"ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه" (يسوع)[1]()
تتميز كل ثقافة بفضاء مهيب من الثراء الروحي والغنى الفكري من حيث هي تجربة إنسانية متفردة لا ندّ لها في الكون ولا نظير؛ وإذا كانت الإنسانية قد شهدت تنوعا في تكويناتها الثقافية عبر تاريخها، فإن هذا التنوع الهائل قد شكل خمائر التطور الحضاري للوجود البشري منذ الأزل، وقد كان من الاستحالة بمكان على الإنسانية أن تنجز ما أنجزته من سؤدد، وأن تحقق ما حققته من مجد الانتصارات، من غير هذا التنوع الثقافي المتخاصب بين الأمم والشعوب. ومع أهمية ما حققته الإنسان من إنجازات حضارية فإن هذا التنوع الثقافي والتخاصب الحضاري ما زال يشكل البوتقة التاريخية التي تتشكل فيها خمائر الحضارة الإنسانية وتتقدم ما بقي الإنسان وما بقيت الإنسانية[2].
ولكن الإنسانية تواجه اليوم تحديات ثقافية كبرى تتمثل في هيمنة ثقافة برغماتية مادية ذات لون واحد واتجاه واحد تفرضها عولمة اقتصادية متوحشة في مختلف مجالات الحياة والوجود، إنها ثقافة السوق والميديا والاتصال، ثقافة تستمد نسغ وجودها وقوتها من قدرتها على إشباع الرغبة والنزوة وتلبية المتطلبات الماددية للجسد في دورة رغائبية من تمجيد لروح الهيمنة ونزعة السيطرة وسطوة القوة، إنها باختصار ثقافة مفرغة من القيم خالية من المعاني والدلالات الروحية الإنسانية التي لطالما جعلت من الإنسان إنسانا ومن الشعوب شعوبا ذات تراث إنساني.
فالإنسانية اليوم تواجه حضارة من غير روح تفرض هيمنتها وتضرب سطوتها فتدفع الإنسان إلى مهاوي العدم والعدمية في حصار ثقافة تجارية تقنية تفرض ظلها الواحد وهيمنتها الكبرى على جميع الشعوب والأمم، وهي في مسعى الحضور والهيمنة تعمل على إفراغ الإنسانية من دائرة تنوعها الثقافي وثرائها الروحي وغناها القيمي. ونحن إزاء هذا المدّ الكبير لثقافة العولمة والميديا والاتصال يجب علينا أن نعترف بأن التنوع الثقافي للإنسانية كان في أصل الحضارة الإنسانية حيث قدمت كل ثقافة من الثقافات الإنسانية تجربة رائعة للحياة الإنسانية لا ندّ لها أو مثيل أو نظير، ولم يكن هذا الأمر خافيا على الأنتروبولوجي المعروف كلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss الذي يقول في هذا الصدد " إذا كنا في حقيقة الأمر لا نستطيع فهم الغنى الذي تتميز به الثقافات الإنسانية الأخرى فإنه ليس بإمكاننا أن نفهم الغنى الذي تتميز به ثقافتنا الإنسانية"[3]؛ فالتنوع الثقافي، كما هو حال التنوع في داخل الثقافة نفسها، ثراء إنساني يجب أن يحظى بكل عوامل الاستمرارية والبقاء في مواجهة ثقافة وحيدة الاتجاه تفرضها عولمة زاحفة تريد أن تفرض ظلها الثقافي الأحادي على الكون الإنساني برمته.
إن وسائط التكنولوجيا الحديثة، المتمثلة في تقانة فائقة الذكاء ووسائل الاتصال والمعلوماتية، تقدم اليوم للإنسانية إمكانيات ثقافية هائلة لا حدود لها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو إلى أي مصير وفي أي اتجاه يمكن أن تأخذنا إليه الإبداعات الكبرى لهذه التكنولوجيا؟ وما الأبعاد الأخلاقية والإنسانية للثقافة التي ترافق هذه التقانة الذكية؟
في هذا السياق الإشكالي المتعلق بالبعد الأخلاقي للتكنولوجيا الميديا وثقافتها يتناول أدورنو Adorno في مسألة الشغف الهائل بالتكنولوجيا الحديثة، حيث يلاحظ أن كثيرا من الناس يرون في التقانة غاية بذاتها، ويتوسمون فيها قوة حضارية وثقافية هائلة، وهم فيما يرونه ويعتقدونه ينسون أن هذه التقانة هي امتداد للوجود الإنساني يجسد قوة الإنسان وعقله، كما يغيب عنهم بأن هذه التكنولوجيا ليست شيئا آخر غير الإنسان الذي صنعها وأبدعها. لقد تحولت الوسائط التكنولوجية إلى أصنام للعبادة، لأن طموح الإنسان، في حياة جديرة بالإنسان نفسه، قد أصبح أمرا خفيا ومنفصلا عن وعي الإنسان المعاصر ذاته، ووفقا لأدورنو هناك كثير من الناس يحلمون وتكبر أحلامهم السحرية إلى الحدّ الذي بدؤوا فيه يعتقدون بأن التقدم الإنساني في مجال التكنولوجيا والتقانة الذكية سيمكنهم في القريب العاجل من السفر بالقطارات السريعة التي تفوق سرعتها سرعة الضوء إلى الفضاء الخارجي أو إلى أعماق السماء، ولكنهم أبدا لا يفكرون ما الذي يمكن أن يواجهونه في الفضاء البعيد في عالم قد يفيض بأطنان من التحديات الوجودية ومصادر الخطر؟ والسؤال هنا ليس في السرعة والسهولة التي يتيحها نظام مواصلات فائق القوة والذكاء بل يكمن في كيفية استخدامه والغاية التي يحققها للإنسان من السيطرة على عوالمه البعيدة[4].
إن الحلم بحياة إنسانية متناغمة على مستوى المعمورة، حيث يستطيع الإنسان أن يطور معارفه ومعلوماته، وأن يرفع من معدلات ذكائه، وأن يتواصل إنسانيا مع أبناء الثقافات الأخرى، وأن يعمل من أجل السلام، هو حلم إنساني نبيل، والإنسانية مطالبة بتوظيف كل الوسائل المتاحة والممكنة في سبيل إنجازه، وأصحاب هذا الحلم النبيل لا يجهلون أبدا أن الإبداعات التكنولوجية الهائلة ولاسيما وسائل الاتصال ستكون بالضرورة مهمة وأساسية في تحقيق هذا الحلم الإنساني العظيم. ويغتني هذا الحلم الكبير بطابعه الإنساني الذي يجد غايته في تحقيق التضامن بين الناس والثقافات ضد التسلط والطغيان والاستبداد في مختلف صوره وتجلياته. ومن هنا فإن أصحاب هذا الحلم الإنساني يقدرون عاليا ما تقدمه التكنولوجيا الاتصالية من سهولة الوصول إلى الوثائق والمعطيات والمعلومات عن بعد عبر الشبكة الإليكترونية، وما تقدمه هذه التكنولوجيا الذكية من إمكانية تجعلهم في حلّ من قيود المكان وحواجز الزمان، كما يقدرون أيضا قدرة هذه التكنولوجيا الرقمية على تذليل الحواجز وفك التعقيدات، وتذليل كل الصعوبات وتجاوز كل أشكال الإكراه والتسلط والمعاناة، مثل الصعوبات المالية، وهم بالتالي يعرفون ويقدرون الإمكانيات الكبيرة التي يقدمها الإنترنيت للمعاقين والمرضى والضعفاء فيما يتعلق بحركتهم وتعليمهم، ويرون أن ذلك كله يمثل تقدما هائلا غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، وكل ذلك تحقق ويتحقق بفضل هذه التكنولوجيا الذكية التي يحاول كل واحد الاستفادة منها بالحدود القصوى.
ولكن هذه الطموحات والأحلام لا يمكنها في حقيقة الأمر أن تتحقق إنسانيا وان تتحرك في مجالها الإنساني الخلاق إلا من خلال ثقافة إنسانية روحية وفي ظلها. فالنضال ضد الاستبداد لا يمكنه أن يتم ويتحقق إلا عبر ثقافة تتميز بخصوبتها وتسامحها وغناها ونضحها بالقيم الحرة، فالنضال من أجل الطموحات الإنسانية يحتاج إلى أفكار وتصورات وقيم وإرادات ومعارف وأحكام ولغات ذات طابع إنساني، وهذه القيم والأفكار والتصورات لا يمكنها أن توجد إلا في سياق ثقافة إنسانية روحية متناغمة متكاملة. وهنا نجد أنفسنا في نقطة التساؤل عن ماهية الثقافة وطبيعتها ودور التعليم والتربية في تشكيلها وبنائها؟ لأن التربية على تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية تفرض نفسها اليوم بصورة ينقطع نظيرها في المراحل السابقة من تاريخ الإنسانية، وهي تفرض نفسه بصورة تدريجية وفي داخل العمق الثقافي للحياة الاجتماعية المعاصرة.
يعلن جوزيه ساراماكو José Saramago وهو أديب حاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1998 عن تحفظاته فيما يتعلق بحضور التكنولوجيا الاتصالية الجديد بقوله " إن المعلوماتية لا تجعلنا أكثر ذكاء ونباهة وحكمة لمجرد أنها تضعنا في دائرة التقارب مع البشر. فالوصول إلى المعلومات والوثائق التي نحتاجها عبر تقانة الاتصال وتواصلنا عبر الميديا الرقمية والشبكة العنكبوتية أمر قد لا يمر مرور الكرام، فهناك ثمة خطر يتمثل في غياب البعد الإنساني في علاقاتنا وفي تفاعلنا كبشر وهي ظاهرة استلابية اغترابية بامتياز. فالميديا الرقمية والتواصل السحري المدجج بالتكنولوجيا يهز أعماقنا ويردم أحاسيسنا ويرجم إنسانيتنا ويدفعنا إلى وثنية التكنولوجيا الجديد وعبودية أصنامها.
فمع هذا التغول التقاني الجديد تفقد الثقافة الإنسانية أنسها وسحرها وعبق وجودها وتتحول إلى جماد وجمود يقذف في القلب قشعريرة الوحدة والانفصام والانفصال ويدفع الحالة الإنسانية في مهب الاغتراب الشامل. فالثقافة في أروقة هذه التقانة الرهيبة لم تعد تكمن في التجربة الفكرية في المعاناة الذهنية أو حتى المعرفة الإنسانية نفسها، بل تكمن حصرا في مهارة البحث عن المعلومات في قنوات الإنترنيت ومواقعه ومغانيه ومثالبه وملاهيه. وفي الاستغراق الشامل في عمق هذه الشبكات يقع الفرد في نشوة مسكرة تفقده الحس الإنساني وتدفعه إلى سطوة علاقات آلية جامدة متحجرة لا حياة فيها ولا معنى. أليس من المؤسف والمجحف اليوم أن تتعطل في حقيقة الأمر عملية التواصل الحقيقي الوجداني بين الناس تحت تأثير هذا الانجراف إلى وثنية الثقافة الاتصالية الجديدة، أي هذا التواصل الإنساني الذي يقوم على الحضور المباشر والتفاعل الثقافي المباشر بين الناس يدا بيد روحا بروح وجها بوجه؟
إذا كانت وسائل الاتصال والمعلوماتية تعد بطموحات وآمال كبيرة فإن ذلك لا يمكن أن يعزى إلى سحر مفاجئ. فالقيم والمعايير الثقافية وكل العناصر الثقافية تبقى نفسها مهما بلغت درجة تطور وسائل التقانة والاتصال الناقلة لها. ومع ذلك فإن إفقار الثقافة أو المساس بأحد عناصرها يؤدي إلى نتائج إنسانية وخيمة، فاللغة، على سبيل المثال وليس الحصر، مكون ثقافي إذ تشكل عنصرا من عناصر الثقافة الكلية في المجتمع، ولكن عندما تستباح وتُحاصر وتُضعف وتُفقر فإن يؤدي إلى تهديد الحياة الروحية والثقافية برمتها.
وفي مواجهة هذا التحدي الاغترابي للثقافة المادية أو التكنولوجية ومن أجل إحياء هذه الثقافة إنسانيا ومن أجل الاستفادة المثلى من وسائل الاتصال والمعلوماتية ومن أجل أنسنتها يجب إخضاع هذه التكنولوجيا الاتصالية، للدراسة والتحليل من أجل تحديد دينامياتها والكشف عن سبل الاستفادة من إيجابياتها وتجنب سلبياتها في معترك التفاعل الثقافي الإنساني. إذ يبدو ضروريا اليوم وفي الغد أيضا أن ندرك الرهانات الثقافية التي يفرضها الحضور المكثف لهذه التكنولوجيا الذكية.
لقد أدى التسويق المتسارع والمكثف للكلمات والأشياء والأجساد والأرواح إلى اكتساح البعد الروحي والإنساني في الثقافة الإنسانية المعاصرة، فعصرنا يعاني من جنون التسويق المفرط في كل المجالات حيث أصبح هذا الجنون التسويقي الاستهلاكي السمة العامة للعصر الذي نعيش فيه، وقد دفع التسويق المفرط لكل الأشياء إلى إفقار الحياة وإفقادها نسغ الأحاسيس والمشاعر التي تتدفق في عمق التكوينات النفسية للإنسان. ومع ذلك كله ومع خطورة الوضعية الإنسانية المهددة ثقافيا فإنه يجب علينا ألا نضع التكنولوجيا ذاتها أو بذاتها في قفص الاتهام، بل يجب علينا أن نوجه هذا الاتهام إلى الإنسان المسؤول عن التصدع الأخلاقي والثقافي الذي تفرضه هذه التكنولوجيا الاتصالية في دائرة حياتنا الاجتماعية. وهذا يعني أنه يجب علينا أن نبحث في الثقافة نفسها عن الحلول الممكنة للتحديات التي تفرضها التكنولوجيا الذكية المعاصرة [5].
صنمية التقانة:
تنسج الحياة حكمتها في عمق التجربة الإنسانية، ومن أبرز مظاهر الحكمة في الحياة أن الإنسان يواجه التحديات ويتجاوزها في الآن الواحد، وهو في خضم المواجهة والاكتشاف يبدع طرائقه العبقرية ومناهجه الذكية التي تتيح له الاستمرار في الوجود وتمكنه من مواجهة التحديات. وتقدم لنا الحياة كثيرا من الأمثلة والعبر في استكشاف المنهجيات الثقافية التي يتبناها الإنسان في صراعه مع العدم، ويمكننا أن نأخذ هنا حالة الإنسان الذي يتعرض للغرق في مياه البحار كنموذج للفعاليات الثقافية التي يتبناها في صراعه مع الموت والعدم. لقد بينت الدراسات السيكولوجية أن الإنسان عندما يتعرض للغرق يتخلى عن كل الأشياء غير الضرورية ويتمسك بالحد الأدنى الحيوي للوجود ويتشبث فقط بما يمكن أن يساعده على النجاة. وهكذا هي الحياة الإنسانية لا تعدو أن تكون مسرحية تتجلى فيها محاولة الإنسان الأبدية للنجاة من الموت والغرق. فالسباح ومن أجل الاستمرار في العوم تفاديا للغرق يؤدي الحركات المتناغمة نفسها لمواصلة العوم، وعلى منوال هذا السباح، الذي يناغم حركاته للنجاة والاستمرار في العوم، نفعل نحن البشر في مواجهة التحديات التدميرية حيث نكرر الحركات نفسها التي نقوم بها للاستمرار في الوجود والمحافظة على البقاء. وهنا علينا أن ندرك بأن هذه الحركات التي نكررها في تناغمها وتناسقها ليست في نهاية الأمر غير الثقافة الإنسانية التي تمهد لنا سبل الوجود والاستمرار. وهنا كما في أي مكان آخر فإن خبرة الخوف من الغرق تسمح لنا بالنجاة، وبالتالي فإن هذه الخبرة تعتمد بالضرورة على الثقافة بدلالاتها ومعانيها الإنسانية، أي ثقافة الروح التي تنطوي على كل معاني الإحساس بالوجود. وعلى هذا النحو تتجلى الحياة الإنسانية على صورة درامية تضع الإنسان في صراع وجودي مستمر مع التحديات، وتلك هي الدراما التي تمثِّل جوهر الحياة الإنسانية، حيث يكون وعي الإنسانية بالخطر ضروريا وحيويا للاستمرار والوجود. وهذا يعني أن الحياة الإنسانية ستكون من غير الثقافة الروحية معرضة لوضعية التدمير الذاتي الذي لا يمكنه أن يقف عند حدود أو سدود.
يقول فيرناند ديمون في هذا الخصوص: يمثل تدمير اللغة والثقافة والتفكير كارثة روحية للإنسانية بامتياز، وهذا بدوره يمثل مأساة روحية في الحياة الإنسانية. إنها في حقيقة الأمر لكارثة عندما يصاب الإنسان في هويته وعمقه الإنساني. فالفنون الجميلة تحمل في ذاتها قيمة تربوية أكثر سموا - قيمة تتميز بأنها حيوية وضرورية للإنسان والإنسانية – من هذه التي توجد في التقانة وعلومها في الآن الواحد. فالفنون الجميلة ترتبط بالإنسان وبجوهره الإنساني على نحو كلي، حيث تعبر عن طموحاته وأحلامه وأمانيه وتطلعاته وتخاطب عمقه الإنساني ثم تهبه المعنى والدلالة لوجوده وغايته الإنسانية، وبعبارة أخرى إنها تشكل أحاسيس الإنسان الداخلية. ومع أهمية الجوانب الجمالية هذه الفنون إلا إنها في النهاية تتجلى في أدوات ووسائط تنأى عن المقاصد الكبرى للفن بذاته، لأن هذه الفنون تحاول أن تنهض بالعقل الإنساني وتسمو به فوق التحديدات الضيقة للأدوات والوسائط.
لقد بين بياجيه في كثير من محاولاته بأن الذكاء الحسي الحركي يقف عند حدود التكيف العملي، بينما يعمل الذكاء النظري على إدراك المعرفة بذاتها ولذاتها. ويبين من جهة أخرى بأن انتقال الطفل إلى التفكير الشفوي والتأملي يترافق ببعض الصعوبات. فالطفل بعيش فترة طويلة من الزمن في ظل التمثل الحسي الحركي، ومهما يكن مستوى التكيف الذي يحققه، فهناك دائما مفهوم النتيجة العملية الحاصلة: ولأن الطفل لا يستطيع دائما أن يترجم ملاحظاته في نسق شفوي وصور تأملية فإن يلجأ إلى تدوين هذه الملاحظات في صورة مخطط حسي حركي أي في صورة مخطط للفعاليات الممكنة. ومع أهمية هذه الإجراءات المعرفية إلا أنه من الصعب أن نتحدث عن وصول الطفل في هذا المستوى إلى نوع من التفكير المجرد.
فالتكنولوجيا تقدم فوائد جمّة ولاسيما عندما توظف في حلّ المشكلات التي تواجه مسار الحياة الاجتماعية، حيث يعتقد على سبيل المثال أنها قادرة على حل مشكلة اللامساواة، إذ يمكن أن تكون في متناول جميع أفراد المجتمع. ولكن الخطر الكبير الذي تفرضه هذه التكنولوجيا يتمثل في جنوح العقلية التقنية إلى الإحساس المطلق بروح القوة، حيث يبدو على الأثر أنها غير قادرة على تحسس المعاني والمشاعر الإنسانية. ويمكن التعبير عن ذلك بقول هولدرلان Hölderlin " إنه من غير الجمال الروحي فإن العقل يفرض نفسه بصورة أشبه برئيس العمال الذي لا بأخذ بعين الاعتبار إلا نتائج العمل ولا يأخذ بحسبانه أي شيء آخر يتعلق بالمعاني والعواطف والمشاعر. فالفعل التقني يمتلك أهداف قريبة المدى ومحددة، مثل إنشاء محركات وأجهزة معينة، ولكن التقني الذي يقوم بالعمل يبحث في الغالب عن تبريرات لنتاجه التقني. ولا يوجد هناك أي سبب تقني يمنعه بالتالي من إنتاج أسلحة للقتل. فعقلية التقني لا تأخذ بعين الاعتبار أنساق القيم القائمة، وبالتالي، فإن هذه العقلية تؤدي في نهاية الأمر إلى إفناء المقدس وسقوطه لأن الدين والمقدس والقيم الإنسانية والرموز والمعاني لا تجد مكانها في لغة التكنولوجيا ذاتها. وهنا يمكن الإشارة إلى الأهمية التي يهبها دوستوفسكي إلى المعاني بقوله " إن الجمال أكثر أهمية وضرورة من الخبز، فالجمال وحده هو الهدف الوحيد والحقيقي الذي يحيا الإنسان من أجله، وبالتالي، فإن الأجيال الجديدة ستفقد نفسها إذا لم تستطع أن تسير على هدي الجمال"[6].
لقد بينت الدراسات الجارية في هذا المضمار، أن تزايد هيمنة وسائل الاتصال والمعلوماتية، يترافق مع ضياع كبير للتجربة الإنسانية، ومع ضعف هائل في التواصل الاجتماعي بطابعه الإنساني، ومن ثم من اتساع مساحة العلاقات السلبية بين الأفراد، وتضاؤل مستويات المخيال الإنساني بفعالياته الإبداعية والتأملية. ويضاف إلى ذلك، أن التكنولوجيا الجديدة تجعل التواصل مع الآخرين أكثر تجريدا، كما يلاحظ أن حلول وسائل الإعلام مكان التواصل الحقيقي يؤدي إلى غياب الحساسية الإنسانية وتزايد العنف.
ويبدو واضحا اليوم دون لبس أو إبهام أن التكنولوجيا الاتصالية تؤدي إلى نوع من الخمول الإنساني، كما أنها تؤدي أيضا إلى تنويم الوظائف الحيوية لبعض قوى الجسد وتعطيل خصائصه النشطة. فالأقدمون كانوا أكثر قدرة منا نحن المعاصرين على بناء المعجزات الحضارية بوسائل تقنية بسيطة. ومما لا شك فيه أننا في عصرنا هذا نحقق إنجازات حضارية تقنية متطورة جدا بالقياس إلى المراحل التاريخية السابقة، ولكن ذلك يتم بتوسط تقنيات هائلة تجعل من مهارتنا اليدوية أقل كفاءة وقدرة قياسا إلى مهارات الأقدمين. فالمهارات اليدوية تؤدي إلى بناء قدرات جسدية تتعلق بالنظر والسماع والحواس الإنسانية الأخرى. فالحواس التي يتمتع بها الفلاحون وسكان الغابات والصحراء تتميز بدرجة عالية من الدقة والرهافة والنباهة وذلك بالقياس إلى حواس سكان المدن المعاصرين.
فوسائل الاتصال والإعلام تعمل على إثارة فضولنا بالمعنى السلبي للكلمة، أي أنها تثير فضولنا فقط فيما يتعلق بالجدة والجديد والتنوع دون انقطاع. ومن المأساوي أن هذه التكنولوجيا لا تدفع إلى التأمل والملاحظة والتساؤل أو إلى استشعار الجمال واستشراف المعاني، إنها تجعلنا نرى ولكنها لا تحثنا على الفهم والإدراك والتقصي، وتأثيرها في الغالب يقف عند إثارة الفضول بالجديد والحديث والمتغير وليس شيئا آخر. وهذا الفضول بالجدة لا يعطي في نهاية الأمر غير الشعور الضجر والاستغراق في الاستهلاك والضياع في الابتذال لأنها لا تمتلك في ذاتها على أي معنى أو دلالة قمينة بالفرد من زاوية إنسانية. فنظرة الفضولي بالتأكيد تختلف عن نظرة الذكي والطموح والمريد والعاشق أيضا. فالفضولي لا يستطيع أن يرى أكثر لأن هناك فيضا من الأشياء التي يمكن أن يراها، فنحن اليوم نعيش في عصر يهيمن فيه الضجيج البصري الهائل والمتنامي بصورة غير معهودة، وهذه يقلل كثيرا من قدرتنا على الرؤية والاستبصار. وعلى خلاف ذلك فإن الطموح والمريد والمؤمن يريد أن يرى أكثر من ظاهر الأشياء، إنه يريد التوغل في أعماق المعاني واستكشاف أبعد الدلالات الإنسانية في طبيعة الأشياء وماهيتها. وهنا يمكن القول أن التكنولوجيا المعاصرة تدفعنا إلى مجاهل الفضول ولا تريدنا أن نتوغل في دهاليز الحقيقة بعبارة أخرة تريد أن تثير فضولنا الاستهلاكي ولا تريد استثارة الفهم والتقصي في مجال الدلالات والمعاني.
أنسنة الثقافة:
تقول الحكمة القديمة " كن حكيما كالأرض وإلا فادفن في جوفها كل ما قرأت من الكتب". فالحكمة بمعنى الذكاء تمثل الطاقة الحيوية التي يعتمدها الإنسان في تحقيق ازدهاره وبناء قدرته على التكيف والسيطرة على مقدرات وجوده ومواجهة التحديات التي تنتهك مصيره. وهذا يعني أن امتلاك الإنسان لثقافة حقيقية متكاملة العناصر يمكنه من أداء مهماته الوجودية بكفاءة واقتدار في مختلف مجالات الحياة العلمية والمهنية والاجتماعية. فالفرد الذي يمتلك القدرة على التفكير والتأمل والموازنة والتمييز والتبصر، هو الإنسان الذي يستطيع أن يطور قدرته على التخيل والتصور وبناء إحساسه الجمالي والأخلاقي، وهو في نهاية الأمر الكائن الذي يستطيع أن يحقق النجاح والسعادة وأن يوجه حياته نحو الأفضل. وهذا لا يعني أبدا تجاهل الجانب المهني والعلمي والمادي في حياة الإنسان.
فالحياة تتطلب أن يكون المرء مثقفا ثقافة أخلاقية إنسانية من جهة، كما تتطلب أن يمتلك الخبرة العملية والمهنية في مجال الحياة من جهة أخرى. وكلتاهما الخبرة والثقافة تشكلان معا جناحي الحياة الحرة الكريمة للإنسان. فالأفكار النظرية التي تفقد سياقها الواقعي في انفصال بيّن مع الواقع، أي هذه التي لا تلامس الحياة وتتفاعل مع معطياتها هي أفكار عقيمة لا معنى لها ولا خصوبة فيها، إنها إن لم تتخاصب مع الواقع وتنسغ منه ستكون ثقافة استظهارية تراكمية تثقل على الذاكرة ولا تحيي العقل أو تنهض بالوجدان. فالتفكير يمارس وجوده وفعاليته في أرض الواقع والحياة والحاضر والمستقبل أيضا، وهكذا نقول كما تقول الحكمة القديمة " بأن صفحات الكتب عقيمة يا صديقي ولكن الحياة هي التي تثمر وتغني وتغتني وتتصف بالعطاء". فالثقافة الحقيقية هي هذه التي تنجم عن صدام الفكر والواقع، حيث يعمل الفكر في دائرة هذا التصادم الحي على تناول القضايا الحيوية للوجود، وهي في دائرة هذا التناول تُومض شعلة الذكاء الإنساني الذي يمتلك القدرة على اكتناه الأشياء واستشراف معاني الحياة واستكشاف آفاقها. فالواقع يمثل الرافعة الأساسية للفكر والثقافة، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن الاكتساب الكمي للمعارف يضعف فاعلية الفكر الخلاق ولا يصمد في مواجهة عالم يتدفق بالحياة والتطور والمسؤولية والجدة والإبداع، ولا يكون هذا العلم حقيقيا إلا في دائرة التخاصب مع الواقع والحقائق والحياة الإنسانية وخير هو ما يقول الشاعر العربي:
ألم تَرَ أنَّ العقلَ زَيْنٌ لأهْلِهِ
وأنَّ كمالَ العقلِ طولُ التجارِبِ
فالتحديات الإنسانية بلغت اليوم درجة هائلة من التعقيد وانفلتت من عقالها، ولا ريب أن هذه التحديات الإنسانية الجديدة المعقدة والهائجة تتطلب من الإنسان المعاصر مزيدا من الذكاء والحيوية والقدرة على التفكير، والثقافة الإنسانية الحقيقية هي وحدها التي يمكنها أن ترتقي بالإنسان إلى مستوى المواجهة الحضارية لعالم متوحش تتصادم فيه كل القوى الإنسانية والطبيعية في مركب إشكالي صادم يستنفر ذكاء الإنسان وقدرته الهائلة. فالعالم يتغير بطريقة أسطورية والتحديات الإنسانية تكتسح العالم من حيث الكم والنوع، وفي دائرة هذا الاكتساح والتغير سيكون الاستكشاف والتشخيص والاختيار والموازنة والتصنيف أهم بكثير من الحلول التي يمكن أن تستجيب لهذه التحديات. فنحن اليوم في عالم يتطلب المزيد من القدرة على الاستكشاف والتحليل والفهم وهذا كله يرتهن بالذكاء الإنساني الذي يتمثل في معرفة تتخضب بالمشاعر وتنصقل بالتجربة وتغتني بالمعاناة وتستلهم المعاني والدلالات كي تكون قادرة على استجواب العالم فهما واستكشافا.
فالحياة العملية بمتطلباتها ومقتضياتها تشكل مصدرا أساسيا للثقافة الحقيقية، وهذه الثقافة ضرورية لأنها تمكّن الإنسان من مواجهة التحديات التي يفرضها الواقع الحي للوجود الإنساني المعاصر، إذ لا ثقافة حقيقية أو حقّة من غير اتصال مع الواقع وتفاعل مع الأحداث الجسام، لأنه عندما تحدث المواجهة بين العقل والواقع تنقدح الثقافة الحقيقية وتتقدم. فالطبيعة الإنسانية كما يرى هيغل ليست معطى كليا فطريا على وجه الإطلاق، إذ هي -أي الطبيعة الإنسانية - رهن الصورة المستقبلية للإنسان، أي الصورة التي يجب على الإنسان يرتسم على منوالها في مقامات الحياة المفعمة بالتجربة والعطاء. فالثقافة الحقيقية تنهض بالإنسان من المحلي إلى الكوني، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن الحسي إلى المجرد، ومن الظاهر إلى الباطن، ومن الأدنى إلى الأعلى، وهذا كله يمكن الإنسان من القدرة على رؤية الأشياء بأنوار العقل الكاشفة: فالإنسان بدون ثقافة إنسانية حرّة يبقى في مستوى الفطرة الأولية الفورية حيث لا يستطيع أن يرى أبعد من قدميه ولا يسمع أكثر مما يقع في أذنيه، وبالتالي فإن رؤيته للأشياء ستكون رؤية ذاتية انفعالية انقيادية، فهو في هذه الحالة الفطرية الأولى لا يستطيع أن يرى الأشياء بعين العقل أو بمنطق الثقافة العلمية التي تتطلب الذكاء والموضوعية والفطنة الثقافية. فالأحكام المسبقة غالبا ما تنم عن رؤية ذاتية أحادية الاتجاه، ومثل هذه الرؤية تفقد الإنسان قدرته على رؤية المعاني الحقيقية للأشياء كما تفقد المرء المعاني والدلالات التي يمكن أن توجد في وجهات نظر الآخرين حول هذه الحقائق ذاتها.
فالسمة التي تميز الإنسان المثقف تكون في قدرته على وعي الأشياء واستكشاف خفاياها وقراءة مختلف الاحتمالات التي تدور في مجالاتها، وهذا يعني أن الإنسان المثقف هو الذي يرى الأشياء بعين الصقر أو بالأشعة ما تحت الحمراء وما بعدها لأنه يمتلك أدوات التحليل العقلي وملكات التفكير العلمي. ومثل هذه الوعي يتميز بقدرته على المحاكمة والكشف عن المعاني والدلالات، فالعلم غالبا ما يكون موضوعيا وحياديا، وهكذا أيضا تكون الثقافة الحقيقية عندما تتحرى الواقع على نحو موضوعي دون تحيزات ذاتية أو أنانية أو أيديولوجية. وهذا يعني أن الثقافة الحقيقية تكون بقدرة المثقف على أن يرى الأشياء كما هي دون أية إضافات خارجية أكانت ذاتية أو شخصية. فالكونية الثقافية تعني القدرة على مشاهدة الأمور في حقيقتها وليس فيما يُنزع إليه بعيدا عن كل أشكال الذاتانية والمصالح الأنانية المفرطة وتلك هي الفكرة الأساسية التي يراها هيغل في كونية المثقف والثقافة.
فن الاستماع والإصغاء:
يتمثل الشرط الأساسي، الذي ينبغي على المرء أن ينطلق منه لفهم الآخرين، واستطلاع وجهات نظرهم تجنبا للأحكام الذاتية والأحادية، في عملية الاستماع إلى الآخرين أنفسهم. فكثير من الناس يعطون الأهمية إلى قدرة الإنسان على التحدث، ويرون أن تعلم الكلام أكثر أهمية من تعلم الصمت والاستماع إلى الآخر بطريقة الاهتمام والاحترام. وهنا يجب علينا أن نتساءل أيهما أكثر أهمية: تعليم الطلاب الكلام أم الاستماع؟ وإنه لمن المؤكد تربويا اليوم بأن تعليم التلاميذ فن الاستماع من أجل الكلام، أو فن الكلام بعد الاستماع الجيد، يحتل مكانة تربوية هامة في التعليم الحديث. فالعقل الإنساني ليس وعاء نملؤه بل نارا نوقدها، وفي هذا القول استعارة تربوية من معين الفكر التربوي عند مونتيني حيث يقول: " الطفل ليس زجاجة ينبغي ملؤها بل نارا يجب إشعالها ". ويمكن لنا هنا استعارة كانط في قوله: "إن المعرفة في أفضل أحوالها يجب أن تنتزع من الفرد لا أن تسكب فيه".
فنحن اليوم مطالبون بفهم التعقيد القائم في عالم ما بعد الحداثة وتفكيكه والسيطرة عليه، وهذا يتطلب منا تأصيل الفكر وتطوير إمكانيات التفكير العميق إلى أبعد حدّ ممكن، كما يتطلب هذا الأمر منا إيجاد صيغ متنوعة وفعالة للتواصل الفكري بين الناس حيث يؤدي هذا إلى تنامي الذكاء وتطوره، كما يقتضي مزيدا من التضامن الإنساني بين الأفراد في مواجهة التحديات الإنسانية المعاصرة. ففي كل المجالات التي تتعلق بالإنسانية والإنسان ترتهن الحقيقة بضرورة الإصغاء والاستماع الدقيق العميق المنظم التفاعلي إلى الآخر واستيفاء مختلف وجهات النظر الممكنة حول هذه الحقيقية أو تلك. وفي أهمية الإصغاء ودوره التربوي يقول ميشيل كروزييه " هؤلاء الذين يعرفون فن الإصغاء إلى الآخر يمكنهم وحدهم إبداع خطاب عقلي مؤثر وفاعل "، فالإصغاء يمثل الشرط الأول لاحترام الآخر والتسامح معه وهذا بدوره يتحول إلى إمكانية لحوار ديمقراطي مثمر وفعال. ولا نقصد هنا بالاستماع هذا النوع السلبي كهذا الذي تراه في المدارس أو في التعليم البنكي أو التلقيني، حيث يتكلم المعلم ويستمع الطالب ويدوّن دون تفكير أو حكمة قوامها تحليل وتفكير ونظر، بل نقصد به نوعا من الفعالية الذهنية الإيجابية التي تثمر العقل وتغني الوجدان وتطور فاهمة الإنسان، ورب الحكمة العربية قد أصابت عين الحقيقة في القول: إن بعض القول فن فاجعل الإصغاء فنا.
فالمسلمات العامة التي يتحدث عنها كانط Kant في كتابه نقد ملكة الحكم de la Critique de la faculté de juger ترسم النموذج المثالي لهذا للتفكير الإنساني الذي يحدد ما يجب أن يكون عليه الفكر كي يصبح تفكيرا منضّحا بالذكاء متشبعا بالقدرة على استكشاف الحقيقية واستلهام معانيها، وتأخذ هذه المسلمات الثلاثية عند كانط صورة دعوة إلى التفكير وفقا لثلاثة قواعد[7]:
1ـ فكر ذاتيا على أن تكون تفكيرك نابعا منك، أي أجعل التفكير نابعا من ذاتك دون الاستناد إلى الآخر أيا كان هذا الآخر. فالحرية تعني الحرية القدرة على التفكير الباطني دون تأثير للقوالب الذهنية المفروضة على المجتمع والقدرة على التحرر من الخوف الداخلي الذي يبدد الوحدة الداخلية للإنسان.
2ـ فكر بطريقة تضع نفسك فيها في مكان الآخرين.
3ـ فكر دائما بطريقة تكون فيها متوافقا مع ذاتك.
فالانفتاح الذهني الذي يوصي به كانط يرتكز على مبدأ الكونية أي تجاوز التبعية الفكرية والثقافية، وهذا بالضرورة يتطلب تجاوز النزعات الأنانية والشخصية والذاتية في عملية التفكير والتأمل والنظر، فهذه المسلمة التي تريد للفرد ألا يكون سجينا لأنظمة فكرية فرضها الآخر أملتها العقائد والأيديولوجيات الساكنة في المجتمع. فالحرية هنا حرية الفكر والتعبير والانطلاق من الذاتي إلى الموضوعي. وهذا يعني أنه يجب على المرء أن يثق بذكائه الإنساني وأن يقدر ملكة الحكم لديه، وفي هذا نجد أبو العلاء المعري سباقا حيث يقول شعرا:
أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ
فاتّبعْهُ، فكلّ عقلٍ نبي
وفي هذا الأمر يقول الجوزي " في التقليد إبطال لمنفعة العقل لأنه إنما خلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلام "([8]). فالإنسان يمتلك العقل وهنا نجد بأن كانت يدعو إلى توظيفه فليس كافيا أن يكون لديه عقل ما لم تكن لديك الرغبة في توظيفه وفي هذا يقول ديكارت ويضيف: "لا يكفي أن يكون للمرء عقل، بل المهم هو أن يحسن استخدامه".
ويمكننا أن نرصد في القاعدة الثانية مبدأ الاحترام للآخر وتقدير وجهة نظر وهذا شرط أساسي من شروط المعرفة حيث تتضافر الجهود الإنسانية في كسبها وصقلها وإنضاجها في حلة فكرية متجددة قادرة على التوغل في عمق الحقيقية واكتناهها. فالمحامي سيكون ضعيفا إذا لم يحضّر لمرافعته بشكل مسبق من أجل مواجهة المحامي الخصم ومقارعته بالحجة والأدلة.
فالعقل المتمرس لا يأخذنا مباشرة إلى فلك الحقيقة بل يضعنا قبل ذلك في مسارات من التأكيد والنفي والجدل والشك واليقين وعبر هذه المحطات والمسارات الفلسفية يأخذنا في النهاية على بساط الفكر النقدي الحر إلى مقامات جوهر الحقيقية ومنازلها، وهذا كله يعني ويدل على الأهمية الكبرى لبناء العقل النقدي والروح النقدية في الإنسان وفي الطلاب وفي المريدين على حدّ سواء.
وهذا كله يأخذنا إلى القول بأن تقانة الاتصال والمعلوماتية في مجال التربية والمدرسة لا يمكنها أن تكون مفيدة ومثمرة ما لم ترتبط ارتباطا حيويا بالثقافة الروحية والفكر النقدي الذي أثرنا همومه وشجونه. ويمكن التأسيس على ذلك أن أية ممارسة تربوية تكنولوجية لا تقوم على تعزيز التفكير الحر أو على المبادهات والـتأمل والنظر هي ممارسة سلبية ضارة بالطفل والطلاب. وهذا يعني أن التكنولوجيا يجب أن تتضافر مع الذكاء وأن تعزز قدرات الطفل والتلميذ على التأمل والنظر.
روح الثقافة: الجمال والآداب.
هل يجب إعطاء الأولوية والأهمية الكبرى لعملية إيقاظ الخيال عند الطفل من أجل تنمية ذكائه وشعوره بالحرية واستكشاف الحقيقة والقدرة على التفكير الذاتي؟ وهل هذا يجعل الطفل أو المتعلم أكثر قدرة على التحرر من الشعور بالقصور والضعف والحزن والاستلاب والتسلط؟ فمن المعروف أن ملكة التخيل أصيلة في نفس الطفل وأن التجربة الجمالية تنزع إلى الحضور بطريقة فطرية وعفوية في الإنسان وهذا يتجلى في الحب المتدفق للموسيقى والميل الفطري إلى الشعر والغناء والتصوير. وهكذا فإن الطفل غالبا ما يتأثر بالعالم الذي يحضنه عبر فعاليات كونية تتصف بالروعة والجمال. لقد اعتقد بودلير بأن الجمال يلعب دورا حيويا في التكوين الأخلاقي للإنسان، وفي هذا الأمر يقول نيتشة إن الحق والخير لن يتآخيا إلا متحدين في الجمال، وهذا يعني أن الحقيقة لا معنى لها إلا في حلتها الجمالية. فالجمالي يستوحي الإبداع وينهض به فيسمو بالفرد روحيا وإنسانيا.
فالذكاء كما أشرنا يغتذي عبر الحواس ويستوحي وجوده من معين التقصيات الخارجية التي تؤديها. فالفن يقدم لنا نسقا من المعاني والدلالات التي تنشأ في الواقع المحسوس الذي يتميز بالغنى والتنوع، وهو الواقع الذي يغني الذكاء عبر مقاربة الحواس الإنسانية، فالجمال الذي يفيض في معطيات الواقع الطبيعي والإنساني يوقظ الروح ويلهم العبقرية ويحرك عناصر الإبداع العقلي والذهني. وهذا بديهي، فالفن يوقظ العقل ويحطم أوثان العبودية، ويسمو بالإنسان إلى محراب الحرية، وفي هذا المقام يقول شيلر، في كتابه الشهير "رسائل في التربية الجمالية للإنسان: " لا يمكن للإنسان أن يشق طريقه نحو الحرية إلا عبر الجمال، وهذا القول صنو القول الرائع لنيتشة " بأن الحق والخير لن يتآخيا إلا متحدين في الجمال". فالجمال يستنفر عقل الإنسان إلى التساؤل الحرّ العبقري عن الكون والحياة والقضايا الإنسانية الكبرى الحق والخير والظلم والعدل والمساواة.
ومن الطرافة العلمية أن الدراسات العلمية تبين أن نمو الدماغ يرتبط جوهريا بعملية التحفيز الجمالي والأخلاقي، أي من خلال الأسئلة الحيوية التي يفرضها الجمال حول الكون بما يضج فيه من معاني. وهذا ما يذهب إليه عالم البيولوجيا كريستيان دو ديف Christian de Duve، إذ يرى بأن نمو الدماغ يأتي بالدرجة باستثارة الحواس، ولاسيما حاسة السمع والاستماع، فطريقة تعامل الأبوين مع الطفل تشكل المنطلق الأساسي لعملية نمو الدماغ والذكاء لديه، وهذا يعني أنه إذا أردت أن تنمي عقل الطفل فإنه يجب عليك أن تتحدث إليه منذ لحظة الولادة، أن تغني له الأغاني وأن تدغدعه وتناجيه وتهمس في أذنيه، ومن ثم عليك لاحقا أو للتو أن تحفّز بصره بالجمال والأشكال والألوان، وهذا يعني أن الدماغ يستلهم الصوت والصورة والأغنية في معادلة نمائه وتطوره. وبالتالي فإن هذا التحفيز السمعي البصري الحسي سيشكل بالضرورة الدورة الحيوية التي تؤدي إلى نمو الدماغ وتطوير الحياة العقلية عند الطفل. وإنك إذ تحرم الطفل من هذه الإثارة الحسية البصرية فإن الطفل سيعاني من عاهة عقلية ويفتقر إلى مقومات الحياة الذهنية الصحيحة، وتلك هي النتيجة التي يصل إليها ديف عبر دراساته وأبحاثه البيولوجية[9].
وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول بأنه كلما تنوعت المصادر السمعية البصرية كلما أصبح الطفل أكثر نباهة وذكاء. ولذا وانطلاقا من هذا الحقيقة العلمية فإن المربين يعمدون، من أجل تطوير وتنمية ذكاء الطفل، إلى التركيز على أهمية التحفيز الحسية السمعي البصري، وهنا يجب الاعتراف بأن الكم في هذه الاستثارة الحسية ليس كافيا حيث يجب العناية والتركيز على نوع وطبيعة هذه الاستثارة الحسية النمائية، وهذا يعني البحث عن تنمية الحس الجمالي تحديدا، أي التركيز على الإثارة الحسية البصرية التي تتسم بالروعة والجمال، والتي من شأنها أن توقد في الطفل حسا عقليا وذكاء ذهنيا يتسم بطابعه الإنساني الحرّ.
وهنا يجب ألا نجهل أهمية حاسة اللمس بوصفها مصدرا حسيا بالغ الأهمية والخصوصية، ومن هنا أيضا يجب أن نقدر الأهمية الكبيرة لتكنولوجيا المعلومات التي تفيض بالدلالة الحسية البصرية. وهنا لا بد من الإعلان عن الحاجة إلى دراسات أمبيرقية حول التأثير الفني والجمالي لتكنولوجيا المعلومات في عقل الطفل وفي تكوينه الإنساني الجمالي ولاسيما النمو العصبي للدماغ.
ولا يمكن أن نكون في دائرة المبالغة إذا تم التأكيد على الأهمية الكبرى للأدب والشعر والفنون الأخرى التي تعتمد الكلمة في بناء عقل الطفل وتأصيل روحه الإبداعية. وسبب هذه الأهمية واضح وسهل المنال حيث يعبر عنه إيريس ماردوش Iris Murdoch خير تعبير: " الكلمات هي الرموز الأكثر دقة وحيوية المتأصلة في نسيج وجودنا الإنساني وبالتالي فإن حياتنا الإنسانية كانت دائما بالكلمات رهينة "، وليس غريبا هذا القول المفعم بالجمال، فالتفكير الإنساني لا يقوم عرفا أو علما إلا بالكلام أو باللغة. وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أهمية الآداب في إيقاظ العقل والمعرفة عند الكائن الإنساني، فالأدب يعتمد الكلمة عنصرا أساسيا في تكوينه، والكلمة تخاطب الأذن قبل أن تراها العين، وهذه الكلمات تحمل في طياتها شذرات الفكر والعقل والحكمة والخبرة الإنسانية، وهي في سياق حركتها وتناغمها تؤدي إلى توليد المشاعر وإنهاض القيم وبناء الاتجاهات الإنسانية في عقل الفرد وفي كيانه. فالكلمات رموز تصوغ المعاني وتبني الفكر وتنهض بالعقل وتشكل الوجدان، وهنا تلعب الإيقاعات والصيغ والأساليب الفنية في تشكيل الكلمات دورا كبيرا في بناء القدرة على التأثير في العقل أو في الوجدان. فجمالية الكلمة وسحرها قد يفوق حدود التصور في بناء عقل الإنسان وروحه. فالألفاظ والمعاني والدلالات والبلاغة والخطابة والاستعارة والكناية والسجع والموازنة تشكل أدوات جمالية يوظفها الأدب في حفز النفوس وتطهيرها. فعبقرية شكسبير بكاملها تكمن في الأسلوب الأدبي الساحر والفريد الذي اعتمده في توظيف الكلمات واستنباط المعاني والدلالات وصقلها في حلل جمالية ساحرة أخاذة. فالكلمات لا يمكنها أن تنفصل عن التفكير وتأثيرها في تكوين العقل يكون دائما أعظم إذ ما صقلت في أفران الفن وبوتقات الجمال. ولا يوجد هناك شي أبدا يضاهي الأدب أو يحل محله في قدرته على مخاطبة العقل واستنفار معاني الجمال. فالأدب كالمصباح يطرد ظلمة النفس وينير عتمة العقل فيظهر أعماقه، وهكذا تكون الأعمال الأدبية الكبرى التي تنهض بالروح وتصقلها.
خاتمة: أين نحن من ثقافة الابتذال؟
تفقد الثقافة الإنسانية المعاصرة روحها تحت مطارق العولمة والميديا وتكنولوجيا الاتصال، وتتحول إلى ثقافة مادية مسطحة لا معنى فيها ولا دلالة، وفي هذا الأمر يكمن موت الجانب الإنساني في الثقافة. وعندما تفقد الثقافة روحها فإن الإنسانية ستكون في خطر داهم مستطير، لأن ذلك يعني فقدان المعنى والدلالة والقيمة في الوجود ومن معاني الوجود.
في ظل ما نشاهده اليوم من مظاهر ثقافية مجنونة تنفلت من عقالها، من أحداث مرعبة ومخيفة مخلّة بالعقل والوجدان، يقف المرء يتأمل متسائلا ما الذي يحدث في هذا العالم؟ ما الذي يجري في هذا الكون؟ لقد أصبحنا في عالم مجنون أو شبه مجنون: حروب مجنونة، قتل بالمجان، انتهاك للحرمات، عنف وإرهاب، استلاب كامل لإنسانية الإنسان. وأينما كنت اليوم وفي أي مكان نظرت سترى بأم عينك الحالة الاغترابية المرعبة التي وصلت إليها الثقافة الإنسانية المعاصرة، وهي حالة تكاد لا تصدق أبدا، وكل هذا يدلّ على فقدان الروح الثقافية في الفن والأدب والغناء والتمثيل والحياة والسياسة والاقتصاد. لنأخذ القرية اليوم ونقارنها بالأمس، عندما تعود إلى قريتك بعد طول غياب بحثا عن الإنس والعلاقات الإنسانية التي عرفتها فستجد كل ما من شأنه أن يدفعك إلى دائرة البؤس لا الأنس الإنساني حيث تجد نفسك في دائرة اغترابية استلابية فالناس في خيامهم وغرفهم المغلقة ربما وراء الشاشات والحواسيب يحتسبون لحظات أنسهم مع التكنولوجيا الاغترابية التي لا مكان فيها للإنسان أو للمشاعر أو العلاقات الإنسانية. لقد أصبحت الحياة مادية انتهازية برغماتية مجنونة لا قيمة فيها أبدا للعلاقات الوجدانية والإنسانية، فتجد نفسك ومن حولك لقمة سائغة للبؤس والنسيان والاغتراب. وعندما تسأل لماذا هذا الجفاء وهذا الانفصام وهذه العزلة؟ سيقال لك: كانت أيام زمان، وسيخبرك المقربون إليك وكأنك لا تعرف لقد تغير العالم والناس، وأناس اليوم غيرهم بالأمس، وسيقال لك بالعامية (كل واحد بحاله هذه هي الأحوال) وتلك هي الثقافة المادية التي استهلكت الإنسان وعلبته بطريقة في أوثان العزلة والاغتراب. فالريف والقرية التي يفترض بها أن تكون أجمل مكان للعلاقة بين الإنسان والإنسان بين الطبيعة والإنسان فقدت روحها أيضا، ولم يعد الريف ريفا أو القرية قرية وذلك هو حال المدينة التي فقدت أنوارها، وأنت ستشعر هنا أو هناك في المدينة والريف، وربما في حنايا منزلك أو بين أحضان أسرتك في غربة، بأنك في الجحيم حيث لا أنس ولا أنيس ولا علاقات إنسانية تستوحي الثقافة الروحية هذه التي عرفناها أيام زمان.
لنأخذ مثالا آخر، وهو قريب عجيب، ففي مأساة هاييتي وزلزالها المدمر، كان العالم ينظر حزنا إلى المأساة، وكان كل إنسان في الكون يتعاطف مع أحوال هؤلاء البشر الذي هزتهم كارثة كونية. ولكن هاييتي وفي مسرح مصائبها ها هي تجد نفسها قد تحولت إلى سوق نخاسة مرعب يخطف فيها الأطفال وتختطف أرواحهم وتتم المتاجرة بهم وبأعضائهم في أسواق رخيصة تقودها عصابات إجرامية لا ترحم.
وبالأمس القريب شاهدنا ورأى الناس ما يفوق حدود قدرتهم على التصور والاحتمال لمشاهد السقوط والابتذال الثقافي، ففي حفل زواج جرت طقوسه في أحد البلدان العربية الإسلامية، حدثت أمور مذهلة حيث ومن غير أن يتوقع أحد، تعرى العريسان وبعض المعرسين فجأة أمام الملأ وهم يصبون ماء "التشامبانيا" الفاخر المثلّج على أجسادهم العارية بطريقة هستيرية أمام الناس والكاميرات في احتفال جنوني مهووس.
تلك هي الثقافة التي فقدت روحها ومعانيها، إنها ثقافة الميديا والإعلان ووسائل الاتصال، ثقافة الانحلال والاغتراب التي استباحت كل المعاني فانحدر فيها الإنسان فيها إلى بهائمية جامحة ونزوية صارخة. وهذا كله يدفعنا إلى القول بأنه لا بد للشعوب الإنسانية من وقفة تتأمل فيها في دواعي هذا الانحدار الإنساني للثقافة والسقوط المرعب للقيم، وقفة تأمل وبحث ونظر تتقصى فيها الإنسانية الكيفيات التي يمكن أن يعاد فيها ومعها للثقافة روحها وأنسها، وما لم يكن هذا يوما فالسلام على الحضارة والإنسان. والسؤال الأخير ألم يحن الوقت للنظر نحن العرب في ثقافتنا وفيما هي آيلة إليه في ظل ثقافة السوق والميديا؟ أليس علينا أن نتساءل اليوم كيف نواجه هذا المدّ الجارف من الانحلال الثقافي المرعب لثقافة فقدت روحها وقلبها؟ كيف نحصن ثقافتنا ونضفي عليها طابعا روحيا يدفعها خارج تيار الانجراف والسقوط؟
وإذا كانت هناك من كلمة تقال في مقام الانهيار الروحي للثقافة فخير خلاصة في هذا المقام تجد نفسها فيما جاد به الفيلسوف الهندي طاغور أثناء تسلمه لجائزة نوبل في الآداب عام 1913 حيث قال "إن الحضارة المادية ستخسر كل شيء إذا فقدت روحها، وأن البشرية ستصبح مهددة بالفناء في ظل جسد بلا روح وعندما تصبح الحضارة بلا قلب فإنها ستفقد أهم مقومات الحياة والوجود ([10]).
[1] انجيل متى ، الأب اليسوعي: يسوع المسيح، ص245
[2] - علي أسعد وطفة، الثقافة وأزمة القيم في الـوطن العـربي، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 192، 2/1995. صص 53- 67.
[3] - LÉVI-STRAUSS, Claude , Le Devoir, 24 décembre 1998.
[4] - ADORNO, Theodor W.«Éduquer après Auschwitz», dans Modèles critiques, traduction par M. Jimenez, E. Kaufholz. Paris: Payot, 1984.
[5] - علي أسعد وطفة، إشكاليات الدمج التربوي للتقانة والمعلوماتية في الوسط المدرسي، التعريب، العدد 36، حزيران (يونيو) 2009، صص 107-137.
[6] - DOSTOÏEVSKI, Fiodor Mikhaïlovitch Carnets des Démons, Traduction par Boris de Schloezer. Paris: Gallimard (coll. «Bibliothèque de la Pléiade»), 1955.
[7] - KANT, Emmanuel ,Critique de la faculté de juger, I, Analytique du sublime, § 40, Traduction par Jean-René Ladmiral, Marc B. de Launay et Jean-Marie Vaysse. Oeuvres philosophiques, II, Paris: Gallimard (coll. «Bibliothèque de la Pléiade»), 1985.
[8] - رفعت السعيد، العلمانية بين الإسلام والعقل والتأسلم، الأهالي، دمشق، 2001، ص 25.
[9] - DE DUVE, Christian , Poussière de vie. Une histoire du vivant, Traduction de l'anglais par Anne Bucher et Jean-Matthieu Luccioni. Paris: Fayard, 1996.
[10] - نقلا عن: مجدي عزيز إبراهيم، المنهج التربوي العالمي، أسس تصميم منهج تربوي في ضوء التنوع الثقافي، مكتبة الأنجلو مصرية القاهرة 2001، ص 232.