سنحاول الحديث عن مفهوم الإرادة عند أبي نصر الفارابي، حيث شكل مفهوم الإرادة موضوعا للنظر الفلسفي من أجل فهمه وتسليط الضوء عليه، وتعتبر مساهمة المعلم الثاني (275-339هــ) في هذا السياق من المساهمات البارزة في الفلسفة الإسلامية، ولقد جاء تصوره لمفهوم الإرادة عبر استلهامه للتراث الفلسفي الإسلامي، وكذا عبر معايشته لواقعه. وسنقسم عملنا هذا إلى قسمين: في القسم الأول سنقف عند التحديدات الفلسفية التي قدمها الفارابي لمفهوم الإرادة. كما سنخصص القسم الثاني للبحث في العلاقة القائمة بين الإرادة والقوى الإنسانية الأخرى.
إن مفهوم الإرادة لم يحظ، في تقديرينا، بالرغم من أهميته، بعناية المشتغلين في حقل الفلسفة الإسلامية، بحيث لم تنشر، في حدود علمنا، أي دراسة متخصصة، تحمل مباشرة مفهوم الإرادة عند أبي نصر الفارابي، باستثناء العمل الذي قام به الدكتور سعيد البسكلاوي، والذي تناول من خلاله مفهوم الإرادة في الفلسفة العربية المشائية، وقد عالج في هذا العمل مفهوم الإرادة، كما تصوره الفلاسفة المحسوبون على التيار المشائي، ولن يعالج المفهوم عند فيلسوف بعينه.
إن غياب الدراسات التي تصب في الموضوع الذي حاولنا الاشتغال عليه، كان من جهة معينة عاملا إيجابيا مكننا من التحرر من آراء الدارسين ومباشرة نصوص الفارابي وآراءه المنبثة في ثنايا أقيسته المنطقية المتماسكة والمنسجمة والنسقية، والتي تحتاج إلى بذل جهد حقيقي للكشف عنها وإخراجها إلى دائرة الضوء، لكن في ثوب محيطها النظري حتى لا تعزل عن سياقها الأصلي.
وبالعودة إلى نصوص الفارابي، نجد مفهوم الإرادة ذا طبيعة مركبة ومستعصية على التحديد، بحيث يخترق جميع المباحث الفلسفية من دون أن ينتمي فعليا إلى واحد منها، في هذا السياق النظري الصرف ربط أرسطو الإدراك بالقوة النزوعية :"يحرك الكائن الحي نفسه بنفسه لأنه ينزع إلى شيء ما غير أن ملكة النزوع، ليست مستقلة عن التمثل، وكل تمثل يكون إما عقليا أو حسيا"[1]. بينما الفارابي يعتبر الإرادة نزوعا إدراكيا صرفا، سواء كان هذا الإدراك حسيا أو تخليا أو عقليا: "النزوع إلى ما أدركه بالجملة هو الإرادة"[2]. فهذا التحديد الأولي لمفهوم الإرادة لدى كل من المعلمين الأول والثاني، يكشف على أن أبا نصر لا يميز بين الإرادة والنزوع، بالإضافة إلى تبيانه الصفة الإدراكية في النزوع الذي هو الإرادة، وبالتالي فإن هذا التعريف يجعل كذلك معنى النزوع هو الإرادة ولا شيء غيرها[3].
ولقد قدم الفارابي مجموعة من التعاريف لمفهوم الإرادة، خلص من خلالها، إلى أن الإرادة هي نزوع إلى ما أدرك، إما بالحس، وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة، مع الحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. ومبدأ الإرادة أيضا، هو القوة النزوعية بما هي مبدأ الشوق والكراهة في كل ما يعلم ويعمل، وهذه القوة هي التي تكون بها الإرادة، كما أن مجالات النزوع تختلف باختلاف أنواع النزوع، فهي إما نزوع إلى شيء ما، إما بالبدن بأسره وإما بعضو منه. كما أن هذا النزوع يكون بوجهين: فالوجه الأول، يكون إلى علم شيء ما، والثاني يكون إلى عمل شيء ما. يقول الفارابي في ما مفاده: "والقوة النزوعية، وهي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه، فهي رئيسة، ولها خدم. وهذه القوة هي التي بها تكون الإرادة . فإن الإرادة هي نزوع إلى ما أدرك وعن ما أدرك، إما بالحس وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة، وحكم فيه أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. والنزوع قد يكون إلى علم شيء ما، وقد يكون إلى عمل شيء ما، إما بالبدن بأسره وإما بعضو ما منه. والنزوع إنما يكون بالقوة النزوعية الرئيسية[4]".
وفي فحص الفارابي لمفهوم الإرادة، ميز بين معنيين لمفهوم الإرادة: المعنى الضيق والذي يسميه بالاختيار، والذي يكون محصول الروية والنطق، كما أنه يخص الإنسان وحده. "وهذا(أي الاختيار) هو الذي يكون في الإنسان خاصة دون سائر الحيوان. وبهذا يقدر الإنسان أن يفعل المحمود والمذموم والجميل والقبيح ولأجل هذا يكون الثواب والعقاب"[5]. والمعنى الواسع أو العام، والذي يكون محصول الإحساس أو التخيل، وهو الذي يسميه بالإرادة، وهي التي تخص باقي الكائنات الأخرى. "إن الإرادة إنما هي أولا شوق عن إحساس. والشوق يكون بالجزء النزوعي والإحساس بالجزء الحاس. ثم يحصل من بعد ذلك الجزء المتخيل من النفس والشوق التابع له فتحصل إرادة ثانية بعد الأولى. فإن هذه الإرادة هي شوق عن تخيل. فمن بعد أن يحصل هذان يمكن أن تحصل المعارف الأول التي تحصل من العقل الفعال في الجزء الناطق. فيحدث حينئذ في الإنسان نوع من الإرادة ثالث وهو الشوق عن نطق، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار[6]".
إن مفهوم الإرادة حسب أبي نصر الفارابي يستتبع التسلسل المنطقي لقوى النفس الإنسانية، فهي تكون في أول وهلة شوق عن إحساس، بينما في المرحلة الثانية تتحول إلى شوق عن تخيل، وذلك بعد انتفاء الجزء النزوعي والجزء الحاس . وبمجرد حصول الإحساس والتخيل في الإنسان تحصل المعارف الأول، فيحدث في الإنسان آنذاك الاختيار، الخاص بالإنسان وحده.
وفي تفسيره لكيفية صدور جميع الموجودات عن الأول يلتجئ أبو نصر الفارابي إلى استدلال ذهني عقلي يسمح له بالانتقال من مقدمات إلى نتائج، وذلك وفق ضوابط تمليها الضرورة المنطقية الصارمة، دون أن تتدخل إرادة الإنسان واختياراته في ذلك. وهذه النتائج ترتبط بطبيعة المقدمات، لذلك المقدمات الكلية التي يتيقن بها هذا اليقين عن تعمدنا للإحساس بجزئياتها إما قليل منها وإمنا كثير. فإن التجربة هي أن نتصفح جزئيات المقدمات الكلية هل محمولها في واحد منها ونتتبعه في جميعها أو في أكثرها إلى أن يحصل اليقين الضروري فإن ذلك الحكم حكم على جميع ذلك النوع وهي شبيهة بالإستقراء غير أن الفرق بينها وبينه هو أن الإستقراء لا يحصل عنه اليقين الضروري بالحكم الكلي والتجربة هي ما حصل عنها اليقين بالحكم الكلي[7].
وبالتالي، كل ما يوجد عن الأول إنما هو على جهة فيض عن وجوده. وعلى هذه الجهة وحدها لا يكون وجود ما يوجد عن الأول سببا له بوجه من الوجوه، ولا على أنه غاية لوجود الأول. كما وجود الابن- من جهة ما هو ابن- غاية لوجود الأبوين.
وإذا كنا في الجزء السابق حاولنا الوقوف عند مجموع التعريفات التي قدمها الفارابي لمفهوم الإرادة، فإننا في هذا الجزء سنتوقف عند مفهوم الإرادة في علاقتها بقوى النفس الأخرى (الغاذية، والناطقة، والمتخيلة، والحاسة)، لذلك نجد الفارابي يشدد على أهمية وقيمة القوة النزوعية في علاقتها بقوى النفس الإنسانية الأخرى، خاصة منها الغاذية والحاسة والمتخيلة، حيث أن القوى المدركة لا يمكنها أن توفي الخدمة والعمل إلا بحضور القوة النزوعية. كما أن فعلها لن يكون ذو قيمة إلا إذا اقترن بشوق وتخيل وروية وعلم، وبالتالي فالإرادة هي نزوع بالقوة النزوعية نحو ما تم إدراكه. ومادام الإنسان هو المعني بالأفعال الاختيارية دون سواه من باقي الكائنات الأخرى، التي عادة ما تكون صادرة عن روية واستنباط."فالقوة الغاذية التي في الإنسان إنما جعلت لتخدم البدن، وجعلت الحاسة والمتخيلة لتخدما البدن ولتخدما القوة الناطقة. وخدمة هذه الثلاثة للبدن راجعة إلى خدمة القوة الناطقة، إذا كان قوام الناطقة أولا بالبدن (...).
وهذه كلها (القوة الغاذية، والتي مهمتها خدمة البدن. والقوة الناطقة، بكلآ نوعيها جعلت لتحصيل السعادة) مقرونة بالقوة النزوعية. والنزوعية تخدم الحاسة وتخدم المتخيلة وتخدم الناطقة. والقوى الخادمة المدركة ليس يمكنها أن توفي الخدمة والعمل إلا بالقوة النزوعية[8]".
تعتبر الإرادة في النسق الفلسفي لأبي نصر الفارابي أوسع وأشمل من الاختيار، إنها تشمله ولا يشملها. كما لاحظنا في النصوص السابقة، فإذا كانت الإرادة تخص سائر الحيوان، فإن الاختيار يخص الإنسان وحده. وفي هذا الإطار يجيبنا الفارابي في مطلع مصنّفه "رسالتان فلسفيان" لما سئل عن الفرق بين الإرادة والاختيار. فأجاب قائلا:"إن الإنسان يتقدم فيختار الأشياء الممكنة، وتقع إرادته على أشياء غير ممكنة ، مثل أن الإنسان يهوى أن لا يموت. والإرادة أعم من الاختيار، فإن كل اختيار إرادة وليس كل إرادة اختياراً[9]".
يبين الفارابي، وذلك تبعا للإستراتيجية التي رسمها أرسطو، أن الروّية والاختيار اللذين يقتضيان في وجودهما الإرادة ويشترطانها، ويستحيل أن تقوم لهما قائمة بدون الإرادة[10]، وبالتالي فالإرادة بالمعنى العام تشتمل أو بالأحرى تتضمن معنى حيوانيا، يحول بينها وبين مضمونها الإنساني الخالص، في حين معنى الإرادة الخاص يجعل من الإرادة إرادة إنسانية عاقلة. وبالتالي نخلص إلى أن مفهوم الإرادة يحوي الاختيار ويضمه.
وبهذه الصيغة، يكون الا ختيار خاص بالإنسان وحده دون غيره من باقي الكائنات الأخرى، بينما يشترك الإنسان مع الكائنات الأخرى في الإرادتان الأوليّان أي تلك الناتجة عن الجزء النزوعي والمتخيل." وأما الإرادتان الأوليان فإنهما قد يكونان في الحيوان غير الناطق. فإذا حصلت هذه في الإنسان قدر بها أن يسعى نحو السعادة، وأن لا يسعى، وبها يقدر أن يفعل الخير وأن يفعل الشر والجميل والقبيح[11]".
وعبر الاختيار، يستأهل الإنسان الثواب والعقاب، وبه أيضا يتأتى له فعل المحمود والمذموم من الأفعال وبحصول أنواع الإرادة الثلاثة الأولى في الإنسان يستطيع أن يسعى نحو السعادة، وبفضلها أيضا، يستطيع أن يفعل الخير والشر والجميل والقبيح. وبالتالي فإن وظيفة الإرادة في الإنسان هي تحقيق السعادة له.
وبالتالي، نخلص إلى أن أبا نصر عمد إلى وضع حدود واضحة بين مفهوم الإرادة العام، ومفهومها الخاص(العقل العملي والاختيار). لذلك يمكن القول أن مفهوم الإرادة هو مفهوم واحد، لكنه يتمظهر حينا في صورة شاسعة، حيث تشمل دلالته كل تمثل، وحينا آخر يأخذ شكلا محددا، إذ ينحصر معناه في التمثل العقلي من دون سواه. فإن كان يستعمل الإرادة حينما يتعلق الأمر بالإنسان مؤثرا عنها مصطلحي العقل العملي والاختيار. فلدقة المعنى الذي يؤديه هذان المفهومان واللذان يرفعان كل لبس أو خلط قد يحصل بين الإرادة العاقلة الخاصة بالإنسان والإرادة الطبيعية البهيمية ذات المضمون الحسي أو الخيالي لدى الجنس الحيواني. بصفة عامة. فالإرادة هي كل إدراك نازع، وسواء كان هذا الإدراك عقلا وروية أو كان خيالا أو حسا، وهو المعنى الذي خصه الفارابي باسم الإرادة العام، في حين خص باسم الاختيار والعقل العملي تلك الإرادة التي تكون تبعا لنوع واحد فقط من هذه الإدراكات وهو الإدراك العقلي والروية.
[1] Aristote, De l’âme, texte établit par J.Jaanone, tr.Barbotin, éd. Gallimard, les belles lettres,1989, p.103.
[2] أبو نصر الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له وعلق عليه الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثامنة،2002، ص105.
[3] في الحقبة المعاصرة نجد "مشيل بلايMichel Blay " في معجمه " dictionnaire des concepts philosophiques" ، يقدم تعريفا يسير في نفس السياق الذي رسمه الفارابي، حيث يقول إن الإرادة شكل تحرير لملكة العقل، التي بواسطتها يتمم الإنسان فعله. كما يعتبر أيضا، أن أول ظهور لمفهوم الإرادة، يعود إلى قصيدة "لوكريس" والذي عنونها ب " في الطبيعة". مما يبرز راهنية الفكر الإسلامي في الفكر الفلسفي المعاصر.
"Volonté, De façon générale, forme délibérée et rationnelle de la faculté par laquelle l’homme se détermine à agir.
Chez stoïciens, forme raisonnable de l’impulsion à obtenir quelque chose.
La première apparition de terme voluntas dans la vocabulaire philosophique remonte au poème de la nature, de Lucrèce (mort 55 av.j.c) peu après, Cicéron utilise le terme pour traduire le grec boulêsis.
Ce terme lui-même était utilisé dés Platon et Aristote, mais il désigne chez eux le souhait plutôt que la volonté. En effet, chez Aristote, la boulêsis est un désir du bien, désir rationnel dans la mesure ou il est opposé la colère et à l’appétit comme désirs irrationnels". Michel Blay, dictionnaire des concepts philosophiques, CNRS.Ed.2006, p836.
[4] أبو نصر الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له الدكتور ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثامنة، 2002، ص89.
[5] أبو نصر الفارابي، كتاب السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات، حقه وقدم له وعلق عليه الدكتور فوزي متري النجار، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1993، ص72.
[6] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات، حققه وقدم له وعلق عليه، الدكتور فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1993، ص 72.
[7] محمد قشيقش، نظرية العلم عند أبي نصر الفارابي، دراسة تحليلية، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى، 2015، ص65-66.
[8] أبو نصر الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له وعلق عليه الدكتور ألبير نصري نادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 2002، ص106-107.
[9] أبو نصر الفارابي، رسالتان فلسفيتان، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور جعفر آل ياسين، دار المناهل بيروت، الطبعة الأولى،1987، ص106.
[10] يقول أرسطو في هذا السياق عن الاختيار الحر في "كتاب الأخلاق": " من الواضح أن هذا الاختيار يوجد مستقلا عن الإرادة من دون أن يتماهى مع ذلك معها. ذلك لأن دائرة الإرادة أوسع بكثير منه".
Aristote, Ethique de Nicomaque, tr. Par jean voilquin, Flammarion, Paris, 1965, p.69.
[11] أبو نصر الفارابي، كتاب السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات، حقه وقدم له وعلق عليه الدكتور فوزي متري النجار، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1993، ص72.