تمارس الدعاية التجارية اكتساحا شاملا لبنيات المجتمعات المعاصرة موظفة لذلك كل من: التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال، تداخل العوالم الاجتماعية ، اتساع السوق الليبرالية المفتوحة، هيمنة ايديلوجيا اقتصاد الوفرة الممجدة لفكرة تدفق المنتوجات المادية، الثقافية والرمزية، وكذلك خضوع أنظمة الإنتاج لاكراهات التسويق وما يترتب عن ذلك من عنف في المنافسة المفرطة المولدة للحروب الاقتصادية.
وسط هذا الفضاء، يصطدم الفرد في حياته اليومية بنسق متعدد من خطابات الدعاية التجارية بشتى اختلافاتها ووسائل إيصالها سواء كانت مرئية، مسموعة أو مكتوبة، برموزها، بإيقاعاتها، بمحتوياتها الثقافية ومفعولها السيكولوجي. انه نسق من الخطابات يخترق العلاقات الخاصة و العمومية و فضاءات الميدان العام، و يتجه نحو إضفاء طابع التتجير Commercialisation على دينامية الحياة الاجتماعية واختراق خطوط دفاع الإفراد والجماعات بغية تدجينهم والتحكم في تنشيط آليات مخيالهم الاجتماعي.
وتوظف هذه الدعاية مجموعة من المعارف العلمية مستوحاة على الخصوص من السيكولوجيا، السوسيولوجيا، العلوم الاقتصادية، علوم التدبير، الفوتغرافيا، الإعلاميات وغيرها. وكأنها توظف بؤرة تلاقي المعارف العلمية، المعيارية والفنية.
ومادامت اكراهات شبكات التسويق أصبحت أكثر تعقيدا من عملية الإنتاج، فان استراتجيات الوصول إلى المستهلك قد تحولت إلى قضية مركزية في انشغالات هذه الأنظمة، ليس فقط للتزاحم الذي تعرفه الأسواق نتيجة تدفق السلع، بل أيضا لحجم الاستثمارات في مجال الدعاية التجارية وتطور منظومة البحث والتنمية فيها، لتحول هذه الدعاية إلى قاطرة لتحريك الإنتاج والاستهلاك، وتكييف وتدجين أنماط التفكير وأنماط العيش والمعتقدات والتمثلات الاجتماعية بما فيها أحلام ورغبات الجماعات والأفراد.
بهذا، تتحول الدعاية التجارية من مجرد "أداة تخلق الرغبة في ما نحتاج إليه" إلى "الحاجة نفسها التي نرغب فيها لاكتشاف ما نحتاج إليه "، إنها تعمل على تحويل المستهلكين الفعليين والمحتملين إلى كائنات مفعول بها، بتقعيد سلوكها وتشكيل تمثلاتها وترسيمات ادراكاتها لكي تتماشى وديناميات أنظمتها الإنتاجية .
هكذا تلعب العلامات التجارية دورا أساسيا في التمييز بين السلع بخلق تراتبية رمزية بين المنتوجات، حيث يمارس الرأسمال الرمزي لكل سلعة سلطة رمزية يكتسبها من قوة سحر العلامة داخل السوق، تلك العلامة التي تميزه عن باقي السلع الأخرى متحكمة بذلك في درجات ولاء الافراد لها.
وتقوم قواعد اللعبة في الاسواق بتشييد عالم من التنافس بين المستهلكين يتسم باللمباهاة والتفاخر الرمزي، عالم يمارس عنفا قسريا أو ملطفا على فئات اجتماعية واسعة يلجا البعض منها إلى خوض رهان التماهي بالتشبث بالعلامات التجارية الأكثر "سموا" تقوق راسماله الاقتصادي. انه حقا عالم يحكمه قانون تراكم الامتيازات الدنيوية الذي تلعب فيه استراتيجيات الادعاءات و التمايزات دورا اساسيا بالترفع عن فئات اجتماعية دنيا والتماهي وتقليد الفئات الاجتماعية العليا. حقا، ان تكون نبيلا، كما ذكره بيير بورديوPierre Bourdieu على لسان جورج ديبي Georges Duby، معناه أن تبدر وان تكون مرغما على التظاهر وان يكون محكوما عليك بالرفعة والبذخ والشموخ.
وتقوم الدعاية التجارية بتكرار خطاباتها الدعائية لنسج سيرورة من الترسيخ والتدجين للأفراد بغية الوفاء للمنتوج وللعلامة التجارية ولمحاربة كل حالات اللامبالاة التي قد يبديها الجمهور. وبهذا المنطق من الاشتغال، تعمل الدعاية التجارية بتنشيط محفزات الاستهلاك وفي نفس الآن تعديل أنماط الحياة اليومية و التحكم في القيم وأنماط التقييم والإدراك والمعتقدات والتفاضل الثقافي .
وفق هذا التصور، فالدعاية التجارية لا تقوم فقط بتشكيل ثقافة السوق وكائن السوق، الذي يتنفس الهواء المركب من الأوكسجين والازوت و الإشهار، وإنما إخضاع فئات اجتماعية مختلفة إلى لإدماج قسري داخل نظام سوسيواقتصادي و سوسيو ثقافي هدفه تغدية آلات الإنتاج والرساميل المالية .
انه نظام من المفارقات الاجتماعية، نظام يحفز على الاستهلاك في مجتمع تقل فيه أيضا الفرص والإمكانيات الاقتصادية لإشباع تلك الحاجيات .وهذا ما ينتج عنه ذلك الاغتراب الاجتماعي الذي عبر عنه البعض بالاستلاب او الجهل المضاعف والذي مافتئ يتنامى مع تنامي دعاية لاتتوقف في الهيمنة على الوعي الجماعي وتطويعه تبعا لحاجيات السلط المالية المصرفية التي أصبح ترتبط قوة وجودها بمدى قوة تحويلها للوجود الاجتماعي برمته إلى مجرد دعاية .
تنتج هذه السيرورة العجيبة، نظام محكم قادر على إنتاج وإعادة إنتاج الرغبات والطبائع والتمثلات وصقلها وتكييفها، بعدما تم تدجين خصوصيات الكائن وهدم خطوط دفاعه. بكل وضوح، نحن أمام عملية دقيقة لتدبير المخيال الاجتماعي للأفراد والجماعات وتحويل الفاعلين الاجتماعيين إلى مفعولين بهم. .
(*) باحث مغربي مهتم بالمقاربات المعاصرة وسوسيولوجيا المهن