بشكل أسبوعي، تنشر جاكلين عقيقي، وهي مقدمة برامج في قناة السومرية العراقية تعرف نفسها بوصفها "عالمة فلك"، تنبؤاتها لكل الأبراج في الجوانب المهنية والعاطفية والصحية على صفحتها الخاصة بمنصة فيسبوك التي تضم نحو 1.47 مليون متابع، عادة ما تحصل منشورات عقيقي العادية على أربعمئة أو خمسمئة إعجاب، لكن منشورها الأسبوعي عن الأبراج تحديدا يتلقى أكثر من أربعة إلى خمسة أضعاف هذا الرقم من الإعجابات.
أما على يوتيوب فإن حلقة توقعات عقيقي لأهم أحداث العام الفائت، التي قدّمتها على مدى أكثر من ساعة وربع، شوهدت أكثر من 2.7 مليون مرة، وهذه ليست حالة خاصة على أية حال، فكل عام تُشاهَد حلقة تنبؤات الأبراج والتاروت، التي يُقدِّمها الإعلامي المصري عمرو أديب، أكثر من مليون مرة، وتعمل برامج في كل القنوات التلفزيونية المصرية تقريبا على استضافة "خبير أبراج" ليحكي لنا عما سنراه من أحداث خلال 12 شهرا قادمة.
قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كان قسم الأبراج مقدسا في معظم الصحف اليومية، ما زال يُقدَّم في صورة جدول صغير يعطي نحو نصف سطر لكل برج، لذلك كان اهتمام معظم الناس مُنصبًّا فقط على هذه الفقرة القصيرة جدا، ومن أراد التعمق منهم، وهم نسبة قليلة جدا، كان عليه شراء أحد كتب الأبراج من باعة الجرائد.
لكن مع انتشار الإنترنت، وما تلاه من ثورات التواصل الاجتماعي، أصبح الأمر على درجة من العمق، وبدلا من نصف سطر تمكّن كل الناس من أن يتعلّموا صفحات كاملة عن صفات أبراجهم الطبية والسلوكية وموقفهم في العلاقات مع الأصدقاء أو الأقارب والأحباء، كذلك انتشرت تطبيقات الأبراج على الهواتف الذكية، التي تُقدِّم لك تفاصيل برجك الفلكية أو ما يسمى "خريطة المولد" (Birth Chart)، وتُنبِّهك بتنبؤات يومية مُفصَّلة مبنية على مواضع النجوم والكواكب، من جانب آخر انتشرت الاستشارات المتعلقة بهذا الأمر عبر الرسائل في منصات عدة بداية من واتساب إلى ماسنجر.
يمكن القول إن هذا كان سببا في انتشار أكثر توسُّعا للأبراج في عالم اليوم، خاصة أن الجرائد الورقية كانت عادة نطاق اهتمام فئات عمرية تبدأ من الثلاثينيات، أما الآن فيمكن أن تجد صورا مناسبة لكل الأعمار تقريبا من توقعات الأبراج، خاصة فترة المراهقة، وفي هذه الفئة العمرية الحائرة تحديدا فإن عالم الأبراج هو وسيلة مثالية للتعرف على ملامح الشخصية، وعلى الجنس الآخر كذلك، حديث بسيط يبدأ بـ "ما برجِك؟" يمكن أن يطول لساعات، خاصة لو كانا البرج نفسه.
لكن على الرغم من ذلك فإن طبيعة العصر الرقمي تُتيح الأبراج وخدماتها بشكل أكبر للناس مقارنة بالجرائد والمجلات، لكن هذا لا يُفسِّر إقبالهم عليها. يطرح ذلك تساؤلا مهما في الحقيقة، عمر الأبراج نحو 2500 سنة وما زالت تلقى قبول الناس بصورة أكثر كثافة من ذي قبل، وعلى الرغم من أن العلماء فنّدوا هذه الظاهرة في أكثر من موضع، فإن ذلك لم يُقلِّل من انتشارها، أحد الأسباب هو أن تفنيدات العلماء لا تصل إلى الجمهور بحجم وصول الأبراج إليهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في الواقع فإن كاتب التقرير، بوصفه مؤسس أحد أكبر النوادي الفلكية الافتراضية في الوطن العربي، يتلقى هذا السؤال بشكل دوري.
على سبيل المثال، لا يعرف الكثيرون عن تجربة "شون كارلسون"، الفيزيائي بمعمل لورنس باركلي للفيزياء، سنة 1985، وانضم إليها 28 مُنجِّما من ذوي الشأن، تقوم التجربة على فكرة دراسة 100 حالة بتحديد مواعيد ميلادهم بدقة ورسم الخريطة التنجيمية الخاصة بتموضع الشمس والقمر والكواكب والكوكبات لحظة ميلاد كلٍّ منهم، بعد ذلك أُجريت اختبارات نفسية مُفصَّلة لشخصيات هؤلاء الأفراد المشاركين في التجارب.
الآن توضع هذه البيانات، بدون أسماء عليها، أمام المُنجِّمين، ويُطلب إليهم توفيق أبراج الأشخاص مع الاختبارات النفسية الخاصة بهم. نُشِرت الدراسة في الدورية الشهيرة(1) "نيتشر" لتؤكد أن ادعاءات المُنجِّمين لم تكن نتائجها في كل حال من الأحوال أكبر من نتائج المصادفة البحتة. لم يستطع المُنجِّمون أن يُوفِّقوا بين ملفات الاختبارات الشخصية وتواريخ الميلاد.
تجربة أخرى(2) شهيرة قام بها متخصص علم الاجتماع الكمِّي ديفيد فاوس، حينما قرّر أن يبحث عن أي أثر لأهمية الأبراج في نتائج 10 ملايين حالة زواج في بريطانيا، سواء بالاتفاق أو التنافر، حسب ما تقوله كتب التنجيم وتتفق عليه عن الأبراج التي يُفضَّل أن تتوافق في العلاقات مع بعضها، لكنه للأسف لم يصل إلى شيء، أنثى الأسد إذن قد تصلح أو لا تصلح للزواج من رجل العقرب، الأمر يتوقف على الكثير من الأشياء بالطبع، لكن الأبراج ليست أحدها.
من جانب آخر، فإن الجوانب النفسية للأمر يمكن أن تعطينا فهما أقرب للحقيقة حول انتشار الأبراج، في تلك النقطة دعنا نرجع من جديد إلى العقيقي، التي تخاطب برج الجوزاء قائلة إنه في هذا الأسبوع، وهو الأخير في يناير/كانون الثاني 2021 بينما يُكتب هذا التقرير، "يفتح لك المخلصون الأبواب المناسبة لك وتتغيّر الأجواء نحو الأفضل، فتعرف الوفرة والنجاح والأوضاع الجيدة".
أول ملاحظة يمكن أن تلتقطها في عوالم الأبراج هي الكلام الواسع أو الفضفاض، ستجد حديثا عن أن الحمل له قلب طيب لا يستطيع الكُره، حيث يمكن أن يُسامح أعداءه بعد سلسلة من الضرر المتكرر، وأن الأسد مبدع وعاطفي وإيجابي في تعاملاته، وأن العذراء وفيّ وحكيم وعاقل، وكلها صفات يمكن أن تنطبق على أي شخص بدرجة ما كانت كبيرة أو صغيرة، لكنْ هناك حيلتان نفسيتان تجعلاننا نؤمن بأن تلك هي فعلا سماتنا.
الأولى هي ما نسميه بتأثير بارنوم، أو تأثير فورير(3) (Forer effect)، ويقول إن معظم الناس يميلون إلى قبول أي وصف فضفاض للشخصية على أنه يصفهم بدقة، دون أن يُدركوا أن هذا الوصف نفسه يمكن أن ينطبق أيضا على أي شخص آخر.
وكان برترام فورير، النفساني الأميركي وصاحب هذ الاصطلاح، قد أقنع الطلبة في عدة فصول دراسية أنهم سيخضعون لاختبار شخصية جديد من إنتاج إدارة قسم علم النفس، ومطلوب منهم أن يساهموا في تقييم دقته عبر اجتيازه ثم تقييم النتائج، فإذا كانت شخصياتهم تتفق بالفعل مع نتائج الاختبار فسيعني ذلك أن القسم قد نجح في مهمته والاختبار دقيق، لكن بعد إتمام تلك الاختبارات أهمل فورير إجابات الطلاب، وأعطى كلًّا منهم ورقة بها الكلام نفسه على أنها وصف لشخصيته نتيجة للاختبار الذي اجتازه.
تضمّنت توصيفات الشخصية التي اقترحها فورير جملا مثل: "أنت بحاجة إلى الحب والتقدير"، "تنتقد نفسك بنفسك"، "لديك بالتأكيد بعض نقاط الضعف في شخصيتك، ولكنك عادة ما تقوم بتعويضها"، "لديك إمكانات وقدرات لم تستثمرها بعد لصالحك"، هل تلاحظ التشابه بين هذه الجمل وما تقوله توقعات الأبراج؟ إنه الشيء نفسه تقريبا، والغريب أن اتفاق الطلاب حول مدى جودة، بل وعظمة، هذا الاختبار ودقة توصيفه لشخصياتهم حاسم، حيث أعطى 40% منهم درجة كاملة للاختبار (5 من 5) وفي المتوسط كان التقييم 4.2 من 5.
أما الحيلة النفسية الثانية فهي ما نُسمِّيه(4) "النبوءة المُحققة لذاتها"، وتعني التنبؤ الذي يجعل من نفسه صحيحا بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل أن تقول لزميل لك قبل اختبار القدرات في إحدى الجامعات مثلا إنك تعرف أنه سيرسب، هنا سيتولّد لديه شعور شديد بالخوف من الرسوب، فيتسبّب ذلك في حالة توتر تمنعه من الانتباه في الاختبار فيرسب بالفعل. رسوبه لم يكن بسبب أنك توقّعت ذلك، لكن لأنك دفعته لكي يرسب بالفعل.
في عالم الأبراج كل ما تحتاج إليه إذن هو تنبؤ واسع فضفاض، يمكن تركيبه على أي شيء، سيقول البُرج إنك سوف "تحصل على حب جديد هذا الأسبوع"، ثم ترى فتاة ما، أية فتاة، فتسعى لتحقيق النبوءة دون أن تدري، تحاول التقرب منها، ثم تقول لنفسك إن النبوءة تحققت، لكنك أنت مَن حققها مُتعمِّدا.
الأمر إذن أنك مَن تنحت من شخصيتك بحيث تتناسب تماما مع قالب تنبؤات الأبراج وليس العكس، لكن لأن السيالات العصبية تجري في أدمغتنا بسرعات هائلة، فإنك لا تُدرك ما حدث للتو، ويبدو الأمر أنك رأيت تصوُّرا ما لأحد الأبراج يحكي عن طبيعة شخصيتك، ثم وجدته بالفعل في شخصيتك، لهذا السبب فإن الأبراج تبدو ساحرة بالنسبة لنا، لكن هل تعرف متى تكون ساحرة أكثر من أي وقت آخر؟! في أوقات التوتر واللا يقين.
صدرت دراسة صغيرة(5) قبل نحو أربعة عقود من الزمن في دورية "بيرسوناليتي آند إندفيدوال ديفرانسز" قد أشارت إلى أن الناس يميلون إلى اللجوء إلى المُنجِّم وتنبؤاته أثناء مرورهم بدرجات من القلق الناتج عن مشكلات في العمل أو العلاقات، وبالتالي يمكن أن نتوقَّع أن الأمر -على مستوى اجتماعي كلي- يمكن أن يرتبط بالظرف المجتمعي الراهن.
خُذ الوضع على سبيل المثال في العالم العربي، خلال عشر سنوات مضت بعد الربيع العربي كانت التغيرات السياسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في أوجها، عدم الاستقرار كان الوسم الرسمي لكل شيء تقريبا في حياتنا، حكومات تتغير وعملات تنهار وأناس طالما وثقنا في قدراتهم على دعمنا بآرائهم الحكيمة تبيّن أنهم كانوا كغثاء السيل، وضعنا ذلك في حالة شديدة من التوتر المستمر، واللا يقين في كل شيء تقريبا.
لكننا، نحن البشر، كائنات تكره اللا يقين، تود دائما أن تتحكم في العالم المحيط قدر الإمكان، ولأن ذلك مستحيل الحدوث فإننا طوّرنا آليات نفسية كثيرة للتكيُّف مع ذلك، منها مثلا(6) "وهم التحكم" (Illusion of control) ويعني إعطاء نفسك احتمالات أكبر في قدرتك على التحكم بأمور تقول الحقيقة الموضوعية إن الاحتمالات فيها أقل من ذلك، هذا هو ما يدفع البعض للاستمرار في المشاركة في مسابقات المليون والمليار واليانصيب وإلخ، لأنه في أعماقه يظن في نفسه قدرة على التحكم في أمر بهذه العشوائية.
في تلك النقطة تحديدا يأتي دور الأبراج، ويمكن أيضا أن نضم إليها الهوس العربي الحالي باختبارات الشخصية مثل "مايرز بريجز" الذي يُعَدُّ صورة للأبراج لكن تتخذ شكلا علميا، وكلاهما يلعب دور القادر على التحكم في مستقبلك، ووصفه بدرجة من الدقة، حينما يتنبأ البرج الخاص بك بحب قريب، أو يقول اختبار الشخصية إنك قادر على المرور خلال مهن مثل الطب أو الهندسة، فإنك تُجهِّز نفسك لهذا المستقبل بدرجة من اليقين، درجة كنت تتمناها في أعماقك، كنت تريد فقط أن يقول أحدهم إن مستقبلك محدد سلفا وبقي أن تذهب لتُحقِّقه.
للأسف لا نمتلك دراسات كافية عن مدى شيوع الظاهرة في الوطن العربي، لكن قراءة سريعة لمشاهدات يوتيوب والتلفزيون ومتابعات فيسبوك وتويتر، وأغنية الفنان الأكثر شهرة في الوطن العربي "عمرو دياب" لبرج الحوت، يمكن أن تُعطيك إشارة عن مدى انتشار الأبراج النجمية في مجتمعاتنا العربية حاليا مقارنة بعقود مضت، لكن الأكثر إثارة للانتباه دائما هو حينما تسأل أحدهم عنها، الإجابة عادة ما ستكون: "أنا لا أؤمن بالأبراج، لكنه الفضول فقط يدفعني لنظرة قصيرة هنا أو هناك".
في تلك النقطة تتضح فكرة مهمة، فالأبراج -بالنسبة للكثيرين- ليست بالضرورة صحيحة، وهو أمر يزيح عن كاهلهم مشكلات دينية لأن الإسلام يُحرِّم التنجيم القائم بالأساس على ادعاء معرفة الغيب، لكنها -أي الأبراج- قد تكون فقط مفيدة، تعطيهم هذه الدرجة من السلام الذي ينشدونه -عبر هذا الفضول- في عالم محكوم جيدا، شخصياتهم فيه واضحة، ومستقبله معروف سابقا.
بل قد يمتد الأمر إلى ما هو أعمق من ذلك، فبحسب تقرير(7) أصدرته مؤسسة والتر طومسون عام 2016، فإن المجتمعات البشرية أصبحت، بشكل متزايد، تميل إلى الاهتمام بالممارسات السحرية والروحانية بوصفها ردة فعل على وضع عالمي تحكمه الدراسات العلمية والبيانات الضخمة والشفافية الفائقة للويب، وبحسب التقرير فإن هذا النمط قد رُصِد من قبل بوصفه ردة فعل على التنوير والعقلانية والمنهج العلمي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث ظهرت الحركة الرومانسية التي دفعت الناس للاتجاه ناحية الحدس وما هو خارق للطبيعة.
هل يمكن أن يُفسِّر ذلك الانتشار المتزايد، في العالم بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص، للعلوم الزائفة مثل البرمجة اللغوية العصبية وعلوم الطاقة والفينج شوي وقانون الجذب وغيرها من الممارسات؟ يمكن للإجابة عن هذا السؤال أن تميل ناحية "نعم"، خاصة حينما تعرف أن هذه الممارسات ترتبط حاليا بحركات دينية معاصرة مثل "العصر الجديد" (New Age) والفكر الجديد (New Though).
يعتقد أتباع هذه الحركات(8) الدينية أن هناك علوما أو أسرارا خفية تختص بها النخبة من العلماء والمفكرين الذين يتلقّون علمهم بالحدس والكشوف الشخصية وليس الوحي. في الواقع، كانت إحدى الدراسات(9) قد جادلت أن الانتشار المتنامي للاهتمام بالأبراج في بريطانيا يرتبط أيضا باهتمام مُتنامٍ بتلك الحركات الدينية، التي ترتبط بالأبراج بوصفها بالأساس تُروِّج لدرجة من الترابط بين كل شيء في الكون، وهو ما تقوم عليه الأبراج أيضا.
في تلك النقطة، فإن المُنجِّم، ومدرب التنمية البشرية كذلك، هو أشبه ما يكون برجل دين معاصر يرتدي بزة أنيقة ويقول إن كل شيء متصّل ببعضه، كل شيء محكوم، فلا تقلق من الوباء أو التغير المناخي أو الحرب القادمة في الشرق الأوسط، ضد كل "لا يقين" يحيط بك، لدى هؤلاء "يقين" مقابل!
المصادر
1. A double-blind test of astrology
2. Ten Million Marriages An Astrological Detective Story
3. The Barnum Effect
4. Self-Fulfilling Prophecy and The Pygmalion Effect
5. People who consult astrologers: A profile
6. الوهم.. لِمَ تعتقد أنك ستقوم بالأمور أفضل من الآخرين؟
7. Why Are Millennials So Into Astrology? – The Atlantic
8. التنمية البشرية.. بهذه الخطوات يتم تزييف الحقائق
9.Prophecy, cosmology and the New Age movement: the extent and nature of contemporary belief in astrology