كتاب من تأليف يوسف شلحت (1977-1917)، والذي يصفه البعض بأنه مؤسس علم الاجتماع الديني العربي، صدر عن دار الفارابي بلبنان في العام 2003، وقد تناول من خلاله الكاتب أهم الجوانب المتصلة بالظاهرة الدينية من منظور علم الاجتماع. وسنعرض فيما يلي لأهم الأفكار والأطروحات التي تضمنها هذا العمل البحثي النفيس:
أولا: العناصر الأساسية للديانة
يشير الباحث إلى العناصر الأساسية التي تشكل قوام أغلب الديانات، وفي مقدمتها التمييز بين فئتين: الحلال، والحرام. فالحرام يحيل إلى الممنوع والمقدس الذي لا يجوز انتهاكه. أما الحلال فلا يُفهم معناه إلا بنقيضه أي الحرام، فهو شيء غير مقدس وغير محرم. هذا بالإضافة إلى عنصر العقائد بوصفها وسيلة اعتمدتها الديانات لتحفظ نفسها من أي شك منطقي أو إمكانية للنظر العقلي.
وتعد الأساطير مكونا أساسيا في عدة ديانات، إذ تحيل إلى "مجموعة تخيلات وتصورات عن الآلهة والدنيا، وعن علاقات الفرد بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة، عبر عنها الإنسان بلغة شعرية، يمدها خيال قوي وثاب". إن الأسطورة ما تلبث أن تتضخم وتتشعب حتى تتحول إلى حقيقة بنظر معتقديها. كما عمد الإنسان القديم إلى إسقاط معايناته لأحوال مجتمعه على الكون والعالم الغيبي، فصوَّرَ لنا الآلهة وهي في حالة صدام وصلح وحياة وموت وغير ذلك من الصفات البشرية، ومن ثم فالأسطورة تعبر عن أحوال النظم الاجتماعية والعوائد والعقائد السائدة فيها. وصولا إلى عناصر أخرى مشتركة بين الديانات مثل: الصلاة، الذبيحة، النفس، المعبد، القبر.
ثانيا: النظريات المفسرة لنشأة الديانات
سعى المؤلف إلى التنقيب عن العوامل الاجتماعية والنفسية والعاطفية المفسرة لظهور الديانات، بدءا بالطوطمية التي تعد أول ديانة اعتنقها البشر في نظر العديد من الباحثين، بحيث كانت تدين بها القبائل البدائية التي تحيط طوطمها بالعبادة والتقديس، ويرمز الطوطم إلى "حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويتَسَمَّوْنَ باسمه ويعتقدون أنه جدهم الأعلى وأنهم من دم واحد".
ومن هنا يمكن اعتبار الشعور بالخوف السبب الرئيسي في نشأة الديانات، فقد كان الإنسان البدائي يقف حائرا وعاجزا أمام الظواهر الطبيعية التي تداهمه (فيضان، زلزال... إلخ) والحيوانات المفترسة التي تفتك به وتقض مضجعه، الشيء الذي جعله يقدسها ويعبدها اتقاء لشرها وجلبا لمرضاتها، لأن تفكيره البدائي كان قاصرا عن الإتيان بتفسير علمي منطقي لتلك الظواهر.
وفيما بعد، انتقل البشر من تقديس الطبيعة (الطوطم) إلى الاعتقاد بوجود النفس التي تسير الكائنات الحية وتتسبب في وقوع الحوادث، فطفق الإنسان ينسج الأساطير حولها ويقدم القرابين للسحرة الذين يدَّعون القدرة على التواصل مع عالم الأرواح. وهكذا فإن الإيمان بوجود قوى روحية كان المقدمة للاعتقاد بوجود آلهة خلع عليها إنسان تلك الحقبة أوصافا بشرية، فظهرت الديانة وحل الكهنة محل السحرة.
كما تناول الكاتب آراء بعض الفلاسفة في السر وراء نشأة الأديان والتأثير الذي تمارسه في أتباعها، إذ يرى نيتشه أن شقاء الإنسان في العالم الدنيوي هو الذي أدى به إلى نشدان السعادة والحياة المثالية في عالم أخروي متخيل للتعويض عن شقائه وعجزه الدنيوي. أما إميل دوركهايم ذهب إلى أن المجتمع هو سبب نشأة الديانة، ذلك أن تماسك وائتلاف أفراده يُعزى في نظر الإنسان المتوحش إلى قوة روحية جبارة.
ثالثا: العوامل المؤثرة في الديانة
ثمة جملة من العوامل المؤثرة في الديانة والتي جعلتها تختلف من مجتمع إلى آخر مع أنها واحدة من حيث الجوهر، ومن بينها نذكر ما يلي:
أ- العامل الجغرافي:
أشار ابن خلدون إلى تأثير قساوة الطبيعة والطقس في أحوال الديانة المتبعة، فكلما كان الطقس معتدلا اتصف أهلها بالاعتدال في معيشتهم وديانتهم، وكلما ابتعد الطقس عن الاعتدال انعكس ذلك على أهل الديانة فكانت طباعهم جافة غليظة. كما يرى فرازر أن الأساطير الدينية التي تنسجها الأمم تتأثر بالمحيط الطبيعي الذي تعيش فيه، فسكان الأقاليم الحارة غالبا ما تجدهم يتحدثون عن القحط والجفاف، في حين قلما تدور أساطيرهم عن قصص مثل الطوفان والعواصف البحرية. وقد فطن مونتيسكيو أيضا إلى ذلك حين لمح إلى أن ديانة مثل الإسلام يصعب أن تنتشر في أقاليم باردة مثل القارة الأوروبية لكونها تعكس في صميمها ثقافة بدوية صحراوية. غير أن الكاتب يشير إلى أن العامل الجغرافي بدأ يفقد أهميته نسبيا بعد تطويع الإنسان جزئيا للطبيعة بفضل منجزات العلم الحديث.
ب- العامل السياسي:
كثيرا ما يتم تسخير الدين لخدمة أغراض سياسية بحتة كتلك التي تتعلق بالاستقلال القومي لشعب ما، مثل تشبث إيرلندا بالمذهب الكاثوليكي تلافيا للذوبان في إنكلترا البروتستانتية، وتبني الفرس للمذهب الشيعي بهدف التحرر من التبعية لحكم الأمويين السنيين. وهنا يقول أنطون سعادة: "أرادت الجامعة الدينية أن تحول دون نشأة الأمم، ولكن الأمم عدلت الدين ليوافق نزعاتها القومية". كما يبرز أثر العامل السياسي على نحو واضح في تسخير الحكام المستبدين للدين من أجل بسط سلطانهم على الرعية وإخضاعها.
ج- العامل الاقتصادي:
فسر كارل ماركس ظهور البروتستانتية بالتطور الاقتصادي في وسائل الإنتاج الذي أفضى لاحقا إلى بروز الرأسمالية، وعلى النقيض من ماركس، رأى ماكس فيبر أن البروتستانتية هي التي أدت إلى ظهور الرأسمالية بالنظر إلى أن تعاليمها تحث على العمل وبذل الجهد لجلب مرضاة السماء خلافا للكاثوليكية التي تشجع على الزهد والقناعة.
رابعا: قوانين التطور الديني
يعرض الباحث لبعض القوانين التي تحكم تطور الديانات، وفي جملتها ما يلي:
أ- رقي الديانة وتقهقرها:
يرى بعض الباحثين أن الدين يشتد عوده في المجتمعات القريبة من البداوة، بينما تضعف الرابطة الدينية في المجتمعات المدنية الحديثة حيث يغدو الاهتمام بالماديات وتأمين البقاء هو الهاجس الأساسي وليس الروحانيات الدينية.
ب- قانون التوحيد الديني:
يشير بعض المختصين إلى وجود علاقة بين التوحيد الديني والتوحيد السياسي، حيث يفضي الإيمان بوجود إله واحد إلى إرساء سلطة سياسية مركزية واحدة يتبع إليها مختلف أفراد الأمة.
ج- قانون الاتساع الديني:
إن الديانة تتسع لتشمل أيضا المعتقدات والشعائر الدينية القديمة للديانات السابقة عليها، وهذا ما يصدق أيضا على الديانات الإبراهيمية التي استعارت بعض المعتقدات الموجودة في الأساطير الدينية القديمة (قصة الخلق، ملائكة، شياطين، طوفان ... إلخ)، وأسبغت عليها مفرداتها الخاصة.
وفي الختام، يضيء يوسف شلحت على الآفاق المستقبلية للدين في ضوء التطور الفكري والعلمي الذي زحزح الكثير من المفاهيم والتصورات، إذ يشير إلى أن الديانة في الأمم المتقدمة ارتقت من الطور المادي إلى الطور الروحاني في إطار العلاقة الشخصية بين المؤمن وخالقه، إذ ما عادت تنظم شؤون السياسة والاقتصاد ومجالات الحياة المادية بفعل العلمانية التي ضمنت مساواة جميع المواطنين أمام القانون بقطع النظر عن معتقدهم. كما تنبأ الباحث بأن الدين سيتخذ طابعا فلسفيا لا يقيد حرية الأفراد، ويخلع عنه بالتالي عباءة الأساطير والطقوس العقيمة.