كتاب من تأليف المفكر المغربي العروبي المعاصر عبد الإله بلقزيز، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2010. وكما يدل على ذلك عنوانه، انصرف بلقزيز في هذا العمل إلى نقد الفكر القومي العربي بدافع الرهان على تجديده وتمكينه من الاستمرارية والصمود، وبذلك فهو نقد بالمعنى الإيجابي البناء لا بمعنى النقض والنسف، أملاه طغيان الجانب الإيديولوجي على المعرفي في ذلك الخطاب محل النقد، دون أن يعني ذلك التشنيع على الإيديولوجيا أو النظر إليها من حيث هي وعي زائف، فهي تستمد مشروعيتها من واقع أنها تعبر عن مصلحة جماعة اجتماعية ما (في هذه الحال مصلحة العرب في الوحدة). وعليه، يدعو الكاتب إلى وجوب إعادة تأسيس الفكرة القومية العربية على قاعدة نظرية ومعرفية متينة، على نحو يسمو بها عن متاهات الخطاب الدوغمائي الشعبوي المشحون بجرعات مفرطة من الاستنقاع الإيديولوجي.
على أن المؤلف لا يجحد ما أحرزته الأنظمة القومية العربية – بشقيها الناصري والبعثي – من إنجازات نوعية (الإصلاح الزراعي، التصنيع الثقيل، تطوير التعليم، تقليص الفوارق الطبقية، التصدي للمشروع الصهيوني والأحلاف الاستعمارية...)، وهو ما وفر لتلك النخب الحاكمة نوعًا من الشرعية الثورية (= شرعية الإنجاز) تستعيض بها عن الشرعية الديمقراطية المفقودة. بيد أن الفكرة القومية ما لبثت أن تعرضت لأزمة في المشروعية، وتضاؤل من حيث الجاذبية والتأثير في الجماهير، ويُعزى ذلك لجملة من المسببات لعل من أظهرها: فشل مساعي وتجارب التوحيد القومي العربية (إخفاق الوحدة المصرية السورية)، الاندحار أمام دولة الاحتلال الصهيوني ومشروعها التخريبي في المنطقة (نكسة 1967)، تَبَدد المكتسبات التنموية بعد انصرام الحقبة الناصرية، الانقسامات والانشقاقات العبثية في أوساط الحركات والتنظيمات القومية... إلخ، دون أن يعني ما سبق الإغضاء عن معطى التدخل الخارجي من حيث هو عامل كابح ومثبط للطموح الوحدوي العربي.
عن وجوب مراجعة تصوراتنا للأمة
يدحض بلقزيز الفرضية الذاهبة إلى أن الأمة العربية سابقة من حيث الوجود لتَكَون الأمم الحديثة في أوروبا القرن التاسع عشر، ذلك أن الأمة بالمفهوم الحديث الواسع تُجاوز حدود الانتماءات التقليدية (الرابطة الدينية، النسب أو العرق الدموي...)، ولا تكاد تنفصل عن المواطنَة. وهنا يُحسب للرواد المؤسسين للفكر القومي العربي (في بدايات القرن 20) أنهم ما أقحموا العرق أو النسب في جملة العوامل المحددة للأمة العربية، الأمر الذي حال دونهم والانسياق وراء طروحات الإيديولوجيات العنصرية والشوفينية (النازية، الصهيونية...) وما تأدت إليه من عواقب وخيمة. كما يشدد الكاتب على ضرورة القطع مع المفهوم الأرسطي (نسبةً إلى أرسطو) للهوية، الذي يتمثلها كماهية، أي ذلك الجوهر الثابت الذي يسبغ على الشيء فرادة أصيلة. والحال إن الهوية لا تعدم القدرة على التجدد والتطور تبعا لمقتضيات الصيرورة التاريخية، ناهيك بقابليتها للنهل من روافد أجنبية، وهو ما يُعد عنصر إغناء لها.
وعليه، ينقد المؤلف المقاربة التي انتهجها السواد الأعظم من المفكرين الوحدويين العرب في التعاطي مع سؤال العوامل المحددة للأمة، إذ أمعنوا في تضخيم دور العامل الثقافي (اللغة، الثقافة، التاريخ المشترك) على ما ينطوي عليه من أهمية جزئية، فيما تعاموا عن محددات أخرى لا تقل أهمية، وفي طليعتها العامل السياسي المتمثل في الدولة القومية الحديثة من حيث هي شرط وجود للأمة، عند الكاتب، قوامها رابطة المواطَنة التي تستوعب جميع أفراد المجتمع السياسي بصرف النظر عن انتماءاتهم ومعتقداتهم الفردية. ولعل هذا التمثل الحديث لمفهوم الأمة هو القمين بحل ديمقراطي لمسألة الأقليات الإثنية والثقافية في العالم العربي، وتوفير قاعدة أوسع من المؤيدين والمتحزبين لفكرة الوحدة العربية. كما تَجاهل الفكر القومي العربي في مجمله عوامل أخرى ذات صلة بتكوين الأمة، من قبيل عامل المصلحة الاقتصادية، ودور عنصرَي الإرادة والاختيار في تَبَلور الشعور بالانتماء لرابطة العروبة، وهو ما ينطبق على الأشخاص الذين يجهلون اللسان والثقافة العربيين، دون أن ينفصلوا وجدانيًا عن الارتباط بأمتهم ومشاغلها (مثل الأجيال المتأخرة من المهاجرين العرب الذين وُلدوا في دول المهجر).
في التأسيس النقدي والعملي للوحدة العربية
من ضمن وجوه النقد للخطاب القومي العربي إيغاله في تعداد العوامل الخارجية (الموضوعية) المعيقة لتحقق الوحدة العربية، في مقابل الإغضاء عن نصيب العوامل الذاتية من المسؤولية في ذلك الإخفاق. والحق أن واقع التجزئة الكيانية للوطن العربي سابق في وجوده للحقبة الكولونيالية، الأمر الذي يرجع، أساسًا، إلى هشاشة وتضعضع التكوين البنيوي الداخلي، ونعني بذلك استمرار سطوة العصبيات التقليدية (قبلية، طائفية، مذهبية... إلخ) في ظل عدم تَجَذر الوعي بفكرة الدولة في منظورها الحديث. وهكذا، فإن التغلب على تلك المعضلة البنيوية يقتضي، في رأي بلقزيز، بناء الدولة الوطنية الحديثة (دولة المواطَنة) كقاعدة أولية في أفق التأسيس لدولة الوحدة ضمن إطار إقليمي أوسع. وهنا يمكن حسبان تجربة الاتحاد الأوروبي مثالا ملهما في هذا الصدد، من طريق تأهيل وتمتين البنى السياسية والاقتصادية للدول الوطنية كشرط لا غناء عنه للاندماج في نظام إقليمي موسع.
كما أنه يجدر بنا الإحجام عن تفصيل الوحدة المنشودة على مقاس نموذج نظري اقتصادي أو اجتماعي معين (كالمناداة بوحدة اشتراكية أو ليبرالية) لئلا تتحول الفكرة من قضية جامعة إلى مدار تنازع طبقي وفئوي، ذلك أن متطلبات الواقع الموضوعي هي التي يُفترض أن تحدد مضمونها تبعا لمصلحة الأمة. وتأسيسا على ذلك، فإن فكرة الوحدة تستقي مشروعيتها من تحديات الحاضر والمستقبل، لا من الماضي وموروثه الثقافي، فمصلحة العرب والمخاطر الوجودية التي تتهددهم تستلزم الوحدة في عصر العولمة والتكتلات الكبرى، مثلما يشير الكاتب إلى ذلك بحق.
يتأدى بنا ما سبق ذكره إلى الحديث بشأن شكل الوحدة المنشودة وصيغتها، ونمط التوحيد الأنسب في الحالة العربية، بين خيار التوحيد الاندماجي (المركزي) الذي ينهض على فرضية التجانس الثقافي للأمة، والنمط الاتحادي (الفيدرالي والكونفيدرالي) الذي قوامه المصلحة الواقعية للأمة في الوحدة. ولا يخفي الكاتب انتصاره لهذا النمط الأخير من منطلق براغماتي لا رغبوي، يستحضر حقائق اللحظة الراهنة في ضوء رسوخ الكيانات الوطنية أو القطرية كمعطى نفسي وفعلي يصعب القفز عليه، ولكون أن النمط إياه يوفر ضمانات أكبر لشراكة متوازنة الأطراف، خلافا للوحدة الاندماجية التي تلغي الخصوصيات وتسفر عن علاقات هيمنة وتبعية بين المركز والهوامش.
نماذج نظرية (ساطع الحصري ونديم البيطار)
عرج المؤلف على النتاج الفكري لساطع الحصري (1879-1968)، الذي يُعد من أبرز من اهتموا بالتنظير للمسألة القومية العربية، وقد عُني أساسًا بالبحث في العوامل المحددة لتكوين الأمة، معتبرًا إياها سابقة وجودا للدولة القومية. كما تأثر على نحو صارخ بالفكر القومي الألماني، وهو ما يتمظهر في تشديده على دور العوامل الثقافية (اللغة، الثقافة، الذاكرة المشتركة) في تكوين الأمم وتوليد الوحدة القومية، مقابل استبعاده للمصلحة الاقتصادية (العامل الاقتصادي)، وعامل الإرادة والمشيئة الذي ألح عليه الفكر القومي الفرنسي.
كما انصرف بلقزيز في الفصل الأخير من كتابه إلى تناول المنجز الفكري لنديم البيطار (1924- 2014)، الذي انفرد عن غيره من أقرانه بالتخفف من أحمال الإيديولوجيا، ومن ثم تحري الموضوعية والروح العلمية في تعاطيه مع المسألة القومية. وصدورًا من فحصه ومطالعته العميقة لتجارب التوحيد القومي في التاريخ الحديث، انتهى إلى الوقوف على ثلاثة قوانين أساسية يتوقف عليها نجاح تلك التجارب: وجود إقليم قاعدة ينهض بدور ريادي في عملية توحيد البلد المجزء لما يحوزه من تفوق تنظيمي وقوة سياسية (مثلا إقليم بروسيا في تجربة التوحيد الألمانية)، قيادة مشخصنة كاريزمية تجسم المشروع القومي، وجود مخاطر خارجية بحسبانها دافعًا للوحدة.
وهكذا فقد رجح البيطار كفة التحليل السياسي للديناميات الدافعة نحو التوحيد القومي، معتبرا الدولة القومية الحديثة شرط تأسيس للأمة، ذلك أن الدولة هي التي تنهض بمهمة التوحيد الثقافي واللغوي، فالعامل السياسي لا الثقافي هو الحاسم في تكوين الأمة وإفراز الهوية القومية. ومع أن الكاتب كال الإطراء والثناء على نديم البيطار فيما يخص تشبعه بالعمق المعرفي والنظري في تحليله، فإنه انتقد تصوره للقوانين الثلاثة التي أومأنا إليها قبلا، ناظرًا (= بلقزيز) إليها على أنها أقرب إلى فرضيات نسبية تحتمل الصواب كما الخطأ (بدليل فشل تحقيق الوحدة العربية رغم توافر تلك "القوانين" في الحقبة الناصرية) منه إلى قوانين حتمية بالمعنى الإطلاقي.