تروم الفلسفة السياسية المعاصرة إعادة استشكال العدالة من داخل المرجعية الليبرالية، وما يثوي داخلها من المفاهيم السياسية وطبيعة علاقة التداخل والتخارج القائمة بينها، كالحرية والمساواة والديمقراطية والتفاوت. إذ استطاع جون رولز أن يحيي النقاش حول العدالة بعد أن تمّ تغييبها على حساب هيمنة التوجه النفعي في مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ باعتباره يمجد المصلحة العامة بناءً على تعظيم الخيرات واعتبار السياسة العادلة هي التي تنتج أعظم قدر من السعادة للأشخاص، بيد أنّ المفارقة تكمن في النظر إلى الشخص واعتباره؛ فتعظيم السعادة للمجموع يؤدي إلى التفاوت الاقتصادي وانعكاسه الاجتماعي، بفعل الأساس النفعي لليبرالية والحرية الاقتصادية، فينعكس سلباً على الأدنى في فهرس الخيرات، إذ إنّ ذلك يؤثر بالضرورة في البعد الاعتباري للأشخاص، ويهدد رابطة التعاون الاجتماعي[1].
لقد حاول جون رولز تجاوز المأزق النفعي الذي يعطي الأولوية للخير - في نسقه السياسي الاقتصادي- على الحق، وذلك بقلب الأولوية من أجل عدم الزحف على حقوق وحريات الأشخاص باسم تأويج الخيرات، لذلك أصبحت الأولوية للتفكير والتأسيس لنظرية في العدالة تصبح فيها الحقوق والخيرات محددة وموزعة تبعاً للنظرية بالضرورة. فكيف السبيل إلى تقديم نظرية في العدالة داخل سياق ليبرالي ونظام رأسمالي؟
إنّ تقديم نظرية في العدالة لا يعني القطع مع الأسس الليبرالية بل في إعادة إقامة روابط ممكنة بين المفاهيم الأساسية للفلسفة السياسية كالعدالة والتفاوت والحرية إلى غير ذلك، فلا يعني الاستشكال الرولزي للعدالة إلا الطريقة التي يتمّ على منوالها تأويل المسلمات الليبرالية في سياق محايد يغلّب منطق التبرير على كلّ أشكال تبرير السلط السائدة. لذا، كان النقاش السائد حول قضية العدالة يحوم في فلك الأسرة الليبرالية، من خلال إعادة استشكال معاير التأسيس للرابطة الاجتماعية سياسيا واقتصاديا، أي إعادة مراجعة التراث الليبرالي في أفق التأسيس لتعاقد اجتماعي جديد، الشيء الذي اضطلع به جون رولز من خلال نظريته في العدالة، وذلك بالاستناد على ما يمكن تسويغه داخل الوضع الأصلي كوضع محايد ومنصف.
إنّ فرضية الوضع الأصلي – حسب رولز- كوضع محايد يستدعي الأطراف داخله للنقاش حول أمثل تصور للعدالة، بناء على شروط إجرائية محددة سلفاً كحجاب الجهل، واقتصار التفكير في العدالة على مجتمع بعينه. فهل النتائج التي يمكن التوصل إليها محايدة لا يمكن لها أنْ تؤثر في الأطراف الأخرى؟ فقد يتعلق الأمر بمجتمعات أخرى من جهة، أو إنّ الانتقاء القبلي لمبدأ معين على حساب مبادئ العدالة الأخرى كالنفعية أو غيرها، يؤول إلى الانتقاء الأحادي للتصور بدل الحفاظ على الطابع التعددي لتصورات العدالة كما هو حال الطرح الذي ينافح عنه أمارتيا سن. من هنا تبدو إشكالية الآليات التي يتمّ توظيفها لتسويغ العدالة ضمن سياق موضوعي محايد، فكيف يتم هذا الاجراء عند رولز وما هي حدوده على ضوء انتقادات أمارتيا سن؟
إنّ التصور المعياري للعدالة لدى رولز يرتبط بالضرورة مع الأرضية المؤسساتية التي تستوعبه، وتقوم بدور الموزع لكلّ الواجبات والحقوق والخيرات إلى غير ذلك. فالعدالة لدى رولز مشروطة بالبنية الأساسية للمجتمع كموضوع لها، بخلاف أمارتيا سن الذي يسند للمؤسسات دور المساعد في الاعلاء من العدل. يجعلنا ندرك ذلك عندما يتمّ إدراج مجتمعات أخرى -غير ليبرالية بالضرورة- في خانة التفكير في العدالة، مع العلم بفساد مؤسساتها. على اعتبار أنّ الأولوية بالنسبة لسن ليس أن ننهج مساراً فوقيا في ترسيم العدالة، وإنّما الرهان على مسألة الحدّ من الظلم عبر الارتباط الفعلي بالواقع العملي للأفراد وترتيباتهم الاجتماعية فبأي معنى يمكن التفكير في العدالة بغض النظر عن طبيعة المؤسسات السائدة وهل يمكن ان نتحدث عن عدالة ممكنة في ظل مؤسسات غير محايدة؟
يتبدى الاختلاف بين سن ورولز في طبيعة حضور المؤسسات داخل سياق التفكير في العدالة؛ إذ بينما يركز الأول على تحويل الأفراد للوسائل والخيرات إلى سبيل للحياة العادلة، فإنّ النظرية الرولزية تستشكل عملية التوزيع، ثمّ تحدد المبادئ الممكنة لها إلى أن تسند الدور الرئيسي للمؤسسة في عملية توزيع الخيرات. فهل يمكن الحديث عن العدالة دون أفق مؤسساتي؟ وكيف يتبلور ذلك، وكيف يتجلى دور المؤسسات عندما نأخذ النقاش حول التنمية والتبلورات الفعلية بعين الاعتبار، في مقابل التصور المعياري المافوقي لنظرية العدالة؟
إنّ الحديث عن المفارقات الأساسية التي تموضع العدالة في خانة الاستشكال الفلسفي، وتستفز أذهاننا من أجل ضرورة مناقشتها، تتأطر – على ضوء الحوار السجالي بين أمارتيا سن وجون رولز- في تسويغ مدخل للتفكير في العدالة، هل يتعلق الأمر بالظلم كتجربة أولى تدخلنا إلى التفكير وبلورة حلول للشؤون العمومية أم ضرورة إيلاء الأولوية لبناء نظرية في العدالة ذات طابع معياري، وينبثق عنها تصورات فرعية حول الظلم واللامساواة وغيرهما؟
إنّ اعتبار الظلم كمدخل للعدالة من شأنه أن يضفي الطابع النسبي على التصورات الممكنة للظلم أو العدالة، فيراهن على جدلية الإعلاء من العدالة من خلال الإجراءات الممكنة للحد النسبي من الظلم. ومن التفكير المعياري في العدالة إلى إقامة علاقة محايثة مع التبلورات الفعلية للمجتمع، وما من شأنه أن يعتبر ظلما. على هذا الأساس تبدو المفارقة واضحة بين التوجه المافوقي الذي دفع سن بإدراج رولز في خانته، في مقابل التوجه الماتحتي الذي تبناه سن منطلقا للتفكير في العدالة. فكيف تتجلى هذه المفارقة في سياق النقاش بين سن ورولز حول العدالة والمؤسسات والحياد المغلق؟
يدعي أمارتيا سن بأن الوضع الأصلي -الذي وظفه رولز لتسويغ مبادئ العدالة- بكونه حيادا مغلقا، لا يأبه للسياقات الواقعية، ويدرج داخل مجاله المغلق أطرافاً بعينهم ومجتمعاً بعينه، في أفق اختيار أمثل المبادئ الممكنة للعدالة، فيستشكل سن الوضع الأصلي مبرزا محدوديته من خلال مجموعة من الجوانب كالطابع المعياري واطراف النقاش. فكيف تتجلى محدوديته وما هي معالم الحياد المفتوح لدى سن؟
إذا انتقلنا من استشكال الشروط الموضوعية للتفكير في العدالة، إلى مضمون العدالة بين رولز وسن، فإننا نلفي الخلفية التي تحدد تصورهما للعدالة، إذ بينما يستقي رولز أدوات التفكير في العدالة ومحتوياتها من العقد الاجتماعي عموما وكانط على الوجه الأخص، فإنّ الخلفية الاقتصادية تتخذ متسعا في مختلف نصوص أمارتيا سن، بيد أنّ البعد الاخلاقي يؤلف بينهما، فكيف ساهمت هذه الخلفيات في احتدام النقاش بين سن ورلز؟ وإلى أي حد يمكن أن يشكل النقد الأمرتي بديلا عن التصور الرولزي او توسيعاً لنظرية العدالة كإنصاف؟
نستحضر الاختلاف بين تصور سن للقدرات ومبدأي العدالة لدى رولز، فهل يستوعب التصور الرولزي وضعيات الفقر والتباينات بين الأفراد في التعليم والصحة والجنس أم تشكل هذه الوضعيات منفذ الخروج عن نظرية العدالة كإنصاف – خصوصا وأنّ سن يرهن التصور الرولزي بالبعد العالمي- ؟
إنّ إدراج البعد العالمي في سياق التفكير في العدالة يطرح الكثير من التساؤلات، لعلّ أقربها إلى الذهن مسألة العلاقة بين العالم الليبرالي الذي يراجع تراثه، و"العوالم" الأخرى- سواء التي تصبو إلى تنزيل التصورات الليبرالية أم غيرها- التي تشهد علاقة جدلية بين "شعوبها" وطبيعة المؤسسات التي تدبر شؤونها العملية من جهة، وجدلية العلاقة بين الديمقراطية والعدالة والحرية من جهة أخرى. لذا، فقد أخذ أمارتيا سن –في سياق التفكير العدالة- وضعيات الدول غير الليبرالية بعين الاعتبار، فكان النقاش حول العدالة يتخذ طابعاً نسبياً، أي في مسألة الإجراءات الممكنة لإعلاء العدالة والرفع التدريجي للظلم، من خلال القدرات التي ترتبط بسياق التعليم والصحة والحياة وتحقيق العيش الكريم. فما موقع نظرية القدرات داخل السياق الليبرالي وغيره على ضوء استشكال نظرية العدالة لدى رولز؟
[1] تشير شيماء عبد العزيز الشامي إلى ثلاث أسباب وجهت جون رولز نحو الاهتمام بالعدالة: من الصراع المحتدم في الخمسينات والستينات حول حقوق السود مرورا باحتدام النقاش بين الفكر الليبرالي والماركسي حول المفاهيم المركزية للفلسفة السياسية، وأخيرا النقاش داخل التراث الليبرالي نفسه بين مفكري التوجه الجماعاتي والفرداني. أنظر شيماء عبد العزيز الشامي، نظرية العدالة عند جون رولز الأبعاد السياسية والأخلاقية، دار الرافدين، لبنان، ط1، 2016، صص. 30-32.