كتاب ألفه المفكر الأمريكي إريك هوفر (1898- 1983)، خرجت طبعته الأصلية إلى النور في العام 1951، في حين صدرت نسخته المترجمة إلى العربية سنة 2010 عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وقد ترجمه إلى العربية عبد الرحمن القصيبي.
يعد هذا الكتاب بحق أهم عمل بحثي عن الحركات الاجتماعية، وتحديدا التنظيمات الشمولية كالنازية والبلشفية بحيث صدر المؤلف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكن نتائج الدراسة يمكن تعميمها لتغطي سائر الحركات الاجتماعية القديمة والمعاصرة نظرا إلى ما تنطوي عليه من سمات مشتركة من حيث طبيعة أتباعها وعوامل جاذبيتها وسيرورة نشاطها.
أولا: المحبطون
تستمد الحركات الجماهيرية قوتها من رغبة المحبطين في التغيير الجذري حتى إذا كان فشلهم ناتجا عن عوامل ذاتية مرتبطة بعيب في شخصيتهم ولا صلة لها بالواقع الخارجي، وبذلك فهي تتغذى على نزعات الإحباط واليأس والشعور بفقدان المعنى: "إن الإيمان بقضية مقدسة – هو - إلى درجة كبيرة – محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا".
ثانيا: الفقراء
إن أولئك الذين اعتادوا حياتهم البائسة لا ينضمون في الغالب إلى الحركات الجماهيرية، إذ ينظرون إلى فقرهم المدقع على أنه مصيرهم المحتوم الذي لا يتزعزع، ولا يملكون طموحات وأمان عظيمة، فمجرد الحصول على وجبة دسمة يعد إنجازا كبيرا بالنسبة لهم. وفي هذا الصدد يورد الكاتب: "يبلغ التذمر أعلى درجاته حين يكون البؤس محتملا، أي حين تتحسن الأوضاع على نحو يسمح بالاعتقاد بإمكان تحسنها أكثر فأكثر". فقد لاحظ دي توكيفيل أن العشرين سنة التي سبقت قيام الثورة الفرنسية شهدت زيادة غير مسبوقة في مستويات الرخاء المادي.
ثالثا: متى تزدهر الحركات الاجتماعية؟
تزدهر الحركات الاجتماعية حين تضعف روابط الاجتماع التقليدي (العائلة، القبيلة، العشيرة... إلخ) التي توفر ملاذا آمنا وتعويضا نفسيا للمحبطين والبؤساء عندما تكون قوية ومتآزرة. فحين تتفكك عرى تلك الروابط التقليدية، تقدم الحركة الثورية البديل الذي يُشعر الفرد بعمق الانتماء والمعنى. ومن هنا، فإن سر نجاح الحركة ليس العقيدة أو الوعود الساحرة، بل قوة تنظيمها التي تلم شتات المحبطين وتحولهم إلى مجموعة مترابطة ومتضامنة، ولعل ذلك ما يفسر نجاح التنظيمات الشمولية كالبلشفية والنازية. فقد فككت الثورة الصناعية الروابط التقليدية بحيث أدت إلى هجرة القوى العاملة من الأرياف إلى المدن وابتعاد الفرد عن أسرته ومحيطه الاجتماعي المألوف، الشيء الذي أدى إلى تزايد الشعور بالاغتراب وفقدان الهوية والانتماء.
رابعا: عوامل تشجع على التضحية بالنفس
يذكر المؤلف بأن الإنسان على استعداد للمخاطرة بحياته من أجل الحصول على الأشياء التي لا يمتلكها وليس لها وجود فعلي أكثر من استعداده للتضحية والقتال في سبيل المحافظة على ما يمتلكه فعلا. ومن هنا، فإن نزعة احتقار الحاضر الموجودة لدى الأشخاص المحبطين والفاشلين تعتبر من أهم العوامل المغذية للحركات الجماهيرية. وهكذا، فإن القائد الذي ينجح في استمالة الجماهير الثائرة هو السياسي المثالي الذي يتشدق بوعود غير واقعية ولكنها مغرية، وليس السياسي الواقعي الراضي عن ذاته الذي يرمي إلى المحافظة على الوضع القائم.
خامسا: العمل الجماعي وإلغاء الشعور بالفردية
تجنح الحركات الجماهيرية إلى سحق أي شعور بالفردية والتميز لدى أتباعها، إذ تعمل على إذابة وصهر الذات في الكيان الجماعي المنظم، كما تعد كراهية الآخر عاملا مهما لتوحيد أعضائها وتلاحمهم. هذا ما قصده هتلر حين قال: "لو زال اليهود لكان علينا أن نخترعهم". إن الكراهية تتولد من احتقار النفس والشعور بالعجز والفشل، فهي بمثابة تعويض نفسي عن ذلك الشعور المزعج وعقدة النقص تجاه العدو، إذ لا علاقة لها بالتعرض للظلم والحيف: "إن المحبطين يشعرون بكثير من السعادة عندما يشهدون سقوط المحظوظين وفضائح المثاليين. يرى المحبطون في الانهيار الشامل وسيلة لإقامة الإخاء بين الجميع".
وعطفا على ما سبق، يشدد المؤلف على أن تأثير القمع والعنف في الحركات الجماهيرية يفوق من حيث الفعالية الدور الذي تلعبه الدعاية والإقناع الفكري. وإلى جانب ذلك، تستند الحركات الجماهيرية إلى الشك لترسيخ وحدتها وإلغاء أي إمكانية للمعارضة الفردية، فشعور العضو بأنه يقع تحت المراقبة اللصيقة من لدن المخبرين والجواسيس يعزز ميله إلى الانضباط والطاعة حتى يبدد تلك الشكوك.
سادسا: دور المثقفين
إن المثقفين ورجال الكلمة يلعبون دورا بارزا في إطلاق شرارة الحركات الثورية، خاصة حين لا يتم الاعتراف بوضعهم المميز وعندما يعجز النظام القائم أو لا يرغب في استمالتهم: "ما يثير الانتباه هو أن رجل الكلمة النشيط الذي يتابع النظام القائم ويكشف ضعفه وظلمه كثيرا ما يهيئ المسرح (بدون قصد) لا لمجموعة من الأفراد المستنيرين، بل لحركة شمولية همها الأول والأخير فرض الوحدة ونشر الولاء المطلق".
سابعا: الرجال العمليون ونهاية المرحلة النشطة
بعد تجاوز الحركة للمرحلة النشطة الأولى التي تتسم بقدر كبير من الحماسة والتطرف، يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى يتصدر المشهد فيها الأشخاص العمليون الذين ينصرف هاجسهم الأساسي إلى الحفاظ على المؤسسات والتنظيمات الجديدة. ففي هذه المرحلة يجد الأشخاص الطموحون والأنانيون الباحثون عن مناصب ومزايا معينة متنفسا لهم، بينما يقل تأثير الأشخاص المحبطين العاديين الذين كانوا يمثلون وقود الحركة في مراحلها الأولى النشطة، فيحاول النظام القائم الحفاظ على ولائهم عن طريق تقديم وعود براقة تلهب مخيلتهم: "باختصار، الحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة (المثقفون)، ويُظهرها إلى حيز الوجود المتطرفون، ويحافظ على بقائها الرجال العمليون".
خاتمة:
يرى الكاتب أن الحركات الجماهيرية وخاصة في مرحلتها النشطة الأولى تعرف درجة كبيرة من التطرف والتعصب والكراهية، ومن ثم فهي تفتقر إلى التعاطف الإنساني وتقتل الإبداع الفردي، لكن وبرغم مثالبها الكثيرة، يمكن اعتبارها عاملا ضروريا لتحديث المجتمعات وضخ دماء جديدة فيها حين تكون آفاق الإصلاح السلمي والتدريجي مغلقة.