إن الأصول الكلية للشريعة جاءت لأجل تحقيق مقاصد الشارع، وبالتالي فإن كل ما يوافق الشرع من أصول اجتهادية كالمصلحة المرسلة...، وإن لم يوجد مايشهد له بالصحة من الأدلة النقلية، فإنه يعتبر أصلا صحيحا، ذلك لأنه وإن لم يشر الشارع إليه، إلا أنه وافق مقتضى عموم الكتاب والسنة، بل والمقصد العام من التشريع، أي جلب المصالح ودرء المفاسد، فالذي يشهد لمثل هذه الأصول الاجتهادية هو عموم الكليات المصلحية للشريعة.
فإذا كانت هذه الكليات تشهد لهذا الأصل أو ذاك بالصحة والضبط ، فأنه يلزم الأخذ به وجعله أصلا معتبرا من أصول التشريع، لأن الأصول الكلية تبقى عامة تجري على كل ما يوافقها ويحقق المصلحة المعتبرة شرعا.
لقد أنزل الشارع سبحانه الخطاب ليبين للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة على التمام والكمال، وهذا البيان الذي جاء به الخطاب الشرعي إذا فهمه المكلف فهما جيدا سليما أدى به إلى تحقيق مراد الشارع الذي قصده منه، وهو عمارة الأرض وإصلاحها وحسن الخلافة فيها، هذا إذا ما فهم المكلف ماجاء به الخطاب من أوامر ونواهي وأحكام...، فإن هذه الأحكام ليس مقصودة في ذاتها بقدر ماهي وسائل يتوسل بها للوصول إلى تحقيق مراد الشارع من هذه الرسالة الربانية الخالدة. إنه إعمار الأرض وبناء حضارة إنسانية راقية على أسس متينة وقوية تجمع بين المادي والروحي على حد سواء، وتسعى إلى إصلاح أحوال الناس دينا ودنيا، وهذا فيه معنى كمال الشريعة، ولا يبقى إلا الفهم السليم لها، ذلك لأن الفهم السليم يؤدي إلى التنزيل السليم للأحكام، حسب الأحوال والأزمان والأماكن...، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الوقوف على معاني الخطاب ودلالاته واستنباط أحكامه وحكمه. فإن الفقه والأصول وعلوم الآلة من العربية كلها وضعت لأجل فهم الخطاب الشرعي فهما سليما صحيحا بعيدا عن الشبهات والهوى.
وإذا كان الأصوليون قد قسموا الأحكام إلى مايتعلق بالتكليف وما يتعلق بالوضع، فإنما ذلك لأجل وضع خطاطة عامة ومبسطة لأحكام الشريعة حتى يتسنى لهم فهم مقاصدها وغاياتها.
وإنه مما لايخفى على الباحث في اصول التشريع ومقاصده أنه يتجلى له أن الغاية من ذلك هو جلب المصالح ودفع المفاسد والضرر، وإن كان في الحقيقة درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ـ ولست أريد أن أستسرل في الحديث هنا- ،فإن مايعرض للفقيه من نوازل ومستجدات تتعلق بأحوال المكلفين يجعله ينظر فيها بمنظارين:
المنظار الأول: من حيث هي مصالح للخلق في دينهم ودنياهم؛ ولا بد له من ربط ماهو ديني بما هو دنيوي ليستقيم له فهم المصلحة على حقيقتها. وقد قلنا أن هذه الشريعة جاءت لتجعل العلاقة بين الروح والذات علاقة تكامل وترابط.
المنظار الثاني: من حيث هي مفاسد للخلق في دينهم ودنياهم؛ وهنا يمكن أن تتعارض له المصالح والمفاسد وبالتالي فهو مطالب بالترجيح بينها حسب مايقتضيه الحال والمقام، إذ أنه وإن كان يبحث عما يجلب له المصلحة للخلق، فإنه في الآن ذاته يبحث عما يجلب لهم المفسدة، وقد يكون ماعرض له من نوازل يجلب مصالح ومفاسد متداخلة فيما بينها بحيث يتبين له في الظواهر أنها مصالح وفي باطنها قد تكون محققة مفسدة عظمى، والعكس بالعكس، وهو ما يتطلب مزيدا من النظر والتثبت في استصدار الأحكام، ولعل "التكاليف كلها مبنية على الأسباب المعتادة من غير أن تكون الأسباب جالبة للمصالح بأنفسها ولا دارئة للمفاسد بأنفسها، بل الأسباب في الحقيقة هي مواقيت للأحكام ولمصالح الأحكام، والله هو الجالب للمصالح والدارئ للمفاسد"[1]
ذلك لأن الأسباب إنما وضعها الشارع أمارة أمام المتتبع للخطاب الشرعي حتى ترشده للمقصد والمراد من الخطاب.
فلما حرم الشارع الخمر لم يحرمها لأجل مجرد التحريم فقط، فإن حكم التحريم ليس مقصودا في ذاته ولا لعلة الإسكار، بل إنه قصد بذلك دفع المفسدة عن العباد، بل مفاسد تتحقق من تعاطي الخمر وشربه، وهذه المفاسد تتمثل فيما هو متعلق بجانب العبادات، فإن المخمور لا يأتي بالعبادات على وجهها الصحيح، وأخرى من جانب المعاملات، فإن تعطيل العقل بالخمر يؤدي ربما إلى تشتت الأسر وتخريب العلاقات بين الناس، وإذا عم ذلك بين أفراد المجتمع فإنه لا شك سبيل إلى خرابه وهدم أسس، وهو ما يتنافى مع مقصد الشارع من الخلق (الخلافة والعمارة) فانظر كيف أن الشارع قد دفع عن المكلف مفسدة كبرى بتحريمه الخمر، وإذا ما تحقق هذا المقصد، أعني دفع المفسدة، فإنه تتحقق مباشرة المصلحة العامة والمقصد المراد.
وكذلك لما حرم الشارع الربا، إنما حرمه لأنه يجر مفسدة عظمى على الاقتصاد الاسلامي، وذلك بأكل أموال الناس بالباطل، أي عدم وجود العوض الذي هو شرط في البيع الصحيح، وبالتالي فيكون المستفيد الأول من الربا هو الدائن، بحيث إنه يجر له منفعة دون عوض، هذا في ربا النسيئة، أما بالنسبة لربا الفضل فإنه فيه إجحاف وأخذ لأموال الناس مقابل أموال أخرى بزيادة عليها بذريعة أنها تتفاضل عليها من حيث الجودة، وبالتالي فإن الأصولي ينظر في الخطاب الشرعي من ثلاث زوايا:
الزاوية الأولى: من حيث أنه خطاب يحمل حكما معينا.
الزاوية الثانية: من حيث إنه خطاب يحمل دلالات ومعاني معينة.
الزاوية الثالثة: من حيث أنه خطاب يجب أن يفهم حسب ما تقتضيه أوضاع واقع الناس، ذلك لأنه مانزل إلا لأجل ذلك كله.
وبالتالي فإن الأصولي تجده أحيانا يمارس إلى جانب عمله كأصولي، دور الفقيه، ودور المقاصدي، بحيث أنه يحاول أن يقوم بسبرالدليل المراد تقديمه للاستدلال به في نازلة معينة، وفي عملية السبر هذه يكون لا شك يبحث فيه عن أوجه الاستدلال لبناء الأحكام، وهذا هو دور الفقيه، ويبحث أيضا عن الحكمة من الحكم وهذا دور المقاصدي، وهذا يتضح جليا حينما يمارس دوره كفقيه.
خلاصة واستنتاج:
إن فهم الخطاب يكون موجها حسب الأحوال والأشخاص والأوقات كما قال الشاطبي في الموافقات[2]، وعلى هذا فإن المكلفين ملزمين بفهم الخطاب على أفضل الوجوه وأحسنها، وذلك لأجل تنزيله لأرض الواقع حسب ماتقتضيه أحوال الناس، فلا بد من محاولة لفهم جديد ومتجدد للخطاب الشرعي فإن ذلك من شأنه أن يجعل هذا الخطاب واقعا حيا في حد ذاته، بل ونلمس تجلياته في واقع الناس كما أنه لازال وحي ينزل ولم ينقطع، وبهذا المعنى يمكن أن نحقق ماجاء لأجله، وهو كونه صالح لكل زمان ومكان.
القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام- ج1/ص16[1]
راجع الموافقات / ج2 – ص31[2]