كتابٌ صدرت طبعته الأولى سنة 1986 عن الشركة المغربية للناشرين المتحدين، من تأليف المؤرخ المغربي جرمان عياش، والذي ضمنه (بتشديد الميم وفتحها) مجموعة من الدراسات المتفرقة، التي سبق أن نشرها في منابر مختلفة، متخذًا من الوثائق التاريخية الرسمية مصدرا أساسيا للأحكام والاستنتاجات التي انتهى إليها، وقد عُنيَ أساسًا بمساجلة المؤرخين الأجانب - الذين استأثروا بالتأليف حول تاريخ المغرب - بشأن الصور النمطية والخلاصات المتسرعة والمبتسرة التي ألبسوها ثوب الحقيقة المطلقة، في نظر الكاتب، معتبرًا إياهم غير منزهين عن خدمة أغراض المشروع الكولونيالي لبلدانهم، مما يلقي ظلالًا وارفةً من الشك على موضوعية وتَجرد أحكامهم واستنتاجاتهم:
عن التكوين الداخلي للمغرب
يسدد المؤلف نقدا لاذعا لفريق من المؤرخين الأجانب الذين يجنحون إلى تضخيم عوامل القصور الذاتي والتخلف الحضاري للمغرب، من طريق التشكيك، على نحو لا يخلو من عنصرية سافرة، في مقدرة المغاربة على العيش بحرية وتدبير شؤونهم بأنفسهم، لاستعصائهم الفطري على التحضر والتمدن، وذلك قصد تسويغ الاستعمار الأجنبي بما هو رسالة حضارية أخذت على عاتقها انتشال المغرب من براثن التكلس والانحطاط الحضاري، ذاهلين عن حقيقة أن الضغوط الأجنبية المتعاظمة على السيادة المغربية كانت أحد المسببات الرئيسية لتضعضع الإيالة الشريفة واستنزاف قواها ومقدراتها الداخلية.
كما لا يخفي المؤلف نفوره من نزوع بعض المؤرخين الأجانب إلى المغالاة في إثارة ثنائية "بلاد المخزن/بلاد السيبة"، في مسعى منهم لتفنيد حقيقة وجود دولة موحدة أو أمة متلاحمة، من خلال إضاءتهم على ظاهرة القبائل المتمردة على سلطة المخزن المركزي، والتي كانت تستوطن المناطق الجبلية والنائية، حيث يصعب ضبطها ولجمها من طرف أعوان السلطان. والواقع، كما يرى الكاتب، فإن ثنائية "المخزن والسيبة" جرى التهويل من شأنها إلى حد بعيد، وقد ثبت تهافتها في أعقاب التوقيع على معاهدة الحماية، حين ثارت "مناطق السيبة" لا ضد المخزن السلطاني كما كانت تدعي تلك الفرضية "المغرضة"، بل ضد سلطات الحماية الفرنسية نفسها، الأمر الذي يبرهن على حس وطني لطالما أنكرت تلك الأدبيات وجوده في رأي الكاتب.
وعليه يبدي عياش اعتراضه على النظرية الانقسامية في تحليل التاريخ السياسي للمغرب، والتي يُعد الباحث الأمريكي "جون واتربوري" من أبرز المتحمسين لها، والقائلة بأن المخزن لطالما حرص على بذر عوامل الشقاق والتطاحن بين القبائل المتنافسة، لكي يظل القوة الوحيدة المسيطرة، مما يحول دون بروز قوة معارضة متماسكة في مواجهته. وهنا يستحضر الكاتب وظيفة اجتماعية في غاية الأهمية، كان يضطلع بها السلاطين، لما لها من دور في استتباب السلم الأهلي، وهي وظيفة "التحكيم" بين القبائل المتنازعة، كرد على الأطروحة الانقسامية الواردة أعلاه. كما يدحض المؤلف أطروحة "العنف الدائم" للمخزن التي يتلقفها بعض المؤرخين، ومؤداها أن المخزن كان يتوسل، على نحو حصري ودائم، العنف والقوة القهرية لترويض القبائل وابتزاز أموالها. والحق، مثلما يرى صاحب الكتاب، فإن استعمال العنف كان الخيار الأخير للمخزن المركزي بعد استنفاد الوسائل السلمية والدبلوماسية الأخرى.
ومن جهة أخرى، عرج الكاتب على مساعي الإصلاح التي بذلها بعض السلاطين المغاربة إبان القرن 19، والتي توخت تلافي التعرض لمصير الاحتلال الأجنبي، بحيث انصرفت تلك الجهود في معظمها إلى محاولة بناء جيش وطني قوي، من طريق تزويده بالمعدات والأسلحة الحديثة. غير أن تلك المحاولات الإصلاحية باءت بالفشل، وهذا يُعزى، في حسبان الكاتب، إلى عدم وجود قاعدة فكرية وفلسفية داعمة للإصلاح، بخلاف الدول الأوروبية التي عرفت حضورًا فاعلًا للأنتلجنسيا الفكرية إبان عصر الأنوار. وبالإضافة إلى ما سبق، فإن السلاطين أولاء لم يبرحوا المفهوم التقليدي – السلفي للإصلاح، الذي يختزله في "الاقتداء بالسلف الصالح"، إذ نظروا إلى الإصلاح بمعنى الخلق والإبداع على أنه "بدعة" و"ضلالة". وصولًا إلى أن تلك المساعي الإصلاحية قد بوشرت بكيفية فوقية وفردية، ولم تتوسل مقاربة تشاركية وإدماجية، على عكس الإصلاحات التي تمت بأوروبا، وأسهمت فيها نخب فكرية وطبقات اجتماعية فاعلة، وتحديدًا الطبقة البرجوازية.
علاقات المغرب بالقوى الأجنبية
أفرد الكاتب حيزًا هاما لإبراز طبيعة العلاقة القيصرية التي انتسجت بين المغرب وجارته الشمالية إسبانيا، إذ أضاء على حدث عده مفصليًا في تاريخ المغرب الحديث، ألا وهو احتلال تطوان من طرف الإسبان سنة 1860، واشتراطهم أداء غرامة مالية باهظة مقابل إرجاعها للمغرب، وهو ما كان له أوخم العقابيل على الاقتصاد المغربي ذي الموارد المحدودة (مداخيل الديوانة والضريبة الفلاحية)، الشيء الذي أدى إلى استنزاف مالية الخزينة، وزيادة العبء الضريبي على الفلاحين الذين تعرض بعضهم لمصير الإفلاس، ناهيك بإحداث مؤسسة ضريبية جديدة في العام 1861، وهي المكس، منهيةً بذلك الامتياز الضريبي الذي لطالما حظي به تجار وصناعيو المدن، ليتمخض عن ذلك اضطرابات اجتماعية خطيرة لعل أظهرها فتنة فاس (سنة 1868). كما استلزم أداء تلك الغرامة التعجيزية اللجوء إلى الاستدانة من الخارج، ولا سيما من بريطانيا العظمى، مما أفضى إلى تعاظم الانتقاص من السيادة الوطنية.
كما انصرف المؤلف إلى إلقاء الضوء على مدينة سبتة المغربية المحتلة، والتي كثيرًا ما كانت محط أطماع الأجانب بالنظر إلى إشعاعها كمركز تجاري، قبل أن تسقط بأيدي البرتغاليين سنة 1415، والذين سيسلمونها إلى إسبانيا فيما بعد. وفي هذا الصدد، يشير الكاتب إلى أن الإسبان كان عليهم أن ينتظروا ردحًا من الزمن قبل أن ينعموا بمغانم احتلالهم للمدينة، بفعل الحصار الخانق الذي ضربه الجيش المغربي السلطاني والقبائل المحلية على المدينة، حيث واجه الجيش الإسباني صعوبات في تموين أفراده، لا سيما وأن سبتة ليست مدينة زراعية، ولا تملك ما يكفي لتسد حاجات الجنود من القوت والطعام، إذ ظلت معتمدة على المناطق المجاورة، وبخاصة بليونش الغنية بالمياه والمواد الغذائية، والتي بقيت عصية على الجيش الإسباني لتضاريسها الوعرة، ورفض السلطان الحازم التنازل عنها لفائدة المحتل. وهكذا لم يتمكن الإسبان من تشييد مينائهم التجاري وبلوغ أهدافهم التي سطروها من احتلال المدينة إلا بعد التوقيع على معاهدة الحماية، لتنجح في بسط سيطرتها على شمال المغرب.
وعطفا على ما سبق، كرس المؤلف صفحات لا بأس بها من كتابه لإضاءة ما أسماه "الصداقة الجرمانية المغربية"، والتي بلغت ذُروتها خلال الفترة الممتدة ما بين 1885 و1894، بحيث وجد المغرب ضالته في ألمانيا لموازنة النفوذ المتعاظم للقوى الأجنبية الأخرى (فرنسا، إسبانيا، إنجلترا) والحد منه، فيما سعى الألمان إلى تكريس مصالحهم التجارية والاقتصادية بالمغرب. لكن تلك العلاقة ستمنى بانتكاسة خطيرة منذ سنة 1894، وهو ما جسده تطاول السفير الألماني "طاطنباخ" المستمر على السيادة المغربية وفرضه لمطالب مجحفة، على خلفية اعتداءات تعرض لها رعايا ألمان داخل التراب الوطني.
وكما يَستشف المؤلف من الوثائق التاريخية التي انكب على دراستها، فإن الألمان، إبان تلك الفترة، حاولوا اختلاق ذريعة لشن عمل عسكري بالمغرب بغية الظفر بمَواضع كانت تسيل لعابهم، محاولين بذلك استغلال حال الضعف الداخلي للمغرب، والذي يطبع عادةً الفترات الانتقالية الحرجة في أعقاب وفاة السلطان وتَقَلد خلفه للحكم (المولى عبد العزيز في هذه الحالة). غير أن ألمانيا لم تحقق ما كانت تصبو إليه بفعل ممانعة القوى الأجنبية الأخرى، ليُفسَح المجال أمام فرنسا لمد نفوذها على المغرب، لا سيما بعد تسوية خلافها مع إنجلترا التي استأثرت بدورها بمصر.