قدّم الفيلسوف «جيل دولوز»(1) عددا من المحاضرات بداية الثمانينات من القرن المنصرم، دارت حول السينما(2) والفكر أو الفلسفة، وقد نبّه في مستهل المحاضرة الأولى أن فكرة تقديم دروس حول السينما أو محاضرات حول الفن السّابع بعيدة عنه، فما سيُقدم عليه طوال هذه المحاضرات، إنما هو عمل فلسفي من ألفه إلى يائه، إذن ما هي حيثيات هذا العمل إنْ جاز التعبير ؟
يُعلن «دولوز» ابتداء، أنه يرغب في القيام بأشياء ثلاثة، جدُّ مختلفة في الظاهر، غير أنها تلتقي آخر الأمر.
-أوّلا: قراءة كتاب برغسون(3) « مادة وذاكرة» يمثل هذا الكتاب في مسار الفكر البرغسون استدارة أو لفة، الكتاب لا يندرج في إطار تقدم تسلسل خطي، فبرغسون من خلال كتابه هذا قد لامس شيئا ما، ثم أقفل راجعا، ولهذا الاعتبار وصف «دولوز» هذا الكتاب بغير العادي. واستزادة نقول بأن «دولوز» واستنادا لمؤلفه «البرغسونية» وتحديدا فصله الأول والذي جاء تحت عنوان – الحدس بوصفه منهجا – قد ذهب إلى اعتبار الديمومة والذاكرة والاندفاع الحيوي محطّات كبرى في الفلسفة البرغسونية، أمّا الحدس فهو بمثابة المنهج لهذه الفلسفة، وهو -أي المنهج- في تقدير «دولوز» وحسب «برغسون» لا يعتبر شعورا ولا هو إلهاما، ولا حتى تعاطفا مشوشا، إنّما هو على العكس من ذلك، منهجا قد أُعمل في بلورته النظر، إنّه من المناهج الفلسفية الأكثر ضبطا، يستند إلى قواعد محدّدة، هي في منظور برغسون ما ندعوه بالدقة الفلسفية، أي بالطبع «برغسون» يؤكد على أنّ الحدس بوصفه منهجا، يفترض قبلا الديمومة، وذلك يعود لاعتبارات قد أرفقت بالديمومة، والتي تبدو حاسمة للغاية؛ فكلما انتقلنا من درجة إلى درجة من درجات الديمومة، يُبنى الحدس بوصفه منهجا فلسفيا، أي يتشكّل تبعا لانتقال تدرجي من وضع ديمومي إلى وضع آخر. والسؤال الذي يحضرنا هو هل هذا الانتقال التدرجي هو ارتقاء من أدنى إلى أعلى؟ ليس هذا وحسب، إنما هناك شيء آخر قد يستوقف القارئ يكمن في أنّ طبيعة المنهج البرغسوني، من طبيعة حيوية، قد استخلصت استخلاصا من حركة الزمن المعيش، أو ما يدعوه «برغسون» بالديمومة، وليس بذاك المنهج المنبثق عن جهد تأملي فائق التجرد، فعملية الاستخلاص تصطبغ عنده بالصبغة الحيوية إن لم نقل بالصبغة العضوية، وهذا الذي يمثل بالنسبة «لدولوز» – حسب ما نتصوره – الجانب الإبداعي في فلسفة «برغسون»، فمعه لا نبتعد كثيرا عن عنفوان الحياة وحرارتها، وهاهنا يكتب ويقيد بحروف ما يعيشه ويختبره الإنسان الفيلسوف، وقد يكون هذا من بين الأسباب التي جعلت «دولوز» ينجذب إلى فلسفة برغسون، فلسفة قد صدرت عن رؤية ومشاهدة(4)
– ثانيا:قراءة كتاب «كانط»5 «نقد ملكة الحكم»، بظهور هذا المنجز الكانطي يكون موعد قد عُقد بين الفكر الفلسفي عامة والفكر الكانطي خاصة مع العلو، مثله مثل كتاب برغسون «مادة و ذاكرة» ولكن لأسباب مختلفة، كتبه كانط وقد بلغ من العمر مبلغا، وكان غير متوقع بعدما أن أتم الفيلسوف مشروعه النقدي، ولكن مع ظهور هذا كتاب المفاجئ تُبنى استتيقا أو علم الجمال الذي يتطرق فيه إلى الجميل وأشياء أخرى أسمى من الجميل أو محيطة به.
ثالثا: رغبة دولوز التطرق إلى موضوع السينما والفكر.
بعد هذا العرض لكيفية مقاربة موضوع مركب كموضوع السينما والفكر نتعرّف إجرائيا على طريقة من الطرق الفلسفية المتبعة في تناول القضايا التي تقع في الأفق الفلسفي، أفق مُعبّر من جهة عن اهتمامات الفيلسوف ومن جهة أخرى تسليط الضوء على ما تحفل به الحياة من مواضيع وظواهر كثيرة ومتباينة، قابلة للقراءة الفلسفية على حدّ سواء ودون إقصاء لأي ظاهرة أو موضوع، مهما كان، فقيمة الشيء تحديد، بعد نظر وتبصر قد زاوج بين التعقل والتحري. يسير «دولوز» في طريق عبّده من مواد أساسية ثلاث تبدو للرائي وللوهلة الأولى، أنْ لا قاسم مشتركا يجمع بينها، أي بين كتابي برغسون «مادة وفكر» و»التطور المبدع» وكتاب كانط «نقد ملكة الحكم» وتفكر في السينما، غير أنه في مستوى من المستويات، فإن هذه المواد أو المحاور تلتقي متعانقة، وجهتها وبوتقتها المحور الثالث أي السينما والفكر، والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن ما السبيل إلى بلوغ لحظة التعانق والوصال بين الفلسفة والسينما؟
يجيب «دولوز» عن هذا التساؤل وقد ارتضى لنفسه المرحلية طريقا ، فبالنسبة لبرغسون الأمر بيّن، والوحدة بين الفكر والسينما وضع قائم، والمرء قادر على تقديم قرائن تُثبت وتوفر وشائج تشير إلى هذه الوحدة المفترضة بين عالم السينما وعالم الفكر، فكيف ذلك؟
الكتاب الأوّل «مادة و فكر» صدر سنة 1896 الكتاب الثاني «التطور المبدع» صدر سنة 1907، الكتاب الأوّل قد تزامن نشره مع أوّل عرض سينمائي للإخوة «لميار» في ديسمبر من عام 1895بباريس، أمّا الكتاب الثاني فلقد تعرّض فيه برغسون إلى قضايا سينمائية بجلاء وبمقدار معتبر،ومن ثمة يُعد المؤلف الفلسفي الأوّل الذي يُقارب فيه فيلسوف قضايا سينمائية، ففي الفصل الرابع من هذا الكتاب يتكلم برغسون عن ما سماه بآلية الفكر السينمائية والوهم الميكانيكي . المثير للاستغراب حقا بالنسبة لـ:»التطور المبدع» يبدو، واستنادا لقراءة أولية أنّ «برغسون» يسعى من وراء مؤلفه إلى فضح أو نقد «الوهم» المرتبط بالعمل السينمائي، وهذا يلاحظ تحديدا في الفصل الرابع. بالنسبة للمؤلف الآخر «مادة و ذاكرة» الحال مختلف، فيمكن القول أنّ ما تمّ إنجازه في هذا الكتاب، قد تمّ أيضا القيام به ولكن بطريقة مغايرة في السينما، وهذا الذي يُضفي على هذا المنجز البرغسوني صفة الغرائبية، وبالتالي يبصمه ببصمة التفرّد.
كتاب آخر وأخير اعتبره «دولوز» أساسا لكل تفكير فلسفي حول السينما لصاحبه» كانط» موسوم «بنقد ملكة الحكم» تناول في فصوله الأولى موضوع الجميل متسائلا عن متى يكون الشكل جميلا؟ فلم يخرج بالتالي عن مجال علم الجمال الكلاسيكي، لكنه لم يتوقف عن هذا الحدّ، بل تابع سير التحليل ليرتقي لشيء أرفع سيكون إعلانا عن استتيقا جديدة ومن ثمة انبثاق التيار الرومانسي، الحامل لرؤية جديدة لما يكون عليه الإنسان والعالم، إنه السامي أو الجليل- le sublime-.طرحٌ كهذا هو الذي مكّن لإشكالية كإشكالية علاقة الصورة بالفكر لأنْ تجد لنفسها حيزا للدراسة والبحث والقراءة.
بعدما أنْ هيأ الشروط الموضوعية لبلوغ مركز انشغاله وهو الفلسفة والسينما، فإن «جيل دولوز» عزم على تقسيم مواد العمل إلى أجزاء تسهّل العمل وتُلطّفه :
الجزء الأوّل: أطروحات برغسون حول الحركة :
يقدّم «دولوز» هذا الجزء عارضا تصوره للفيلسوف وللفكرة الفلسفية لمتلقين، فأنْ تتخيل الفيلسوف، فإن تخيّلك هذا، لن يكون صعبا ولا بسيطا ولا معقّدا، لأنّ الفكرة الفلسفية هي دائما فكرة وقد تعلقت بقاعدة، بأسفل وبسقف، لها عدّة إسقاطات، ولها أكثر من مستوى تعبيري واحد وبسُمك ما، وكل طبقة من هذا السُمك توازي وتناسب فهما ما، ولا تعارض بين مستويات هذا السُمك.
وتقديم مذهب فلسفي أو فكرة فلسفية، يمكن أن ننجزه بطرق شتى ولتوضيح أكثر يعطي «دولوز» مثالا يخصّ الفيلسوف «ليبنتز»(6) حيث كان يقدّم أفكاره للآخرين وفقا لمستواهم العقلي وهذا بحسب اعتقاده. والأمر قد يكون شبيها بالنسبة «لبرغسون»، فهناك صفحات في مؤلفاته غاية في البساطة تُفهم دون عناء، وهناك صفحات أخرى تتطلب جهدا بغية فهمها، وهناك صفحات أخرى أيضا، بحاجة إلى بذل مجهود مضاعف لإدراكها.
وعليه، فإن برغسون يقترح التالي:
الأطروحة الأولى: لهذه الأطروحة تقدمان اثنان يقترحهما «برغسون»، لكن قبل التطرق إليهما يبرز «دولوز» رؤية برغسون للعالم الذي نعيش فيه، إنه عالم خليط تمتزج فيه الأشياء امتزاجا وتتألف بهذا الشكل لا غير. إنه ما يتبدى لنا كمعطى ، وعمل الفلسفة أو وظيفتها تتمثل في تحليل هذا الخليط المتكثر من الأشياء وتأخذ كلمة تحليل مع «برغسون» معنى مغايرا للمعنى المتعارف عليه، أنْ نحلل هو أن نستخلص المحض من الشيء ونطرح الشوائب جانبا، فالشيء الواحد تأليف مشيئة أو نزوع نحو المحض أو – الخالص – من جهة ومن جهة أخرى انجذاب نحو الشوائب. والتحليل هو البحث عن المحض أو –الخالص- واكتشاف تمفصلات الشيء وهذا الذي ندعوه بالحدس –intuition –
التقديم الأوّل: منطوقها الأساس، الحركة بصفتها ديمومة غير قابلة للقسمة في تعارض قطعي مع المكان باعتباره فضاء قابلا للقسمة، وبالتالي، فإن الحركة كفعل اجتياز لا تتطابق في مطلق الأحوال بالمسافة المقطوعة أو المجْتازة، ومن ثمة استحالة التفكير في الحركة وقد تطابقت بالمكان، هذا ما حاول أن يقوله «زينون»(7) في مفارقته المشهورة: إن أخيل لن يتمكن من الالتحاق بالسلحفاة مهما ركض، أو إن السهم لن يصل إلى هدفه. إن الاعتقاد الذي مؤداه أن الحركة هي تأليف للمسافة المجتازة يمثل عائقا أمام فهم حقيقي للحركة، وذلك لأن الاعتقاد قد استقى مبررات وجوده من اعتبار العالم خليطا أو مزيجا للأشياء، والذي يَعدُّه «برغسون» المعطى المباشر للتجربة المعيشة.
التقديم الثاني: وهو تقديم ملفت للغاية، إنْ قورن بالتقديم الأوّل، أمّا منطوق هذا التقديم فيأتي على الشاكلة الآتية: إننا لا نعيد تأليف الحركة من تتابع أو تعاقب لمواقع في المكان أو تتابع للحظات في الزمن.المشترك بين التقديم الأوّل والتقديم الثاني هو في أن المقاطع سواء أحالت إلى مواقع أو إحداثيات في الفضاء –المكان- أو دلت على لحظات في الزمن هي مقاطع ساكنة مأخوذة في مسار.التقديم الأوّل اقتصر على تحديد فرق من حيث الطبيعة بين المكان القابل للقسمة والحركة – الديمومة غير قابل للقسمة. أمّا الإضافة التي يقدّمها التقديم الثاني فهو الادعاء القائل بتأليف الحركة انطلاقا من المسافة المنجزة ، هذا الاعتقاد يفضي إلى أنْ نميّز في آن مقاطع ساكنة لمواقع –إحداثيات- وللحظات من جهة ومن جهة أخرى لتتابع هذه المقاطع المفروض والمؤسس على فكرة الزمن المجرّد المتجانس المتساوي والتي تسري على جميع الحركات، وبهذا الشكل ندّعي أننا نؤلف الحركة.وهذا ما يرفضه «برغسون»، لأن الحركة تتم بين موقعين أو مقطعين مهما صغرا،إن الحركة تمتنع ولا تقبل القياس وفق زمن متجانس متساو، فخطوة «أخيل» تختلف عن خطوة «السلحفاة» ولهذا يتمكن أخيل من أن يلحق بالسلحفاة ويفوز عليها. نعم كل الحركات الواقعية قابلة للقسمة، لكن ليس تبعا أو استنادا لوحدة متجانسة مجردة؛ فلكل حركة تمفصلاتها الخاصة، ولهذا كما أسلفنا من الواقعي جدا أن تتجاوز خطوة «أخيل» خطوة «السلحفاة». مع بزوغ فجر السينما، ينبلج فهم جديد للحركة، فهم قد يلوح معارضا وفهم برغسون، ففي نظره تقوم السينما بدفع إلى أبعد الحدود وهم خاطئ بإعادة بناء الحركة وذلك بأخذ مقاطع لحظية من الحركة، لتربطها بصورة زمن متعاقب أو متتال متجانس ومجرد، يدفعنا هذا الصدام، والذي يتراءى ابتداء بين تصور «برغسون» وما تُقدم عليه السينما ، إلى أن نتساءل عن شروط السينما أيام برغسون – 1907 –، إجمالا يمكن حصرها في ثلاثة:
أ- التقاط مناظر( مشاهد) بطريقة ساكنة
ب- وحدة جهاز التقاط المناظر( مشاهد) والعرض
ج- تساوي بُعد الصور: يُعد مبدأ تقنيا أساسيا بالنسبة للسينما، وذلك بفضل تخريم أو تثقيب الشريط السينمائي. إن لم يتوفر تساو في البعد بين الصور لا يمكن الحديث عن سينما، والصيغة التي كانت عليها السينما في عام 1907 :توال أو تعاقب لحظي يكفل تجانس الزمن.
على الرغم من أن السينما قد قطعت أشواطا منذ زمن صدور كتاب «برغسون» «التطور المبدع» ، إلا أن القاعدة المعمول بها في المجال السينمائي، لازلت لحد الساعة سارية المفعول. والمشكلة الأولى التي أثيرت مع ظهور السينما، تتعلق بمسألة الإدراك،فالسينما تمدنا بحركات لأجل إدراكها، المشاهد السينمائي يُدرك الحركة، «برغسون» عندما يتكلم عن الوهم المرتبط بالسينما، ماذا يريد أن يقول من وراء هذا، عن ماذا يبحث، ماذا يقصد، ابتداء، ينبغي أن نلاحظ أن الانتقادات التي يُوجهها «برغسون» في تصور «دولوز» هي ذات صبغة ظاهرية وليست بالانتقادات الواقعية، فكيف ذلك؟ يقوم العمل السينمائي وفق التالي: هناك مقاطع ساكنة تُخضع لشكل زمن مجرّد، إن الحركة المعَاد إنتاجها سينمائيا، وهي أيضا حركة مُدرَكة، يُعاد إنتاجها بوسائل مصطنعة، ومن ثمة، هل إنْ كانت الوسائل مصطنعة يستلزم أن الحركة المعاد إنتاجها هي أيضا مصطنعة؟ يرى برغسون بخصوص الإدراك الطبيعي أنّه إدراك للمختلط (للهائش) أو للمزيج وفي المقابل فإن الإدراك السينمائي يصبو –يتجه- إلى إدراك المحض (الخالص) وعليه فإن هناك اختلافا بين الإدراكين ونضرب مثالا على ذلك بحركة الطائر، إدراكها طبيعيا ليس مطابقا لإدراكها سينمائيا. إن طموح السينما هو أنْ تجعل من الحركة، حركة محضة، خالصة. إنّ المعاد إنتاجه ليس بالضرورة مصطنعاً حتى وإنْ كانت وسائل إنتاجه مصطنعة، إنّ الإدراك السينمائي في نهاية المطاف يُقدّم لنا حركات محضة، وفي تصور برغسون لا ينبغي أن نخلط الحركة لا مع المسافة المنجزة ولا مع تتالي لمقاطع ساكنة، فكل حركة لها تمفصلاتها الطبيعية الخاصة، وعليه لا يوجد تطابق بين حركتين ومن ثمة لا يمكن أنْ تُقاس الحركات بمقياس واحد مشترك، وإن كان هناك إنجاز سينمائي فهو يكمن في هذا القرآن اللا جمعي بين الصورة- الحركة، فالحركة السينمائية حركة تركيبية مُدركة مباشرة،لذا يمكن أنْ تُعرّف السينما بأنها الصورة-الحركة، والملفت أنّ «برغسون» قد تحدّث عن هذا الأمر وتطرق إليه في كتابه الموسوم بـ: «مادة و ذاكرة» وتحديداً في الفصل الأوّل من هذا الكتاب المعنون: اصطفاء الصور لأجل تمثل دور الجسم.
سعى الفكر الإنساني منذ القديم إلى إعادة بناء الحركة استناداً أو تبعاً للحظات ساكنة أو مقاطع ساكنة. وعلى العموم هناك طريقتان لإعادة بناء الحركة عبر تاريخ الفكر الفلسفي؛ الطريقة القديمة والطريقة الحديثة، الطريقة الأولى متعلقة بالفلسفة والعلم الكلاسيكيين –اليونان مثلا-، الثانية متعلقة بالفلسفة والعلم الحدثين –النهضة الأوروبية نموذجا- عندما يثار التساؤل حول الاختلاف بين المنظومتين المعرفتين الكلاسيكية والحديثة، نسرع في التقديم الإجابة الجاهزة والمتمثلة في أنّ المنظومة الأولى يطغى عليها الطابع الكيفي، بينما المنظومة الثانية يغلب عليها الطابع الكمي، يصرح «دولوز» تبعا لتصور «برغسون» أنّ هذا النوع من الإجابة غير ناضج أو غير تام، فكيف كان الفيزيائيين أو الفلاسفة الكلاسيكيين –اليونانيين- يُقاربون أو يدرسون الحركة؟ لقد كانوا يعيدون بناء الحركات استناداً إلى لحظات خاصة (مفضلة، ممتازة أو مجتباة) أو يُعيدون بناءها بناء موضعيا أو موقعيا pose ، مثلا فيزياء «أرسطو»(8) قامت على أساس اعتبارين حيث حللت الحركة وفق لحظتين، لحظة التوقف تُناسب عودة الحركة إلى موضعها الأصلي،ولحظة أوج الحركة، ولتبيان ذلك نضرب مثال الخط المقوس، ولو نذهب باتجاه الفن الإغريقي، فالأمر كذلك، حيث هذا الفن يتحدد تبعا أو استنادا إلى لحظات أو مواقع خاصة أو مجتباة؛ والسؤال الذي يطرح حينئذ إلى ماذا كلمة موقع أو موضع تُحيل؟ تحيل هذه الكلمة إلى الشكل ، والحركة تناسب مواقع، وفي هذه الظروف ما الذي يتحرّك؟ إن الذي يتحرك هو المادة، ويكمن دور الشكل في تحيينها للمادة المتحولة من صورة إلى أخرى، وقد قدّم الفلاسفة الإغريق كأفلاطون(9) وأرسطو أمثلة لإظهار المقصود، فعندما يجري الحصان معنى ذلك أنّ مادة الحصان أي جسمه تنتقل من شكل إلى آخر، من شكل تقلص إلى شكل تمدد. وإجمالا، فإن التصورات المنبثقة من العلم والفلسفة القديمين لا يسمح بظهور سينما. أمّا تناول العلم الحديث لمسألة الحركة تناول جديد مختلف حتى وإنْ انطلق من معطى قاعدي مشترك بينه وبين العلم القديم، فكلا من العلمين ادعى إعادة بناء أو إنشاء الحركة تبعا للحظات أو مواقع، غير أنّ العلم الحديث لم يُخصص لحظة بامتياز ما، بل اعتبر جميع اللحظات في مقام واحد، ومن ثمة فاللحظات متساوية البُعد، وعليه فإنّ الحركة تُحدد تبعا للحظة ما، للحظة أيّا كانت. يقدّم برغسون أمثلة ثلاث تعلن عن هذا الانقلاب في المقاربة من جهة، ومن جهة أخرى أمثلة تمثل فجر العلم الحديث: المثال الأوّل متعلق «بكبلر»(10) و علم الفلك والمسار الفلكي، المثال الثاني متعلق «بغاليلي»(11) وسقوط الأجسام، المثال الثالث متعلق «بديكارت»(12) وعلم الهندسة، إنْ توقفنا عند المثال الثالث وتساءلنا عن طبيعة الهندسة عند الإغريق، وكيف كانت تدرس الموضوعات الهندسية آنذاك؟ لقلنا أن الكم المتصل ( الدائرة مثلا) كان يحدد تبعا لهيئته، لشكله الخارجي، فالدائرة تحيل مباشرة إلى شكلها الدائري، بينما الموضوع الهندسي عند ديكارت يتحدد تبعا لمسار، هذا المسار هو محدد في كل لحظة، تعبير يتخذ لنفسه وجودا جديداً هو المعادلة، وما المعادلة في مستوى من المستويات إلا تحديد لشكل هندسي بالنسبة للحظة، والمتعلق بمسار الباسط لهذا الشكل.
وبالعودة إلى السينما وتحديدا إلى التساؤل عن تاريخيتها أي الشروط التي ينبغي توفرها كي تظهر. فقد جاء سلفا التلميح إلى أنّ السينما لا يمكن أن توجد إلا إذا تعلقت الحركة بنظام مواقع أو مواضع، إذاً متى توجد السينما؟ توجد السينما عندما تُحلل الحركة ويفضي هذا التحليل إلى شرط تركيبها، وتحليل الحركة يمر بالضرورة بالصورة الفوتوغرافية، والعالم «ماري»(13) قد يُنظر إليه من زاوية من الزوايا الأول الذي ساهم في انبلاج عالم السينما، اخترع هذا العالم أجهزة بيانية تسمح بإرجاع الحركة إلى لحظة ما، فكانت هذه الأجهزة تُسجل تسجيلا بيانيا حركات كحركات أطراف حصان وحركات فارس، حركات رأسه، يداه، رجلاه..أما الهدف من وراء هذا كله فهو الإحاطة العلمية بالحركة المحضة أو الخالصة. إنّ الذين يعتبرون الأجهزة التصويرية والتي اخترعت في القرن التاسع عشر وقبله أسلافا معتمدين للسينما، قد جانبوا الصواب وابتعدوا عنه كل البعد. منذ البدايات الجنينية للسينما، طُرِح التساؤل التالي ما الجدوى من السينما؟ أتوجد فائدة أو فوائد من التصوير السينمائي، فائدة فنية أو فائدة جمالية أو حتى فائدة علمية؟إنْ كانت السينما هي إعادة بناء الحركة تبعا لسلسلة من لحظات، فلا فائدة تُرجى منها، لا فائدة فنية ولا جمالية ولا علمية. إنّ الطريقتين اللتين قاربتا الحركة سواء أتعلق الأمر بالطريقة القديمة أو تعلّق الأمر بالطريقة الحديثة،كلاهما يُعيدان بناء الحركة تبعا لساكن أكان مواقع أو لحظات، وأداء مثل هذا يعني بكل بساطة التخلص من الحركة لأجل الساكن والقضاء على الديمومة لأجل زمن متجانس. والذي ينفلت منا في كلتا المقاربتين في رأي «برغسون»، الذي يجري بين لحظتين، بين مقطعين، بتعبير آخر الذي نفقده في كل حين هو الاستمرارية، استمرارية اللحظات، أي الديمومة، فاللحظة الراهنة قطعا ليست تكراراً أو نسخاً، للحظة السابقة. أما المشترك بين المقاربتين ففي مضمون المبدأ بأن كل شيء معطى أو قابل للانعطاء أو الكل هو دائما معطى، إنّ الكل le tout- – عند بعض المفكرين لا معنى له، بينما عند «برغسون» فكرة الكل لها تماسكها، إن دلّت على أن هناك خلقا يحدث، يُنتج، يُصنع، وإنْ لم تدل على ذلك، ففعلا الكل حينئذ ينتزع منه المعنى، ماذا يعني هذا ؟ إنّ نظام الأشكال – نظام الأفكار- عند القدماء الإغريق هو معطى سرمدي وفي المقابل فإنّ الزمن الذي هو صورة للسرمدي ما هو إلاّ تقهقر وحِطّة للسرمدي. بالنسبة للعلم الحديث فينطلق من مبدإ عام مفاده: أنّ كل نسق يفسّر تفسيراً تبعاً للحظة ما قد تعلّقت بلحظة قد سبقتها، وبالتالي الكل مندمج ابتداء في مجال المعطى، وهكذا فإن الميتافيزيقا الحديثة غرقت وقُيّدت بالميتافيزيقا القديمة ؛ وفي اعتقاد «برغسون» كان بالإمكان للعلم والفلسفة الحديثين أنْ يكون مسارهما مختلفا عمّا ما كان سائداً من تصورات قديمة، لو تخلينا المبدأ القائل بأنّ الكل معطى وعِوض ذلك المضي قُدما باتجاه ما يُصنع، ما يحدث مابين لحظتين، ما بين مقطعين، ما بين نطاقين، قاصدين المفتوح، المستمر، بكلمة واحدة صوب الديمومة، أي بلورة فلسفة زمن، فالكل ليس معطى، والصائب فعلا وقولا، أن الكل يصنع، ومتى انصب اهتمامنا بهذا الذي يجري ويصنع، سمح بانبثاق وبتهيئة ميتافيزيقا مواكبة للعلم، ميتافيزيقا تأخذ على عاتقها الديمومة وتتصدى لمسألة حدوث الجديد في العالم والتفكّر في الديمومة؟
أيقن «برغسون» بضرورة وضع ميتافيزيقا جديدة مواكبة لما يشهده العلم من تطورات وترك ما كان متعارفا عليه، من ميتافيزيقا ساكنة تهاب الجديد وتخشاه،وترمي إلى معرفة شروط ظهور الجديد في العالم، لم يكن في هذا المسعى الجديد وحيداً، بل شاطره الفيلسوف «وايتهيد»(14) الرؤية، مساهما في إعداد مقولات مفاهيم قصد فهم معنى السؤال والتساؤل عن كيفية ظهور الجديد ومن بين هذه المفاهيم نذكر:
أ- مفهوم الإبداعية: يدل هذا المفهوم عن الإمكانية المنطقية التي تسمح بإنتاج الجديد في العالم، انبثاق الجدّة
ب- مفهوم الملموسية: يدل هذا المفهوم على إنتاج لشيء جديد في العالم
اتجه الفكر الإنساني منذ الإغريق إلى تفسير الملموس بالاعتماد على المجرد، وهذا مايطلق عليه بمنطق الأشكال أو الصور –جدلية الأشكال-؛ غير أنّ «برغسون» يرى أنّه ينبغي أن نفسّر المجرّد بالملموس، والعلم الحديث يفتح مجالا جديداً للتفكير ويدفع بالفكر الإنساني أن يخوض في ضروب لم تألفها الإنسانية ؛غير أن العلم لم يستثمر موضوع دراسته للحركة ولم يذهب مذهب الحركة وما سيسفر عنها من نتائج، الأمر الواقع لم يُثن «برغسون»، كما أسلفنا، وعلى ضوء ما تقدم نطرح التساؤل التالي: تحت أي شكل من الفكر يُصنع أو يُكوّن الفكر في السينما؟ هل ثمة فكر سينمائي؟ إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة مناسبة سانحة للتطرق للأطروحة الثالثة للحركة، أطروحة برغسون الخاصة، نلخصها على هذا الشكل : اللحظة قطعة خاطئة للحركة، نظرا لأنها قطعة ساكنة، لكن الحركة قطعة صائبة للديمومة، لأنها قطعة زمنية أو بتغبير آخر: قطعة ساكنة على زمن واقعي يساوي حركة كقطعة على الديمومة، ألا تعد هذه الوحدات، وحدات سينمائية؟
ليست فقط اللحظة هي مقطع ساكن للحركة؛ بل إنّ الحركة هي مقطع مُتحرك للديمومة، بهذا الشكل يكون التعبير عن الأطروحة الثالثة «لبرغسون» عن الحركة، وكما نرى فإنّ هذه الأطروحة مركبة. «برغسون» الأوّل أي «برغسون» المتعارف عليه قد فرّق بين أمرين متقابلين من جانب، هناك فضاء ولحظة حيث لا يمكن فيه أن نعيد بناء الحركة مع المسافة المغطاة أو التي تمّ قطعها ومن جانب آخر، هناك حركة وديمومة وفيه لا تعاد الديمومة بإضافة لحظات بعضها على بعض تجميعا، ماذا نقصد واقعيا بأنّ الحركة مقطع متحرك للديمومة؟ الكلام عن الحركة في الفضاء يفيد النسبية أي أنْ تُبسط الحركة على بساط علائقي، قولي أنا أسير –أتحرك- بالنسبة لمنظر طبيعي يساوي قولي، المنظر الطبيعي يتحرّك بالنسبة لي. الحركة هي علاقة بين أجزاء، وتعبير عن الديمومة، والديمومة هي التي تتغيّر والتي لا تتوقف عن التغيرّ؛ بينما التغيّر هو التأثر بالكل أو الوجد أو الوجدان بالكل،[ إن آثرنا سبيل طه عبد الرحمن في الترجمة عد إلى د. طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة -2- القول الفلسفي كتاب المفهوم والتأثيل، الباب الثالث، الفصل السادس]. وبالتالي فإن الحركة تعبّر عن تغيّر بصفتها إزاحة أو نقل، ونشداناً للدقة، والتي يرجى من ورائها أن نفهم، بأن الإزاحة أو النقل هي عملية تجلب معها الجديد، حتى ليمكن القول أن الجلب للجديد هو الإزاحة المقصودة، يقول «برغسون» من وراء آلية الإزاحة ينبغي تخيل آلية للتحول، وللتمثيل على ذلك يقترح دولوز جملة من الأمثلة، مثال واحد يمثل الحركة الاصطناعية مجالها التطبيقات العلمية التي تخصّ علم الفيزياء في القرن السابع عشر والتي كانت تهدف الإحاطة بالحركة كما من خلال لعبة «البليادو»، الكرات التي تتحرك في مجال محدد فتلتقي، ثم تفترق بفعل قوي.. وباقي الأمثلة عن الحركة في الواقع الحي:
1 – المثال الأول: أخرج لأتنزه.
2 – المثال الثاني: الطائر يطير.
3 – المثال الثالث: أجري لأنني رأيت شيئا لآكله.
4 – المثال الرابع: يخرج «كانط» دائما على الساعة الخامسة للتنزه.
5 – المثال الخامس: يخرج مصاص الدماء ليلا.
لتبيان المثال الأوّل نقول: خروجي من السكن أي إزاحتي أو تنقلي يتناسب معه حلول الليل، فالخروج يفيد تغيّر الكل: كل الليل، كل المدينة، كل الريف.
بالنسبة للمثال الثاني: طيران الطائر في موسم الهجرة، حركة تنقل، أي تغير في الكل، تغيّر مُناخي.
بالنسبة للمثال الثالث: أركض لأنني رأيت شيئا للأكل، هذه إزاحة في المكان، وفرق كمون وحفر، بين إحساسي بالجوع وإدراك موضوع الأكل، يتساوى الكمون، حينما أتغذى ومن ثمة يتم انتقالي من حالة إلى حالة أخرى…
لا يوجد في الواقع انتقالات أو إزاحات في حالة محضة في العالم، حركات الإزاحة تُعبّر دائماً بالطبيعة عن تغيّر في الكل وبعبارة أخرى حركات الإزاحة في الفضاء تعبّر عن تغيّرات كيفية أو تطورية، وكل إزاحة تجد علتها في اهتزاز أو تغيّر في الشدّة أو الطاقة يتأثر به الكل. والسؤال الذي طرحه «دولوز» في هذه الحيثية لماذا لا نشعر به ونظن أنّ الحركة مستقلة عن الفضاء؟ يعود ذلك أننا نأخذ الأشياء مأخذ المقاطع الساكنة وعليه ُنقدم على تمييز ثنائي للعالم، من جهة الكيفيات ومن جهة أخرى الكميات؛ مثال عن الكيفيات إحساسي باللون الأحمر، إحساس داخلي أو شعور بسيط أجده في نفسي؛ مثال عن الكميات تمثل كل ما هو متعلق بالموضوعات الخارجية والتي ندركها باعتبارها محددات كمية لامتناهية الانقسام، وعلى أساس هذا التمييز الكيفي – الكمي،نعتقد أن ما هو كيفي هو شعوري، والذي يعود إلى الأشياء هو الحركة التي لا تنفك عن الانقسام، هذا الذي عهدناه، غير أن «برغسون»، ينظر إلى الأمر بنظرة مختلفة، فهو يرى أوّلا أنّ الكيفية هي اهتزاز، تغيّر في الطاقة أو الشدّة، توجد في شعوري كإحساس بسيط، أي نعم، ولكنها توجد أيضا في المادة كاهتزاز وكيفية في الاهتزاز. إنّ اللون الأحمر صيغة للاهتزاز ما، وعندما نقول الضوء يحمر فهذا تعبير عن حركة اهتزازية، وبهذه الصفة نكون قد تجاوزنا الثنائية المذكورة سلفاً. كل ما تقدم من أفكار إنما هو تأكيد على المقولة البرغسونية والتي أعلن عنها أعلاه والتي تقول بأن الحركة تعبير عن الديمومة، أي أن كل حركة إزاحة أو تنقل ومن ثمة وقوع تأثر أو وجد للعالم، بشرط أن يؤخذ [ الكل ] باعتباره ما يقع على أرض الواقع،وباعتباره مختلفا عن الأجزاء، ولا ينبغي أن يوضعا، الكل والجزء، في مستوى واحد،الأجزاء توجد في الفضاء، والكل هو الزمن الواقعي، مادام الكل ليس معطى أو قابلا للانعطاء، إنما الموضوعات هي المعطاة. هناك استعارة تردد كثيراً منذ القديم تقول ان الكائن الحي عالم صغير، لذا يشبه العالم، وإذا كان الكل مغلق على نفسه، كذلك الحي مغلق على نفسه بالطبيعة،وهو صورة للكل، بالنسبة «لبرغسون» تعني هذه المقولة أن الحي مفتوح على الكل، والكل انفتاح بالمطلق. بالإمكان غلق أي نسق وذلك بعزل (اقتلاع) بعض الأشياء، فينشأ نسق مغلق اصطناعيا، وهذا ما يفعله العلم بالأساس، حيث يقوم بفعل الاقتلاع ليعزل أشياء عن الكل، بغية إدراجها في مجموعة -ensemble- ويرمي من وراء هذا الى صياغة معادلات، هذه الكيفية في التناول هي المسؤولة عن قطع حركة الإزاحة، لكن بالرغم من هذا الطوق فإن أي نسق ينبغي أن يكون مفتوحاً في تصور «برغسون» في جهة من الجهات وليدلل يعطي المثال التالي: إذا أردت أن أحضّر كأسا مُحلى، أنا مجبر أن أنتظر حينا حتى يذوب السكر في الماء، هذا مثال عن نسق مغلق اصطناعيا، وإنجاز لحركة إزاحة أو نقل والتي تتم حتى وإنْ استعنت بملعقة فعليّ الانتظار لكي يذوب السكر في الماء، قد أسرع في العملية غير أن هذا لا يهم كثيراً، ففي كل نسق مغلق اصطناعيا، هناك على الدوام فتحة لتدخل الزمن. وصفوة القول أنّه ينبغي التمييز بين ثلاثة مستويات تنتمي إلى الصورة:
المستوى أ: الأشياء – الموضوعات- في الفضاء، تؤخذ الأشياء مأخذ الأجزاء؛ بينما الكل يمثل الانفتاح والتغيّر.
المستوى ب: حركة الإزاحة في علاقة بالأشياء أو هناك مناسبة بينها وبين الأشياء في الفضاء، من خلال رد الأشياء إلى الديمومة، الإزاحة تعبّر عن اضطراب عميق.
المستوى ج: الكل يُكافئ الديمومة
وعليه فإنّ الحركة تؤدي وظيفتين، فهي ترد الأشياء إلى الديمومة أي الكل وترد الكل إلى الأشياء، بشرط أن يكون بين هذه المستويات الثلاثة تواصل .
بعد هذا، يجد «دولوز» نفسه، ملزماً تحت وطأة الأفكار السابقة، التطرق والتكلم عن مؤلف من مؤلفات برغسون، ونقصد كتابه «ديمومة وتزامن» والصادر عام 1922، والذي أوصى أن لا يُعاد طبعه، ولحسن الحظ أنّه لم يُلتزم بما أوصى، فأعيد طبعه مجددا، في الظاهر يبدو أنّ الكتاب قد خصّصه لانتقاد نظرية النسبية «لأينشتاين»، لكن في الواقع، مقصود «برغسون» هو تقديم واقتراح ميتافيزيقا جديدة مواكبة ومناسبة للعلم المعاصر، فكل علم جديد ينبغي أن تقابله ميتافيزيقا جديدة تضاهيه وتؤازره، إلا أن «أينشتاين»(15)، لم يدرك هذا المنحى، وأي قول بأن «برغسون» امتنعت عنه الأفكار الرياضية أو الفيزيائية، قول مردود على صاحبه، لأن الرجل مُلم وعلى اطلاع واسع بالمسائل الرياضية والفيزيائية،لاحظ برغسون أنّ «أينشتاين» يتحدث على الدوام عن تزامن اللحظات، وكان يُفترض أن يتحدث قبل هذا عن تزامن للتدفق –flux- وفي تصور «برغسون» كل تزامن للحظات يستلزم مسبقا تزامنا للتدفق، بغية التوضيح يُقدّم «برغسون» هذا المثال، نظير مثال الكأس الماء المحلى: أنا على ضفة نهر، أعاين ثلاثة تدفقات: التدفق الأوّل متعلق بانسياب الماء في النهر، التدفق الثاني متعلق بتدفق مجرى حياتي الداخلية أو ما يُسمى بالحوار الداخلي، التدفق الثالث متعلق بطائر يمر. أنا تارة أدرك التدفقات في حالة اجتماع وتارة أخرى أدركها في حالة انفصال كل تدفق على حدة..حتى ليمكن أن نستعير عبارة «الكوجيتو» لا لنقول أنا أفكر، بل لنقول أنا أدوم ، والذي يسمح لي، بهذا هو شعوري باعتباره عنصراً حيوياً. ورغبة منا لمزيد من الوضوح والتدقيق قدر المستطاع بخصوص أطروحة «برغسون» الثالثة نقول القول بصيغة الإجمال: ليس فقط اللحظة هي قطعة ساكنة للحركة، بل الحركة هي قطعة متحركة للديمومة، والفكرتان متضامنتان،بما أنّ الحركة هي قطعة متحركة للديمومة، لأنها ترد الموضوعات المعزولة أو القابلة للعزل للديمومة التي تعمل ككل، وترد الديمومة العاملة ككل إلى الموضوعات، حيث ستنقسم الديمومة إلى ديمومات أصغر.
وفي الأخير هل كل هذا له علاقة بالسينما؟ أو بعبارة أخرى هل لما جاء به «برغسون» خاصة في أطروحته الثالثة نتائج أو مخلفات على صعيد السينما؟
صورة السينما صورة لحركة تتألف من أشياء –موضوعات- وحركات وكل أو ديمومة، تقوم وظيفة الصورة الحركة برد أو إرجاع الأشياء أو الموضوعات إلى الديمومة وعلى إثر هذا تنقسم الديمومة إلى ديمومات أصغر تبعا وموافقة لمقدار الأشياء أو الموضوعات داخل إطار الصورة أو ما يسمى باللغة الفرنسيةle cadre–، والمفاهيم السينمائية الأكثر شيوعاً:
1- ضبط الصورة le cadrage- -: وهو تأليف لنسق مغلق اصطناعيا، يتم فيه صب موضوعات وشخوص صباً اختيارياً
2- المشهد:le plan–: حركة نسبية مركبة تُقام بين موضوعات، والذي يقابلها التقطيع أو ما يُسمى باللغة الفرنسية le découpage— والذي هو تعيين للحركة النسبية المركبة المقامة بين موضوعات
3- التركيب: le montage هو عملية إحالة أو رد المشهد إلى كلٍّ، وذلك بواسطة الحركة في الفضاء والذي يُفترض أن تُعبّر عنه ، أي أنْ تعبّر عن هذا الكل.
بالنسبة للمخرج بازوليني(16)، المفاهيم الأساسية للسينما تكمن في ثلاث:
أ- السينام – الموضوعات السينمائية- : تعيين الموضوعات والشخوص التي تدخل في المشهد.
ب- المشهد: قد جرى تعريفه
ج- المشهد التسلسلي المثالي: يحيل إلى الاستمرارية السينمائية على افتراض أنّ هناك تتاليا للأفلام، غير أنّ «بازوليني» لا يستعمل هذا النوع من المشاهد، ويعتبره مدعاة للملل، فهو في نظره استمرارية تحليلية لجميع الأفلام.
باعتبار السينما هي الصورة-الحركة يتم فيها رد الأشياء إلى كل، وترد هذا الكل إلى الأشياء، كان من المرتقب أن يقترح «دولوز» بعض الأفلام لتبيان أحوال الحركة في السينما:
– مشاهد سينمائية عن حركة الإزاحة المعبّرة عن الديمومة: مشهد نزهة السكير في المدينة، تعبير عن ديمومة التحلل والتعفن..
– مشاهد أخرى عن حركة في الفضاء ترد مجموع الأشياء المقصّه اصطناعيا إلى الديمومة، و ُقدّم «دولوز» فيلم «لولو» بوصفه مثالا عن حركة في الفضاء تُرجع مجموع الأشياء المقصه اصطناعيا إلى الديمومة، وتحديدا حينما يتحدث عن مشهد وجه «جاك الباقر» المبتسم ثم وجه «لولو» الجميل، لتنتقل عدسة الكاميرا إلى خنجر جاك ووجهه الذي تحوّل إلى التبرم، المنبأ عن قصد «جاك» لقتل «لولو» الجميلة، هذا المشهد المركب يُمثل عملية تحلل وتعفّن. ليسرد أمثلة أخرى في هذا الاتجاه من بينها فيلم من أفلام المخرج «ألفريد هتشكوك» (17) تحديدا مشهد تقديم الكأس المسموم من قبل الزوج لزوجته..
عندما يُقدّم «دولوز» هذه المشاهد السينمائية بوصفها أمثلة عن حركة إزاحة معبّرة عن ديمومة أو عن حركة إزاحة تُرجع مجموع الأشياء المقصه اصطناعيا إلى ديمومة؛ فإنه يقصد تلك المشاهد التي قد التقطت بالكاميرا المتحركة لا الثابتة والتي استخدمت في المرحلة الأولى من التصوير السينمائي، والتي قامت على التقطيع الفضائي للمشاهد، أما التقنية الجديدة، أي تقنية الكاميرا المتحركة، فتقوم على الزمنية، بمعنى آخر، أنّ المشهد الواحد يحتوي على أكثر من مشهد.
ينتقل «دولوز» بعد ذلك للحديث عن نوع من المشاهد والتي تتخذ صفة الحيوية والتي تأتي خاصة في آخر الأفلام، وبواسطتها يأخذ الفيلم هويته أو سمته إن صحّ التعبير، مستنداً في هذه الجزئية على أفكار نُقاد سينمائيين أمثال «ريفات»(18) و»أستريك» و»ألكس»، فهؤلاء عندما تستوقفهم مشاهد، يتساءلون حول طريقة انتهاء المشهد السينمائي عند بعض المخرجين الكبار أمثال «روسيليني»(19) والذي سعى إلى الحصول على الحركة السينمائية المحضة أو ما يسمى بالموت الطبيعي للمشهد، باعتبار أن الزمن يؤول إلى الانتهاء.
آخر ملاحظة يقدّمها «دولوز» في محاضرته الثانية والتي تطرّق فيها إجمالا إلى تصورات الفيلسوف «برغسون»، بدأها بطرح تساؤلات تدور حول واقعية السينما، إن السينما تبدو للرائي شيئا يجافي الواقع مجافاة صريحة،فهي على حدّ تعبير أحد السينمائيين، هي مجرد لفة شريط،يغيب فيها كل واقع ، وإنْ وُجِدَ فهو في دماغ المتفرج، فقلة الواقعية طابع يستغرق الفيلم السينمائي؛ فما هي الطريقة التي يتم فيها استحضار كلّ من خلال مشاهد سينمائية مقترحة – مع الأخذ بعين الاعتبار هذا الكل غير موجود سينمائيا-؟
يرى دولوز أنّ هناك ثلاث مقاربات سينمائية، في هذا الصدد، المقاربة الروسية، والمقاربة الفرنسية، والمقاربة الألمانية:
1 – المقاربة الروسية: وهي مقاربة جدلية للحركة، تقوم بين المشاهد معارضات ومن خلال تقنية المونتاج، ينبثق الكل.[أفلام أينزشتاين(20)] 2 -المقاربة الفرنسية: وهي مقاربة كمية للحركة، وتتمثل في صبّ أكبر قدر ممكن من الحركة في المشهد الواحد.[أفلام لاربييه(21) و كانس(22)] 3 – المقاربة الألمانية: مقاربة تراهن على إبراز الشدّة أو الكثافة في الحركة، التي تُظهر تعفناً وانحطاطاً وسقوطاً، فالحركات في المشاهد تتزامن مع عملية التعفن والاضمحلال وخير مثال على ذلك فيلم «ستروهايم»(23)، المعنون «الطمع»(24)، وكل هذا يتم بطبيعة الحال بفعل تقنية المونتاج.
إنْ رغبنا في التوقف لنستوقف سير أفكار جيل دولوز، فما هي النتائج التي قد نستجليها مما تقدّم من أفكار ورؤى:
أ- نتائج عامة: نقتصر على ذكر واحدة نراها مهمة في نظرنا: قوة الفكرة الفلسفية الواحدة تقاس بمعايير محددة من بين هذه المعايير جدّة الفكرة وقدرتها على التعبير بوسائل ناجعة، أسلوب واضح المعالم منسجم مع الموضوع المثار، لغة غنية وحيوية تستند إلى الوقائع المعيشة وعلى الأمثلة العملية الموجهة.
ب- نتائج خاصة: نقتصر على ذكر واحدة تبدو لنا ذات قيمة: المتتبع لسير الأفكار ولدلالات الألفاظ قد يتوصل إلى حكم، وإنْ كان حكما لا يرقى إلى مستوى الأحكام اليقينية-. أن ما سيكون عليه أمر السينما ومن تأثير فعلي على أصعد عدّة، قد وجُد كامنا وبالقوة في مؤلفي «برغسون» ومؤلف «كانط» أي في كلّ من «مادة وذاكرة» و»التطوّر المبدع» و»نقد ملكة الحكم».. ( الجزء الأول- يتبع)
الهوامش
1- فيلسوف فرنسي من مواليد 1925، توفي سنة 1995 ، من مؤلفاته « ما الفلسفة»..
2 - سينما :» اختصار لكلمة cinématographe- : أي التسجيل الحركي- حرفيا المعرب) و هذه الكلمة المتعددة المعاني تدل في الوقت نفسه على الأسلوب التقني و إنتاج الأفلام ( عمل في السينما ) و عرضها ( حفلات سينمائية ) و قاعة العرض ( ذهب إلى السينما ) و مجموع المؤلفات المفلّمة مصنّفة في قطاعات؛ كالسينما الأمريكية، و السينما الصامتة و السينما التوهمية والسينما التجارية « ص 16، عن: ماري تيريز جورنو، معجم المصطلحات، تحت إدارة ميشيل ماري، ترجمة فائز بشور، بدون دار، بدون طبعة، بدون تاريخ. و تمضي ماري تيريز في القول بأن كلمة سينما تلحق بها محمولات ك: سينما التحريك أو سينما الرسوم المتحركة، سينما البدايات أو سينما الآونة الأولى و تسمى أيضا السينما المبكرة و الممتدة زمنيا من لحظة اختراع السينما سنة 1895 إلى غاية نشوب الحرب العالمية الأولى، و السينما المباشرة و هي عبارة من نسج إدغار موران و جان روش، السينما المشوبة cinéma impur طالب الناقد السينمائي أندريه بازن بهذا التعبير و تبناه في مقال مشهور عنونه :» في سيبل سينما مشوبة ، دفاع عن الاقتباس» ، السينما الجديدة cinéma novo، سينما صرف cinéma pur ، سينما الحقيقة، سينما سكوب، و مكتبة الأقلام cinémathèque .
–3 فيلسوف فرنسي من مواليد 1859، توفي سنة 1941، من مؤلفاته «التطور المبدع»..
4- اقتباس عن Gilles Deleuze, Le Bergsonisme, Quadrige / Puf , 1ᵉ éd : 1966, 3ᵉ éd Quadrige : 2004, Paris ,pp01,02 ترجمة شخصيّة.
5- فيلسوف ألماني من مواليد 1724، توفي سنة 1804، من مؤلفاته « نقد العقل الخالص»..
6- فيلسوف و رياضي و دبلوماسي و لغوي .. ألماني من مواليد 1646، توفي 1716، من مؤلفاته «كتابات فلسفية».
7- زينون الإيلي فيلسوف إغريقي- ما قبل سقراطي- ولد حوالي 490 ق،م و توفي حوالي 430 ق،م، اعتبره أرسطو مبتكر الجدل،اشتهر بمفارقته الرامية للتدليل على استحالة الحركة.
8- فيلسوف إغريقي ولد حوالي 384 ق،م و توفي حوالي 322 ق،م. من مؤلفاته «الميتافيزيقا»..
9- فيلسوف إغريقي ولد حوالي 428 ق،م و توفي حوالي 348 ق،م. من مؤلفاته «الجمهورية»..
10- عالم ألماني ولد سنة 1571 و توفي سنة 1630، أول من وضع قوانين تصف حركة الكواكب..
11- عالم إيطالي ولد سنة 1565 و توفي سنة 1642، من مؤلفاته «ساجياتوري»
12- فيلسوف و عالم رياضيات فرنسي من مواليد 1596، توفي سنة 1650، من مؤلفاته «تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى»..
13- هو إتيان جول ماري ولد سنة 1830 و توفي سنة 1904 ، طبيب و فيزيولوجي و مخترع فرنسي..
14- فيلسوف رياضي بريطاني من مواليد 1861 و توفي سنة 1947 من مؤلفاته «مبادئ الرياضيات»..
15- فيزيائي و منظر من مواليد سنة 1879 و توفي سنة 1955 ، صاحب نظرية النسبية الخاصة و العامة..
16- كاتب و شاعر و صحفي و مخرج سينمائي و كاتب سينمائي إيطالي من مواليد سنة 1922؛ اغتيل سنة 1975، من أفلامه «الطيور الشريرة و الطيور الضعيفة» و «ليالي عربية»..
17- مخرج و منتج و كاتب سينمائي بريطاني من مواليد 1899، توفي سنة 1980، من أفلامه «الطيور»..
18- ناقد و مخرج سينمائي فرنسي من مواليد 1928، توفي سنة 2016، من أفلامه «جسر الشمال»..
19- مخرج سينمائي و تلفزي إيطالي من مواليد 1906، توفي سنة 1977، من أفلامه « روما، مدينة مفتوحة» يعد من أهم ممثلي الواقعية الجديدة في السينما..
20- مخرج سينمائي و منظر روسي، يعتبر أحد مؤسسي «المونتاج، التركيب» برفقة «كريفيت» و «كانس»، ولد سنة 1898 و توفي 1948 من أفلامه «الإضراب»..
21- مخرج سينمائي و شاعر و حقوقي و منظر سينمائي، فرنسي، من وراد التلفزيون الفرنسي، ولد سنة 1888 و توفي سنة 1979، من أفلامه «المتمردة».
22- مخرج و كاتب سينمائي و منتج فرنسي من مواليد 1889، توفي سنة 1981، من أفلامه «نابليون»..
23- ممثل و كاتب سينمائي و مخرج أمريكي من مواليد 1885 و توفي سنة 1957، من أفلامه «جنون نساء»..
24- فيلم صامت أمريكي لعام 1924، تأليف و إخراج «ستروهايم»، اقتباس عن رواية «فرانك نوريس»..