلال هذا النص يطالبنا بضرورة الانفتاح على الامم المباينة لنا، لنتعلم منها الفلسفة كطريق للحق حتى ولو كان هذا الآخر مباينا لنا في الملة .
وحين يدعوا الفلاسفة إلى اتخاذ الفلسفة وسيلة أو طريقا للبحث عن الحقيقة فإنهم يقدمون طريقا موازيا لطريق الدين، وهو ما لم يكن ليرضى خصومهم من الفقهاء، لأنه طريق من خارج الدين[3] ولهذا بدت ضغوط الفقهاء موجهة لكلام الكندي، افضت هذه الضغوط إلى اقصائه من عمله في قصر الخلافة العباسية كطبيب، ومن عمله في ديوان الخراج حين تولى المتوكل زمام الحكم( 247ه) . هكذا بدأت تُشن حملة هوجاء على الفلسفة ورمي المشتغلين بها بتهم الالحاد، وأصبح الفيلسوف المسلم يرمى بالزندقة والنفاق، وكثيرا ما عاش هؤلاء في غربة وقلق وجوديين وحسبنا هنا ما قاله الكندي في كتابه إلى المعتصم مبينا سوء طوية الفقهاء الذين يؤولون الفلسفة وهم غرباء عن الحق: " ..توقيا سوء تأويل كثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق، لضيق فطنهم عن اساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذو الجلالة في الرأي والاجتهاد في الانفاع العامة الكل، الشاملة لهم ولذرانة الحسد المتمكن في انفسهم البهيمية"[4]
ورغم المعارضة الشديدة التي اصطدم بها الفلاسفة، فقد اقبلوا على هذا الفن الجديد بكامل الهمة، دراسة وشرحا وتعليقا وإبداعا، حتى صار العرب في القرن العاشر الميلادي يعتبرون الفلسفة حسب تعبير " دييترسي" رأس المعارف.
ان صياغة تصور عن موقف الفقهاء (رجال الدين) من الفلسفة يحتاج منا إلى الإشارة أن الثقافة العربية الإسلامية يتنازعها تياران: احدهما يرى العلم والكون والأشياء وفقا لمرجعية النص– الكتاب والسنة– وهو يمثل في ثقافتنا تيار المروي والمنقول، ذلك التيار الذي اعلى من شان النقل على العقل، وهو تيار ينتمي اليه معظم اعلام السلف والمدارس الفقهية السنية، بحيث ان هذا التيار يحدد دور العقل في حدود النص، ولا ينبغي للعقل ان يتجاوز هذا الحد. وعلى النقيض من هذا، يعلي التيار الآخر من شأن العقل على النص ويجعله أساسا لرؤية العالم والنص، بل يرى ضرورة تغليب العقل على النص في حالة التعارض، والى هذا التيار تنتمي فرق كلامية كالمعتزلة،وأعلام القدرية الاوائل، والفلاسفة، وهذا التيار كان محدودا قياسا بالأول-تيار النص- في تاريخ الثقافة العربية، وكانت الغلبة دوما لتيار النص على العقل ولثقافة الرواية على الدراية وللمروي عن المنقول، لأسباب متعددة لعب فيها ما هو سياسي دورا كبيرا ...من خلال هذين التيارين السابقين سنكشف عن موقف الفقهاء من الفلسفة وعلوم الاوائل، وسنقدم نماذج توضيحية في هذا الشأن ..
1- الاتجاه الفقهي المناوئ للفلسفة
لقد اعلن الفقهاء من أهل السنة -المتشددون- حربا لا هوادة فيها على الفلسفة لأنها من العلوم الدخيلة والضارة ولا سيما الاتجاه الحنبلي الذي يرفض الكلام والمنطق والتصوف والفلسفة التي يرى فيها كفرا بواحا بحيث انه في مطلع القرن السابع الهجري كانت الفتوى الشهيرة لابن الصلاح الشهرزوري حين سئل عن مدى مشروعية الاشتغال بالفلسفة والمنطق من الناحية الفقهية فكانت اجابته قاطعة بأن " الفلسفة راس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ... اما المنطق فهو مدخل إلى الفلسفة ومدخل الشر شر ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما اباحه الشارع ولا اباحه احد من الائمة المجتهدين "[5]
وحين سئل أيضا عن مدى شرعية الاشتغال بكتب ابن سينا افتى بأنه لا يجوز ذلك ومن فعل ذلك فقد غرر بدينه وتعرض للفتنة العظمى[6]، ولا يكتفى بان الصلاح بهذا النقد في حق الفلسفة والفلاسفة بل رأى فيها عمل من اعمال الشيطان، ويؤلب السلطة السياسية ويحرض الحكام فيقول: "فالواجب على السلطان ان يدفع عن المسلمين هؤلاء المياشيم ويخرجهم عن المدارس ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم لتخمد نارهم وتمحى اثارهم...[7]
هكذا يسوغ ابن الصلاح لرجل السياسة صولته وتطاوله على الفلاسفة ويشرعن معركة غير عادلة تتواجه فيها السلطة الفلسفة بالسيف مقابل القلم، وهذا التنفير الشديد من ابن الصلاح يذكرنا بفريد الدين العطار الذي يرى في شان حرق عمر ابن الخطاب لمكتبة الإسكندرية قول ينم عن كره شديد للفلسفة، اذ يقول هذا المتصوف " وبحق المعرفة انني افضل في هذا المجال كاف الكفر على فاء الفلسفة .."[8]
وهذا الرأي ان دل على شيء فإنما يدل على ما يسود في البيئات السنية من مناطق واسعة من العالم الاسلامي في ذلك العصر، بحيث قوبلت الفلسفة بالرفض الشديد، فمهاجمة ابن الصلاح يمليها كما يؤكد بدوي جهله للفلسفة وعدم مقدرته على تعلم المنطق هكذا فالإنسان عدو ما يجهل أو كما تقول العرب " من جهل امرا عاداه"
ونموذج ثاني من داخل مجال الفقه لم يكف هو الآخر من توجيه سهام نقذه للفلسفة بغية التنقيص والنيل منها، ونقصد هنا الإمام والفقيه الحنبلي ابن تيمية الذي بدأ في محاكمة الفلسفة بنقض التها؛ وهو المنطق، وقد عالج ابن تيمية موقفه من المنطق في العديد من مؤلفاته وصوب اليه ضرباته المتوالية بحيث يشبهه ب " لحم جمل غث على رأس جبل وعر. لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل "[9] . والمنطق حسبه لا يفيد سوى في الامور الكلية الصورية في حين ان العلم حسبه يهتم بالأمور المتعينة الموجودة، ويفضل ابن تيمية القياس الاصولي أو ما يطلق عليه بقياس التمثيل على المنطق الارسطي، فالعلم بالحقائق الموجودة في عالم الاعيان لا يتحقق إلا من خلال قياس التمثيل الذي يعرفه بأنه: "انتقال الذهن من حكم معين إلى حكم معين لاشتراكهما في ذلك المعنى الكلي لان ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلي "[10]
ويؤسس ابن تيمية نقضه للمنطق على مجموعة من النقط المهمة؛ أهمها ان المنطق هو صنيعة بيئة اليونان، ونتاج لثقافتهم الصابئة، وبالتالي فإن المنطق يؤدي إلى افساد المنطق العقلي واللساني عند المسلمين . والملاحظ ان ابن تيمية ينتقد المنطق استنادا إلى خصوصيته في بيئته وثقافته ولغته ومصطلحاته وخصوصية الحضارة الإسلامية مغايرة للحضارة اليونانية، فإذا كان المنطق هو الة الفكر اليوناني فان المنهجية الاصولية الإسلامية "قياس التمثيل" هي الة للفكر الاسلامي، لذلك لا حاجة للعرب إلى منطق اليونان ولا إلى لغتهم وفكرهم؛ لان اللغة العربية هي اشرف اللغات و الجامعة لكل مراتب البيان. وبالتالي فان ابن تيمية قد اتخذ من رغبته في الحفاظ على صفاء اللغة العربية وسيلة للهجوم على المنطق، غافلا -أو متغافلا- ان اللسان العربي دخلته العديد من الالفاظ الاعجمية[11] حتى في القران نفسه، ولم يكن هناك من يتكلم عن فساد اللسان
وبعد ان نقض ابن تيمية المنطق باعتباره آلة للفلسفة نقض أيضا الفلسفة، بحيث تعمد التنفير منها من منطلق الرؤية السلفية للدين فيقول " لو بلغ الرجل من الزهد والعبادة ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد عليه السلام فليس بمؤمن ولا ولي لله، وان ظن انه ولي كما كان حكماء الفرس واليونان مثل أرسطو وأمثاله شركاء يعبدون الاصنام"[12].
وإذا كان ابن تيمية يوظف المعيار الديني من اجل تكفير الفلسفة فانه يوظف السنة أيضا من أجل ذمها مستشهدا بنهي النبي عن التشبه بالأمم الاخرى، لان التشبه بالفلاسفة اليونان يدخل في جنس هذا النهي ،من هنا فان الفلسفة حسبه هي المسؤولة تاريخيا عما حل بالعالم الاسلامي من ضعف نتيجة لتحلل العقيدة اثر التقليد الاعمى....
عموما فقد استندت محاكمة ابن تيمية للفلسفة على تقييمها وفقا للكتاب والسنة، لهذا ركز في تكفير الفلاسفة -اليونان- على الجانب الإلهي بالذات، وعدم ايمان هؤلاء الفلاسفة بأي عقيدة أو دين، لهذا ووضعهم اسفل سلم المعيار الديني. وفي رده على الفلاسفة المسلمون رأى أن هؤلاء خرجوا عن الملة، وعن اصول الديانة في قضايا عديدة مثل: حشر الارواح دون الاجساد، وقدم العالم وعلم الله بالكليات دون الجزيئات وتصور النبوة على انها من جنس المنامات، والمساواة بين النبي والفيلسوف، وفي مناقشاته وردوده على هاته القضايا وغيرها بنى محاكمته على اساس من الشرع أحيانا وحجج عقلية أحيانا اخرى (لا يتسع المقام للتفصيل فيها )
ان المواقف الفقهية السلفية ما فتئت تنتقص من الفلسفة، ووقوفنا هنا على نموذجين انما كان الهدف منه توضيح صورة عامة من مواقف أهل الدين من العلوم الفلسفية، على اساس سنخصص مقالا آخر لنوضح فيه مواقف فقهية اخرى ( ونقصد هنا الغزالي- سيف الدين الآمدي) سارت على نفس المنوال في نقد الفلسفة .
اذا كانت النماذج الفقهية السالفة الذكر اهتمت بنقد الفلسفة؛ فان هناك نماذج من أهل الفقه انصب اهتمامها على الدفاع عن شرعية الفلسفة وإبراز قيمتها على مستوى الوجود الفردي والجماعي، وهو ما سنتطرق له في النقطة الموالية
2- الاتجاه الفقهي المشرع للفلسفة
تعرفنا سابقا إلى نماذج من ارض الدين تنتقد الفلسفة، اما الآن فسنتوقف عند نموذج من داخل الدين يشرعها ويدعوا لها، ونخص بالذكر هنا فقيه قرطبة الإمام ابن حزم الاندلسي، الذي قال عنه المستشرق بالنثيا Palencia "ففي قرطبة ظهر ابن حزم صاحب التواليف الكثيرة في كل فن، وهو من أفداد الاعلام المعدودين في تاريخ الاندلس"[13]. وهو الفقيه المجتهد الذي تأثر تأثرا واضحا بمدرسة أهل الحديث، ونهج منهجا ظاهريا يقوم على اربع ركائز" القران، السنة، الاجماع، الدليل"
لم يقف ابن حزم موقفا عدائنا من علوم الاوائل، بل لقد اقبل على منطق أرسطو وأخذ بطرف من فلسفة اليونان وعمل في الوقت نفسه على الافادة من هذا التراث اليوناني في دراسته للفقه الاسلامي وشتى المسائل الكلامية، هكذا اعلن ابن حزم في جرأة ووضوح انه لا ينكر على الاوائل علومهم ومؤلفاتهم بل عاب على الذين يعدونها هذيانا لا يفهم وهراء من القول انهم طالعوها بعقول مدخولة وعيون عليها غشاوة [14] فلم يفهموها، بل وسمو انفسهم بفهمها فوصفوها بأنها كتب الحاد وهو ابعد الناس عنها حيث يقول: "رأيت طوائف من الخاسرين، شاهدتهم ايام عنفوان طلبنا، وقبل تمكن قوانا من المعارف وأول مداخلتنا صنوفا من ذوي الاراء المختلفة كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة من غير يقين انتجه بحث موثوق به على ان الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة "[15] ؛ وقد صنف ابن حزم موقف الناس من علوم الاوائل وكتبهم إلى اربعة ضروب، الثلاثة منها خطأ والرابع حق مهجور [16]
يقدم لنا ابن حزم بالإضافة إلى ما سلف؛ تصورا اسلاميا ناضجا لماهية الفلسفة، يكشف عن كونها منهجا وأسلوبا في الحياة العملية بواسطتها يتحقق صلاح النفس يقول: " الفلسفة على الحقيقة انما معناها وتمرتها والغرض المقصود من تعلمها ليس شيئا غير اصلاح النفس؛ بان تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السير المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن السياسة للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة"[17] . يتضح من هذا التعريف ان للفلسفة جانبان برأي ابن حزم نظري تعلمي لمعرفة الفضائل والخصال، وعملي يتمثل في تطبيق هذه الفضائل وتمثلها في الحياة العملية وتدبر شؤون الرعية وهو ما يؤدي بالنفس إلى صلاحها. وبهذا المعنى، الفلسفة في جوهرها نظر وعمل؛ غرضها تهذيب النفس وإصلاحها، وتلك الغاية بعينها هي غاية الشريعة، فلا تعارض إذن بين الاثنتين. وأما المنطق، فان ابن حزم اعرف الناس بقيمته اذ نجده يقرر بصراحة أن: " الكتب التي جمعها أرسطو في حدود الكلام ..كلها كتب سالمة مفيدة، عظيمة المنفعة في جميع العلوم...... ولا غنى للفقيه المجتهد لنفسه ولأهل ملته عنه "[18]
ولا شك ان محاولة ابن حزم التقريب بين الفلسفة والشريعة؛ قد اسهمت إلى حد كبير في اكسابه مجافاة وعداوة أهل السنة المعاصرين له، من المتحاملين على علوم الاوائل، خصوصا ان هؤلاء كانوا يمثلون الاغلبية العظمى من رجالات الفكر في الاندلس . ومن هنا فقد كان محط استهداف وتجريح بسبب كتابته في المنطق وتشيعه للفلسفة، بحجة ان الفلسفة وحدود المنطق منافية للشريعة وان كتب الاوائل وأرسطو بوجه خاص محتوية على الكفر وناصرة للإلحاد. هكذا وجد فقيه قرطبة نفسه مضطرا للدفاع عن المنطق وعن ارائه الفقهية ضد هجمات الخصوم المتحاملين عليه، لدرجة انه كانت له مساجلات ومجادلات حامية الوطيس خاضها مع الفقهاء ونخص بالذكر مجالس الجدل التي دارت بينه وبين الفقيه الاشعري المعروف الفقيه "ابي الوليد الباجي" .
وقد اثمرت هذه المحاولة كتابه الشهير" التقريب لحد المنطق والمدخل اليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية " والناظر في هذا الكتاب وغيره؛ يجد ابن حزم مؤمنا اشد الايمان بجدوى الفلسفة وفائدة المنطق، فلم يكن من المستغرب على رجل مثله ان يعمد إلى تبسيط المنطق الصوري وتقريب معانيه إلى افهام السواد الاعظم من الناس، والواقع ان منطق أرسطو في تلك الايام كان يعد من أصعب العلوم واعقدها لا لغموض الترجمة العربية والتباسها فحسب،بل لتعدد رموزه وكثرة مصطلحاته أيضا. وليس أدل على ركاكة الترجمة العربية لكتب أرسطو في المنطق ما جاء على لسان السيرافي في مناظرته المشهورة مع متى بن يونس حول المفاضلة بين النحو العربي والمنطق اليوناني حينما قال" ترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة اخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة ". لهذا كان قصد ابن حزم التقريب للمنطق وذلك بتوضيح الغامض فيه الغامض وتصحيح الرأي الفاسد الذي يوشك ان يغلط فيه كثير من الناس.
يستفاد مما سبق ان لدى ابن حزم شعورا قويا بان العلوم الفلسفية لا تنافي الشريعة وخاصة المنطق كأداة لتقويم الاراء الشريعية وتصويبها، واستيعاب المناخ الفكري في البيئة الاندلسية، وفهم ما تضمنه من أراء لأهل الملل والنحل الاخرى؛ والتي كان غرضها النيل من العقيدة الإسلامية، كل ذلك حفز ابن حزم الفقيه بان يتسلح بعلوم الاوائل وبقوة منطقية في الجدل والمناظرات وهذا بدوره ادى به إلى الدفاع عن المنطق والتأليف فيه، ليثبت انها علوم ليست منافية للشريعة. وعلى الرغم من كل المبررات التي قدمها إلا ان روح تعصب الفقهاء لم تشفع له، بحيث وجدوا في ارائه ما يهدد مكانتهم عند الامراء والحكام فاعتمدوا التدليس ورتبوا له المكائد التي وجدت الترحيب عندهم فنكلوا به اشد التنكيل واحرقوا كتبه[19] وحرموا تداول فكره .
على سبيل الختم
قادنا السؤال المنطق إلى التقصي عن نماذج من داخل الفقه لتبيان موقفها من امر الفلسفة والمشتغلين بها، هكذا خلصنا إلى تضارب الاراء بشأنها بين مؤيد ومعارض،وما هو ثاوي في الموضوع ان الفلسفة بنت الحرية ولازمتها الأساس، فبدونها لا فكر ولا تفكير ، وحرية الفكر بدون خصلة التسامح وتقبل الآخر ، تنتج لنا فكرا دوغمائيا -وثوقيا- مغلقا. هكذا فازدهار الفلسفة في الاسلام مرهونة بالأمرين معا : حرية الفكر، والتسامح مع الآخر . وتكشف لنا المحطات التي قطعتها الفلسفة الإسلامية في بواكيرها الأولى هذا الأمر بجلاء، بحيث تسود فترات تاريخية يزدهر فيها التفكير الفلسفي وينمو نتيجة للتسامح الحاصل بين المشتغلين بالفقه مع المشتغلين بالفلسفة - ايمانا منهم ان قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول الآخر خطأ يحتمل الصواب - غير ان هذه الفترات تكون قليلة ناذرة إلى منعدمة، مقابل ما هو سائد في معظم الفترات التي اتسمت بانغلاق الفقهاء وتعصبهم وتنكيلهم بكل مشتغل بالفلسفة وعلوم الاوائل، ليس هذا وفقط، بل تجاوز الأمر ذلك إلى التنكيل بمخالفيهم في الرأي من داخل ميدان الفقه، ولنا من امثلة احمد ابن حنبل، ابن تيمية، ابن حزم ...الخ خير دليل على هذا .
عموما فنشأة كل ضروب الفكر من فقه وعلوم اخرى مرهونة بمقدار التسامح السائد في البلد، فالدين"الاسلام" دين تسامح وسلام ودين يدعوا العبد إلى اعمال عقله والاعتبار في الموجودات، لكن المنسوبون للدين( الفقهاء) نسوا أو تناسوا هذه الفضيلة ورموا كل مخالف لهم بالمروق من الدين وبكل الصفات الدنيئة . وحينما تكال للفلسفة تهم من قبيل الكفر والمروق والزندقة، فإنها لا تبادل العنف بالعنف ما دامت كلها حكمة واتزان. والجدير بالملاحظة ان مسعى التوفيق والتكامل بين العقيدة والفلسفة لا يبلغ نضجه إلا حينما يشتد الصراع وتتأجج المجابهة، فحينئذ تزداد الحاجة إلى الاهتمام بالسبل المؤدية إلى الخروج من مأزق المحن والمظالم فيكون الخطاب للمنطق وللاستدلال البرهاني، ويؤول إلى الأمر إلى الحكمة والفلسفة. هكذا تطورت الفلسفة رغم كل الحصار الذي فرض عليها في ارض الدين" الإسلام بالرغم من الضربات العديدة التي تلقتها سواء من قبل الفقهاء أو ممن كانوا في اول الأمر محسوبون على الفلسفة( الغزالي). هكذا استمرت الفلسفة كما استمر الدين واستمرت معهما الجدالات والنقاشات... المتسمة أحيانا بالهدوء وأحيانا آخر بالشدة، وبين هذا وداك يبقى التسامح وتقبل الآخر المختلف السبيل الوحيد للارتقاء بالإنسان الى مصاف الإنسانية، وتتحقق بذلك انسانية الإنسان .
المصادر والمراجع:
- ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 1، ت، محمد ابراهيم نصر و عبد الرحمن عميرة ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان
- ابن حزم، التقريب لحد المنطق ، تحقيق احسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1981
- ابن تيمية نقض المنطق، ت . محمد عبد الرزاق حمزة وسليمان بن عبد الرحمن ، مكتبة السنة المحمدية ، القاهرة
- ابن تيمية ، الرد على المنطقيين، ت. عبد الصمد شرف الدين الكتبي، ادارة ترجمان السنة ، باكستان،
- ابن الصلاح الشهرزوري، فتاوى ابن الصلاح رقم ( 55)، تحقيق سعيد بن محمد السناري، دار الحديث ، القاهرة ، 2007،
- احمد محمد سالم ، الفلسفة في فكر ابن تيمية ، المجلة العربية ، الرياض 1976
- جولدتسيهر، موقف أهل السنة القدماء ازاء علوم الاوائل، ترجمة عبد الرحمن بدوي ،ضمن كتاب التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ، دار القلم بيروت ، ط 4 ، 1980
- زكريا ابراهيم ، ابن حزم الاندلسي ، الدار المصرية للترجمة، القاهرة،
- الكندي، رسالة إلى المعتصم، ضمن رسائل الكندي الفلسفية ، تحقيق محمد عبد الهادي ابو ريدة ، دار الفكر العربي، القاهرة 1950
- سالم يافوت، ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، المركز الثقافي العربي، 1986
- فريد الدين العطار النيسابوري ، منطق الطير ، ترجمة بديع محمد جمعة ، دار الاندلس للطباعة والنشر ،1996
[1] جولدتسيهر، موقف أهل السنة القدماء ازاء علوم الاوائل، ترجمة عبد الرحمن بدوي ،ضمن كتاب الترات اليوناني في الحضارة الإسلامية ، دار القلم بيروت ، ط 4 ، 1980، ص 125
[2] الكندي، رسالة إلى المعتصم، ضمن رسائل الكندي الفلسفية ، تحقيق محمد عبد الهادي ابو ريدة ، دار الفكر العربي، القاهرة 1950، ص. 102-103
[3] احمد محمد سالم ، الفلسفة في فكر ابن تيمية ، المجلة العربية ، الرياض ص 24
[4] الكندي، رسائل فلسفية ، م ن ، ص 81-82
[5] ابن الصلاح الشهرزوري، فتاوى ابن الصلاح رقم ( 55)، تحقيق سعيد بن محمد السناري، دار الحديث ، القاهرة ، 2007، ص .95-96 نقلا عن احمد محمد سالم ، الفلسفة في فكر ابن تيمية ، مرجع سابق ص 24
[6] المرجع نفسه، ص.94
[7] جولدتسيهر، موقف أهل السنة القدماء ازاء علوم الاوائل، مرجع سابق ص 160
[8] فريد الدين العطار النيسابوري ، منطق الطير ، ترجمة بديع محمد جمعة ، دار الاندلس للطباعة والنشر ،1996، ص 437
[9] ابن تيمية نقض المنطق، ت . محمد عبد الرزاق حمزة وسليمان بن عبد الرحمن ، مكتبة السنة المحمدية ، القاهرة ص 155
[10] ابن تيمية ، الرد على المنطقيين، ت. عبد الصمد شرف الدين الكتبي، ادارة ترجمان السنة ، باكستان، 1976، ص 120
[11] : سندس، استبرق...
[12] ابن تيمية ، الرد على المنطقيين، ص 181
[13] زكريا ابراهيم ، ابن حزم الاندلسي ، الدار المصرية للترجمة، القاهرة، ص 9
[14] سالم يافوت، ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، المركز الثقافي العربي، 1986 ص 302
[15] ابن حزم، التقريب لحد المنطق ، تحقيق احسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1981 ص 116
[16] نفس المصدر ص 98-99
[17] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 1، ت، محمد ابراهيم نصر و عبد الرحمن عميرة ، دار الجيل ، بيروت ، لبنان ص 171
[18] ابن حزم ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ، ج 2 ص 65
[19] وأمام هذا المصاب الجلل انشد شعرا بليغا يقول فيه:
فان يحرقوا القرطاس لا يحرقوا الذي تضمنه القرطاس ، بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل ان انزل ويدفن في قبري
دعوني من احراق رق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستر