ليس أدل على نقلة الفكر التاريخي _بفضل الإسلام _ مما حدث بالفعل في عصر الراشدين من الاهتمام بالتاريخ كموضوع وتطور تقنية تناوله. فمن حيث الموضوع ظهرت مباحث ثلاثة؛ الأول منها يتعلق بدراسة سيرة الرسول ومغازيه، والآخران يختصان بدراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي. ويخطىء بعض الدارسين حين يتصور أن الفكر التاريخي آنئذ كان فكرا دينيا قحا غايته خدمة الحديث والفقه، بل لا يخفف من الخطأ تصنيف البعض الآخر هذا الفكر صنفين: الأول ديني، كما هو الحال بالنسبة للسيرة والمغازي، والثاني دنيوي متمثل في القصص العربي القديم والتراث القبلي.
والصواب _فيما نرى _ أن كل موضوعات التاريخ _وبالتالي فكرة التاريخ_ كانت ذات طابع دنيوي؛ فسيرة الرسول ومغازيه ليست إلا أحداثا ووقائع حدثت على مسرح التاريخ، هذا فضلا عن أن الاهتمام بدراستها ودراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي جرى لخدمة أغراض عملية دنيوية. وإذ اختلطت موضوعات التاريخ بغيرها من الموضوعات الأخرى كالحديث والفقه، فالثابت أن جهود المحدثين والفقهاء كذلك كانت تحركها حوافز حياتية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتكمن تلك الحوافز _التي كانت من وراء النشاط الفكري عموما _ في محاولة الخلافة _وخاصة في عهد عمر _ مواجهة المشكلات العديدة التي نجمت عن اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وإقرار نظم وتشريعات تكفل إدارتها. كانت كافة المشكلات وطرائق إيجاد حلول لها ذات طابع دنيوي، ولعل من أهمها المسائل الإدارية، والمالية، وأوضاع أهل الذمة، وتحديد العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام... الخ. ولا غرو فقد جاء التشريع متسقاً مع طبيعة تلك المشكلات. حيث أقر الخليفة عمر كافة التنظيمات الموجودة وأبقاها على حالها، مجتهداً في تأويل الشرع بما يجاري ويساير الواقع.
كما استجدت مشكلات متعلقة بالعرب أنفسهم؛ كانت جذورها تضرب في عصر ما قبل الإسلام، وإن اكتسبت في ظل الحكومة الثيوقراطية صبغة جديدة، أعني الصراعات والسخائم القبلية التي أعيدت صياغتها في شكل تيارات حزبية سياسية واجتماعية، احتوت العصبية القبلية في باطنها.
قصارى القول _إن تلك المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أصبحت موضوعا للتاريخ الإسلامي، فاتسعت دائرة مباحثه باتساع الإمبراطورية التي احتوت شعوبا أخرى غير العرب، وبديهي أن يحتوي موضوع التاريخ فضلا عن تراث العرب؛ تراث الشعوب الأخرى التي دخلت في نطاق الإسلام.
وسنحاول عرض ما أنجز من جهود في الميادين الثلاثة التي تشكل عصب بواكير التاريخ الإسلامي، متتبعين خيوط الجانبين الفكري والتقني في ضوء المعطيات السوسيولوجية لتلك الحقبة.
أولا: السيرة والمغازي:
يصر الدارسون على أن نشأة هذا النوع من المعارف التاريخية كانت دينية قحة؛ على أساس أنها تمركزت في المدينة من ناحية، وارتبطت بدراسة الحديث من ناحية أخرى. ونعود لمناقشة هذا الرأي فنقول بأن ظهورها في هذا العصر في المدينة أمر طبيعي، نظرا لقيام الدولة العربية الإسلامية في عصر الرسول في المدينة؛ التي ظلت عاصمة للعالم الإسلامي طوال عصر الراشدين، وبالتالي أقام فيها صحابته وتابعوه العالمون بسيرته والمشاركون في مغازيه.
فلما انتقل مركز الثقل خارج الحجاز، جرى الاهتمام بتراث الرسول من قبل رواة وإخباريين في كافة الأمصار كالعراق والشام ومصر.
أما عن مقولة الارتباط بعلم الحديث؛ فقد سبق إيضاح أن الاهتمام بعلم الحديث وغيره من العلوم التي اصطلح على تسميتها بالعلوم الدينية، جاء لخدمة أغراض عملية وبالذات في التشريع. وهو نفس الهدف الذي دفع إلى الاهتمام بسيرة الرسول ومغازيه؛ أي الاسترشاد بها في تقرير السياسة، أو القياس عليها في المشكلات المستحدثة بعد الفتوح؛ كتنظيم العطاء ومعاملة الشعوب في البلاد المفتوحة؛ اقتداء بسنن الرسول في هذا الصدد.
إن القيمة الحقيقية لهذا التراث تبرز في كونه مرتبطا بتاريخ الأمة برمتها؛ لذلك لم يقتصر رواته على الإلمام بحياة الرسول ودوره في المغازي فقط، إنما رووا تاريخا لفترة الرسالة بكاملها، وأحاطوا بكافة أدوار أعلام الإسلام ومآثرهم في صنع هذا التاريخ، هذا فضلا عن تقديم صورة جلية لقوى المعارضة، ليس فقط في موقفها من الدعوة، بل لأطوار حياتها قبل ظهور الإسلام أيضا.
وليس أدل على سوسيولوجية هذا النوع من المعرفة التاريخية من اختلاف الرواة _رغم كونهم مصادر للأخبار _ اختلافا عبر عن مواقف التيارات السياسية التي انتموا إليها. فأبان بن عثمان بن عفان (ت 95) كان عثماني الهوى، ومشايعا للأمويين فيما بعد؛ يستدل على ذلك من رواياته _التي نجد نصوصا منها عند اليعقوبي _ في تبجيل عثمان، وإظهار مآثر معاوية ككاتب من كتاب الوحي. أما عروة بن الزبير (ت 94ه) الذي عاصر الراشدين وفترة من الحقبة الأموية؛ فبديهي أن تتأثر رواياته _التي نجد بعضها عند الطبري وابن كثير _ بميوله للأرستقراطية الثيوقراطية؛ ولا غرو فقد "كان شديد الاغترار بنسبه". فلما فقدت طبقته مكانتها _بانتقال الخلافة إلى علي _ ضرب صفحا عن السياسة، وهجر المدينة إلى مصر، وانصرف لتحصيل العلم، فلما آل الأمر لبني أمية اتصل بهم حينا ثم اعتزلهم "وكان رأيه اعتزال أهل الجور"، ثم خرج من عزلته مناصرا أخويه عبد الله ومصعب؛ حتى إذا ما فشلت حركتهما؛ تصدى للتنديد ببني أمية.
أما عن مناهج رواة السيرة والمغازي الأول، فإن النصوص القليلة المتناثرة في كتب التاريخ لا تكفي لتحديد طرائق رواياتهم، بل من الخطأ اعتبارهم رواة للأخبار لأنهم كانوا مصادر لها، إذ عايشوا معظم الأحداث وعاينوها. أما تلك التي استقوها من الصحابة فقد أوردوا أسانيدها. وتلمح بعض الاشارات إلى اطلاعهم أحيانا على وثائق مكتوبة. والروايات الخاصة بمرحلة ما قبل الإسلام لا تخلو من بصمات التأثر بأيام العرب. كما تلونت رواياتهم عن الحقبة التي عاشوها بلون انتماءاتهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية، وفي ذلك كله دلالة على صدق مقولة سوسيولوجية الفكر حتى لو تعلق الأمر بسيرة الرسول وكبار صحابته.
ثانيا: التراث القبلي:
يقصد بالتراث القبلي الأخبار المتعلقة بالقبائل العربية وأنسابها سواء قبل أو بعد ظهور الإسلام. ولقد حاول الرسول وضع حد للعصبية القبلية، وإحلال مبدأ الأخوة الإسلامية محلها، لكن بعد وفاته عاودت العصبية ادراجها فيما عرف بحركة الردة. وبرغم قمعها دون هوادة ظلت تمارس فعالياتها بشكل سافر حينا ومستتر وراء التيارات الاجتماعية المتصارعة حينا آخر. بل ظلت بصماتها واضحة فيما جرى من تنظيم الدولة العربية الإسلامية بعد حركة الفتوح الكبرى في الشام والعراق ومصر، فكانت القبائل تشترك في الجهاد تحت رايتها، وتوزيع العطاء جرى على قواعد وأسس قبلية، والهجرات العربية إلى الأمصار ظلت وثيقة الصلة بالأصول القبيلة، واختطاط المدن الجديدة وسكناها سار على نفس الوتيرة؛ فكان لكل قبيلة خططها وأحيائها.
لذلك تواجدت أصداء النمط القبلي البطريركي في صدر الإسلام جنبا إلى جنب النظم الإسلامية المستحدثة، وإن دل ذلك على شيء فعلى صدق القاعدة السوسيولوجية بأنه في التحولات التاريخية الكبرى لا تختفي انماط الإنتاج القديمة تماماً، إنما تظل تمارس وجودا وفعالية تتراوح قوة وضعفا بمدى ترسيخ النمط الجديد وإقراره.