تتطلَّب حاجتنا لتراث إنساني رديفٍ في عصر مظلم إحياءَ المجتمعات الشرقيّة في أعلامها وممارساتها ووعودها بفلسفة اللاعنف التي أكدت حقيقتَها الثوراتُ العربية السّلمية في بداية العام 2011، والتي استمرت في السودان والبحرين والسعودية الى اليوم في حلّةٍ لاعنفية لافتة، وإن تردّت في سوريا ومصر تاركةً الساحة للغلوّ على أنواعه: إسلامي وعسكري، تمرّدي وحكومي. وبغضّ النظر عن اليوميات السياسيّة المتقلّبة، نحن بصدد إعادةِ قراءةٍ لتراثٍ يرافق اللاعنف الثوري، أشار الى ضرورتها عالم اجتماع فرنسي كبير في العام 2004:
وبعبارة أخرى، الإفادة كبيرة للشرق الأدنى والأوسط إذا كان أشباه لوثر Luther في النجف وقم، وأشباه كلفن Calvin في المدن/الإمارات، ونظائر جان هوس Jean Hus في كل مكان، مسموعين في ندائهم الإصلاحي، في حين يتم تشجيع صنو فولتير في التصدي للمغالاة الوهابية وفي فضح جميع قضايا كالاس Calas الجائرة، أكان ضحاياها أعياناً أو فلاحين، نساءً أو صحافيين. وفي الموازاة، علينا أن نشدّ آمالنا في أصحاب اراسمس Erasmus بحملهم هذا الجنون المعروف بالفكر الحرّ، وفي تكاثرهم وامتدادهم على قوس من التقدم يتنامى من المكتبة الكبرى في الإسكندرية، الى بيروت الصحافة الحرة، والى فضائيات بحرينية وقطرية تسلك طرقاً متجددة على هذا القوس التاريخي. وغيري ممن يولي اهتماماً أكبر للتاريخ العربي والهندي قادر على توسيع اللائحة الى أبناء خلدون جدد يجاهرون بالإصلاح والتجديد الذي تحتاج اليه ديانة كبرى للتخلي عن رسوبات القرون الغابرة فتحيي شباباً ملائماً لحاجات العصر الراهن.
وكأن التاريخ أراد الإجابة الفوريّة على أماني روبير فوسار Robert Fossaert، فصَدَر نداء اللاعنف من قلب المؤسسة الدينية الشيعية في كتاب نشر العام ذاتَهُ بقلم عالم نجفي شاب، السيد حسن بحر العلوم (ولد 1963)، بعنوان معبِّر: مجتمع اللاعنف: دراسة في واقع الأمة الإسلامية - وقد غادرنا السيد حسن للأسف الشهر الماضي فحرمنا علمَه الغفير وإتمامَ رسالته النيِّرة، نحيي ذكراه المجيدة إن شاء الله في النجف قريباً.
المعركة أعمق من الخلاف على كلمات. فالفتنة والإرهاب واستعمال ذريعة الأمن في غير محلّها، توصيفٌ معتاد ومتكرّر لن يغيب عن استعمال المتسلّطين في رفَّة جفن. يحتاج محو مئات السنين من طغيان العنف على التاريخ الى فهمٍ أكثر امتداداً من بروز اللاعنف عبارةً للشارع، ولو كان هذا البروز جارفاً العام 2011. في بناء تعدّد المعاني على فرادى الكلمات مجرَّد تعرُّضٍ عابر للقشور. يحتاج اللبّ الى إشادة بنيان فكري أعمق وأمتن.
مثل هذا الجهد دائماً جبَّار، ولا يمكن للفرد حمْلُه على كتفيه وَحْده. وقد بدأ الجهد جماعياً في حديث النهضة على أكثر من صعيد، علينا أن نتخطّاه الآن إحياءً لتراث أغنى، أقترح تسميته «إنسانياً» لافتقادنا كلمة أكثر دِقّةً ولارتباطه الوثيق برموز لبناننا، من كتاب كمال جنبلاط عن «ثورة في عالم الإنسان» الى أشهر خطابات إمامنا اللبناني المغيَّب السيِّد موسى الصدر.
ولا عجب في الإقدام على هذا الجهد، فالتأريخ الأسود أو الأفريقي - الأميركي، والتأريخ النسائي، والتأريخ العمّالي، بعدما كان التأريخ وطنياً أو دينياً، هذه القراءات التي تعيد صياغة المدى التاريخي بتجدّد مشروع، جميعها قراءات جدّية وجماعية، أقنعت متى اجتهدت. وحاجة الثقافة دائمة الى إعادة الصياغة والابتكار لشمول الأفكار والأطراف المنسيّة فيها. ولا أقدّم هنا سوى بحثٍ أوليّ مضاف في صياغة هذا التأريخ المتواصل التجديد، مركّزاً على ما في تراث الشرق الأوسط من روافد لا عنفية. لا بُدَّ للثقافات الأخرى أن تعيد اكتشافها للّاعنف في تاريخها الخاص، في الصين وأفريقيا وفي الأميركيتين...
النموذج الكواكبي
يؤدي تناول نصوص تراثنا العربي من زاوية اللاعنف الى قراءة متجددة في عددٍ من المصادر المعتمدة، يتصدرها عبد الرحمن الكواكبي في تقدمة الكنز بعد الكنز للباحث في سوابق اللاعنف من ثقافتنا المكتوبة.
الكواكبي المتوفى في العام 1902 من مشاهير عصر النهضة وروّادها، ولا يزال كتاباه البديعان مرجعاً أساسياً في النهضة العربية الحديثة. والكتاب الأول، «أم القرى»، المنشور العام 1899، تصوُّرٌ أدبي لمجمع سياسي يلتئم فيه المسلمون من جميع بقاع الأرض لتناول مواضيع السياسة والحكومة. والكتاب الثاني، «طبائع الاستبداد» الذي صدر في القاهرة قبل وفاته بقليل، له محلّةٌ خاصة تشدّنا اليه في إبحارنا في فلسفة اللاعنف.
من التركة الخاصة للكتاب جرأة قول الأمور على ما هي، في قلب الاستبداد العثماني أيام السلطان عبد الحميد. فبعد التخلص من السيطرة العثمانية لمـّا أخذ محمد علي زمام الأمور في بداية القرن التاسع عشر، أصبحت مصر محور النقد المتاح في الشرق الأوسط مقارنةً مع الطغيان الباطش في المراحل الأخيرة من الحكم العثماني. وفي مناطق واسعة من الشرق المحكوم من الأستانة، باتت قساوة عبد الحميد، وقد حكم زهاء ثلاثة عقود، مضرب المثل المعاكس للطموحات الناجمة عن عدد كبير من التنظيمات والقوانين المقرّة للحرية والمساواة في منتصف القرن، أدّت الى نشر أول دستور عثماني العام 1876. وتجلّى التململ والإنزعاج في النفوس المكبوتةِ الحرّيّة على صُعُدٍ مختلفة من السلطنة، في وسطها كما عند الأطراف، حيث غذّى الاستبداد صعود القومية العربية المناهضة لآل عثمان.
كان الكواكبي واحداً من ثلّة واسعة من المعارضين، لكنّ كتابه غدا نموذجاً للجرأة والوضوح، وعنوانه أصلاً تعبير لافت في إقدامه، كما أن أسلوبه في الكتاب أدبي منمّق. بعض تفاسير الكواكبي للاستبداد ليست جديدة، لا سيما التركيز على العلم وضرورة تطوير المعرفة من دون عوائق: «كما يبغض المستبدّ العلم لنتائجه، يبغضه أيضاً لذاته، لأن للعلم سلطاناً أقوى من كل سلطان، فلا بدّ للمستبد من أن يستحقر نفسه كلّما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً».
وبعض النقد الوارد في الكتاب جديد، مثلاً في رفضه تركيز الدين على شق العبادات منه، وفي وثيق العلاقة بين الاستبداد والفقر المدقع لدى جزء واسع من العامة.
وبعض النقد غير معهود على الإطلاق. دراسة الكواكبي للمجتمع كمرآة لتسخير النساء والأطفال داخل الأسرة فذَّة، يشرح من خلالها استلاب الاستبداد لعقول الناس بتحويلهم «أسرى» و«أسراء» بتشجيع الشهوات المفطورين عليها لإلهائهم عن الأمر العام. أولى هذه الشهوات هي الطعام، «بجعلهم أجسَامهم... أنابيب بين المطبخ والكنيف (أي الحمام)». وطريق التسلّط في الشهوة الأخرى، وهي الشهوة الجنسية، موضوع حديث مطوّل للكواكبي عن التسخير الجنسي كأداة مميّزة للاستبداد، خاصة في تحويل النساء الى أغراض البعال: «هذا الشره البهيمي في البعال هو ما يعمي الأسراء ويرميهم بالتزاوج والتوالد». وأقوى النصوص في «الطبائع» ما يقوله الكواكبي في كيفية زرع العنف في البيت لدى «الأسراء» منذ وجود الولد الجنين في رحم الأمّ، مروراً بتعليمه وحتى بلوغه الرشد الكامل.
الفصل الأخير في «الطبائع» أكثر الفصول دلالةً في سَفَرنا الاستكشافي، يتحدث فيه الكواكبي مُصْلحاً اجتماعياً وسياسياً ويتقدم فيه بعدد من المبادئ والتدابير العملية للتخلص من الاستبداد، عارضاً فيه ما لا يقلّ عن خمس وعشرين «مسألة» موضوعة في طرحٍ مقتضب، تشمل معاني «الشعب والأمة»، «والمساواة كأساس الحياة السياسية والاجتماعية»، والدفاع عن حقوق الناس بوجه الحكومة، وأهمية «القضاء المستقلّ»، ومركزية دولة القانون.
المسائل مقدَّمة بإيجاز في إطار فقرات مركَّزة تُعْرَض فيها الأسئلة والأجوبة، وتغطّي جميع هذه المواضيع. والمسألة الأخيرة هي «كيفية التخلّص من الاستبداد»، يجيب عليها الكواكبي بثلاث ركائز:
1ــ الأمة التي لا يشعر كلّها أو أكثرها بعالم الاستبداد لا تستحقّ الحرية.
2 ــ الاستبداد لا يقاوم بالشدّة إنما يقاوم باللين والتدرج.
3 ــ يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد».
وفي رحلتنا التراثية إحياءً للاعنف، لافتةٌ الركيزة الثانية بشكل خاص.
ففي قائمة المناسبات التي يخرج فيها الناس على المستبد، بما فيها حرب خاسرة أو مجاعة، لا يثور غضب «العوام» غالباً إلا عقب أحوال مخصوصة مهيّجة فوريّة. وفي مثل هذه الحالات يتّضح مبدأ الكواكبي في رفض استعمال العنف ضد المستبد، ويكرّر قناعته «باللين» المقاوم في فصله الختامي بعبارة واضحة قاطعة: «الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف».
وهكذا يتجلى لقارئ الكواكبي في القرن الحادي والعشرين أناقةُ موقفه معارضاً للديكتاتورية، وهو موقفٌ لافت ضد العنف سبيلاً للتغيير يبدو فيه الكواكبي مفكِّراً أصيلةٌ قناعتُه بفلسفة اللاعنف. والكواكبي طبعاً شريك في نهضة شاملة قوامها أيضاً حركة شعبية هائلة تكلّلت في ثورة مصر العام 1919 بقيادة سعد زغلول، وهي ثورة نمت وتواصلت مواكبةً لمقاومة غاندي الطويلة ضد الاستعمار البريطاني بين الحربين الكونيتين. وإذا كان لا بُدَّ من تقصيّات تاريخية متجدّدة عن روح المقاومة العالمية للاستعمار الأوروبي في مداها اللاعنفي، لا سيّما في حركات شعبية مشهورة تضافرت حول أمثال زغلول وغاندي، وكانت مساندةً علناً بعضها لبعض، هذه الحقبة القريبة تحتاج الى إعادة اكتشاف، لا سيّما من حيث لغتها وروّادها والترابط الوثيق بينهم في عملٍ لا عنفي متواصل. لكنَّ الحاجة أيضاً قائمة للبحث المبدع في الجذور الثقافية العميقة لفلسفة اللاعنف في الشرق. والرّحلة التالية في سطوح هذا البحث تتناول الشعراء والفلاسفة.
جزء أول من محاضرة ألقيت في رابطة أصدقاء كمال جنبلاط في 29 تشرين الأول، وهي مستلّة من كتاب بعنوان: «فلسفة اللاعنف»، قيد الطبع في دار أوكسفورد.