تنطلق العلوم الاجتماعية من محاولتها تقديم فهم للحياة الإنسانية في مختلف مناحيها وأشكالها المعيشة ( اجتماعية ‘ اقتصادية ‘ سياسية ‘ دينية ) حيث تسعى إلى الوقوف على الأسباب والعلل التي تحدث التغير في حياة الأمم والمجتمعات ‘ تحاول الكشف عن بنى المعرفة الفاعلة في وعي الأفراد والجماعات و كيف تؤثر في أفعالهم ونشاطاتهم ؟
فالعلوم الإنسانية التي تعود نشأتها إلى القرن التاسع عشر للمجتمع الأوربي الذي كان قد واكب في التاريخ الغربي ميلاد المجتمع الصناعي ‘ وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي ، كما واكب مجمل التغيرات التي عرفها الغرب الأوربي في سياق تطور المجتمع وتطور علاقات الإنسان بالطبيعة وبالتاريخ ‘ وسعيه لمعرفة مظاهر السلوك الإنساني بمختلف أبعاده [1] كانت قد تأثرت بالعلوم الطبيعية أيما تأثر خاصة بعد أن حققت هذه العلوم إنجازات واكتشافات علمية هائلة في مختلف مجالات الحياة وأدى منهجها التجريبي إلى سيطرة فعالة ومتزايدة على الطبيعية . " أن تكون غالباً , فلا مناص للطبيعية من أن تكون مطيعة " [2]هذا القول المأثور لفرنسيس بيكون الذي توارثته الثقافة الأوربية ‘ يعكس إلى أي حد كانت الثقة في العلوم الطبيعية تسيطر على الفكر الأوربي وتوجه نشاطه البحثي والعلمي ‘ حيث إنه وبعد التقدم المطرد للعلوم الطبيعية في مختلف فروعها ‘ ستحاول العلوم الإنسانية أن تحتذي نموذج العلوم الطبيعية التي تمتاز بالدقة والموضوعية ‘ مما سيجعل " سان سيمون " يطلق على علم الاجتماع اسم " الفيسيولوجيا الاجتماعية " التي يريدها أن تقف على الظواهر الاجتماعية مثلما تتناول العلوم الطبيعية الظواهر الطبيعية [3] ، أما " أوغست كونت " الذي كان قد أطلق على علم الاجتماع مصطلح " الفيزياء الاجتماعية " فقد قال : إن حالتنا الاجتماعية تتحسن بالقدر الذي نستطيع معه التحكم في الظواهر الطبيعية وتعتمد هذه المقدرة ذاتها على معرفتنا بقوانين الظواهر (( معرفة تؤدي إلى التنبؤ ويكون غرضها التدبير ويتجلى التقدم في هذا المجال .
باتساع معارفنا العلمية وبتقدم الفنون القائمة على هذه المعارف )) [4] كذلك فقد وجهت وضعية " كونت " نقدها الحاد لعلم النفس الذي أخرجته من قائمة العلوم الأساسية لأنه يتبع منهجا غير علمي ‘ وهو طريقة التأمل الذاتي [5] الذي سيعمد فيما بعد " وليم فونت " على تجاوزها من خلال إقامته أول معمل تجريبي لعلم النفس في فينيا ‘ يتجاهل منهج الاستبطان لصالح التجريب الذي يقوم على رصد سلوك الإنسان من الخارج ‘ تماما كما يُرصد سلوك الطيور والنمل ‘ حيث أضحت المفاهيم موضوعا للضبط والقياس ومجالا للتعريف الدقيق ‘ ومساحة تسعى العلوم الإنسانية من خلال التماس الدقة فيها إلى اللحاق بالعلوم الطبيعية ‘ بحيث تصل إلى درجة من اليقين العلمي لا تختلف عن مثيلتها في العلوم الطبيعية [6 ] هذا التوجه الفكري الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر و يحتفي بانجازات العلوم الطبيعية التي تعتبر من أهم انجازات الحضارة الأوربية منذ عصر النهضة [7] سيجعل العلوم الإنسانية تتقدم بعد تبنيها منهج العلوم الطبيعية ‘ وقدرتها على أن تتخلى عن النظرات الفلسفية الذاتية والجوانب الأسطورية فيها . ولكن بعد ذلك ‘ وفي أوائل القرن العشرين ‘ بدأت الأزمة في الظهور . لقد تكشف للبعض من أمثال هوسرل وبرجسون – أن الظاهرة الإنسانية ليست كالظاهرة الطبيعية ‘ وأنها من نوعية مخالفة ‘ وأن الظاهرة النفسية مختلفة عن الظاهرة الفيزيقية وأن الظاهرة الاجتماعية ليست شيئاً ملموسا يُقاس كماً . فإذا ما كانت الظاهرة الطبيعية ( كماً ) فالظاهرة الإنسانية ( كيف ) ‘ وإذا كانت الظاهرة الطبيعية يمكن قياسها فالظاهرة الإنسانية تندّ عن القياس ‘ إذا كانت الظاهرة الطبيعية يمكن التنبؤ بمجراها ووقوعها إذا علمنا قانونها وسيطرنا عليها . فالظاهرة الإنسانية تندّ عن القانون وتتميز بحرية باطنة فيها لا يمكن التنبؤ بمجراها ووقت وقوعها أو بأشكالها المستقبلية ‘ إذا كانت الظاهرة الطبيعية موضوعاً‘ فإن الظاهرة الإنسانية أقرب إلى الذات [8] فالقياس والتكميم والتنبؤ وغيرها من مفاهيم العلوم الطبيعية ليس بالإمكان إسقاطها على الإنسان أو تصوره كما لو كان موضوع أو مادة خام للتجربة العلمية وللعلم الذي أخد ينسى عالم العيش وأفق الحياة وهو يجعل من إنتاج البناءات المثالية ومسلسل من القوانين الصورية بديلاً لعالم العيش بحيث يتم اعتبار هذه البناءات وهذه القوانين ذات وجود موضوعي مستقل عن الذات [9] .هذه النظرة النقدية للعلوم عند " إدموند هوسرل " لم تكن تختلف لدي معاصره " فلهلم ديلتاي " الذي كان قد رأى أن تناول الطبيعية البشرية من خلال الإدراك والمعرفة لا يجعلها سوى واقعة فيزيائية ‘ والإنسان من حيث هو يفهم ويختبر الحالات الإنسانية ويقدم تعبيرات لهذه الخبرة ‘ فإن البشرية تصبح موضوعاً للدراسات الإنسانية " التي تقوم من وجهة نظره على الفهم من حيث هو (( إعادة اكتشاف الأنا في الأنت )) [10] هذا النقد الذي وجهته الفلسفة للعلوم الطبيعية لم يكن نقد إبستمولوجي لبنية هذه العلوم ومناهجها فقط ‘ لكن مساءلة أيضا لماهية هذه المعرفة العلمية و جدل علاقاتها بالوجود والحياة ‘ خاصة بعد الأحداث التاريخية التي شهدتها المجتمعات الأوربية متمثلة بالحرب العالمية الأولى والثانية واستغلال العلوم الطبيعية لإنتاج الاختراعات التي ساهمت في خلق العنف والمآسي الإنسانية ‘ مما جعل الوعي الغربي متشككاً في تراث التنوير وإنجازات العلوم الطبيعية ‘ متسائلاً عن قيمة هذه المعرفة وعلاقتها بمفهوم الحياة التي لا تقوم دون معنى يشرط وجودها سواء في بعده الظاهر – الحسي – أو المجرد - مفاهيم وأفكار- فالبعد الغائي الذي تتجاهله العلوم الطبيعية وهي تجعل من الخارج محض موضوعات للتجربة والاختبار ‘ لا يمكن للحياة أن تقوم دونه أو تتطور .
وإذ يتسم عالمنا الحاضر بجملة من الخصائص كالتطور التكنولوجي – التسارع – الانفجار المعرفي – انهيار الفواصل الجغرافية ( العولمة ) وغيرها من الوقائع التي لا بدّ من وعي أثارها على حياة الأفراد ومجتمعاتهم . فإن السؤال المتعلق بمدى إسهام العلوم الاجتماعية في إنماء الثقافة الإنسانية والوعي بالمخاطر التي تواجهها في القرن الواحد والعشرين ‘ يتحول إلى سؤال حول مدى قدرة هذه العلوم على استيعاب التغيرات الجذرية التي تصيب حياة الأمم والمجتمعات بفعل الاختراعات العلمية والتقنية ‘ سيطرة وسائل الإعلام والاتصال على حياة الناس ووعيهم . فالعولمة التي تقيم عالم بدون دولة ‘ بدون أمة ‘ بدون وطن ولا تعترف إلا بالفاعلين " المستهلكون " للسلع بمختلف أشكالها ‘ الذين لا تمنحهم سوى حق واحد هو حق الاتصال ‘ وإقامة حياتهم وأوطانهم ضمن " الفضاء السيبرنيتي " وهو الفضاء الذي تصنعه شبكات الاتصال ويحتوي الاقتصاد والسياسية والثقافة [11] هذه العولمة التي تخلق عالم جديد يجعل الأفراد في حالة من البحث الدائم عن المعنى الذي يسوغ وجودهم و يجعله وجود حر و أصيل . لا يمكن للعلوم الاجتماعية إلا أن تمارس تجاهها نقد جذري ‘ يكشف عن حقيقتها فيما هو أبعد من مقولات التحديث والانفتاح والعقلنة . حقيقة هي جزء من مشروع سيادة الإنسان على الطبيعية و التنوير الذي بلغ مجتمعات السيطرة التي تتلبس طابعا عقلانياً دون أن تستطيع أن تطور المواهب الإنسانية تطوراً حراً [12] أو حتى تتجاوز في علاقتها مع الأخر نزعتها الإثنية التي تجعلها تصنف الحضارات والفكر الإنساني إلى فكر متمدن / متوحش ! ولئن كانت العولمة تفرض طبيعية علاقة غير متكافئة ما بين المجتمعات الإنسانية تقوم على تفوق الغرب في مختلف مجالات الحياة . فإن إبراز هذا التفاوت ( الاقتصادي – السياسي – الثقافي ) ما بين الغرب ودول العالم الثالث يظهر حقيقة تناقض مشروع الحداثة الغربي و ازدواجية المفاهيم والمعايير والقيم التي يعتمدها ‘ فما إقصاء وتغيب البعد الإنساني في النشاط التجاري والتنموي ‘ وتكريس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ‘ مع جعل الربح هو الغاية الوحيدة والقيمة الأسمى [13] إلا شكل من أشكال هذا المشروع الحداثي الذي يفرغ الحياة من كل بعد غائي ويكرسها من حيث هي موضوع للاستغلال والاستخدام . وأمام هذا المشروع الذي يعتمد على العلوم الطبيعية " التجريبية " التي تزوده بمختلف أدوات السيطرة على الحياة ‘ فإن العلوم الاجتماعية التي لم تعد من وجهة نظر "فالرشتاين " تقبل المعالم الفكرية ( الماضي / الحاضر ‘ الشعوب المتحضرة / الشعوب الأخرى ‘ الدولة / المجتمع المدني ) التي قسمتها إلى تخصصات متمايزة في القرن التاسع عشر [14] يبقى إسهامها الأساسي هي محاولة ترسيخ المعرفة و الثقافة الإنسانية التي لا تجعل من زمن التقنية والمعلوماتية وعلوم الاتصال كما لو أنه زمن انقطع عن صيرورة التاريخ والفكر الإنساني وأصبح زمن مستقل و قائم في ذاته .
هوامش :
1 – كمال عبد اللطيف : تأصيل العلوم الإنسانية في الفكر العربي المعاصر , (بدون تاريخ ) ص : 1))
www.aljabriabed.net/n18_02kamal.htm
2 – هانز جورج غادامير : الحقيقة والمنهج , ترجمة : حسن ناظم , على حاكم صالح , الناشرون : دار أويا , طرابلس , الطبعة الأولى 2007 , ص : (54)
3 – غريب سيد أحمد و آخرون : المدخل في علم الاجتماع المعاصر , الناشرون : دار المعرفة الجامعية , القاهرة , الطبعة الأولى 2002 , ص : ( 48 )
4 - ليفي بريل : فلسفة اوغست كونت , ترجمة : محمود قاسم , السيد محمد البدوي , الناشرون : مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , الطبعة ( بدون تاريخ ), ص : ( 261 (
5 – ليفي بريل . المرجع نفسه . ص : ( 7 )
6 – عبد الوهاب المسيري : العلوم الإنسانية والطبيعية البشرية , 2006 , ص : (1)
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions
7 – حسن حنفي : في الفكر الغربي المعاصر , الناشرون : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر , بيروت , الطبعة الرابعة 1990 , ص : ( 247 (
8 – حسن حنفي . المرجع نفسه . ص : ( 248 )
9 – أردلان جمال : نقذ النزعة الموضوعية , بدون تاريخ , ص 1))
www.aljabriabed.net/n04_08ardalan.htm
10 - محمود سيد أحمد : دلتاي وفلسفة الحياة ‘ الناشرون : دار التنوير ‘ بيروت ‘ الطبعة الثانية 2005 ‘
ص : 28) )
11 – محمد عابد الجابري : قضايا في الفكر المعاصر , الناشرون : مركز دراسات الوحدة العربية , بيروت , الطبعة الأولى 1997 , ص : ( 148)
12 - هربرت ماركيوز : الإنسان ذو البعد الواحد , ترجمة : جورج طرابيشي , الناشرون : دار الأدب , بيروت , الطبعة الثالثة 1988 , ص : ( 11 )
13 – محمد عابد الجابري : الشأن الإنساني في عصر الخوصصة والعولمة , بدون تاريخ , ص : (1)
www.aljabriabed.net/n01_02jabriglob.htm
14- إيمانويل فالرشتاين : تراث علم الاجتماع ووعد العلوم الاجتماعية , ترجمة : محمود الذوادي , الناشرون : مجلة إضافات , العددان الثالث والرابع 2008 , ص : (32 )