يُعتبَر الإلحاد من أهم المسائل التي استحوذت (ولا تزال) على أذهان كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء عبر كل العصور، وكان (ولا يزال) مَشغَلَةً أسالت الكثير من المداد جدلا ونقاشا وبحثا وتقصيّا بين معتنق ورافض. ومن المحال تماما أن يستوعب كتاب هذه المسألة المتشعّبة والمعقّدة فضلا عن مقال. لذا فالغرض من هذا المقال ليس محاولة تجميع تَلابيبِ هذه المَشغَلَة، وإنما هي محاولة لتسليط الضوء على ظاهرة (موضة) الإلحاد عند الشباب العربي تحديدا.
بداية لا بد أن نتّفق أن الملحد متديّنٌ مثله مثل المُؤَلّه تماما وإن كانا نقيضين. فالفيلسوف الإنجليزي الشهير هربرت سبنسر - Herbert Spencer، في كتابه المبادئ الأولى First Principles، اعتبر الملاحدة والمُؤَلِّهَة متديّنين معا، فقال الأول متديّن بالنّفي (نفي وجود الله) والثاني متديّن بالإيجاب (الإيمان بوجود الله)، فكلاهما يعتنق "دينه" من خلال اقتناعه بجَمهَرة أدلة (منطقية .. فلسفية .. علمية .. عقلية .. ميتافيزيقية) !
وهناك صنف ثالث وهو اللاأدري Agnosticism غير المهتم، الذين يظن أن الوقوف على الحياد من هذه القضية هو أحد الاختيارات المتاحة له. وهذا الرهان تحديدا هو دق لناقوس الخطر لكل من يقول أنا لا أدري إن كان هناك إله أم لا، ثم يتابع حياته قَريرَ العين، ويتوقف عن البحث عن الحقيقة كأن الأمر لا يعنيه. كلا يا عزيزي، أنت واهم، لابد أن يعنيك الأمر، فهذا هو الرهان الوحيد في الحياة الذي لا يمكنك الانسحاب منه.
هذا الاختيار يندرج ضمن ما عرّفه رائد علم النفس الحديث ويليام جيمس William James وأحد أعمدة الفلسفة الذرائعية في نظريته "الاختيارات الأصلية" وهي الاختيارات التي لا يمكنك التنصل منها أو تجاهلها، وبالتالي لا تملك إلا أن تختار بينها لأنه يترتّب عنها آثار جوهرية وربما دراماتيكية في حياة الفرد الدنيوية وخصوصا الأخروية الأبدية (إن صح الخيار الذي يُقرّها). ولأن هذه الخيارات حاسمة لهذه الدرجة كان لزاما أن تقرّر بخصوصها، فإذا فشلت كل الأدلة العقلية والعلمية والفلسفية والمنطقية في ترجيح كفة إحدى الاختيارين الأصليين (إيمان، إلحاد في موضوعنا) فإنك تلجأ إلى المرجحات الوجدانية والتي من بينها ما سماه ويليام جيمس بإرادة الاعتقاد The Will to Believe.
ولذلك طرح بليز باسكال Blaise Pascal رهانه الشهير رهان باسكال Pascal's Wager، باستخدام نظرية الاحتمالات. ولم يسلم المسكين من الهجوم اللاذع بعد تلك النظرية البسيطة حتى بعد وفاته، ابتداءً من ملحدي عصره، مرورًا بفولتير (Voltaire) (الذي كان ربوبيًا على الأرجح) وبعض ندماء صالون بارون دولباخ (Baron D’holbach) من آدم سميث (Adam Smith) وديفيد هيوم (David Hume) وغيرهم. ثم في العصر الحالي سام هاريس (Sam Harris) وريتشارد دوكينز (Richard Dawkins) وكريستوفر هيتشينز (Cristopher Hitchens) و لورانس كراوس (Lawrence M. Krauss) وصولا لمايكل مارتن (Michael Martin) صاحب نظرية رهان الملحد Atheist's Wager، وكلهم يرددون نفس قائمة الانتقاد المشهورة على رهان باسكال.
على كل لن أخوض في تلكم التفاصيل المعروفة لكي لا يطول المقال أكثر مما هو كذلك، وإلا لو ثُنيتْ لي الوسادة لتوسّعتُ أكثر. أعود إذن لأقول إن عالمنا العربي يشهد نمو المدّ الإلحادي بشكل حثيث، وهذه حقيقة لا محيد عنها. لكن ما يسترعي انتباهي هو أن أكثر المعتنقين لفكرة الإلحاد هم أشخاص في ريعان شبابهم. في الواقع وفي باحات الجامعات، كما على المواقع الاجتماعية، فأكثر من يَجهرون بألحادهم ويستعرضون كفرياتهم هم شباب في العشرينات والثلاثينات. وما أن تناقش بعضهم أو تتابع نقاشات بعضهم من أعلى التّلة، حتى تكتشف أنّهم يمارسون إلحادًا وجدانيا نزَويا وليس فلسفيا. فالسواد الأعظم من الملاحدة العرب إلحادهم مُعَلَّل لا مُدَلَّل أي أن بواعثَه عوامل factors وليس أسباب causes وبالتالي أدلّة. يُلحدون ليس على أسباب عقلية وعلمية وفلسفية ومنطقية وإنّما لعوامل نفسية، اجتماعية، نَزَويّة ... كما يلي :
1- الإلحاد غضبا أو سخطا من الله.
والوصف أعلاه مقتبس من الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي Fiodor Dostoïevski. وهذا النوع من الملاحدة صنفان :
الصنف الأول : مَثَار ومَبْعَث إلحاده هو شبهة الشّر، أي ما يراه في الحياة من مصائب ومن ويلات ومن شر (بنوعيه الأنطولوجي والأخلاقي)، تبدو له تلك الويلات من أول وهلة (وحتى من عاشر وهلة) وبالنسبة لعقله أنها غير معقولة، غير رحيمة .. فيستساءل مستنكرًا : أين الله ؟؟ أين عدالته ؟؟ أين رحمته ؟؟ لو كان الله موجودا لما قبِل بوجود هذا الشّر.
وهذه الشبهة قديمة أعاد إحياءَها الفيلسوف برتراند راسل بشكل رياضي، ومؤلفات دوستويفسكي طافحة بها قبل أن يفنّدها بنفسه كما فعل فلاسفة ومفكرون آخرون قبله وبعده.
وهذه الشبهة وإن كانت تبدو خارجيا فلسفية، فهي في العمق نفسية تُزكّيها وتُؤجّجها ما سماه بليز باسكال Blaise Pascal بإرادة الإلحاد. وهو ما يجرّنا للصنف الثاني.
الصنف الثاني : يقول عنهم علم نفس الالحاد، سيكولوجية الإلحاد إن قضيتهم ليست أدلة ولا براهين، وإنما قضيّتهم هي أنّهم يكرهون "الله"!! يكرهون فكرة "الله" من الأصل، وبالتالي فإلحادهم نَزَويٌّ. فكرة أن هنالك إله خالق قوي جبار وما يتبع ذلك من ضوابط وموانع ورقابة ومن ثمة يوم أخروي وحساب وجنّة ونار، هذا كلّه يزعجهم وترفض أنفسهم قبوله لذا تجدهم يرفضون "الله" كفرة، كمبدأ، كعقيدة، ويكرهونه ويعادونه.
وفي علم النفس معلوم أنه حين تكره شيئا ما، أو شخصا ما، يسكن في عقلك فتتحدّث عنه (سلبا طبعا). لذلك قلتُ غير ما مرّة : إن الملحدَ شخصٌ ينفي وجود الله، لكنه يقضي كلّ عُمرِه يتحدّث عنه !!
لذا تفهم لماذا جاء فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche يبشّر بموت الإله حين قال : " لقد مات الله، ونحن البشر الذين قتلناه". وجاء بعده سيغموند فرويد Sigmund Freud يكتب قائلا في كتابه مستقبل وهم The Future of an Illusion : سيأتي يوم سيتخلص فيه الانسان من فكرة الإله. ثم في عصرنا الحالي ريتشارد داوكيز أعاد نفس الأفكار في مؤلفه وهم الإله The God Delusion. قبل أن يأتي الفيلسوف الفرنسي المعاصر والملحد العنيد ميشال أونفراي Michel Onfray في كتابه نفي اللاهوت Traité d'athéologie ليقول بمرارة وحسرة تعقيبا عليهم : أنا أقول إن الإله لم يمت، ولا حتى يُحتَضر، ولن يموت الإله إلا بموت آخر إنسان !!
مشكلة الملحد - في الحقيقة - ليست في وجود الله من عدمه، وإنما في أنه لا يريد من الآخرين الاعتقاد به ! هو يكره "الله" ويريد من الآخرين أن يكرهوه.
يقول علماء النفس والاجتماع، ما من كره فردي يجد جذره في الفكر أو المعرفة. الكره يُعمي عن الفضائل والكراهية تُعَتِّمُ الحياة. فعندما تكره ترى ما تكرهه ظلاما فاقعًا وإن كان نورًا ساطعًا.
وتقول عالمة النفس الأمريكية " مارجريت مالر - Margaret Mahler " في كتاب " ميلاد الكراهية - the birth of hatred " وهو من أهم الدراسات المعاصرة في فلسفة الكراهية، فالكتاب عبارة عن مؤتمر : الكراهية ليست شعورا بسيطا بل هي شعور مركب وهو في نهاية التحليل شعور مرضي. فما من أحد يمارس الكراهية ويكره الآخرين إلا يكون إما مضطربا نفسيا أو عنده إستيهامات ومعاناة داخلية لم تصل إلى درجة الاضطراب ولكن في نهاية المطاف هو شخص ليس صحيحا نفسيا.
وهؤلاء المرضى النفسانيين الذين يكرهون الله ويعادون الأديان، بالإضافة لمرض الكره فيهم، هم أيضا أبعد ما يكونون من العلم والمعرفة والإطلاع. فمفكرون وملاحدة كبار لم يستطيعوا إلا أن يعترفوا بفضل التديّن وبالتالي الله. ومن جملتهم :
يقول الفيلسوف الفذ وعالم الاجتماع الكبير يورغن هابرماس Jürgen Habermas، وهو العلماني الصّرف الناقد للدين في مقالة معنونة ب "عصر التحول" كتبها 2004 : المسيحية، ولا شيء ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. إلى يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أخرى. نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شيء آخر غير ذلك لا يعدو إلا ثرثرة ما بعد الحداثة !
موريس توريز Maurice Thorez وهو الملحد الشيوعي وزعيم الحزب الشيوعي الفرنسي ومن كبار ساستها يقول : داخل الأديان قَسَمات كثيرة يجب أن نرفع لها القبعة.
فريدريك إنجلز Friedrich Engels السياسي والفيلسوف وعالم الأجتماع والماركسي الشيوعي الشرس : إن جوهر المسيحية له كل الفضل في إشعال ثورة الفلاحين (والتي كانت سببا في ظهور الحركة الإصلاحية أي البروتستانتية بقيادة مارتن لوثر).
2- الإلحاد غضبا من المجتمع
نوع آخر من الإلحاد العاطفي النفسي الاجتماعي. هذا النوع من الملاحدة يعبثون بمصيرهم الأبدي من أجل أن ينتقموا من المجتمع الذي يرونه يمارسا تقية دينية أو نفاقا أخلاقيا وسلوكيا، أو لينتقموا من الخطاب الإسلامي المشائخي العاطفي الدوغمائي البائس (وهو فعلا في مجمله كذلك) .. أو من مظاهر التدين السطحي التي يرفضونها .. أي أن إلحادهم ليس أكثر من ردّ فعل نفسي غاضب ومستنكر، وهذه داهية ما لها من واهية ..
تقول الكاتبة والشاعرة اللبنانية جمانة حداد في مقال لها بعنوان (لماذا أنا ملحدة) : المجتمعات العربية مبتلية بانفصام حادّ؛ أشخاص طاهرون في العلن وفاسقون غالبًا في الخفاء؛ أشخاص مهووسون بالجنس، لكنهم لا يستطيعون حمل أنفسهم على التحدّث عنه أو ممارسته بكلّ حرية؛ أشخاص يتلون على مسامعنا محاضرات في القيم الأخلاقية والعفّة، لكنهم أبعد ما يكونون عنها؛ أشخاص يدعون إلى الصلاة والتطهّر من الآثام، لكنهم ينفّسون عن رغباتهم المكبوتة وعُقدهم حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع.
فصرخةُ كلّ ملحد - من هذا الصنف - حين يصرخ ( سواء ساخطَا أو منكِرًا أو غاضبًا أو مستفزًا أو معاندًا أو مستهزءًا) : "لا إله" ، هو في الحقيقة يصرخ : "أنا موجودٌ" !!!
المسكين يبحث عن نفسه .. هو يريد إثبات ذاته .. هو يريد أن يشعر - هو - ويشعر من حوله بوجوده .. لذا في كل مرة يقول "لا إله" فهو يقول "أنا هنا" ..
والمجتمع حين يستجيب لصرخته بطريقة خاطئة إنما يؤجّجه فيلجّ العناد داخله فيتورّط في المتاهة أكثر ! والإستجابة الخاطئة التي قصدتُ حين يتعامل معه المجتمع على أنّه ملحدٌ حقيقيّ فيبدأ التنديد تارة أو المحاججة تراة أخرى، وفي أحايين يطالب برأسه بعد تكفيره طبعا بتهمة الرّدة الخ .. فيفرح الملحد المسكين لأن المجتمع استجاب لندائه أخيرا "أنا موجود .. أنا هنا" .. فكل ما كان يحتاجه هذا الملحد هو الإنتباه .. أن يلتفت المجتمع لوجوده ليشعر بالتالي - هو - بوجوده .. فهو أثار كلّ تلك العجاجة وأجّج كل ذلك الحِراك، وأهان المقدّسات وسب الذات الإلهية، واحتقر الإسلام، واستهزأ بالرسول ... كل ذلك ليُشعِر المجتمع بوجوده ويُلفِت عنايتَه إليه. وكأنّما يقول للمجتمع : تبا لكم، أما رأيتموني أشتم دينكم وأحتقر إلهكم وأهين مقدّساتكم .. ألا يكفي هذا لتعطوني بعض انتباهكم ؟؟ لتشعروا بوجودي بينكم ؟؟ لتمنحوني بعض القيمة والوقت ؟؟
وهذا ما أسميه بالكوجيطو الإلحادي : أنا أُلحِد ، إذن أنا موجود !
هذا النوع من الملاحدة تائه، يبحث عن نفسه كشخص منسي في متاهة، لذلك حين تأمل العارفون بالله من السادة الصوفية قول الله [ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ] قالوا : من وجد الله فماذا فقد ؟؟ ومن فقد الله فماذا وجد ؟؟
بالمجمل تلك هي العوامل مثار ومبعث الإلحاد عند الشباب العربي. فهم ملاحدة مقلّدون، فمثلما عندنا مؤمنون عن تقليد، عندنا ملاحدة عن تقليد. فالمؤمن التقليدي الوراثي ليس يؤمن بالله وإنما يؤمن بالإيمان بالله، والملحد المقلّد ليس يؤمن بنفي الله وإنما يؤمن بقضية نفي وجود الله، فهو إذن ملحد زائفٌ غير واع بنفسه. فتراه حينا يردّد أو يكتب أقوال الملاحدة، هو لم يعاني كما عانوا ولم يفكر كما فكروا، ولم يبحث كما بحثوا، هو فقط ينقل كلامهم. أو تراه حينا آخر يستشكل - بجهل - مسائل فقهية أو عقدية بلسانٍ نخرته العُجمة وأثْخَنَه العَيُّ.
وتودّ لو تسأله : متى بحثتَ عن الله ؟ هل بحثتَ فعلا وصدقا وجادا عن الله ؟ ثم من أنتَ لتستشكل وتنتقد ؟ ما هو مبلَغٌك من العلم ؟ ما هو انتاجك الفكري ؟ الفلسفي ؟ الأكاديمي ؟ دراساتك ؟ مؤلفاتك ؟ أطروحاتك ؟ أوراق؟