على سَـبـيـــــلِ التقدِيـــــــــم:
’’ يتّكِـلُـــونَ عَلى البَــاطِل، ويَتكلَّمُون بالكَذب. قَد حَبَلُوا بِـتَعبٍ، ووَلَدُوا إِثْماً. فَـقَسُــوا بَيْضَ أفْعَــى، ونَسَجُــوا خُيوطَ العنْكَبُــوت. الآكِــلُ من بَيْضِهم يَمُــوت، والتّي تُكسَرُ تَخْرُجُ أفعَــى. خُيُــوطُهم لا تَصِــيرُ ثَوباً، ولا يَكتسُون بأعمَالِهم. أعمَالُهم أعمالُ إِثْمٍ، وفِعلُ الظُّلْمِ في أيدِيهم. أرجلُهم إلى الشرِّ تَجرِي، وتُسرِعُ إلى سفكِ الدمِ الزكيّ. أفكارُهم أفكارُ إثمٍ. في طُرُقهم اغتِصَابٌ وسَحقٌ. طريقُ السَّلامِ لم يعرِفُوه، وليسَ في مَسالكِهم عدلٌ. جعلُوا لأَنفُسِهم سُبُلاً مُعوجّة. كُلُّ من يَسِيرُ فيها لا يَعرٍفُ سَلاَمــــــاً‘‘. هكذا يَردُ في الإصحاح التاسع والخمسين من سِفر إشَعيَاء، وهو ما لا نجدُ أبلغَ منه لوصف أولئك الذّين تحدّث عنهم وليام غاي كار في كتابه "أحجار على رُقعة الشطرنج"[1]. في هذا الكتــاب، الذي اعتمدنا عليه لكتابة هذا المقال، يكشف غاي كار (1895 – 1959) الستار عما أسماهُ بـ "المؤامرة الكونية" التي شرعَ في العمل عليها منذُ سنة 1911 ولم يستطع الوصول إلى حقيقتها إلا في سنة 1956! حيثُ بان واتضح له أن ما يعرفه العالم من حروبٍ وثوراتٍ وفوضى تعصفُ بحياة سكانه ليست سوى نتيجة "مُؤامرة شيطانية مستمرة"، ولا يشك غاي كار في أن هذه المؤامرة قد بدأت في ذلك العالم العلوي الذّي يُسمى بالفردوس حينما عصى الشيطانُ اللهَ وتمرّد على الحقّ الإلهي، حقِّ أن تكون كلمةُ الله هي العُليا. ويُشير غاي كار إلى أن هذه المؤامرة الكونية هي نفسُها التي جاء السيّد المسيح إلى الأرض من أجل التحذير منها.
فالمؤامرة التي يتحدث عنها غاي كار ليست بتلك المؤامرة التي تتصّورها العجائز وعامة الناس، تلك المؤامرة التي تستهدف ديناً أو بلداً أو حكومةً بعينها، بل هي مؤامرة كونية لا تقتصر على نطاقٍ دون آخر، الكلّ هدفٌ ووسيلةٌ لها في آنٍ واحد. ما الذّي يمنع الجنس البشري من العيشِ بسلامٍ متمتعاً بالخيرات التي أتاحها له الربّ؟ هو ما يحاول غاي كار الإجابة عنه بتفصيل شديد في هذا الكتاب الذي لا شك أنه سيثير دهشة واستغراب من سيقرأه.
1 – الخُطــــــوطُ الكُـــبرَى للمُـــؤامَرة:
شاءت العناية الإلهية، عام 1784، أن تقَع في يد الُحكومة البافارية (كانت بافاريا Bavaria حتى عام 1870 إحدى كبريات الدول الجرمانية المُستقلة) وثائق خطيرة تحمل براهين قاطعة على وُجود المؤامرة "الشيطانية" واستمرارها. تخبرنا هذه الوثائق، وكما يحدثنا غاي كار، أن آدم وايزهاوبت Adam Weishaupt الذّي كان إكليروسياً وأستاذاً لللاهوت والقانون الديني في جامعة Engold stadt قد ارتدّ عن المسيحية وتم استئجاره من طرف أسرة روتشيلد لمراجعة وإعادة تنظيم البروتوكولات Protocoles، أي بروتوكولات حكماء صهيون، على أُسسٍ جديدة وحديثة، والتي كان هدفها الرئيسي هو السيطرة على العالم. فقام وايزهاوبت بوضعِ مُخطّطٍ يقوم على تدمير جميع الحُكومات والأديان الموجودة، ويتم الوصول إلى هذا الهدف عن طريق تقسيم الغوييم (اللفظ الذي يُطلقه اليهود على غير اليهود) إلى مُعسكراتٍ متناحرةٍ متصارعةٍ فيما بينها حول عددٍ من المشاكل التي ما تنفك تُولد كل يومٍ، ويقتضي هذا المُخطط تسليح كل تلك المعسكرات بعد خلقها بشكلٍ يجعل الحروب ممكنة وفظيعة في آن واحد.
وتُخبرنا هذه الوثائق أيضاً، أنه في سنة 1776 نظم وايزهاوبت بروتوكولات حكماء صهيون للبدءِ في تنفيذ المخطط الذّي رسموه. بدايةً باللجوء إلى الكذب، أي ادعاء أن هدف المخطط هو الوصول إلى حُكومةٍ عالميةٍ واحدة تنهي النزاعات بين البشر، والتي تتكوّنُ من كبار المقدرات الفكرية والعلمية ممن يتم البرهان على تفوقهم الفكري. وقد استطاع وايزهاوبت أن يضمّ إليه أكثر من 2000 من المتفوقين في مختلف المجالات، فأسس حينئذٍ محفل الشرق الأكبر (المركز الرئيسي للماسونية) لكي يكون مركزاً يجتمعُ فيه رجال المخطط الجديد. كما قدم وايزهاوبت العديد من التعليمات للوصول إلى هدفهم، من بينها: استعمال الرشوة بالمال والجنسِ للسيطرة على الأشخاص الذّين يشتغلون في مراكز حساسة في جميع الحكومات، أما "النورانيون"، وهو اسم يطلقُ على أصحاب هذه المؤامرة، الذين يعملون كأساتذةٍ في الجامعات والمعاهد العليمة فيجبُ عليهم أن يُولوا اهتمامهم بالطلاب المتفوقين عقلياً ليغرسوا فيهم الاتجاه نحو الأُممية العالمية – Internationalisme، أي المخطط الذي وضعه حكماء صهيون للسيطرة على العالم. والذين يسقطون في شباكِ "النورانيين" من الشخصيات الكبيرة يتم استخدامهم كعملاء في الحكومات، بحيث يكون بإمكانهم تقديم النصح إلى كبار رجال الدولة بصفتهم خبراء أو اختصاصيين، لكي يعتنقوا سياسياتٍ تخدُم المخطط. هذا دون نسيانِ السيطرة على الصحافة وكلّ أجهزة الإعلام الأخرى. لكن كيف وصلت هذه الوثائق الخطيرة إلى حكومة بافاريا؟
في عام 1784 أُرسلت نُسخةٌ من هذه الوثائق إلى جماعة "النورانيين" بفرنسا، لكن حامل الرسالة هذه لقي مصرعه أثناء الطريق مما أدى إلى عثور رجال الأمن على هذه الوثائق "التخريبية"، كما ينعتها غاي كار، عند تفتيشهم لجُثته. فتمّ تسليمها إلى الحكومة البافارية التي أصدرت على الفور أمراً باحتلالِ "محفل الشرق الأكبر"، ومُداهمة منازل كبار شخصيات هذا المذهب، فتم إغلاقُ المحفل سنة 1785 واعتبار جماعة "النورانيين" خارجة عن القانون. وفي عامِ 1787 نشرت سلطات بافاريا تفاصيل المؤامرة تحت عنوان "الكتابات الأصلية لمذهب ومنظمة النورانيين" وتم إرسال عدة نسخٍ منها إلى كبار رجال الدولة والكنيسة لإنذارهم، لكن تغلغل "النورانيين" ونفوذهم كانا بالقوة التي تم معها تجاهل ذلك الإنذار. من هنا انتقل نشاطُ النورانيين إلى الخفاء والسر. كما كان هناك تحذيرٌ آخر من طرف أستاذ الفلسفة بجامعة اديمبورغ جون روبينسون John Robinson الذي حاولوا استدراجه لكن لم تنطلِ عليه خدعتهم، فنشر، بعد قيام الثورة الفرنسية، كتاباً بعنوان "المؤامرة لتدمير كافة الحكومات والأديان" سنة 1798، والذّي توجد منه نسختان فقط في أمريكا، لكن تَمَّ تجاهل هذا التحذير كذلك!
أما في عام 1901 فقد وقعت وثائق خطيرة في يد البروفيسور الروسي سرجي نيلوس، وهو أحد أشهر رجال الدين في روسيا وأحد المعروف عنهم شدة تقواهم وورعهم وشغفهم بتحصيل العلم، بعدما فقدها أحد كبار المُرابين اليهود في مخدعِ غانيةٍ، ثم نشرها في كتابٍ له بعنوان "الخطر اليهودي" سنة 1905، وتضمنت هذه الوثائق معلوماتٍ موسعةٍ عن المؤامرة الأصلية. لكن بعد وُقوع الثورة البلشفية تمّت مُصادرة هذا الكتاب وإحراقه وتشديد الرقابة على المطابع حتى لا تعود إلى طباعته مرةً أخرى، بل وتم اعتقالُ نيلوس وسجنه في حبسٍ انفرادي تعرّض فيه لمختلف صنوف التعذيب البدني والنفسي. وهذه الوثائق قسمان: قسمٌ أوّل مطابقٌ لما كان عند وليام جاي كار، وقسمٌ ثَاني كانت فيه إضافاتٌ عديدة لم تكن عند غاي كار، وتتعلق هذه الإضافات باستغلال المؤامرة للنظريات العلمية كالداروينية وللعقائد المادية "الإلحادية"، كما يصفها غاي كار، كالماركسية. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من قبل فكتور مارسدن تحت عنوان "بروتوكولات حُكماء صهيون". وهذا هو نفسه الكتاب الذي اعتمد على جزءٍ كبيرٍ منه وليام جاي كار ليكتب كتابه "أحجار على رقعة الشطرنج" ويكشف أسرار المؤامرة (نجد في بعض الطبعات من هذا الكتاب عنوانا فرعيا تحت العنوان الرئيسي هو "التطبيق العملي للبروتوكولات"). وقد أثار هذا الكتابُ جدلاً كبيراً في إنجلترا أولا ثم في العالم أجمع ثانياً، ويخبرنا غاي كار أن المرابون العالميون عهدوا لتفادي الفضيحة التي كشفت أمرهم إلى شنِّ حملةٍ مُعاكسةٍ تتجلى في توجيه الاتهام "التقليدي" للذي كشف البروتوكولات، ألا هو العداء للسامية!
وتجدر الإشارة إلى أن مركز قيادة المؤامرة كان، حتى أواخر القرن 18، في مدينة فرانكفورت الألمانية حيثُ تأسّست أسرة روتشيلد، ثم انتقل إلى سويسرا بعد أن تمت مُطاردتهم من طرف حكومة بافاريا، ولبثوا هناك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم انتقلوا إلى نيويورك وأصبح مركزُ قيادتهم هو مبنى هارولد برات.
2 – إشعَالُ الثوَرات: الثورَتين الإِنجلِيزيَة والفَرنسِيَة أُنمُوذَجاً
’’ إذا أردنا أن نُدركَ ماهِية الأَسبَابِ التي وُلِدَت في المَاضي، وأدّت إلى النتَائجِ التي نعيشُها اليَوم ونَخبرُها اليَوم، لاسِيمَا ما يَتعلَّق منها بالوَضعِ الدولِي السَّيء، والوَضعِ الداخِلي القَلقِ للأُمَم، فإنَّه يَجبُ عَلينا أَن نَدرُس التارِيخَ، لأنَّ التاريخَ يُكرِّر نَفسهُ دائِماً‘‘[2]. ما يقصده غاي كار بقوله هذا ليس سوى ذلك الصراع الأزلي الأبدي بين قوى الشر وقوى الخير، والذي يكرر نفسه دائماً، وذلك لأن غاي كار يفسّر كلّ ما يحدث في العالم من ثوراتٍ وحروبٍ بذلك الصراع بين هاتين القوتين، مع إعطاء الدور الأكبر لقوى الشر أو "الشيطانية" كما يحلو له أن يُسمّيها هو. وقبل الحديث عن الثورتين الإنجليزية والفرنسية وعلاقتهما بالمؤامرة، نرى أنه من المهم الوقوف قليلا عند نقطةٍ مهمةٍ نعتقدُ أن من شأنها توضيح كيفية اشتغال المؤامرة، أي كيفية تفكير هؤلاء الذّين يُحدّثُنا عهنهم غاي كار، أو كما يُسميهم بــ "النورانيين" أو ربما هم الذّين يُسمّون أنفسهم كذلك. يكفي لتوضيح ذلك أن نضرب مثلا بالشيوعية والنازية، أو بكارل ماركس وكارل ريتر! فبينما كان ماركس يكتب "رأس المال" تحت إشراف وتمويل "النورانيين" حسب ما قاله غاي كار، كان البروفيسور كارل ريتر الأُستاذ في جامعة فرانكفورت يكتبُ النظرية المُعاكسة للشيوعية، تحت إشراف وتمويل جماعةٍ أخرى من النورانيين أنفسهم! فهكذا كان يعمل النورانيين، وذلك لاستخدام هذه النظريتين في التفريق بين الأمم والشعوب. أما نظرية كارل ماركس فهي معروفة للجميع لا نرى أي داعٍ للحديث عنها، أما نظرية كارل ريتر فالقليل من يعلم بها، ونحنُ نعرف عن ماركس والشيوعية أكثر بكثير مما نعرفه عن ريـــتـــــر والنازية. هذا الأخير عاش بين 1779 و1859 وهو ألماني أيضاً، كان أستاذاً للتاريخ والعلوم الجيوسياسية، وما يهمنا عنده أنه جاء بنظريةٍ معاكسةٍ لتلك التي جاء بها "البيانُ الشيوعي"، حيثُ وضع مخططاً أعلن فيه أنَ باستطاعة العرقِ الآري أن يُسيطرَ على أوروبا ثم على العالم أجمع. وكان ريتر يُعلّق أملاً كبيراً على وجود الاقتناع لدى الشعب الألماني بتفوقه الفكري والجسدي على شعوب العالم كله خاصةً المنحدرة من أصلٍ ساميٍ. ويخبرنا غاي كار أن هذه الفكرة كانت هي النواة التي انطلق منها دعاةُ العرق الآري السيد، وقد تمّ تبني هذه النظرية لمواجهة قول اليهود بأنهم هم شعبُ الله المُختار. هكذا كان مخطط المؤامرة منذ البداية وهكذا يتم تطبيقه!
أمّا فيما يتعلّقُ بالثورتين الإنجليزية والفرنسية فلم يكونا، كأغلبِ الأحداث المفصلية، حسب تفسيرات غاي كار، سوى أحجارٍ على رُقعةٍ للشطرنج يديرها أُناسٌ في الخفاءِ. فلمّا كان إدوارد الأوّل ملكِ إنجلترا هو الأول الذّي طرد اليهُود من بلاده، فقد قرّرَ سادةُ المال والذهب اليهود، كما ينعتُهم غاي كار، في فرنسا وهُولندَا وألمانيَا أنّ إنجلترا هي بالذاتِ من يجبُ أن تكون الهدف الأول الذّي يُبدؤون منه تحقيقَ مُخطَّطهم "التخريبي" لإثارة الفوضى فيها. أي أن هذه الحركة التي لعبوها ضدّ إنجلترا كان المُحرّكُ الأساسي لها هو الانتقام. وسُرعان ما تمَ الشروع في ذلك، بمساعدة عملائهم السريين (خلاياهُم) فدَبَّ النزاعُ أولاً بين ملك إنجلترا وحكُومته، ثُمّ تَلتْهُ المشاحنات بين أربابِ العمل والمُستخدمين وبين العُمال والمالكين، ثم ثار الخلافُ بين الدولةِ والكنيسة. هكذا وَجدت إنجلترا نفسها في خَضمِ العديد من النزاعات والصراعات انتهت بتقسيمها إلى مُعسكرات، بل وتقسيم المعسكرات نفسها، وذلك تحت مقولة "فَرِّق تَـسُد". فانقسم الشعب المسيحي الإنجليزي إلى مذهبين كبيرين: البروتستانتي والكاثوليكي، ثم انتهى الأمرُ بالسيطرة على اقتصاد البلاد. ويتَّضح لنا أن ما يقصده غاي كار بالثورة الإنجليزية هو تلك النزاعات الدينية بالدرجة الأولى، ونجده يشير في أحد الهوامش أن المُصلح الديني كالفن، قد أتبتَت البراهين أنه كان يهودياً في الأصل، وأن اسمه الحقيقي هو كوهين[3]. ولا نظنّ أن غاي كار يشير إلى هذه المعلومة دون أي غرضٍ منها، بل نعتقد أنه يحاول أن يقول لنا، بمعنى من المعاني، إن كالفن قد كان بيدقاً في رقعة الشطرنجِ الكبيرة، تَمَّ اللعبُ به لإثارة الفتنة والتفرقة بين المسيحيين الإنجليز! وليس هذا التفسير ببعيدٍ عن النظرة التي ينظر بها غاي كار إلى الثورات.
بعد الثورة الإنجليزية تّم عقدُ اجتماعٍ من طرف روتشيلد الأب مع اثني عشر من أرباب المال العالميين، حيثُ بيّن لهم الدور الذّي لعبته المُؤامرة اليهودية في اندلاع الثورة الإنجليزية، كما قدّم لهم دراسةً عن الأخطاء التي تَمّ ارتكابها فيها والمُخططات التي تَمّ تعديلها. وكانت الأخطاء تنحصر في اثنين هما: البطءُ في التنفيذ وعدم الوُصول إلى سيطرةٍ مُطلقةٍ شاملة، وبقاء عناصر كثيرة ذات نُفوذ قويٍ يمكن أن يقف في وجهِ المُؤامرة. لهذا ذكَّرهم روتشيلد الأب بتلك التعليمات التي قدّما وايزهاوبت من قبل، والتي أشرنا إليها في البداية، كما ألَّح عليهم بالإسراع في التنفيذ بلا هوادة والتخلّص من العناصر المُعارضة عن طريق العُنف والبطشِ والإبادة الجماعية، إضافةً إلى تنبيههم بأن الطغيان المُطلق هو السبيلُ الوحيد لبناء الحضارة التي يُريدونها، متخذين شعاراتٍ سريةٍ من قبيل "ليس هناك مكانٌ في العالم لما يُسمى بالحرية والمُساواة والإخاء". وهذه التعليمات هي ما تم تطبيقه في فرنسا!
لقد كانت هناك العديد من التحذيرات لفرنسا من وُجود مؤامرةٍ عليها، وتم إرسالُ الكثير من الرسائل إلى ملكة فرنسا ماري أنطوانيت من طرف شقيقتها لكنها لم تُصدق ذلك وردّت عليها في إحدى رسائلها قائلةً: ’’ أما فيما يتعلّق بفرنسا فإني أعتقدُ أن قلقك مبالَغٌ فيه بشأن الماسونية، فهي هنا أضألُ أهميةً من أيّ مكانٍ آخر في أوروبا‘‘[4]. لكن التاريخ بيّن لنا مدى خطأ ماري أنطوانيت، مما أدّى بها وبزوجها الملك لويس 16 إلى المقصلة! ويستشهدُ غاي كار بالمؤرخ البريطاني الكبير السير والتر سكوت الذّي قام بتحليلٍ عميقٍ لأحداث التاريخ، خاصة الأوروبي، وللدور الذّي لعبته القوى الخفية لإحداث الثورة الفرنسية، ولهُ كتابٌ، يشير إليه غاي كار، بعنوان "حياةُ نابليون" يحوي تفاصيل دقيقة للأحداث الفرنسية كاشفاً عن الأصل اليهودي لها، كما أشار إلى حقيقةٍ تبعثُ على التساؤل، وهي أن مُعظم وُجوه الثورة الفرنسية كانت أجنبيةً عن فرنسا. لكن هذا الكتاب، كما يخبرنا غاي كار، قد اختفى وضُرب بينه وبين الناس سورٌ ليس له من باب! ويحيلُنا غاي كار إلى تلك المناقشة التي دارت في مجلس النواب الفرنسي عام 1904، حيثُ يأتي في نص ختامها قول النائب السيد دي روازانيت: ’’ إننا مُتفقون إذن بصورةٍ كاملةٍ على هذه النقطة بالتحديد، وهي أن الماسونية كانت الصانع الوحيد للثورة الفرنسية، وهذه التصفيات التي أسمعُها الآن في المجلس تُبرهن على أن البعض هنا يعلمون ذلك مثلي تماماً‘‘[5].
3 – إشعالُ الحُروب: الحَربَين العَالمِيتَين الأُولَى والثانِية أُنمُوذَجاً
كما ينظر غاي كار إلى الثورتين الإنجليزية والفرنسية باعتبارهما ضمن مخطط المُؤامرة، فإنه يعتبر أيضاً الحروب التي تعصف بالعالم كذلك، وأهم هذه الحروب وأكثرها دموية هما الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد عرف مطلعُ القرن العشرين العديد من الأحداث المُريبة، بدايةً بمقتل امبراطور النمسا عام 1899، واغتيال ملك إيطاليا هيرت عام 1900، واغتيال رئيس الولايات المتحدة ماكينلي عام 1901 وتسلم روزفلت كرسي الرئاسة بعده، واغتيال سرجيوس عم قصير روسيا عام 1905، واغتيال ملك البرتغال وولي عهده عام 1908، ثم حادثة الاغتيال الكبرى التي أشعلت نيران الحرب ألا وهي اغتيال الأرشيدوق فرانسوا فرديناند ولي عهد الإمبراطورية النمساوية وزوجته في مدينة سراييفو يوم 28 حزيران/ يونيو من سنة 1914. ’’ هذه الأحداثُ تُفسّر نفسها بنفسها كما ذكرنا وتكفي نظرةٌ تحليلية خبيرة إليها وإلى تسلسلها الزمني تُشتَمُّ منه رائحة التنظيم الخفي، وإلى توزيعها الجغرافي لكي ندرك أنها لا يُعقل أن تكون من صنعِ الصدفة وحدها بل هي من صنعِ يدٍ خفيةٍ تُلمسُ آثارها واضحةً في كلّ مكان وتشيرُ إليها أصابعُ الاتهام بصورةٍ لا تدعُ مجالاً للشك ولا تحتاجُ إلى تفسير‘‘[6]. أي أن الحرب العالمية الأولى لم تكن سوى حجرةٍ في رقعة الشطرنج، رقعة المؤامرة التي ترومُ تقسيم العالم وتفريقه لتحكمه.
ولم تكتفِ اليدُ الخفية بإشعال الحرب العالمية الأولى فقط، بل كان ضمن مخططها، كما يوضح ذلك غاي كار، إشعال حربٍ عالمية ثانية. وقد بدأت ذلك فور انتهاء الأولى، وذلك من خلال تلك المعاهدة المعروفة بمعاهدة "فرساي"! والتي يصفها غاي كار بأنها معاهدة لم يعرف التاريخ من قبل مثيلاً لها من حيثُ ما أنتجته من الشرور، ومن حيثُ عبقرية العقلية التي دبّرتها في الخفاء. فهذه المعاهدة بمثابة بذور الحرب العالمية الثانية، إذ اضطرم الحقدُ في قلوب الألمان بعنفٍ بعدَ ما فُرض عليهم، وأصبح الثَّأرُ منذُئذٍ هو الفكرة المُسيطرة على القومية الألمانية. كما استغلّت "اليدُ الخفية" تأسيس عُصبة الأمم، فبثّت فيها عملاءها وخلاياها السرطانية حتى استطاعت أن تَجعلها آلةً مُسيرة من طرف مجموعةٍ من المُرابين العالميين اليهود. وهكذا سار الإعدادُ للحرب العالمية الثانية.
بعد أن حققت المؤامرة أهدافها في ألمانيا اتجهت مباشرةً إلى فلسطين، ذلك لأنهم قرروا جعل هذه الأخيرة هي الممرّ والمُستقبِل لمخططاتهم ونقطة الارتكاز العالمية للمؤامرة، ذلك لأن فلسطين هي المركز الجغرافي الذي بينت لهم الأبحاث الجيولوجية أنها تحتوي على ثرواتٍ طبيعيةٍ تُقدّر بملايير الدولارات. لهذا كان هدف المؤامرة في هذه الفترة هو إجبارُ دول العالم على الاعتراف بالوطن القومي لليهود في فلسطين وتأمين السيطرة على ثروات المنطقة وعلى ثروات البحر الميت. وقد بدأ تحقيق هذه الأهداف بإصدار ما سُمي بــ "وعد بلفور" سنة 1967، ويذكر غاي كار أن الذّي أمر بلفور بإعطاء هذا الوعد هو روتشيلد! وبعد إقرار الانتداب الإنجليزي على فلسطين عادت تلك الأيادي الخفية لتستأنف العمل فيما يخص الحرب العالمية الثانية. ويخبرنا غاي كار بأن أحد أهداف المؤامرة الرئيسية هو إنشاءُ دولةٍ خاصةٍ بالصهيونية تصبحُ مقراً رسميا لتلك التحركات الخفية والقاعدة الرئيسية لإشعال الحرب العالمية الثالثة!
4 – عَالمُنا الحَــــــــــــــــاضر:
’’ إن أبسَط وسيلةٍ لفهم ما يجري في عالمنا الحاضر اليوم هي دراسةُ أحداث التاريخ على ضوءِ ما ذكرناه. أي على اعتبارها حركاتٍ في لعبة الشطرنج العالمية المُستمرة، واعتبارها حلقاتٍ في معركة الخير والشر الأبدية‘‘[7]. ويتحدث غاي كار عن حربٍ عالميةٍ ثالثة، حربٍ أخرى ضمن مخطط المؤامرة، وربما نحن فيها اليوم، ويُنبهنا غاي كار أن القوى الخفية تعتبر أن الحرب العالمية الثالثة هي الأخيرة لها حسب ما جاء في البروتوكولات، وستكون هذه الحرب، إذا حدثت، القاضية على المجتمع الإنساني. لهذا فإن هذا الكتاب، كما يقول غاي كار، ليس سوى نداءٍ لتنبيه اللامُباليين واللاواعيين في أمريكا والغرب إلى الخطر الذذي سيعصف بهم إذا لم يتداركوا الموقف. إنه كتاب موجه بالدرجة الأولى إلى أمريكا والغرب، وإلى العالم كله بالدرجة الثانية. وبما أن مصير كلّ "سُقراطٍ" هو الإعدام، فإنه لا يجب أن يغيب عن بالنا أن وليام غاي كار قد لقي مصرعه في ظروف غامضة! كما لقي مصرعهم أولئك الذّين سبقوه بالتحذير. لكن ما الحل؟ كيف الخلاص؟ يُجيبنا غاي كار أن درب الخلاص هو دربُ الحفاظ على القيم الفكرية والروحية الخُلقية، ’’ تلك القيم التي بَنتها الإنسانية بعد أجيالٍ طويلةٍ من رحلتها عبر التاريخ والتي ما قامت الشرائع والأديان والقوانين والإصلاحات إلا لدعمها وترسيخها‘‘[8].
وربما نجد صعوبةً في تصديق كلّ ما قاله غاي كار، خاصةً الجوانب التي يظهر فيها الكثير من المبالغة والتهويل، ويجب ألا يغيب عن بالنا الهدف الأكبر الذّي يحرك غاي كار ألا وهو إعادة الإيمان بالله وإعادة الحق إلى مكانه في عالم السياسة حتى تتمكن أمريكا من تأسيس حكومةٍ تتبع قواعد الدستور الإلهي الرحيم كما بشّر به السيد المسيح [9]. لكن لا شك أن الكثير مما قاله يحوي قدرا كبيرا من الواقعية، ربما يسهل علينا تصديقه إذا اعتبرنا أن الواقع دوماً يفوق الخيال بدرجات! هكذا يفهم وليام غاي كار التاريخ، كلّ التاريخ، معركة لا تنتهي بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين الإله والشيطان، لكن من هو الإله؟ ومن هو الشيطان؟ لا يسعنا القول أكثر من هذا، ولا شك أن ما قاله غاي كار قد زاد الطين بلّة عكس ما قد يعتقده بعض السدّج الذّين يرون في المؤامرة جوابا على كل الأسئلة. وبما أنّ كل الأنهار تجري إلى البحر والبحرُ ليس بملآن، وأنّ كلّ الكلام يقصُر، فإننا نكتفي بأخذ موقف بسيطٍ من تلك الأحداث التي أخبرنا عنها غاي كار والتي لم يخبرنا عنها، هو ما جاء في أبياتٍ بليغةٍ من قصيدةٍ بعنوان "ضلالُ التاريخ" للشاعر الكبير مَعروف الرُّصافي، حيث يقول:
إذا شَطَّ جيلٌ خطّ من جَاء بَعدهُ
أكَـــاذيب عنهُ بالثـنَــــــــاء تُزوَّقُ
فما كُتـبُ التـــاريخِ في كلّ ما رَوَت
لِـــقُرَّائـــها إلاّ حـديــثٌ مُـلـــفّـــقُ
نظَــرنـــا لأمـــرِ الحَــــاضِـــرِيـــن فرَابــــنَا
فكَــيفَ بأمرِ الغَــابِريـــن نُصَـــدّقُ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]: وليام غاي كار، أحجار على رقعة الشطرنج، تر سعيد جزائرلي، دار النفائس، ط1، 1970.
[2]: المصدر نفسه، ص 31.
[3]: المصدر نفسه، هامش ص 73.
[4]: المصدر نفسه، ص 115.
[5]: المصدر نفسه، ص 129.
[6]: المصدر نفسه، ص 171.
[7]: المصدر نفسه، ص 43.
[8]: المصدر نفسه، ص254.
[9]: المصدر نفسه، ص 30.