استعمل سكان بلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط وحدات غير مضبوطة القياس، اختلف قياسها من منطقة إلى أخرى، وتحكمت في ذلك مجموعة من العوامل، منها العرف وصعوبة التكسير والظروف العمرانية والطبيعية.
استغلت وحدة المرحلة في تحديد المسافة بين مناطق بلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط، إلا أنها لم تكن دقيقة وثابتة بل تحكمت فيها العوامل الجغرافية، وتعددت وحداتها لتزيد من ارتباك الباحث في المقاييس والأطوال، ونتج عن ذلك اختلاف كبير بين أصغر مرحلة وأكبرها، ويبدو أن وجود المدن والنزلات والآبار هي التي تحكمت في قياس هذه المراحل، وحددت مسافتها، لذلك نجدها غير ثابتة ولا دقيقة تكبر وتصغر من مرحلة إلى أخرى. ورغم هذا اعتمدها الجغرافيون والمؤرخون العرب في كتاباتهم لإعطاء صورة عن المسالك والطرق ومدى سهولتها أو وعورتها.
المرحلة واحدة المراحل، ويقــال بيني وبيــن كذا مرحلة أو مرحلتـان(1)، وقيل: «ترحلهم أي تنزلهم المراحل وقيل ترحل معهم إذا رحلوا وتنزل معهم إذا نزلوا»(2). والمرحلة: « المنزلة يرتحل منها وما بين المنزلتين مرحلة»(3)، وهو ما يؤكده كلام ياقوت الحموي عندما قال: « بينها [قابس] وبين طرابلس ثمانية منازل»(4) ، أي ثمانية مراحل. وقال إبراهيم بن الأغلب عندما كان قادما إلى بلاد المغرب يريد إفريقية، وقد ترك أسرته في مصر:
ما سرت ميلا ولا جاوزت مرحلة إلا وذكرك يلوي دائما عنقي(5)
فنجده استعمل مصطلح المرحلة أحيانا للدلالة عن المسافة، دون تحديدها، في مناطق بلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط؛ كما أن لناصر لدين الله الأموي في غزوته لشاطبة سنة 311 هـ / 923-924 م، كان يطوي « المراحل حتى نزل على مدينة ببشتر»(6)، كما أن الخليفة الموحدي خلال سنة 567 هـ / 1171 م كان يقطع « مرحلة بعد مرحلة ... [حتى] وصل مدينة شاطبة»(7).
إلا أن الجغرافيين والمؤرخين العرب استعملوا المرحلة وحدة لقياس المسافة بين مناطق بلاد المغرب والأندلس. فالبكري ذكر أن « من تلمسان إلى مدينة وجدة ثلاث مراحل»(8)، وفي موضع آخر قال إن « من تامدلت إلى بئر الجمالين مرحلة»(9)، واستغل ابن حوقل وحدة المرحلة كأداة دقيقة وثابتة للقياس حين قال: « وبينه [جبل الهلال] وبين رأس أوثان [على ساحل برقة] مرحلتان ونصف»(10)، بل إن البكري استطاع أن يحدد المسافة بين تونس والقيروان بوحدة الميل وأعطى مقابلها بالمراحل، حيث قال: « ومن القيروان إلى مدينة تونس مائة ميل، وهي ثلاث مراحل: فإلى فندق شكل مرحلة وإلى منستير عثمان مرحلة وإلى القيروان مرحلة»(11)؛ وإذا وثقنا بمصادرنا العربية، وجعلنا المرحلة وحدة قياس، فإنها من خلال إشارة البكري تساوي 33,33 ميلا، إلا أن أبا الفرج الأصفهاني يمدنا بقياس آخر للمرحلة، فقد ذكر أن « يوسف بن الحكم اعتل علة فطالت عليه فنذرت زينب إن عوفي أن تمشي إلى البيت فعوفي فخرجت في نسوة فقطعن بطن وج وهو ثلثمائة ذراع في يوم، جعلته مرحلة لثقل بدنها، ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر»(12)، ورغم أن هذه الإشارة تعبر عن حالة استثنائية، إلا أنها توحي بأن المرحلة لم تكن وحدة قياس ثابتة ومضبوطة.
ولعل ما يؤكد هذا الطرح، هو وجود صفات ونعوت متعددة للمرحلة، مما يبث الارتباك لدى الباحث في القياس المضبوط لها؛ ونورد الإشارات التالية لتبين ذلك:
* مرحلة كبيرة جدا:
- « من مدينة إشبيلية إلى شريس مرحلتان كبيرتان جدا»(13).
* مرحلة كبيرة:
- « من المعرة إلى قنسرين مرحلة كبيرة»(14) .
- « ومن مرماجنة إلى مدينة مجانة ... مرحلة كبيرة»(15).
* مرحلة جيدة:
- « تل باشر على مرحلة جيدة من حلب»(16).
* شبيه مرحلة:
- « من القيروان على شبيه بمرحلة بمكان يقال له الأصنام»(17).
* مرحلة قريبة:
- « بل صمم [أي أمير المؤمنين المنصور عند لقائه ألفونسو الثامن] نحوه وقصد، حتى بقي بينه وبين مدينة الأرك مرحلتان قريبتان»(18).
* مرحلة خفيفة:
- « ومن القيروان إلى مدينة يسفوطره مرحلتان خفيفتان»(19).
- « ثم [أي من ماردة] إلى بطليوس مرحلة خفيفة»(20).
- « ومن مارتلة إلى حصن ولبة مرحلتان خفيفتان»(21).
- « من مدينة ماردة على حصن مدلين مرحلتان خفيفتان ... ومن حصن مدلين إلى ترجالة مرحلتان خفيفتان»(22).
- « بين باجة والبحر مرحلتان خفيفتان»(23).
- « ومن مرماجنة إلى مدينة مجانة مرحلتان خفيفتان»(24).
- « ومنها [دكمه] إلى المسيلة ... مرحلة خفيفة»(25).
- « ومنها [مسيلة] إلى أجر قرية ... مرحلة خفيفة ... ومنها [آجر] إلى طافجنه قرية ... مرحلة خفيفة»(26).
* مرحلة صغيرة:
- « ومن مكول إلى قرية أكسيس مرحلة صغيرة»(27).
- « من قنسرين إلى حلب مرحلة صغيرة»(28).
- « بينه [قصر المجاز] وبين طنجة مرحلة صغيرة وكذلك بينه وبين طنجة»(29).
* مرحلة لطيفة:
- « ومنه [أي من حصن الحنش] إلى مدينة ماردة مرحلة لطيفة»(30).
- « ومن تنس إلى بني واريفن ... مرحلة لطيفة»(31).
- « ومنها [أي العلويين] إلى تنمسان مرحلة لطيفة»(32).
* مرحلة رفيقة:
- « يرحل بهم [أي الخليفة الموحدي أبي يعقوب] كل يوم مرحلة رفيقة»(33).
* بعض مرحلة:
- « ومن نفطه إلى قسطيلية بعض مرحلة»(34).
يلاحظ من خلال هذه الإشارات أن وحدات المرحلة تعددت لتصبح إحدى عشرة وحدة غير مضبوطة القياس، وإذا كنا قد حاولنا أن نضع لها ترتيبا من الكبير إلى الصغير، فإننا لم نعتمد على أسس علمية في ذلك، وإنما حاولنا أن نتفاعل مع النعت الذي ألصق بها، ولنا اليقين أن هذا الترتيب يشوبه الارتباك والخلط، لأننا نعدم وجود معلومات دقيقة حول قياس المرحلة وأجزائها الأخرى، اللهم إلا إشارة الإدريسي الذي يقول فيها: « ومن مرماجنة إلى مدينة مجانة مرحلتان خفيفتان بل هي مرحلة كبيرة»(35)؛ وهي بدورها لا تقدم شيئا يمكن الاستناد عليه كأساس لمعرفة قياس المرحلة، ومما يزيد الأمر تعقيدا هي بعض الإشارات التي تفرق بين المرحلة الصحراوية والمرحلة العادية، إذا نجد السراج يقول: « ثم مرحلتان صحراوان»(36)، وفي موضع آخر يتحدث عن « مراحل صحرا غبرا»(37)، وفي آخر عن « مراحل صحرا»(38).
أمام هذا الارتباك لم نجد بدا من الرجوع إلى استقراء النصوص من جديد علنا نخرج بخلاصة علمية، يمكن الاستناد عليها في تحديد مسافة المرحلة، خاصة وأنها كانت أساسية في تحديد المسافة بين مناطق بلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط. وكان عمدتنا كتاب " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي لما يقدمه من معلومة قيمة عن المرحلة، بل نجده انفرد بإشارات مهمة في ذلك؛ إذ يقول: « ومن مدينة مراكش إلى مدينة سلا على ساحل البحر تسع مراحل أولها تونين ... ومن تونين إلى قرية تيقطين مرحلة إلى قرية غفسيق مرحلة ... ومن قرية غفسيق إلى قرية أم ربيع مرحلة ... ومن أم ربيع إلى قرية ايغيسل مرحلة ... ومن هذه القرية إلى قرية أنقال مرحلة ... ومن أنقال إلى قرية مكول مرحلة ... ومن مكول إلى قرية اكسيس مرحلة صغيرة ... ومن قرية اكسيس إلى مدينة سلا مرحلة»(39).
وإذا تتبعنا هذه المراحل على الخريطة، يتضح لنا اختلاف المسافة بين المراحل التسع المذكورة، رغم أن الإدريسي لم يميز بينها إلا مرة واحدة حينما نعت المرحلة بين قرية أكسيس وسلا بالصغيرة، وكأن المراحل الأخرى متساوية ومضبوطة القياس؛ والرسم البياني والخريطة يبرزان ذلك:
............
لقراءة تتمة المقال يرجى تحميله من هنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا