ـ ما هي العلمانية ؟
هذا السؤال يعد من بين أهم الأسئلة التي كانت الأجوبة عليها يكتنفها غموض كبير، إما عن قصد أو جهل بمضامين ومدلولات المفهوم.
لابد لنا أولا من التفريق بين العلمانية la laïcité كمفهوم له سياقاته التاريخية وارتباطاته بتطورات الفكر الانساني في علاقته بالتحولات المجتمعية . وبين العلمانويةle laïcisme كمذهب فكري ايديولوجي له حمولة وتأثير النزعة الوضعية التي تستبعد الدين كمكون ثقافي أساسي في تاريخ البشرية.
إن الخلط بين العلمانية كمفهوم والعلمانوية كمذهب خلق غموضا والتباسا في كثير من التعريفات والدراسات التي اهتمت بالموضوع ، وارتكز عليها الفكر التقليدي لاستعداء العلمانية ووصفها بالإلحاد.
إن المفاهيم النظرية في كثير من الأحيان تتغير مدلولاتها ومضامينها عبر التحولات التي تعرفها المجتمعات وعبر التطورات التي تعرفها الانساق الفكرية والمنظومات الثقافية في ارتباطها بأسئلة وإشكاليات مجتمعاتها. فمثلا مفهوم المواطنة أو مفهوم الديمقراطية لم يحتفظ بنفس المدلولات التي ظهرا بها في الفكر الإغريقي فتأثير الفكر الليبرالي واضح في مضامينها اليوم. ومفهوم العلمانية كذلك من المفاهيم التي تطورت مضامينها ولم تعد تنحصر في علاقة الدين بالدولة فقط، بل بالإنسان في علاقاته بوجوده وبمجتمعه بشكل عام.
إن العلمانية في الوقت الحالي هي تصور و كيفية للعيش وطريقة في التفكير ، إنها تدعو الفرد لفهم الواقع والايديلوجيات وتوسيع الوعي بها عوض اختيار واحدة منها . إنها إذن نمط عيش وتصور للعالم والوجود ودعوة إلى الفهم والاختيار وعدم التقوقع الدوغمائى.، إنها باختصار دعوة لاحترام الآخر والتعامل معه على قاعدة الاختلاف والتسامح. وبهذا فمضمونها اليوم يحمل في أعماقه دلالة ومعنى مفهوم آخر أشمل وأرحب هو مفهوم الحداثة.
إن مدلولاتها أصبحت أعم وأشمل بالمقارنة مع فترة ظهورها حيث كانت تعارض اعتقادا باعتقاد ، فبالنسبة للدين كانت تطرح العلم،وبالنسبة للعقيدة المنزلة كانت تطرح العقل، وفي مقابل التقليد كانت تطرح التقدم، وبهذا نحتت إيمانها الخاص والمؤسس على الثالوث السامي: العلم والعقل والتقدم.
وكانت هذه المرحلة من حياة تطور مفهوم العلمانية ضرورية ومنسجمة مع عصرها الذي كان يهيمن عليه طابع النزعة الوضعية.
فالعلمانية الفرنسية على سبيل المثال كانت مطبوعة بهذه النزعة بالمقارنة مع طابع العلمانية في بعض البلدان الأوروبية الأخرى. فبجانب تأثير النزعة الوضعية هناك كذلك الطابع التصادمي بين فكر الأنوار الفرنسي والايكليروس ، وبين البورجوازية الصاعدة من جهة والإقطاع ورجال الدين من جهة ثانية الذي سينتهي بثورة 1789.، بالإضافة إلى غياب إصلاح ديني كما هو الشأن في باقي الدول الأوروبية الأخرى كألمانيا وانجلترا مثلا. ويبدو أن تمظهراتها اليوم تغيرت في العهد السركوزي مادام البابا أشاد بها في زيارته الأخيرة لفرنسا. وهذا ليس تحولا على مستوى مضامين العلمانية الفرنسية فقط، بل كذلك وهذا هو المهم التحول الجوهري في مواقف الكنيسة من العلمانية ليؤكد ما سبقت الاشارة إليه بأن مدلولات المفاهيم تتغير بتغير الظرفية السياسية والاجتماعية والثقافية, وبالتالي تتغير المواقف منها سلبا أو إيجابا.
فتعريف العلمانية اليوم لم يعد مرتبطا بظرفية سوسيو سياسية ثابتة أو بانتماء قومي أوديني.،فقد أصبح تعريفها مرتبطا بسياقات تاريخية دياكرونية تتغير وتتطور أسئلتها و إشكالياتها، وبالتالي مدلولاتها ومضامينها بغض النظر عن الانتماء الهوياتي قوميا كان أو دينيا.
II ـ كيف طرح مفهوم العلمانية في الفكر العربي؟ وكيف تعامل الفكر العربي مع إشكالية العلاقة بين الدين والدولة؟
تعامل الفكر العربي مع هذه الاشكالية منذ أواخر القرن 19. إما من زاوية الفصل أي فصل الدين عن الدولة أو من زاوية الوصل أي ربط الدين بالدولة حيث أصبحت موضوعا للصراع بين حراس المقدس و غيرهم. وهذا التعامل لم يترك المجال لظهور منظور آخر مغاير إلا في العقد الأخير عندما بدأت تطرح إشكالية العلمانية ضمن إشكالية التحديث بصفة عامة وكمفهوم له ارتباطات قوية بعدة مفاهيم أخرى، تجتمع كلها في مضمون مفهوم واحد مركزي ألا وهو مفهوم الديمقراطية.
منظور يعطي أهمية للبحث عن وظيفة المعتقد الديني ووظيفة المعتقد السياسي وتقاطعهما داخل الصيرورة المجتمعية أي علاقة " ذروة السيادة العليا" بذروة السيادة السياسية".
إن جوهر التفكير في علاقة الدين بالدولة في الفكر السياسي العربي بشقيه : النهضوي والمعاصر ، كان أساسا للتفكير في تحديث الدولة على الخصوص كجواب على السؤال /_الإشكالية، لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟
فإذا كان النهضويون يهدفون من تناولهم لمسألة العلاقة بين الدين والدولة، تحقيق الحداثة السياسية ومن خلالها التقدم الاجتماعي والاقتصادي فعند المعاصرين كانت لنفس الغرض لكن في إطار الدعوة الى الحداثة في جميع المجالات. فالاختلاف بين النهضويين والمعاصرين يتجلى في كون أنه لم يعد بالنسبة للمعاصرين تحقيق التقدم يمر عبر تحديث الدولة فقط، ، بل عبر تحديث الدولة و المجتمع والاقتصاد و الثقافة...الخ، لهذا جاء النقاش حول إشكالية العلمانية في الفكر السياسي العربي في ارتباط بالإشكاليات السياسية الأخرى وخاصة بإشكالية الديمقراطية.
فالدعوة الى الديمقراطية في جوهرها دعوة إلى ممارسة العقلانية، وحق الاختلاف والتعدد ، واحترام حقوق الانسان ، وفصل السلط من بينها فصل السلطة الدينية عن باقي السلط الأخرى كتحرير المرأة وإشراكها في القرارات وتقويض ركائز المجتمع البطريرركي ... الخ .
فإذا كان ظهور العلمانية في الغرب متزامنا وملازما لبناء الدولة الحديثة ودعما لأسسها أي نتيجة مواجهة الذات للذات، فإن ظهورها في الفكر العربي كان متزامنا مع تفكك بنيات المجتمع التقليدية وانهيار الدولة المركزية دولة الخلافة من جهة والغزو الاستعماري للمنطقة من جهة ثانية، فكان ظهورها نتيجة مواجهة الذات للآخر. لذلك بقي التعامل معها وخاصة في الفكر السلفي يغلب عليه طابع المواجهة مع الآخر.
إن إشكالية العلاقة بين الدين والدولة ، إن لم تكن على الأقل مطروحة اليوم على جميع البلدان العربية، فإننا كما يقول الجابري أمام إشكالية أكثر خطورة تترصد بالجميع ألا وهي إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، والدولة جزء منها. أي تلك العلاقة التي يطبعها استغلال السياسي للديني كما هو الشأن عند بعض الفاعلين السياسيين أحزابا أو دولا، وإما في استغلال الديني للسياسي ، كما هو الشأن عند بعض الجماعات الدينية أو بعض الأفراد الذين يستغلون الهامش الديمقراطي من أجل الوصول لمركز القرار لتطبيق السياسة الشرعية.
III ـ ما علاقة العلمانية بالإسلام؟
منهجيا للإجابة على هذا السؤال سنقسم الجواب إلى قسمين.
أولا : فإن كنا قد فرقنا في جواب سابق بين العلمانية كعقلية وكنمط وسلوك عيش شامل، والعلمانوية كمذهب وإيديلوجيا تصادمية، فعلينا كذلك أن نفرق بين علاقة الدين بالدولة وعلاقة الدين بالسياسة.
فإذا كانت علاقة الدين بالدولة غير مطروحة بشكل حاد و آني في جميع البلدان العربية والإسلامية وهذا لا يعني إلغاء طرحها أو أبعادها كإشكالية من إشكاليات الفكر العربي ـ بحكم عدم وجود مجموعات كبيرة غير إسلامية في هذه البلدان إذا استثنينا المشرق العربي، وإذا أضفنا أن نظم الحكم فيها تستمد تشريعاتها من القانون المدني .والسياسة المدنية.فان ما يطرح اليوم كإشكالية أصبحت تشكل تهديدا للجميع وخطرا على تماسك بنيات المجتمع ، وتحريفا للصراع الحقيقي هي إشكالية علاقة الدين بالسياسة كجزء واحد من مضامين مفهوم العلمانية.
ثانيا : علينا كذلك أن نفرق بين الاسلام كعقيدة وتراث l’islam وبين الايديولوجيا الاسلاموية l'islamisme التي تتعامل مع الدين ليس كعلاقة بين الفرد وربه، بل تتعامل معه كمذهب شمولي كلياني يغلب عليه الطابع السياسي التيوقراطي.
إن الإسلام لم يحدد نظام حكم ولا كيفية تدبير الشأن العام، بل ترك الأمر بيد المسلم في علاقته بالتحولات التي تعرفها مجتمعاته،و إلا بماذا نفسر انهيار وفشل حكم الخلفاء الراشدين . فالنبي لم يترك نظاما ولا مذهبا من المذاهب الموجودة اليوم ، ولا فرقة أو جماعة من الفرق والجماعات العديدة المنتشرة هنا وهناك في أرجاء العالم العربي والإسلامي بل حتى خارج هذين العالمين، ولا ترك أهل أمة السنة أو أهل أمة الشيعة ، بل ترك رسالة وعقيدة واحدة موحدة، بينما هذا الخليط والفرق بين المذاهب و الجماعات هو نتيجة لظروف الزمان والمكان وتحولات الأوضاع السوسيو سياسية، والاقتصادية، هذا ما يدفعنا إلى التأكيد على جعل الواقع والظروف التاريخية مرجعا أساسيا وأصلا تابثا من أصول الاسلام بجانب الكتاب والسنة.
فإذا أراد الفكر المتنور أن يتجادل مع الفكر التقليدي المنغلق، عليه أن يعتمد ويبرز في تحليلاته هذا المرجع الثالث بجانب المرجعيتين المعروفتين اللتين يعتمد عليهما الخطاب التقليدي دون سواهما للحفاظ على سلطته واستغلالها في التأثير على المشهد الثقافي ليبقى الجميع تحت هيمنة وسيطرة سلطة القبور والأموات. وذلك لأنه لم يستطع تجاوز سلطة الماضي وبالتالي لم يستطع القيام و لا القدرة على طرح أسئلة جريئة وشجاعة، فيما يتعلق بالإسلام في علاقته بالواقع والأسئلة والإشكالات الجوهرية المطروحة على المسلم اليوم.
والذي له الجرأة على طرح مثل هذه الأسئلة هو الفكر النقدي الذي يعتمد على الواقع وآلياته في التحليل. وقد بدأنا نلمس بوادر هذا التوجه داخل الفكر الشيعي مثلا من خلال نقد ولاية الفقيه ، والدعوة الى تجاوز رواية المهدي المنتظر ...الخ ـ بخلاف المذهب السني الذي لازال تحت سيطرة الفقه التقليدي للآسف .
وإذا التزمنا بهذا التركيب ، فإن مسـألة العلمانية تطرح بشكل خاص كتضاد وتهديد لمصالح الإسلام السياسي ، لأن مرجعياته والبعد الايديلوجي الذي يتأسس عليه يعتمد في منطلقاته وبديهياته على المنطق الاطلاقي ، والتوظيف السياسي للدين، بينما العلمانية والمفاهيم الحداثية الأخرى المرتبطة بها كلها تتأسس على المنطق النسبي# وإبعاد المقدس عن المدنس#، وهذا الاختلاف في المنطلقات هو ما يجعل الاسلام السياسي يعادي ويستبعد العلمانية لأنها لا تساير أهدافه السياسية، فموقفه منها إذن لا يتأسس على البعد الديني بل على البعد السياسي. هذا ما يجعله ملتبسا في مواقفه ليس فقط اتجاه العلمانية بل اتجاه كل مفاهيم الفكر الحديث و التي أصبحت جزءا من فكرنا العربي ، كمفهوم الديمقراطية والتسامح والاختلاف ، وحقوق الانسان...الخ.
4- العلمانية في المغرب
إذا استثنينا تعامل بعض المثقفين والمفكرين المغاربة مع العلمانية، وكيف كانت مقارباتهم النظرية إما في اتجاه الفصل أو الوصل وأما في البحث عن أصولها في الغرب وجدورها في التراث وإما في إطار عملية التحديث بصفة عامة أو التحديث السياسي بصفة خاصة، نجد أن المفهوم يكتنفه غموض والتباس كبيرين.
ولإبراز هذا الغموض سنحاول الوقوف على تفاعلات الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية مع العلمانية.
بالنسبة للدولة كمؤسسة سياسية وكطرف له إيديولوجية وتصوره للممارسة ليس فقط السياسية بل كذلك الدينية من خلال إمارة المؤمنين ووزارة الأوقاف أو منظومة التربية والتكوين، نجد أن تعاملها مع العلمانية أو علاقة الدين بالدولة يغلب عليه طابع الانتقائية، فهي علمانية على مستوى الممارسة السياسية، وتقليدية محافظة على مستوى الممارسة الدينية، وهذا الغموض والإبهام يساعد على التوظيف السياسي للدين تحت شعارات "الأصالة والمعاصرة" أو "الوسطية والاعتدال"، حتى أصبح يصعب على الدارس تحديد مضامين هذين الشعارين، وبالتالي أين حدود التقليد وبداية التحديث.
بالنسبة للأحزاب الوطنية والديمقراطية، يتجلى الغموض في غياب رؤية وموقف واضحين في خطاباتها وممارساتها، لهذا كان تعاملها مع العلمانية إما من زاوية اعتبارها كترف فكري خاص بالنخبة وإما لأنهم لم يستطيعوا الفكاك من هيمنة النزعة السلفية التي كانت الإيديولوجيا الرسمية للحركة الوطنية.
وحتى اليسار لم يبدأ الاهتمام بالمسألة الدينية وعلاقة الدين بالدولة إلا في السنين الأخيرة بنوع من الحذر ومن موقع تبرئة الذمة من نعت الالحاد والكفر، انعكس على موقفه المتردد والملتبس من العلمانية حيث يتبناها كشعار دون مضمون.
أما تعامل حركات الإسلام السياسي مع العلمانية فهو الرفض ونعتها بالالحاد، لأنها كما سبقت الإشارة، لا تساير بل تناقض استراتيجيتهم السياسية، لكونها تدعو إلى فصل السياسي عن الديني.
وهذا واضح من خلال خطابات جماعة "العدل والإحسان" أو حزب "العدالة والتنمية" ومن ورائه حركة "التوحيد والاصلاح". فالبناء الإيديلوجي لتنظيماتهم يتأسس على الخلط بين الديني والسياسي أو الروحي والمدني.
فإن كانت جماعة "العدل والإحسان" لا تخفي صبغتها السياسية/الدينية حتى في تسميتها، فإن حزب "العدالة والتنمية" وإن كان يقر بمرجعيته الإسلامية، وبأن الإسلام هو المصدر الأسمى لجميع التشريعات والقوانين، يعتبر نفسه حزبا سياسيا لا دينيا يخضع لقوانين الدستور وعلى رأسها الاعتراف للملك بإمارة المؤمنين، وهذا اللعب على ورقة الغموض دفع ببعض خصومه السياسيين باتهامه بإتباع سياسة التقية، ليسهل عليه استغلال الدين من أجل السياسة.
إن التعامل مع العلمانية أو مع المسألة الدينية في الخطاب السياسي المغربي وعند الفاعلين السياسيين، يكون إما تعاملا تغيب فيه الرؤية الواضحة والجنوح نحو الانتقائية، أو تعاملا حذرا ومترددا لإبعاد شبهات الإلحاد، أو تعاملا رافضا رفضا مطلقا لها لأنها تعيق وتقوض التصور التيوقراطي للدولة.
المراجع المعتمدة
الدولتان-السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الاسلام
برتران بادي.ت.لطيف فرج
دار الفكرللدراسات والنشروالتوزيع
2-الانتربلوجيا السياسية
جورج بلانديه الطبعة الاولى 1990
3-الاديلوجيا العربية المعصرة. عبدالله العروي
4-العرب والفكر التاريخي. عبدالله العروي
5-الاصلاحية العربية والدولة الوطنية. علي اومليل
6- في شرعية الاختلاف. علي اومليل
7-الاسلام السياسي. المستشار محمد سعيد العشماوي
8-الاسلام واصول الحكم. علي عبدالرازق
9-ابن رشد وفلسفته. فرح انطون
10-العلمنة والدين. الاسلام.المسيحية. الغرب. محمد اركون
11- العلمانية من منظور مختلف. عزيز العظمة
12-اشكالية الفكر العربي المعاصر. محمد عابد الجابري
13- الخطاب العربي المعاصر. محمدعابد الجابري
14-نقد السياسة الدولة والدين. برهان غليون
15- les intellectuels au moyen age. Jacques legoff
16-la laicite. Daniel beresniak
17-l islamisme radical. Bruno Etienne
18-Approches de la modernité. Jean-Marie Domenach
وكانت هذه المرحلة من حياة تطور مفهوم العلمانية ضرورية ومنسجمة مع عصرها الذي كان يهيمن عليه طابع النزعة الوضعية.
فالعلمانية الفرنسية على سبيل المثال كانت مطبوعة بهذه النزعة بالمقارنة مع طابع العلمانية في بعض البلدان الأوروبية الأخرى. فبجانب تأثير النزعة الوضعية هناك كذلك الطابع التصادمي بين فكر الأنوار الفرنسي والايكليروس ، وبين البورجوازية الصاعدة من جهة والإقطاع ورجال الدين من جهة ثانية الذي سينتهي بثورة 1789.، بالإضافة إلى غياب إصلاح ديني كما هو الشأن في باقي الدول الأوروبية الأخرى كألمانيا وانجلترا مثلا. ويبدو أن تمظهراتها اليوم تغيرت في العهد السركوزي مادام البابا أشاد بها في زيارته الأخيرة لفرنسا. وهذا ليس تحولا على مستوى مضامين العلمانية الفرنسية فقط، بل كذلك وهذا هو المهم التحول الجوهري في مواقف الكنيسة من العلمانية ليؤكد ما سبقت الاشارة إليه بأن مدلولات المفاهيم تتغير بتغير الظرفية السياسية والاجتماعية والثقافية, وبالتالي تتغير المواقف منها سلبا أو إيجابا.
فتعريف العلمانية اليوم لم يعد مرتبطا بظرفية سوسيو سياسية ثابتة أو بانتماء قومي أوديني.،فقد أصبح تعريفها مرتبطا بسياقات تاريخية دياكرونية تتغير وتتطور أسئلتها و إشكالياتها، وبالتالي مدلولاتها ومضامينها بغض النظر عن الانتماء الهوياتي قوميا كان أو دينيا.
II ـ كيف طرح مفهوم العلمانية في الفكر العربي؟ وكيف تعامل الفكر العربي مع إشكالية العلاقة بين الدين والدولة؟
تعامل الفكر العربي مع هذه الاشكالية منذ أواخر القرن 19. إما من زاوية الفصل أي فصل الدين عن الدولة أو من زاوية الوصل أي ربط الدين بالدولة حيث أصبحت موضوعا للصراع بين حراس المقدس و غيرهم. وهذا التعامل لم يترك المجال لظهور منظور آخر مغاير إلا في العقد الأخير عندما بدأت تطرح إشكالية العلمانية ضمن إشكالية التحديث بصفة عامة وكمفهوم له ارتباطات قوية بعدة مفاهيم أخرى، تجتمع كلها في مضمون مفهوم واحد مركزي ألا وهو مفهوم الديمقراطية.
منظور يعطي أهمية للبحث عن وظيفة المعتقد الديني ووظيفة المعتقد السياسي وتقاطعهما داخل الصيرورة المجتمعية أي علاقة " ذروة السيادة العليا" بذروة السيادة السياسية".
إن جوهر التفكير في علاقة الدين بالدولة في الفكر السياسي العربي بشقيه : النهضوي والمعاصر ، كان أساسا للتفكير في تحديث الدولة على الخصوص كجواب على السؤال /_الإشكالية، لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟
فإذا كان النهضويون يهدفون من تناولهم لمسألة العلاقة بين الدين والدولة، تحقيق الحداثة السياسية ومن خلالها التقدم الاجتماعي والاقتصادي فعند المعاصرين كانت لنفس الغرض لكن في إطار الدعوة الى الحداثة في جميع المجالات. فالاختلاف بين النهضويين والمعاصرين يتجلى في كون أنه لم يعد بالنسبة للمعاصرين تحقيق التقدم يمر عبر تحديث الدولة فقط، ، بل عبر تحديث الدولة و المجتمع والاقتصاد و الثقافة...الخ، لهذا جاء النقاش حول إشكالية العلمانية في الفكر السياسي العربي في ارتباط بالإشكاليات السياسية الأخرى وخاصة بإشكالية الديمقراطية.
فالدعوة الى الديمقراطية في جوهرها دعوة إلى ممارسة العقلانية، وحق الاختلاف والتعدد ، واحترام حقوق الانسان ، وفصل السلط من بينها فصل السلطة الدينية عن باقي السلط الأخرى كتحرير المرأة وإشراكها في القرارات وتقويض ركائز المجتمع البطريرركي ... الخ .
فإذا كان ظهور العلمانية في الغرب متزامنا وملازما لبناء الدولة الحديثة ودعما لأسسها أي نتيجة مواجهة الذات للذات، فإن ظهورها في الفكر العربي كان متزامنا مع تفكك بنيات المجتمع التقليدية وانهيار الدولة المركزية دولة الخلافة من جهة والغزو الاستعماري للمنطقة من جهة ثانية، فكان ظهورها نتيجة مواجهة الذات للآخر. لذلك بقي التعامل معها وخاصة في الفكر السلفي يغلب عليه طابع المواجهة مع الآخر.
إن إشكالية العلاقة بين الدين والدولة ، إن لم تكن على الأقل مطروحة اليوم على جميع البلدان العربية، فإننا كما يقول الجابري أمام إشكالية أكثر خطورة تترصد بالجميع ألا وهي إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة، والدولة جزء منها. أي تلك العلاقة التي يطبعها استغلال السياسي للديني كما هو الشأن عند بعض الفاعلين السياسيين أحزابا أو دولا، وإما في استغلال الديني للسياسي ، كما هو الشأن عند بعض الجماعات الدينية أو بعض الأفراد الذين يستغلون الهامش الديمقراطي من أجل الوصول لمركز القرار لتطبيق السياسة الشرعية.
III ـ ما علاقة العلمانية بالإسلام؟
منهجيا للإجابة على هذا السؤال سنقسم الجواب إلى قسمين.
أولا : فإن كنا قد فرقنا في جواب سابق بين العلمانية كعقلية وكنمط وسلوك عيش شامل، والعلمانوية كمذهب وإيديلوجيا تصادمية، فعلينا كذلك أن نفرق بين علاقة الدين بالدولة وعلاقة الدين بالسياسة.
فإذا كانت علاقة الدين بالدولة غير مطروحة بشكل حاد و آني في جميع البلدان العربية والإسلامية وهذا لا يعني إلغاء طرحها أو أبعادها كإشكالية من إشكاليات الفكر العربي ـ بحكم عدم وجود مجموعات كبيرة غير إسلامية في هذه البلدان إذا استثنينا المشرق العربي، وإذا أضفنا أن نظم الحكم فيها تستمد تشريعاتها من القانون المدني .والسياسة المدنية.فان ما يطرح اليوم كإشكالية أصبحت تشكل تهديدا للجميع وخطرا على تماسك بنيات المجتمع ، وتحريفا للصراع الحقيقي هي إشكالية علاقة الدين بالسياسة كجزء واحد من مضامين مفهوم العلمانية.
ثانيا : علينا كذلك أن نفرق بين الاسلام كعقيدة وتراث l’islam وبين الايديولوجيا الاسلاموية l'islamisme التي تتعامل مع الدين ليس كعلاقة بين الفرد وربه، بل تتعامل معه كمذهب شمولي كلياني يغلب عليه الطابع السياسي التيوقراطي.
إن الإسلام لم يحدد نظام حكم ولا كيفية تدبير الشأن العام، بل ترك الأمر بيد المسلم في علاقته بالتحولات التي تعرفها مجتمعاته،و إلا بماذا نفسر انهيار وفشل حكم الخلفاء الراشدين . فالنبي لم يترك نظاما ولا مذهبا من المذاهب الموجودة اليوم ، ولا فرقة أو جماعة من الفرق والجماعات العديدة المنتشرة هنا وهناك في أرجاء العالم العربي والإسلامي بل حتى خارج هذين العالمين، ولا ترك أهل أمة السنة أو أهل أمة الشيعة ، بل ترك رسالة وعقيدة واحدة موحدة، بينما هذا الخليط والفرق بين المذاهب و الجماعات هو نتيجة لظروف الزمان والمكان وتحولات الأوضاع السوسيو سياسية، والاقتصادية، هذا ما يدفعنا إلى التأكيد على جعل الواقع والظروف التاريخية مرجعا أساسيا وأصلا تابثا من أصول الاسلام بجانب الكتاب والسنة.
فإذا أراد الفكر المتنور أن يتجادل مع الفكر التقليدي المنغلق، عليه أن يعتمد ويبرز في تحليلاته هذا المرجع الثالث بجانب المرجعيتين المعروفتين اللتين يعتمد عليهما الخطاب التقليدي دون سواهما للحفاظ على سلطته واستغلالها في التأثير على المشهد الثقافي ليبقى الجميع تحت هيمنة وسيطرة سلطة القبور والأموات. وذلك لأنه لم يستطع تجاوز سلطة الماضي وبالتالي لم يستطع القيام و لا القدرة على طرح أسئلة جريئة وشجاعة، فيما يتعلق بالإسلام في علاقته بالواقع والأسئلة والإشكالات الجوهرية المطروحة على المسلم اليوم.
والذي له الجرأة على طرح مثل هذه الأسئلة هو الفكر النقدي الذي يعتمد على الواقع وآلياته في التحليل. وقد بدأنا نلمس بوادر هذا التوجه داخل الفكر الشيعي مثلا من خلال نقد ولاية الفقيه ، والدعوة الى تجاوز رواية المهدي المنتظر ...الخ ـ بخلاف المذهب السني الذي لازال تحت سيطرة الفقه التقليدي للآسف .
وإذا التزمنا بهذا التركيب ، فإن مسـألة العلمانية تطرح بشكل خاص كتضاد وتهديد لمصالح الإسلام السياسي ، لأن مرجعياته والبعد الايديلوجي الذي يتأسس عليه يعتمد في منطلقاته وبديهياته على المنطق الاطلاقي ، والتوظيف السياسي للدين، بينما العلمانية والمفاهيم الحداثية الأخرى المرتبطة بها كلها تتأسس على المنطق النسبي# وإبعاد المقدس عن المدنس#، وهذا الاختلاف في المنطلقات هو ما يجعل الاسلام السياسي يعادي ويستبعد العلمانية لأنها لا تساير أهدافه السياسية، فموقفه منها إذن لا يتأسس على البعد الديني بل على البعد السياسي. هذا ما يجعله ملتبسا في مواقفه ليس فقط اتجاه العلمانية بل اتجاه كل مفاهيم الفكر الحديث و التي أصبحت جزءا من فكرنا العربي ، كمفهوم الديمقراطية والتسامح والاختلاف ، وحقوق الانسان...الخ.
4- العلمانية في المغرب
إذا استثنينا تعامل بعض المثقفين والمفكرين المغاربة مع العلمانية، وكيف كانت مقارباتهم النظرية إما في اتجاه الفصل أو الوصل وأما في البحث عن أصولها في الغرب وجدورها في التراث وإما في إطار عملية التحديث بصفة عامة أو التحديث السياسي بصفة خاصة، نجد أن المفهوم يكتنفه غموض والتباس كبيرين.
ولإبراز هذا الغموض سنحاول الوقوف على تفاعلات الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية مع العلمانية.
بالنسبة للدولة كمؤسسة سياسية وكطرف له إيديولوجية وتصوره للممارسة ليس فقط السياسية بل كذلك الدينية من خلال إمارة المؤمنين ووزارة الأوقاف أو منظومة التربية والتكوين، نجد أن تعاملها مع العلمانية أو علاقة الدين بالدولة يغلب عليه طابع الانتقائية، فهي علمانية على مستوى الممارسة السياسية، وتقليدية محافظة على مستوى الممارسة الدينية، وهذا الغموض والإبهام يساعد على التوظيف السياسي للدين تحت شعارات "الأصالة والمعاصرة" أو "الوسطية والاعتدال"، حتى أصبح يصعب على الدارس تحديد مضامين هذين الشعارين، وبالتالي أين حدود التقليد وبداية التحديث.
بالنسبة للأحزاب الوطنية والديمقراطية، يتجلى الغموض في غياب رؤية وموقف واضحين في خطاباتها وممارساتها، لهذا كان تعاملها مع العلمانية إما من زاوية اعتبارها كترف فكري خاص بالنخبة وإما لأنهم لم يستطيعوا الفكاك من هيمنة النزعة السلفية التي كانت الإيديولوجيا الرسمية للحركة الوطنية.
وحتى اليسار لم يبدأ الاهتمام بالمسألة الدينية وعلاقة الدين بالدولة إلا في السنين الأخيرة بنوع من الحذر ومن موقع تبرئة الذمة من نعت الالحاد والكفر، انعكس على موقفه المتردد والملتبس من العلمانية حيث يتبناها كشعار دون مضمون.
أما تعامل حركات الإسلام السياسي مع العلمانية فهو الرفض ونعتها بالالحاد، لأنها كما سبقت الإشارة، لا تساير بل تناقض استراتيجيتهم السياسية، لكونها تدعو إلى فصل السياسي عن الديني.
وهذا واضح من خلال خطابات جماعة "العدل والإحسان" أو حزب "العدالة والتنمية" ومن ورائه حركة "التوحيد والاصلاح". فالبناء الإيديلوجي لتنظيماتهم يتأسس على الخلط بين الديني والسياسي أو الروحي والمدني.
فإن كانت جماعة "العدل والإحسان" لا تخفي صبغتها السياسية/الدينية حتى في تسميتها، فإن حزب "العدالة والتنمية" وإن كان يقر بمرجعيته الإسلامية، وبأن الإسلام هو المصدر الأسمى لجميع التشريعات والقوانين، يعتبر نفسه حزبا سياسيا لا دينيا يخضع لقوانين الدستور وعلى رأسها الاعتراف للملك بإمارة المؤمنين، وهذا اللعب على ورقة الغموض دفع ببعض خصومه السياسيين باتهامه بإتباع سياسة التقية، ليسهل عليه استغلال الدين من أجل السياسة.
إن التعامل مع العلمانية أو مع المسألة الدينية في الخطاب السياسي المغربي وعند الفاعلين السياسيين، يكون إما تعاملا تغيب فيه الرؤية الواضحة والجنوح نحو الانتقائية، أو تعاملا حذرا ومترددا لإبعاد شبهات الإلحاد، أو تعاملا رافضا رفضا مطلقا لها لأنها تعيق وتقوض التصور التيوقراطي للدولة.
المراجع المعتمدة
الدولتان-السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الاسلام
برتران بادي.ت.لطيف فرج
دار الفكرللدراسات والنشروالتوزيع
2-الانتربلوجيا السياسية
جورج بلانديه الطبعة الاولى 1990
3-الاديلوجيا العربية المعصرة. عبدالله العروي
4-العرب والفكر التاريخي. عبدالله العروي
5-الاصلاحية العربية والدولة الوطنية. علي اومليل
6- في شرعية الاختلاف. علي اومليل
7-الاسلام السياسي. المستشار محمد سعيد العشماوي
8-الاسلام واصول الحكم. علي عبدالرازق
9-ابن رشد وفلسفته. فرح انطون
10-العلمنة والدين. الاسلام.المسيحية. الغرب. محمد اركون
11- العلمانية من منظور مختلف. عزيز العظمة
12-اشكالية الفكر العربي المعاصر. محمد عابد الجابري
13- الخطاب العربي المعاصر. محمدعابد الجابري
14-نقد السياسة الدولة والدين. برهان غليون
15- les intellectuels au moyen age. Jacques legoff
16-la laicite. Daniel beresniak
17-l islamisme radical. Bruno Etienne
18-Approches de la modernité. Jean-Marie Domenach
ذ.مراد زوين
كلية الآداب-المحمدية
كلية الآداب-المحمدية