لقد كان الفقه كل شيء عند المسلمين، لقد كان بمثابة النظام السياسي للدولة الإسلامية الأولى، إذ أن كل النقاشات السياسية والمعاملات والعلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الإسلامي ترجع إلى الفقه للحسم فيها انطلاقا مما هو مقرر من أدلة وقواعد أصولية وفقهية مختلفة، وكذا انفتاح الفقهاء على الواقع وثقافات الناس المختلفة نظرا لكون المجتمع الإسلامي في مرحلة توسع الدولة اللإسلامية أصبح مجتمعا يجمع بين ثقافات مختلفة، وهذا كله كان له تأثير في المجتمع الإسلامي، وبالتالي تأثير في الفقه الإسلامي من حيث النظر في النوازل وإصدار الفتاوى والأحكام التي تعتبر بمثابة القانون التشريعي للدولة والمجتمع عامة.
وقد كانت هذه الفتاوى تتماشى مع تطورات المجتمع والواقع، وكأني بالفقه هنا، كان يمثل قانون الدولة بلغة العصر، الذي ينظم أحوال الأمة مجتمعا ودولة على حد سواء،" ولعل هذا الدور وأقصد تعبير الفقه عن كل مجالات الحياة كان سببا قويا في انتشاره ورسوخ قدمه في الثقافة والمجتمع الإسلامي"[1]،إذ أنه كان يعالج مجمل القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية داخل الدولة الإسلامية، فقد كانت له سلطة سياسية ذات طابع ديني محض، وقد افلح في التوفيق بين هاتين السلطتين(الدينية والسياسية) إلى حد بعيد، وأصبح الفقه بمثابة القانون التنظيمي للدولة والمجتمع، بحيث أن الفقهاء كانت لهم سلطة وضع شروط الإمامة و إمارة الدولة، وكذا الولاية في الحروب العسكرية والقضاء ونظام الحسبة والحدود والتعازير...، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بجانب المعاملات والإلتزامات في العقود التجارية وماشاكلها في سائر المعاملات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع.
لقد بدا الاجتهاد الفقهي جليا في مجموعة من القضايا والنوازل التي كانت تنزل بالمسلمين ولم يوجد لها نص تشريعي تستند إليه، وغالبا ما ينتقل الفقيه مباشرة إما للقياس إن توفرت شروطه، أو الأخذ بالمصالح المرسلة...
بحيث يبني آراءه الفقهية واجتهاداته انطلاقا مما يظهر له أنه محقق للمصلحة العامة للأمة وموافق لأحكام الشريعة ومقاصدها، خصوصا فيما يتعلق بالمعاملات المالية وكذا أحكام الأسرة، حيث يحرص الفقيه - وقد يكون قاضيا – على حفظ حقوق الناس مع مراعاة مصالحهم وظروفهم الاجتماعية، ولذلك كان الفقيه بمفهومه الحقيقي هو ذلك الرجل الذي تجده يدرس العلوم الشرعية، وإلى جانبها يدرس كل العلوم الأخرى التي قد تفيده في معاينته للواقع كالمنطق والفلسفة والسياسة...، وذلك كله من أجل التوسع والإلمام قدر الإمكان بكل ما من شأنه أن يحقق تصورا عاما للمجتمع الإسلامي، ويساير ظروف الواقع وتطوره.
"ومفهوم الفقه تطور مع تطور المجتمعات الإسلامية وتطور العلوم الإسلامية"[2]، فقد انتقل من فقه يفتي في مسائل الحلال والحرام وتنظيم العلاقت العامة بين الناس، إلى فقه أصبحت لديه سلطة النظر في القضايا الكبرى للدولة ، إذ أصبح الفقيه مستشارا، وقاضيا، ومحتسبا، بل ويلعب أحيانا دور المعارضة. فقد كان الفقيه يصدر فتاوى وآراء فقهية فيما يسمى اليوم (بالقانون المدني، ومدونة الأسرة، والحقوق العينية، والجنايات، والجبايات، والضرائب...)، ونجده أحيانا يعارض بعض القرارات التي يتخذها رجال الدولة في تسيير الحياة والشأن العام للأمة، إذ كان يعتبر جزءا من رجال الدولة وله سلطته داخل مجلس الشورى(البرلمان) ويظهر وجوده بارزا في المشهد السياسي ، فقد ساهم كثيرا في تقرير المبادئ العامة للدولة والقانون المنظم لها( الحرب، السلم، المعاملات، القضاء، الإمامة العظمى...)، ويمكن القول أن الفقيه هو المشرع الذي تلجأ إليه الدولة وهو المرجع الأساس في كل الاستشارات المتعلقة بالقانون الداخلي والخارجي والشؤون العامة للدولة والمجتمع " ومن ثم فمصادر القانون الدولي الإسلامي، هي نفس مصادر الفقه الإسلامي، القرآن، السنة، اللإجماع، القياس، الاستحسان، الاستصلاح.."[3]، وكانت تلك هي المصدر الأول للتشريع العام للدولة إلى جانب مراعاة الواقع وتطور الحياة العامة للناس.
لا شك أن العلماء قد درسوا أحكام الشريعة أصولا وفروعا وتجردو ا لها وتفرغوا تفرغا تاما، وحاولوا مجتهدين أن يفكروا في القضايا والإشكالات التي يطرحها المجتمع محاولين الخروج بحلول مناسبة حسب ما يفرضه الواقع والظروف المحيطة به( الزمان والمكان)،" فإذا تأملنا مثلا في مفهوم الاجتهاد الفقهي الأصولي، وعلى الطريقة التي تكون عليها ثقافتها، وما تفرع عنه أو تضمنه من معرفة أخرى، مثل علم المقاصد، سنجد أن السياسة حاضرة بشكل كبير في التكوين المعرفي لهذا المفهوم"[4]، إذ أن الاجتهاد الفقهي كان غالبا للضرورة السياسية في سبيل مواكبة تطورات المجتمع والانفتاح على ثقافة الآخر المخالف تحت ظل الشريعة الإسلامية، ولأن الإسلام نبذ الفكر الأحادي وفكرة التعصب وممارسة الوصاية، ودعى إلى الفكر التعددي التركيبي الذي تشارك فيه كل أطراف المجتمع عامة.
إن ما يدعونا لتسليط الضوء على هذا الموضوع بالذات، هو محاولة فهم تلك العلاقة التي تربط الفقه بالسياسة والمجتمع، وبمفهوم الدولة بشكل عام، إذ أنه كانت له إسهامات عديدة في تطور الدولة الإسلامية وإعطائها ذلك الطابع الديني، أو الشرعية الدينية التي تزيد من قوتها على المستوى الداخلي والخارجي، ولا يزال الفقه يمارس هذا الدور، وإن بشكل اقل تأثيرا، وذلك بمحاولة ترسيخ ثوابت الأمة في الفكر الشبابي والحفاظ على أحكام الشريعة ومقاصدها العامة، والواقع أن التخوف الوحيد هو اندثار هذا الدور مستقبلا خصوصا وأن الشباب المعاصر أضحى معرضا عن كل ما يربطه بثقافته الإسلامية وبشكل صحيح، أو ربما تلقي بعض الفتاوى من غير أهلها مما يولد لنا التساهل والانحلال أو الغلو والتطرف، أو ما يمكن أن نسميه(أمية الشريعة).
ألم يحن الوقت لأن نعيد الاعتبار لتراثنا الاسلامي الذي يشكل هويتنا الثقافية الحقيقية، شئنا أم أبينا؟، لا بد من أن نعيد النظر في معارفنا الإسلامية، وأن نعيد للفقه مكانته الحقيقية داخل المجتمع، وإن كان اليوم يمارس نشاطه في الخفاء، ولكن نريده أن يظهر جليا لدى العامة، ومنه للقضاء على فكرة التعصب والتكفير المؤدي إلى التفرقة بين المسلمين.
مصادر الإحالات:
[1]مقالات في الفكر والفقه/د.المصطفى الوضيفي/ط1/2010- المطبعة الوطنية- مراكش
[2]الدولة السلطانية / علي حسني/ط1-2005/مطبعةالصباح/الدار البيضاء
[3] المصدر نفسه/ الدولة السطانية
[4]الفقه والسياسة/د.حميد الصولبي/ ط1-2014/المطبعة الوطنية-مراكش