بالإحالة على بعض الأعمال الهامة والتعاريف المختلفة التي اقترحها علماء الاجتماع الذين يستخدمون مفهوم الاستراتيجية، تتساءل جان فانياني، كاتبة هذا المقال، عن ملاءمة وصلاحية استخدامه في مجال الحركية السكنية للأسر و"اختيار" أماكن إقامتهم. إن الأبحاث المنجزة على ضوء هذا المفهوم تأتي في بعض الأحيان بنتائج مثمرة، شريطة أن يتم تحديد أنواع العقلانية والمنطق الكامن وراء ممارسات الجهات الفاعلة المعنية. وإذا أمكن تحديد الاستراتيجيات السكنية، يجب وضعها في مجموعة أوسع من الاستراتيجيات المتعلقة بممارسات الأسرة والعمل.
على سبيل التعريف، عملت كاتبة المقال في المعهد الوطني للبحث العلمي بفرنسا، كما قامت ببحث حول النشاط المهني والحياة الأسرية للمرأة، وممارسات الخصوبة في الطبقة الوسطى، واختيار السكن في منطقة "إيل دو فرانس". ألفت كتابا بعنوان: "حجم المدن الحضرية ومشاركة الأمهات في القوى العاملة"، وصدر عن احدى دور النشر بأمستردام.
أصبح استخدام مفهوم الاستراتيجية أكثر شيوعا في جميع تخصصات العلوم الإنسانية (ج, كرو، 1989). في علم الاجتماع، على سبيل المثال، يتم استخدامه بغض النظر عن "مجال" الدراسة (استراتيجيات الزواج، استراتيجيات الأسرة، واستراتيجيات الإنجاب، وما إلى ذلك). ويتحدث الديموغرافيون عن استراتيجيات الخصوبة. العديد من الاقتصاديين، بعد تخليهم عن المفهوم التقليدي النيوكلاسيكي للمقاولة، يستخدمون أيضا هذا المصطلح للإشارة إلى "جميع القرارات الأساسية للمقاولة"، التي يمكن تقسيمها إلى استراتيجية مالية، استراتيجية الأعمال، استراتيجية حيال المستخدمين، حيال الدولة، ( بريموند، جيليدان، 1984). يحظى هذا المفهوم كذلك بشعبية واسعة (قديمة) بين المؤرخين وعلماء النفس.
ولكن هل من المناسب استخدام مفهوم الاستراتيجية عندما يدرس الجغرافيون السبل (أو المسارات) السكنية للأسر، واختيار مسكنهم وموقع إقامتهم، كما هو الحال حاليا مع فريق فضاء، ساكنة، مجتمع؟، هل هذا يساعدنا على فهم بعض عمليات الفصل الاجتماعي في الفضاء؟ وكما سوف نرى لاحقا، تطرح هذه األأسئلة بقدر ما ينطوي مفهوم االاستراتيجية على خيار بين البدائل المختلفة، ويمكن للمرء أن يتساءل عما إذا كانت جميع األأسر المقيمة في منطقة باريس (أي سوق العقارات الذي يفرض اكراهات قوية جدا)، أيا كانت بيئتهم الاجتماعية ودخولهم، لديها الموارد - من أي نوع كان - اللازمة لوضع استراتيجيات سكنية.
في مقام أول، أود أن أذكر ببعض التعاريف لهذا المفهوم، وسوف أناقش أيضا بعض الأسئلة التي طرحها استخدام هذا المفهوم في علم الاجتماع، ومن وجهة نظر الأفكار التي طرحت، سوف أتحدث بإيجاز عن الاشكالية التي أطرت صوغ استبياننا بشأن اختيار السكن.
- بعض التعاريف لمفهوم الاستراتيجية: غياب الإجماع
وكما نعلم، فإن مفهوم الاستراتيجية مصدره اللغة العسكرية. ولكن، كما يظهر مقال كتبه ج. كرو (1989)، فقد أصبح يستخدم على نحو متزايد في علم الاجتماع. كان استخدامه المتنامي جزءا من ردود الفعل ضد نوع معين من البنيوية. بالإضافة إلى ذلك، بالنسبة ل أ. جيدنز (1979)، على سبيل المثال، فإن التحليل الذي يتبنى الاستراتيجية يسمح بتجاوز الانقسام الكلاسيكي بين البنية والعمل. ومع ذلك، لا يوجد إجماع حقيقي حول ما يمكن أن يسمى استراتيجية، وطبيعة العلاقة بين الاستراتيجية والعمل، أو العلاقة بين الاستراتيجية والعقلانية. وبالنسبة للكثيرين، لا ينطبق ذلك إلا على أنواع معينة من الإجراءات، تحدث في حالات يمكن التنبؤ بها إلى حد كبير. وهو ينطوي على وجود قرارات واعية وعقلانية مأخوذة من منظور طويل الأمد. فعند كل من وود وكيلي (1982، اللذين ذكرهما كرو)، دلالات تتعلق بمفهوم الإستراتيجية، وهي الفهم، الترابط، المنظورات الطويلة الأمد، والوعي.
صحيح أنه إذا نظرنا إلى الاستراتيجيات على أنها مجموعة من الإجراءات المنسقة أو السلوكيات المترابطة فيما بينها وفقا لهدف أو لأجل التوصل إلى نتيجة محددة (سواء تم وضعهما من قبل الأفراد أو الأسر أو المجتمعات المحلية)، يبدو من الضروري القيام برؤية واضحة نسبيا للأهداف التي يتعين تحقيقها. وفي حالة الأفراد أو الأسر، نرى أحيانا تنفيذ استراتيجيات محددة على أنها كذلك من قبل الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع: ك. نيكول (1988)، على سبيل المثال، أثبتت بوضوح وجود استراتيجيات مهنية مستقلة فيما بين المتزوجات اللواتي يتابعن مهنة قمن بدراستها. وبالمثل، لاحظ (كاستلين-ميونييه، فانياني، 1988)، عندما بحثا أزواجا من الطبقة المتوسطة، أن الأمهات اللاتي لديهن "رأس مال دراسي جيد" غالبا ما يكون لديهن وعي واضح بالأهداف التي حددنها بأنفسهم: فهن يدركن رهاناتها، ويتوقعن ما سيحدث في المستقبل، ويستبقن ويلجأن إلى نوع من حساب "التكاليف والمزايا" لكل بديل يقدم لهم. ولا شك في أنها سعين إلى "تكثير" مواردهن وتعبئة الأصول التي يمكن أن تستخدمنها للتوفيق بين حياتهن المهنية والتزاماتهن الأسرية.
ومع ذلك، وفقا لبورديو (1986، ص 21)، يمكن أن تكون هناك استراتيجيات بدون وعي: فهي "مجموعات من الممارسات والتمثلات التي يمكن تكييفها موضوعيا مع هدفها دون افتراض القصد الواعي من الغايات والتمكن المعلن من العمليات اللازمة لتحقيقها" والتي "يتم تنسيقها بشكل جماعي دون أن تكون نتاج العمل المنسق لقائد الجوق ". يقترح. مناحيم (1988) تعريفا مقربا نوعا ما لمفهوم الاستراتيجية: "نظام من الغايات موصول بنظام من الوسائل التي توجه بشكل فعال سلوكيات وقرارات الفرد، سواء كانت هذه السلوكيات والقرارات هي نتيجة خيار واعي أو كانت، بشكل واضح، نتاجا عفويا للاكراهات الخارجية".
وأخيرا، دعونا نذكر بأن مفهوم الاستراتيجية هو جزء لا يتجزأ من نظرية الاختيار العقلاني، ولا سيما نظرية اللعبة (كرو، 1989، غودار، 1988)، وغالبا ما تتعلق بمسائل الاختيار والسلطة، ولكن أيضا بخصائص التفاعلات. فعلى سبيل المثال، تعتمد استراتيجيات رؤساء المقاولات (استراتيجيات مراقبة الإدارة) اعتمادا وثيقا على الاستراتيجيات التي يضعها الموظفون ونقاباتهم. وفي الواقع، نعتبر بالإجماع تقريبا أن الاستراتيجية لا يمكن تحليلها وإعطاؤها دلالتها الكاملة إلا بالرجوع إلى نظام التفاعلات (الزوجية، على سبيل المثال، التي تؤسس للوحدة المنزلية) الذي تندرج فيه، وإلا إذا كان مرتبطا باستراتيجيات أخرى.
ويمكن لنا كذلك أن نتعامل مع سلسلة من الاستراتيجيات، مترابطة فيما بينها ومطابقة للمنطق نفسه. هكذا بين بولهبيل فيلاك، مثلا، في بحثه حول "استراتيجيات العمل والأسرة للمرأة الجزائرية"، (1989) أن هؤلاء النساء تتابعن أولا استراتيجية زواجية (الزواج من المهاجرين)، ثم، بمجرد استقرارهن في فرنسا، فإنهن تسعين إلى الاندماج عن طريق اللجوء المتكرر الى العمل غير المهيكل (الذي يعطيهن وسيلة للاستقلال المالي) وعن طريق زيادة الاتصالات مع الأخصائيين الاجتماعيين للحصول على معلومات عن حقوقهن في مختلف المجالات. بهذه الطريقة، يؤدين دورا رئيسيا في إدماج هذه الأسر في المجتمع المضيف. فهن لا يريدن فقط الولوج لنمط الاستهلاك، بل أيضا يتطلعن الى ضمان مستقبلهن ومستقبل أطفالهن. وبعيدا عن كونهن سلبيات، فإنها تنفذن الإجراءات وتحسبن على المدى الطويل.
ومع ذلك، يمكن لبعض الفاعلين أن يبرروا أعمالهم بطريقة خطابية من خلال استدعاء الأسباب التي تختلف عن العقلانية التي تم التقيد بها فعلا في هذه الأعمال. ويعتبر مثلا مناحيم (1988)، الذي ميز داخل الأسر بين ثلاثة أنواع من الاستراتيجيات: ميراثية، زوجية وترابطية، أنه من الضروري إجراء مقابلات نوعية معمقة لاختبار الى أي مدى "يكون واقع سلوك الأسرة والتمثلات التي يكونها عنها الفاعلون، قابلة لأن يتم تفسيرها اعتمادا على سلوك الفاعلين الذين يسترشدون بالاستراتيجيات ".
ولكن، من وجهة نظر ما ذكر للتو، وفي اطار هذا البحث، هل يكون اللجوء لمفهوم الاستراتيجية السكنية ملائما؟ هل لهذا المفهوم دلالة في جميع الحالات؟
- إكراهات هيكلية أمام اختيار السكن: هل هناك استراتيجيات سكنية؟
أشارت بونفاليه (1988) في بحثها عن التنقل السكني لفوج من الباريسيين إلى أن "إعادة التوزيع المكاني للسكان في منطقة باريس لصالح الضاحية الكبيرة تمت تحت عدة إكراهات". وبالفعل، اضطرت العديد من الأسر إلى مغادرة مركز باريس لاقتناء أو تأجير سكن في الضاحية يفي بمتطلبات الراحة وبالاحتياجات المالية، خاصة عندما يكبر حجم الأسرة.
ھل یمکننا بعد ذلك أن نعتبر أنھ في ھذا السیاق من التوترات القویة في سوق العقار، یمکن لجمیع الأسر وضع استراتیجیات سکنیة؟ وإذا اعترفنا بأن الجميع، أيا كان دخلهم، لهم هامش نسبي للمناورة في هذا المجال (الذي يختلف وفقا لعدد معين من المعلمات)، فإن استخدام هذا المفهوم قد يظهر، للوهلة الأولى، مبررا. وإذا عدنا إلى ما قيل أعلاه، فإن الحجج التي تؤيد استخدامه، في مجال اختيار السكن وموقعه، يمكن أن تكون على النحو التالي:
- يبدو أن وضع استراتيجية يكتسي أهمية كبرى لكونه ينطوي على جوانب عديدة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرمزية للأسر. في الواقع، الإسكان، ودعم الممارسات اليومية والأسرية، هما منتوج "يحتل فيه المكون الرمزي مكانة قوية بشكل خاص ... (هو) قد يكون أيضا فرصة للاستثمار الاقتصادي وشكل من أشكال الادخار ، وفرصة للاستثمار العاطفي بحيث يحتضن مشروعا لاعادة الانتاج البيولوجي والاجتماعي. »(بورديو، 1989).
- يمكن للأفراد أو الأسر إجراء حساب لمواردهم المالية والمقارنة بين أنواع مختلفة من الموائل (الفردية أو الجماعية)، ثم توجيه أبحاثهم وفقا ل "حقل الممكنات" السكنية واستكشاف مختلف المساطر للظفر بالولوج الى السكن. ويمكنهم أن يتوقعوا على المدى البعيد (في علاقة بمشاريعهام الأسرية والمهنية) وأن يقوموا بعمليات "حساب" منطقي لتكاليف وفوائد كل بديل يقدم إليهم. إن توفير المال، وطلب المساعدة من الأسرة، ودراسة خطط التمويل، والإعانات العامة المختلفة التي لهم الحق في الاستفادة منها، واللجوء لمؤسسات عمومية ومصرفية طلبا لخدمات مستحقة، كل ذلك يمكن اعتباره مثل مراحل مختلفة من الاستراتيجية التي تهدف، على سبيل المثال، إلى أن تشكل ميراثا "آمنا" وقابلا لأن يسلم للأطفال، في حالة الحصول على ملكيته. في هذه الحالة، قد يكون من الأنسب الحديث عن الاستراتيجيات الميراثية (غوتمان، 1987).
- الرهانات من حيث الموقع غالبا ما تكون ذات أهمية قصوى (وقد تتجاوز الرغبة في الحصول على الملكية)؛ ذلك أن الموقع يتحكم في طرق تدبير الحياة الأسرية والمهنية. هذه الرهانات "ملموسة"، يمكن بالتالي تفسيرها في كثير من الأحيان: السكن بالقرب من العمل، القدرة على تسجيل الأطفال في المدارس الراقية، الإقامة في حي منتم لتجمع سكاني موافق لنمط الحياة المرغوب فيه، وما إلى ذلك. ومن ثم، يمكن للأسر تحديد وترتيب الأولويات، والسعي إلى التغلب على العقبات التي قد تتطلب منها إجراء تعديلات وإعادة توجيه أبحاثها.
.غير أن هذا لا يعني أن الأسر لديها مشاريع واضحة ومحددة جيدا، وأنها "راسخة" نسبيا في الحياة الاجتماعية أو مندمجة في سوق العمل، وأن لديها الوسائل لتعبئة موارد من جميع الأنواع (وخاصة في منطقة باريس) وأن لديها أصولا لمواجهة الإكراهات القوية التي يواجهونها في سوق العقار؟ ويعتقد أباليا وأوكلير(1988، ص 13) أن المهاجر "لا يتحكم في وضعه بما فيه الكفاية لوضع اسرتاتيجيات حقيقية". ويعتقد باسيرون (الذي نقل عنه غودار، 1987) أن قدرة الاستراتيجيات تختلف من بيئة اجتماعية إلى أخرى. ووفقا له، في معظم الحالات، نكون ببساطة أمام سلسلة من الحركات التكتيكية.
وقد أظهر كل من غرافمير وبنسوسان (1987)، في دراستهما لعمليات التقييم والمسارات السكنية في أحياء مختلفة من تجمع ليون، أن بعض الأفراد ينفذون استراتيجيات إرادوية للآندماج، مستشهدا بحالة الأسر التي يؤدي العنوان وبطاقة الزيارة بالنسبة لها دورا أساسيا، وخاصة من خلال الرهانات المهنية. بيد أنه من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنهما اختارا دراسة أكثر تحديدا "لأنواع من السكان لهم قدرة نسبية على الاختيار، من حيث الموارد المادية والاجتماعية التي يمكن أن يعبئوها، وهي كافية من جميع النواحي من أجل تحديد الاستراتيجيات والمفاضلات (السكنية والمهنية والاجتماعية) ".
ولكن اللجوء إلى مفهوم الاستراتيجية قد يثبت أنه أكثر إشكالية بحيث أننا قد نضطر أحيانا إلى التعامل مع "عقلنة ما قبلية" وإعادة بناء الماضي بميل إلى تبرير الوضع الحالي الذي يقابل في الواقع سلسلة من الفرص، وهو ناتج عن الاكراهات الخارجية التي كان علينا أن نخضع لها، وتكون لنا في بعض الأحيان مصلحة في حجبها حتى نحتملها نفسيا.
ذلك ما يمكن أن يكون عليه الحال لبعض الأسر "الأسيرة" في الحديقة الاجتماعية والتي تقيم في مساكن بايجار معدل ( Habitat à Loyer Modéré) بعد مشاهدتها وهي تتسلم مفاتيح المنزل بعد عدة سنوات من الانتظار، دون أن يكون مطابقا لأي اختيار. وهكذا، في بعض الحالات، قد نتصور أن مفهوم الاستراتيجية له معنى ضيق جدا طالما أن الاكراهات الهيكلية لا يستهان بها وتقلص من "حقل الممكنات ". وقد يكون الأمر متعلقا بفصل اختيار نوع الموئل عن اختيار مكان الإقامة. إن حالة النساء الوحيدات، "ربات البيوت"، الآويات في ملاجئ النساء ضحايا العنف واللائي ينتظرن في بعض الأحيان عدة أشهر ليتم السماح لهن بالاقامة في مبان سكنية من نوع HLM، (النوع الوحيد من المساكن التي يمكن لهن، في معظم الحالات، المطالبة به)، لها في هذا الصدد ايحاءات خاصة. في دراسة شملت المقبلين على هذا النوع من السكنيات ( الممولة من قبل Direction) (départementale des Affaires sanitaires et sociales، وطرق إعادة إدماجهم اجتماعيا، نجد أن أولئك الذين لديهم نشاط مأجور (كما هو الحال مع معظمهم) غالبا ما يتمكنون من القيام بسلسلة من الخطوات، بشأن مكان الإقامة، والتي يمكن وصفها بأنها استراتيجية: بمساعدة من الرعاية الاجتماعية ، يطرقون أبواب جميع المنظمات (الخصوصية والعمومية ) التي يمكن أن تساعدهم ماليا وأحيانا الشركة التي يعملون فيها حتى يستفيدوا من نسبة1٪ صاحب العمل، يقع تسجيلهم على قوائم الانتظار من طرف وكالات HLM التي تتوفر على سكنيات تقع في المناطق التي يرغبون في الإقامة بها ويقومون بتجديد طلباتهم بشكل دوري.
باعتبار تلك الأسر "أسيرة" للسكن الاجتماعي بسبب قلة مواردها المالية المحدودة، فإنها مع ذلك تستطيع وضع وتنفيذ استراتيجيات فيما يخص الموقع: يشكل هذا الأخير، في الواقع، رهانا رئيسيا ضمن طرق تدبير حياتها اليومية. وما دامت غير قادرة على شراء سيارة، ومسؤولة في الغالب على إعالة أطفال قاصرين، فهي تود الإقامة في مناطق أو أحياء تتوفر فيها المدارس، وتغطيها بشكل جيد شبكات النقل العمومي التي تعتمد عليها في تنقلاتها بما فيها تلك التي يستلزمها الالتحاق بمقرات عملها. هدفها في هذا المجال واضح ومحدد، الرهانات ظاهرة للعيان: ذلك أنه ما دام هامش المناورة ضيقا، تجد (تلك الأسر) نفسها مجبرة قسراعلى وضع استراتيجية سكنية سوف تتحكم في نجاح إعادة اندماجها الاجتماعي، على إثر القطيعة مع حياتها الزوجية السابقة. تضعنا حالة هذه الأسر مرة أخرى أمام الخصائص الأساسية للتعاريف الواردة أعلاه: هناك تحسب واستباق، هناك وجود لأعمال متناسقة ومتماسكة فيما بينها وموزعة على رزمانة زمنية لتحقيق هدف محدد بدقة.
من هذا المنظور، هل يمكننا بعد ذلك أن نعتبر أن الفئات المحظوظة أكثر تحتاج إلى تبني وتنفيذ استراتيجيات سكنية ما دام أن اختيار مكان الإقامة متاح لها في أي مكان، وذلك بفضل مداخيلها؟
بالنسبة للأسر المنتمية للبرجوازية الكبرى والأرستقراطية الغنية، يكون الإكراه الاقتصادي، في الواقع، قليلا، بل منعدما. "عندما تصل الإيجارات الشهرية إلى 15000 فرنك أو أكثر، وعندما يتجاوز سعر شراء المتر المربع الواحد 30000 فرنك، تصبح الاستراتيجية السكنية للوكلاء، القادرين على إنفاق مثل هذه المبالغ على مساكنهم، مستقلة عمليا عن مستوى السعر في سوق العقار ... وهناك منطق اقتصادي آخر لاختيار شقة متوسطة الحجم في نويي (Neuilly)، سعرها يعادل أو يتجاوز السعر الذي يباع به منزل برجوازي كبير وحديقته في بلدة تقع في ضواح ذات جاذبية أقل ". (بينسون، بينسون-شارلو، 1988، 126). بالمثل، وفقا لهذين الكاتبين، "في الوسط المهني مثل هذا الذي يحتله الموظفون السامون، حيث يكون التخطيط الوظيفي حقيقة ملموسة بحيث أن المعنيين بالأمر أنفسهم يشيرون إلى ذلك باستمرار، يكون في وسعنا أن نتحدث عن استراتيجية سكنية". لكن، بالنسبة لهذه الفئات المحظوظة، تبدو الاقامة في "الأحياء الراقية" بباريس أمرا "بديهيا" و لا يظهر على أنها تتطلب، بخلاف الوضع لدى الفئات الأقل حظا، تعبئة جميع إمكانيات وموارد الأسرة. صحيح أن هناك عوائق أخرى تؤثر عليها، ترتبط بضرورات التكاثر الاجتماعي والحفاظ على مكانتها المهيمنة: "ليس أمام الطبقات المهيمنة خيار آخرسوى المجازفة بدرجة من التقهقر، حتى تتمكن من التساكن فيما بينها ". (بينسون، بينسون-شارلو، 1989، 255).
الطبقات الوسطى لديها بالتأكيد موارد مالية أكثر محدودية من تلك الموجودة لدى الفئات السابقة: هل يجب علينا أن نخلص من ذلك إلى أنها "غالبا ما تكون في حالة الاضطرار إلى العيش في فضاء لم تقم باختياره" (بينسون، بينسون -Charlot، 1989)؟ وهل ينبغي عليها، على العكس من ذلك (وربما أكثر حتما من الفئات السابقة) إظهار قدرات استراتيجية قوية على الإقامة حيثما أرادت في حين تلبي تطلعات متضاربة في كثير من الأحيان؟
في الواقع، ضمن هذه الفئات، متطلبات الراحة آخذة في الازدياد وأصبح شرط غرفة لكل طفل فارضا نفسه أكثر فأأكثر. وكثيرا ما يبحث الآباء عن أماكن مناسبة، وفقا لهم، لتعليم أطفالهم، وتقع على مقربة من التجهيزات المدرسية "الجيدة". قد يكون هذا غير متوافق مع رغبة الأم و / أو الأب في الإقامة في وسط باريس، على مقربة من عمله(ا)، على سبيل المثال، أو في سلوك نمط العيش الذي يروق له(ا). الاختيار بين استئجار شقة تقع في مكان ممتاز وامتلاك منزل يمكن أن يكون معضلة. ومن ناحية أخرى، فإن الزوجين يمارسان نشاطا مهنيا بشكل دؤوب، مما يحد من "حقل الممكنات السكنية" خصوصا عندما تكون أماكن عملهما متباعدة. ويمكن أيضا لتمثلاتهما عن مختلف الفضاءات أن توجه اختيارهما. ولذلك، يجب على هذه الأسر في كثير من الأحيان أن ترتب تطلعاتها، وأن تلتجئ إلى سلسلة من المفاضلات كي تصل إلى حل توفيقي مقبول. ومن الصعب عليها في هذه الحالة تجنب استباق عواقب اختياراتها، حتى وإن كانت هذه الأخيرة كلها غير قابلة للتنبؤ بها. يبدو ، مع ذلك، أن تنفيذ استراتيجية (أو سلسلة من "الحركات التكتيكية"؟) أمر معقول. إلا أنه يبدو أن هذا النوع من العمل "الاستراتيجي" (الذي يقوم على منطق مهني أسري سكني متماسك) غير متوافق تماما مع المشاريع الغامضة أو غير المؤكدة المرتبطة بأوضاع أسرية غير مستقرة أو بوضعيات مهنية هشة أو عرضة للتغيير.
- خاتمة
تشير هذه الأفكار القلائل إلى قضايا تستحق بالتأكيد مزيدا من البحث، ولكنها تؤكد بالفعل على الحاجة إلى استخدام مفهوم الاستراتيجية بحذر، على الأقل في مجال اختيار السكن ومكان الإقامة، ما دام بإمكانه تغطية حقائق اجتماعية مختلفة. ومع ذلك، فإن استخدام هذا المفهوم يمكن أن يكون مناسبا في بعض الأحيان، شريطة أن يحدد أنواع العقلانية والمنطق المحايثة لمواقف وممارسات الفاعلين المعنيين. ويبدو أن ربط الخيارات في مجال السكن والإقامة بسلوكيات الأسرة والعمل وأنماط الحياة وأنظمة القيم التي تكمن وراءها خطوة ضرورية ولكنها تقتصي مقاربات منهجية تكاملية (كمية من خلال استخدام المسوح الإحصائية ونوعية من خلال المقابلات المعمقة).
عندما يتم تحديد الاستراتيجيات السكنية، يتعلق الأمر أولا وقبل كل شيء بالأخذ بعين الاعتبار للاكراهات الهيكلية التي تحدد هامش المناورة أمام الفاعلين، وتقيم (بكسرة مضعفة تحت الياء) مواردهم، ثم تضع أفعالهم ضمن مجموعة أوسع من الاستراتيجيات حتى يكون لها معنى تام أو حتى ينظر اليها، في بعض الحالات، باعتبارها أحد أبعاد أو إحدى المجموعات الفرعية لاستراتيجيات أكثر شمولا.