الحداثة السياسية عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
»لايمكن إرغام أحد بالقوة أو بالقانون على امتلاك السعادة الأبدية«
سبينوزا
تقــــديم
نشتغل في هذه الورقة على زاوية محددة من زوايا التفكير في الحداثة السياسية، نشتغل على الجوانب النظرية الموصولة بالحداثة في فكرنا المعاصر(1)، ولا نعتني كثيراً بالوقائع السياسية إلا في السياقات التي نلجأ فيها إلى التمثيل على مسألة بعينها. نعلن هذا الاختيار في البحث والمقاربة لاتساع مجالات الموضوع وتنوعها، ولأننا نتصور أن التفكير في الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي يتطلب جهوداً بحثية جماعية مركبة، يتم فيها الاهتمام بالفكر مترجماً في المشاريع الإصلاحية وبرامج التحديث، كما تتم فيها العناية بجوانب الممارسة الفعلية التي يفترض أنها تترجم بطريقة أو بأخرى نوعية الاختيارات المفكر فيها، لتبني بلغة الواقع والتجربة أنظمة السياسية وأنماط التدبير السياسي.
ونتجه في سياق عنايتنا بالمجال النظري للحداثة السياسية العربية نحو بناء محاولة تفكر بمنطق السلب وآلياته في التحليل والفهم(2)، حيث نركز اهتمامنا على عوائق الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر أكثر من سعينا لتشخيص وجرد المكاسب والمنجزات، ومبرر هذا الاختيار في البحث يعود لقناعتنا بوجود موانع عديدة تحول بيننا وبين استيعاب أكثر تاريخية لنظام الحداثة السياسية ومفاهيمها، ولعلنا في هذا البحث نوفق في إبراز بعض هذه العوائق، وتقديم تصورنا لكيفيات تجاوزها والتقليص من حدة تأثيرها السلبي على مشروعنا التاريخي في الحداثة والتحديث ..
وإذا كنا في هذه الورقة نسلم بأن أغلب التجارب السياسية التي قامت في كثير من البلدان العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين تشكل مرحلة انتقالية جديدة في طريق بناء المشروع السياسي الحداثي، فإننا في الوقت نفسه ننظر إلى علامات التحول الجارية بكثير من الحذر والاحتياط، بحكم مظاهر التردد بل والتراجع التي تتحكم في هذه العلامات في أغلب البلدان العربية.
نقرأ إذن تاريخنا المعاصر، ونعيد ترتيب بعض معطياته في ضوء مساعينا الرامية إلى المساهمة في تعميق الحداثة السياسية العربية، وهذا الأمر بالذات يتطلب بناء توضيحين اثنين.
1 - الحداثة مشروع نظري تاريخي مفتوح
ليست الحداثة في معطيات هذه الورقة سواء ما تعلق منها بالمنظور الفكري الحداثي أو بالتحديث السياسي، أو ما تعلق منها بالإشكالات الثقافية والحضارية الموضوعة اليوم موضع جدل وسجال في الفكر المعاصر، ليست الحداثة في كل ما سبق مجرد مفهوم أو جملة من المفاهيم الموصولة ببعض الأنساق والمنظومات الفلسفية والوقائع التاريخية الحاصلة في أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر، بل إنها كما نتصورها ونفكر فيها تستوعب ذلك وتتجاوزه، وذلك بناء على معطيات التاريخ الذي ساهم في تبلورها وتبلور المعطيات المركبة والمتناقضة التي نشأت في سياقات صيرورتها وتطورها ..
ومعنى هذا أننا لا نستكين في منظورنا للحداثة ونحن نمارس عمليات تحليل ونقد منظومات فكرنا السياسي إلى تصورات ورؤى فكرية مُغلَقة، قدر ما نسلم بجملة من المبادئ النظرية التاريخية العامة التي تنظر إلى الانسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ من منظور يستوعب ثورات المعرفة والسياسة كما تحققت وتتحقق في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي أوروبا بالذات، باعتبار أنها موطن التشكل الأول للمشروع الفلسفي الحداثي، ثم في باقي مناطق وقارات العالم الأخرى بحكم شروط التحول العالمية التي واكبت بعد ذلك انقلابات الحداثة في مختلف بقاع المعمور، مستوعبةً مظاهر مختلفة من الحياة في الاقتصاد والسياسة والعلم والميتافيزيقا.(3)
إن قوة الموقف الفلسفي الحداثي كما نفهمه تتمثل أولاً وقبل كل شيء في الوعي بمبدأ المخاطرة الانسانية الساعية إلى التغيير استناداً إلى قيم جديدة، قيم بديلة لقيم التقليد المتوارثة وقيم العقل النصي، حيث فجرت مغامرة البحث الانساني ابتداء من أزمنة النهضة في القرن ٦1م آفاقاً واسعة أمام العقل البشري، وهو الأمر الذي ترتب عنه في الفكر الحديث والمعاصر ميلاد مجموعة من القيم المعرفية والأخلاقية الجديدة في النظر إلى الطبيعة والإنسان والمستقبل.
أما الحداثة السياسية فإنها تقدم في نظرنا أفقاً في النظر والعمل يُمكِّن العرب في حال بنائه وإعادة بنائه من تهديم أوثانهم القديمة والجديدة، ويسعفهم بتقويض دعائم الاستبداد السياسية، ومختلف أشكال الحكم المطلق، بهدف فسح المجال أمام مُختلف المبادرات القادرة على تطوير نظرنا السياسي في مجالات السلطة والسياسة والحكم، حيث يصبح من الممكن إبداع فكر سياسي جديد مطابق لطموحاتنا المتعلقة ببناء حياة مشتركة متكافئة وعادلة.(4)
تتمثل قيمة المشروع السياسي الحداثي في استناده أولاً وقبل كل شيء إلى مقدمات العقل النقدي، ذلك أننا نعتبر أن الدفاع عن الحداثة السياسية يعني الاحتكام إلى سلطة العقل والنقد، ولهذا السبب ندافع على أهمية الاختيارات العقلانية والتنويرية في الفكر السياسي العربي المعاصر، لأنها تملك أكثر من غيرها القدرة على إسناد مشروع النهوض العربي وتطوير مرجعيتنا في الفكر السياسي.(5)
إن إيماننا التاريخي بالحداثة السياسية يصاحبه إيمان مُماثل بنظرتنا إليها من زاوية أنها عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
ولا تستبعد عملية إبرازنا لأهمية التصورات الفكرية الحداثية الإشكالات النظرية والتاريخية الكبرى التي ولَّدتها هذه التصورات والرؤى في مختلف أصعدة الوجود التاريخي للإنسان، فنحن نعي أن ثقافة الحداثة السياسية تواجه اليوم إشكالاتها الجديدة بأدوات النقد والبحث، للتقليص من حدتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها. ونحن نتصور أن هذه المسؤولية الأخيرة مسؤولية مواجهة مآزق الحداثة وتناقضاتها ليست موكولة للغرب وحده، بل إنها مسؤولية كل الثقافات التي تواصلت بطريقة ايجابية مع أفق الفكر الحداثي المفتوح، أفق الثقافة الكونية التي ننظر إليها كمشروع تاريخي يهم الإنسانية المنخرطة بصورة إرادية أو بطريقة قسرية في مغامرة التاريخ المعاصر ...
2 - العرب في الأزمنة الحديثة:
تاريخ من ردود الفعل المتواصلة
أما الأمر الثاني الذي ينبغي الإقرار به وإعلانه في هذا التقديم، من أجل رسم حدود واضحة للعمل الذي نحن بصدد تركيبه، فإنه يتعلق بمقدمة كبرى نسلم بها، ونبني بواسطتها مختلف عناصر هذا البحث وخلاصاته الأساس.
إننا نقرأ تاريخ الفكر السياسي العربي المعاصر خلال القرنين الماضيين باعتباره محاولة لتأويل معين للحداثة وللمشروع السياسي الحداثي كما تشكل وتطور في أوروبا.. فقد حصل تململ وتحول في الفكر وفي التاريخ العربي في اللحظة التي حصل فيها نوع من التواصل بيننا وبين العالم الأوروبي، بين رصيدنا التاريخي في الصور والآثار وأنماط الفكر والتفكير التي آل إليها في القرن الثامن عشر ومابعده، وبين مشروع النهوض الأوروبي المتصاعد في مختلف مجالات المعرفة والحياة ومنذ القرن السابع عشر. وقد نتج عن هذه العلاقة البينية غير المتكافئة (التواصل الصدامي) معطيات تجاوزت الطموحات والإرادات والمشاريع المعلنة، وهو الأمر الذي تكشف ملامحه العامة عن صيرورة تاريخية، ساهمت بكثير من القوة في رسم الملامح العامة للتحول السياسي والتاريخي والثقافي الناشئ في واقعنا، منذ أواسط القرن التاسع عشر وإلى حدود لحظتنا الراهنة ..(6)
إن الأحداث التي تلاحقت في المجال التاريخي العربي طيلة القرنين الماضيين، والصور والمظاهر السياسية والثقافية التي واكبتها، تعكس جدليات تاريخية معقدة في موضوع التواصل بين الثقافات، وتكشف جوانب هامة من ردود الفعل المؤسسة لتاريخنا في مختلف مظاهره وأبعاده ...
وعندما نستحضر في سياق التحليل نماذج من الأسماء والرموز والوقائع والنصوص المشخِّصة لما حدث، فإننا نتجه لإنجاز نوع من القراءة المساعدة على تقريبنا أكثر من أنماط التحول التي حصلت في الواقع العربي، حيث نتمكن من معاينة العوائق والصعوبات التي عاقت وماتزال تعوق عمليات تبلور وتشكل حداثتنا السياسية في الفكر وتحديثنا السياسي في الواقع.
تحدد روح هذه المقدمة الثانية الإطار العام الموجه لعملية تفكيرنا في عوائق الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي، ذلك أننا لا نستطيع التفكير في هذا الموضوع دون الانتباه إلى الجدلية التاريخية الصراعية التي تمت فيها عملية تبلور مشروع الحداثة، جدلية الداخل والخارج، جدلية التأخر والنهضة، فلم يعد ممكنا التفكير في مآل الذات ومصيرها التاريخي دون استحضار صور الآخر والآخرين في تجارب التاريخ الموصولة بتاريخنا .. إن مساعي التحديث ، تحديث الدولة والمجتمع والمدرسة مطالب مرتبطة بمجال مجتمعي تاريخي محدد، ولكنها موصولة في الوقت نفسه بتجربة في التاريخ نشأت بجوارنا، وصنعت جوانب من قوتها في علاقاتها بنا وبمختلف مظاهر تأخرنا، ومن هنا أهمية استحضار معطيات هذا الإطار التاريخي المرجعي لإضاءة بعض جوانب موضوعنا، وتركيب ما يسمح بفهم أكثر تاريخية لما جرى ومافتئ يجري في حاضرنا، وذلك رغم اختلاف نوعية المعطيات التاريخية المؤطرة لحقب التحول في تاريخنا المعاصر.
- الحداثة السياسية العربية
في عملية انبناء المشروع الحداثي في الفكر العربي
أشرنا سابقاً إلى أن الحركية التي عرفها الفكر السياسي العربي منذ مطالع القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، جاءت في صورة ردود فعل على النموذج الفكري والسياسي والتاريخي الذي أنجزته أوروبا الناهضة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، حيث بلغت أوروبا درجة من الصعود التاريخي أوصلتها إلى مستوى بناء مشروع حضاري تاريخي، احتلت بواسطته مكانة رمزية في واقع التاريخ الحديث والمعاصر وذلك بمقارنة أوضاعها العامة مع باقي الشعوب غير الأوروبية. وقد شمل هذا البناء مختلف مستويات الحياة والفكر، وأنتج في سياقات تفاعله التاريخي نوعاً من المركزية الثقافية الأوروبية المسنودة بالمنزع الامبريالي .. وككل مشروع تاريخي جديد، اتجهت أوروبا إلى اكتساح العالم مُعليةً من شأن ثقافتها ومعارفها وقيَّمها، ومكاسبها في العلم والتقنية والميتافيزيقا..
جمعت عملية التأورب الصاعدة في الزمن الذي نتحدث عنه بين ثقافة التسامح والهيمنة، وتوسيع دوائر التدبير العقلاني، مع قدرة لا أخلاقية على تبرير المفارقات والتناقضات الجامعة بين قيم التحرر وقيم معاداة الآخرين واستغلالهم.. وانتقل كل ذلك من المستوى الأوروبي المحلي والقاري إلى المستوى العالمي داخل المستعمرات، ليشمل في فترات متلاحقة مختلف بقاع المعمور ة..
وفي هذه اللحظة التي شكل المنعطف الاستعماري فيها حدثاً فاصلاً في إعادة تمفصل التاريخ، انخرط العالم العربي وبصورة قسرية في تعلم مقدمات الحداثة والفكر الحديث.(7) لقد تم توقيف مسلسل تاريخي ذاتي في التطور، وإطلاق مسار آخر مغاير له ومختلف عن بنيته التاريخية الناظمة، مما ساهم في توسيع مجال العناصر المؤسسة لأفعال التاريخ في العالم العربي، فأصبح المتغير التاريخي المتمثل في تجربة التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر جزءاً من صيرورة عامة في التاريخ العربي، لم يعد التمييز فيها ممكنا بسهولة بين معطيات الداخل والخارج.
لقد أدى الانحسار الذي عرفه الفكر العربي في لحظات تراجع المد التاريخي الاسلامي وعطاءات الفكر والمعرفة في عصورنا الوسطى إلى ادخال الفكر العربي الإسلامي في دائرة التقليد، فتعطلت آليات الابداع، وحصل انكفاء فكري أوقف الاجتهاد وعطَّل آلية استيعاب مقتضيات أن تكون المصالح مرسلةً في التاريخ، ومتطلبات تعقلها وفك مغلقاتها بالكفاءة البشرية في الفهم والتعليل والتجاوز.. ومقابل ذلك تم مَنْحُ بعض النصوص سلطة تفوق سلطة البشر في التعقل والتأويل والإنتاج.. فأصبحنا ندور في حلقة مغلقة، وأصبح منتوج المعرفة المتبلورة في حقب التاريخ الإسلامي الأولى يمثل مرجعية نصية مطلقة ... وعندما وصلت أوروبا بجيوشها ولغاتها ومعارفها إلى جغرافيتنا، واستقرت داخل مجتمعاتنا بهدف الاحتلال والسيطرة، وجدنا أنفسنا أمام مرآة جديدة تقتضي منظوراً جديداً في العمل والفكر والإنتاج، فكان لابد من مواجهة مصيرنا.. وفي لحظة المواجهة التي حصلت ومافتئت تحصل بصور وصيغ مختلفة في أزمنتنا الحديثة، بدأ يتولد ويتشكل مشروع سياسي تاريخي جديد في واقع المجتمعات العربية، مشروع الإصلاح المساعد على بناء ما يسمح بتجاوز مظاهر التأخر التاريخي العام، لتمكين الذات العربية من مواجهة ذاتها ومواجهة الآخر ..(8)
وككل الظواهر والحوادث الفاصلة في التاريخ، ترتب عن هذه المواجهة جروح في الجسد والوجدان والعقل ، كما نتج عنها وعي جديد فَجَّر إمكانية تخطي أسباب التأخر التاريخي، من أجل إعادة بناء الذات ومعالجة أعطابها عن طريق الاستفادة من ممكنات التاريخ المنفتح على تجارب مختلفة عن تجاربنا .. وفي قلب هذه الجدلية المتناقضة، نشأت كما قلنا مشاريع الاصلاح الهادفة إلى تدارك أحوال التأخر التاريخي العربي.(9)
ان الجدل التاريخي الحاصل في هذه اللحظة الفاصلة بين تاريخين، يكشف ميكانيكية دعاوى رفض مكاسب ومنجزات تاريخ الآخر بالآليات الذهنية والتاريخية التي تقيم تمييزاً قاطعاً بين الداخل والخارج، ذلك أن التاريخ الفعلي لا يقبل ثنائية الداخل والخارج عندما تكون قائمة فقط على مبادئ التباعد والتفاضل والتمايز، مغفلةً آليات المثاقفة والتواصل وإعادة البناء.. مثلما أن مبدأ واحدية التاريخ لايقبل بالضرورة آليات التنميط وصناعة النسخ والأشباه. فهناك في سيرورة التواريخ الخاصة والعامة أنماط من التداخل والتنوع والغنى والتناقض الصانع للأزمنة والتواريخ في مختلف حقب التاريخ، أما الثنائيات التي ترسم التقابلات الحدية بين الأطراف المتصارعة والمتصالحة، فإنها تقلص من وهج التواترات الحية والفاعلة في جدليات بناء وإعادة بناء التاريخ العالمي في صيرورته وتنوعه، في وحدته واختلافه ..(10)
ومن أجل الكشف عن بعض جوانب الحداثة السياسية التي حصلت في العالم العربي ابتداء من لحظة المواجهة المذكورة، لقياس درجات تفاعلها التاريخي مع مجتمعاتنا وثقافتنا، ومعاينة الأسئلة الجديدة التي تطرحها آليات مواصلة عمليات الحداثة والتحديث بنجاعة تاريخية أكثر، نتجه لانجاز تحقيب مفترض لتاريخ استيعاب المرجعية السياسية الحداثية في فكرنا وتاريخنا المعاصرين، مستندين في ذلك إلى جملة من المفاهيم والوقائع والنصوص الكاشفة عن كيفية تصورنا لعمليات استنبات وتوليد المشروع السياسي الحداثي في فكرنا المعاصر.
يكشف نموذج التحقيب الذي نتجه لتقديم عناصره الكبرى بصورة مختزلة عن رؤيتنا للنمط الذي تمت بواسطته عملية تركيب المرجعية الحداثية في فكرنا المعاصر، كما يكشف عوائق وصعوبات التشكل التاريخي المواكبة لتطور هذه المرجعية في فكرنا، حيث سيتجه بحثنا في جزئه الثاني لصوغ بعض الأسئلة التي نعتقد أن التفكير فيها يمكننا من بناء المعطيات النظرية المساعدة في عملية تعميق النظر في سؤال الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر.
ننظر إلى لحظات التحقيب المنجزة في هذا العمل باعتبارها نقط ارتكاز نظرية فاعلة في تطوير الفكر السياسي العربي، وهي تختزل مسارات عديدة في مسلسل تطور الحياة السياسية العربية المعاصرة. ولاندعي أبداً أنها تستوفي مختلف جوانب ومعطيات المشهد السياسي العربي في سيرورته المعقدة، إنها علامات دالة نوظفها في التحليل بهدف مساعدتنا على إدراك منظم لهذه السيرورة، ولنوعيات الأدوار التي مارست ولا تزال تمارس في الطور الانتقالي المتواصل في تاريخنا المعاصر ..
ولتوضيح هذه المسألة بصورة أخرى نقول إن تحولات الفكر السياسي العربي في باب تمثل مشروع الحداثة السياسية أكثر تعقيداً وأكثر توتراً من الصور والمعطيات النظرية والتاريخية التي نستحضر في هذا التحقيب، لكن مقتضيات البحث والفهم تتطلب كما نعرف بناء نماذج نظرية مساعدة على تركيب المعطيات بهدف فهمها وتحليلها واكتشاف حدودها.(11)
1 - أولوية الإصلاح السياسي في النهضة العربية
وانطلاق مشروع التحديث السياسي
نسجل في بداية هذه اللحظة ملاحظة أولية تتعلق بكون إصلاح الأوضاع العامة في العالم العربي اتخذ طابعاً سياسياً، حيث شكل مشروع اصلاح الدولة المدخل الأبرز في مسلسل الاصلاح الذي شمل مختلف فضاءات المجال السياسي في العالم الاسلامي.
وفي هذا السياق يكشف مبدأ إصلاح الدولة في المشروع السياسي لمحمد علي وأبنائه من بعده طبيعة التوجه الذي سيتخذه المنحى الاصلاحي النهضوي في الفكر العربي، ويغطي هذا المشروع ما يعادل ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر(12)
فقد أدرك محمد علي أن سر قوة الغرب الأوروبي يعود إلى الدور المركزي الذي لعبته الدولة الوطنية في أوروبا، ولهذا انطلق مشروعه الاصلاحي في اتجاه بناء نموذج هذه الدولة في مصر. وقد ساعده على بلورة هذا الموقف الجهود الإصلاحية التي انطلقت في الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، حيث نشأت بعض المحاولات الهادفة إلى تطوير المجال السياسي التقليدي. وشكل نموذج الدولة الوطنية الأوروبية في عمليات الإصلاح الصورة المثالية للدولة الحديثة القابلة للتعميم.(13)
تعلم محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر ان الدولة الوطنية تستند إلى جيش نظامي قوي، لكنه أدرك في الآن نفسه أنه لاجيش قوي بدون تعليم، أي بدون محاولة لتطوير أنظمة المعرفة والتعليم، وأن هذا العمل الأخير يتطلب موارد مالية كبيرة، الأمر الذي يقتضي بالضرورة أيضاً إعادة تنظيم المجال الاقتصادي وذلك بإنشاء مؤسسات التدبير الاقتصادي والمالي المستندة إلى معرفة عصرية جديدة.
نلاحظ هنا أن إطلاق مسلسل الاصلاحات ولَّد معطيات تم فيها الانتقال من المجال السياسي إلى المجال الاقتصادي إلى مجال التربية وإنتاج المعرفة، حيث سمح هذا الانتقال بإدراك العلاقة بين المعرفة الاقتصادية وبين نمط الانتاج الرأسمالي في الصور التاريخية التي اتخذ كل منهما في زمن الثورة الصناعية وثورات العلوم الانسانية المرتبطة بها، وما ترتب عن كل ذلك من نتائج في مستوى العلاقات الاجتماعية. وهكذا تحول الإصلاح السياسي إلى اصلاح متعدد الأبعاد، ذلك أنه لايمكن بناء دولة عصرية دون جيش نظامي، ولا يمكن إنشاء جيش نظامي دون تعليم عصري، ولا تعليم عصري دون موارد مالية، حيث سيتيح برنامج الاصلاح في نهاية التحليل إمكانية بناء نموذج للتطور الشامل، الشبيه بالتطور الذي شكل في التاريخ الأوروبي الروافع المؤسسة للمجتمع الحديث.(14)
انطلاقاً مما سبق نشأت في تاريخنا المعاصر الخطوات الأولى في مشروع مساعي استيعاب مكاسب ومنجزات الأزمنة الحديثة، فلم يعد بإمكان هياكل التنظيمات السياسية والانتاجية التي قننت في عصورنا الوسطى لقواعد الملك والسلطة والسياسة والاقتصاد ومراتب المجتمع، لم يعد بإمكان هذه الهياكل وبنياتها المؤسَّسة في عصورنا الوسطى أن تساعد على حركية سياسية تاريخية جديدة، مستندة بصورة أو بأخرى إلى القواعد والأصول التي بنيت في الأزمنة الحديثة.
وعندما نتحدث في هذا السياق عن دولة محمد علي وأبنائه وإلى حدود إصلاحات إسماعيل التي تمت محاصرتها بفعل استعمار مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فإننا نتحدث عن علامة رمزية تشير إلى وقائع حصلت في التاريخ، وتشير في الآن نفسه إلى ما يتعدى تلك الحوادث، إن النموذج التاريخي الذي بلورته تجربة محمد علي يرتبط بما يماثله وما ينشأ في سياقه وبما يعكس جوانب منه بحكم استفادته منه، إننا نستعمل هذا النموذج للإشارة والتدليل على علامة نظرية كبرى في مشروع التحول السياسي يروم الانخراط في عملية تعقب تجربة محددة في تصور الحداثة وإنجاز عمليات التحديث السياسي .. ونحن نتوخى من هذه العملية وضع اليد على مختلف التوجهات الاصلاحية التي اتخذت المنحى نفسه في بعض جهات العالم العربي، وفي جهات أخرى من العالم.. وقد برز ذلك أيضاً في الأعمال التي باشر بعض بايات تونس، وذلك بتدشينهم كذلك خلال عقود القرن التاسع عشر لمشاريع في الإصلاح ضمن سياقات مرجعية متقاربة، حيث تحضر في هذه التجربة الثانية مكاسب الاصلاح المنجزة في الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي تجربة تلعب هنا دور الوسيط ودور الموجه والفاعل، بحكم المكانة التي كانت تتمتع بها مؤسسة الخلافة الاسلامية في تاريخنا.
لقد عكس برنامج محمد علي في الإصلاح الاداري والمالي والتعليمي نموذجاً لمحاولة تركيب بنيات المجتمع العصري والدولة الوطنية، مع توجه واضح يتوخى الانتقال من مجرد نسخ تجارب ذات طبيعة مؤسسية موصولة بالتحديث السياسي إلى مستوى إنجاز عملية تأويل لمرجعية الحداثة السياسية، وهذا الأمر الأخير تم إنجازه من طرف المصلحين الذي انخرطوا في دعم وإسناد مشروع الإصلاح السياسي.(15)
تعكس الأمثلة المذكورة كيفية تمثل النخبة السياسية والنخبة العالِمة لأسئلة النهضة والاصلاح في القرن التاسع عشر، وتتمثل أهميتها في إعلانها لمبدأ التكيف الإيجابي مع مقتضيات ومستلزمات الحداثة والتحديث.
وتمثل نتائج التجربة في الواقع الخطوة الأولى في عملية استنبات بعض مقدمات وأصول التحديث السياسي في واقعنا المعاصر، ونظراً للعوائق العديدة التي اعترضتها، والتي تمثلت بالدرجة الأولى في ثقل الموروث الثقافي والسياسي والاجتماعي، فقد نشأ المشروع الحداثي في مظاهره وصوره الأولى مؤطراً بعوامل التردد والإخفاق، ومقيداً بقراءة محاصرة بمفاهيم مناقضة لروح مكاسبه ومنجزاته..
لقد استعمل كل من الطهطاوي وخير الدين التونسي وهما المصلحان اللذان حاولا ترجمة اختيارات دولة محمد علي في مصر، وبايات السلطة العثمانية في تونس، استعملا معاً أثناء دفاعهما على مشروع الإصلاح السياسي الحداثي لغة تنتمي إلى مقدمات في الفكر السياسي الوسيط المناقضة لمقدمات الحداثة السياسية، مما تترتب عنه تبلور مفارقات عديدة في الكتابة والفكر، مفارقات ظلت تمارس قيودها على بنية الخطاب ونظام التحديث السياسي زمناً طويلاً(16)، ومن هنا يمكننا أن نشير إلى أن أهمية مشروع هذه اللحظة في الإصلاح لا يتجاوز مسألة إعلان المبدأ العام الرامي إلى إنجاز عملية تكيف ومواءمة ايجابية بين متطلبات النهضة العربية ومكاسب الفكر السياسي الأوروبي الحديث الحاضر والحاضن لمشروع الحداثة في الفلسفة والسياسة. وهذا الأمر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من قيمته التاريخية، وخاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أعباء التقليد التي كانت تشكل السمة الأبرز في زمن تبلور نصوص وممارسات من أشرنا إلى منتوجهم وتجاربهم.
2 - الإصلاح السياسي الحداثي
في خطابات النهضويين العرب
ننتقل في اللحظة المفصلية الثانية في تحقيبنا من استحضار فعل إصلاح الدولة إلى أفعال بناء التصورات والبرامج الاصلاحية السياسية المعبرة عن تحولات الفكر العربي المعاصر، في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك بهدف تركيب النمط الذي تمظهرت به اللغة السياسية الحداثية في فكرنا. فقد تبلور في الفترة المذكورة جملة من الاختيارات الفكرية الاصلاحية الرامية إلى مواصلة عملية التحرك التي ولدتها متغيرات إصلاح الدولة وأجهزتها، ومتغيرات التحول العالمي التي كانت تتجه لتنفيذ المشروع الامبريالي الأوروبي، وقد تميزت هذه اللحظة بالمخاضات الفكرية والمحاولات الاصلاحية الساعية إلى بناء التصورات المساعدة على تجاوز مظاهر التأخر العامة.
وإذا كانت نصوص الطهطاوي وخير الدين التونسي كما وضحنا آنفاً قد عملت بأساليبها الخاصة على دعم اختيارات الإصلاح السياسي، الموصول بمبدأ الاستفادة من تجارب الحداثة السياسية، وذلك رغم استعمالها لآلية توفيقية المنزع في لحظات سجالها مع الفقهاء المحافظين الرافضين لرياح التغيير، فإنها رغم كل ذلك شكلت مدخلاً تمهيدياً مساعداً على تبلور ما سيحصل لاحقاً. إن المأثرة الكبرى لنصوص من ذكرنا أسماءهم تتمثل في نوعية التحول الذي حققته خطاباتهم، وهي تتجه لاستيعاب منطق تدبير المنافع العمومية بآليات الدولة الحديثة كما نشأت في تربة المجتمع الأوروبي(17)، فقد ساهم هذا العمل في مد جسورٍ من التواصل بيننا وبين الآخرين، وهو الأمر الذي مهد لميلاد الجيل الثاني من المصلحين الساعين إلى دعم اختيارات التحديث السياسي، وتحديث الذهنيات في الفكر العربي المعاصر .. نحن نشير هنا إلى لحظة ميلاد المثقف النهضوي في الفكر العربي المعاصر، حيث قدم طلائع رواد الاصلاح والتنوير في فكرنا السياسي المعاصر النصوص المؤسسة لخطاب النهضة العربية في مختلف أنماطه المتناقضة والمتوترة .. إن محمد عبده والكواكبي وشبلي الشميل وفرح أنطون وأديب اسحاق وغيرهم من أعلام الفكر العربي، ساهموا جميعاً في تركيب نصوص الخطاب السياسي العربي المتجه للقطع مع نصوصنا السياسية الوسيطية، والمتجه في الوقت نفسه للتعبير عن مجمل تحولات هذا الخطاب، ومختلف تناقضاته وسجالاته في فكرنا المعاصر(18)
رسمت نصوص اللحظة الثانية نوعية ردود الفعل الإصلاحية التي عبرت عنها النخب العربية، وقد توزعت في مجملها إلى تيارين إصلاحيين كبيرين، عكسا كيفيات نظرهما لمسألة تجاوز التأخر التاريخي في العالم العربي الإسلامي، تيار المواءمة والتوفيق بين المرجعية الإسلامية وبين مكاسب العصر، والتيار الهادف إلى الاستفادة بدون حساب من منجزات التاريخ الحديث، باعتبار أن هذه المنجزات تمنح الذات العربية إمكانية تجاوز أسباب تأخرها، وتمنحها إضافة إلى ذلك انخراطاً أفضل في العالم. وقد تحمس دعاة التنوير لروح المشروع الحداثي ولمجمل شعارات التحديث السياسي، واعتبروا تجربة الموسوعيين في فرنسا بمثابة نموذج صالح للاقتداء، وهو الأمر الذي يتطلب في نظرهم المساهمة باستعجال في إعادة بناء تاريخ المعارف والعلوم في ضوء تحولات المعرفة في التاريخ، وذلك من أجل انفتاح أفضل على العالم وعلى مكاسبه المتحولة والمتطورة في مجالات المعرفة والحياة، فهذا ماحصل في أوروبا، وهذا ماينبغي أن يحصل في العالم العربي. ولهذا السبب بالذات بلور فرح أنطون مشروعه الاصلاحي في منبر »الجامعة«. وأصدر محمد عبده بعض الفتاوى الساعية إلى تحقيق نوع من التوازن بين قيم الإسلام وقيم العصر الجديدة.
واكبت هذه اللحظة في فكرنا السياسي بداية انطلاق مسلسل المشروع الامبريالي في العالم، حيث اقتسمت أوروبا العالم العربي الإسلامي، ومارست أساليب جديدة في الاختراق التاريخي الهادف إلى بلوغ مرام محددة، وقد ترتب على ذلك جملة من ردود الفعل الرافضة لمبدأ الاستعانة بتجارب التاريخ المغاير والمختلف والمغتصب .. حيث تعززت دوائر الانكفاء على الذات، تحت ضغط المواقف الاستعمارية العدوانية المناقضة لكثير من توجهات الفكر الحديث ذات المرتكزات الفلسفية الانسانية والأخلاقية.
لكن أهمية هذه اللحظة كما نتصور تعود لكونها بلورت بلغة واضحة مبدأ لزوم التعلم من درس الفكر السياسي الحديث في ثقافتنا المعاصرة، وذلك كما قلنا رغم التناقضات والتوترات التاريخية والنفسية، التي ولدتها نتائج المد الاستعماري في حياة المجتمعات العربية. فقد كانت نصوص فرح أنطون التي نعتبرها بصورة رمزية بمثابة العنوان الأبرز في هذه اللحظة، تدعو إلى قراءة الأوضاع العربية في مطلع القرن العشرين بمعايير تسلم بمبدأ واحدية التاريخ البشري، وتسلم بناء على ذلك بأهمية الاستفادة من تجارب الأمم في التاريخ، بالصورة التي تساعد على تخطي وتجاوز عتبات التأخر وعواقبه.
نعثر في نصوص فرح أنطون على ملامح المنزع الحداثي والتحديثي، ورغم أننا نقرأ ملامح هذا المنزع في زمن الاستعمار الأوروبي المباشر، فإن الجدلية المفترضة في علاقة النص السياسي الإصلاحي بالتاريخ المباشر، لا ينبغي أن تجعلنا نتجه لتفسيره بصورة ميكانيكية.. بل إنه ينبغي أن نتجه لبحث مختلف أبعاد هذه النصوص في علاقتها بمجمل سياقاتها القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، لنتمكن من استيعابها بصورة أكثر تاريخية(19).
وفي هذا السياق نحن نتصور أن أهمية نصوص التنويريين العرب، تتمثل في سعيها لتعميم بعض مفاهيم الحداثة السياسية في الثقافة العربية المعاصرة..
وضح عبد الله العروي في قراءته للفكر العربي المعاصر أبرز سمات الاختيار الحداثي في المجال السياسي العربي، وقد صنف في نص الايديولوجيا العربية المعاصرة فئات المثقفين الذين نحن بصددهم الآن في خانة التوجه الانتقائي(20)، لكنه في مصنفيه المعنويين بمفهوم الحرية ومفهوم الدولة،(21) اعتبر أن هذا الجيل من المثقفين يمثل التيار الليبرالي والفكرة الليبرالية في مشروع النهضة العربية، مبرزاً أهم الصعوبات التي كانت تواجه ليبراليي عصر النهضة العربية، في لحظات مواجهتهم لأعاصير زمن جديد محمَّلٍ باختيارات في الفكر، مختلفةٍ تماماً عن رصيد التراث العربي الإسلامي المتبلور في عصورنا الوسطى.
لقد واجه مصلحو النهضة لحظة تأخر موسومة بالجمود والتقليد، وواجهوا في الآن نفسه تيارات الفكر الحديث والمعاصر بطابعها المركب، وقد عجزوا في النهاية عن تمثل معطيات هذا الفكر في صيغ صيرورتها الفكرية المتحولة والمعقدة، لهذا لجأوا إلى الانتقاء، واتجهوا في تعاملهم مع تيارات الفكر المذكور إلى بلورة برامج في العمل السياسي أكثر من اهتمامهم ببناء النظر القادر على تركيب الفكر المطابق لحاجيات تاريخية محددة، اتجهوا إلى صياغة برامج في التحديث السياسي أكثر من عنايتهم بأصول المرجعية النظرية الحداثية.
ونحن نتصور ان الاسهام الفكري الذي بلورته أعمال النهضويين الذين أشرنا إلى البعض منهم، يقف وراء المنجزات النظرية المتمثلة في بناء مدخل ثانٍ من مداخل غرس قيم التحديث السياسي في فكرنا المعاصر. فإذا كانت أعمال الطهطاوي وخير الدين التونسي وإنجازات محمد علي وأبنائه في مصر قد أثمرت مداخل سياسية مباشرة لإدماج مسلسل تحديث آلة الدولة في العالم العربي، فإن نصوص مصلحي مطالع القرن العشرين قد دفعت بهذا المشروع في اتجاه تركيب خطابات أكثر جرأة في باب الإعلاء من مبدأ دنيوية التدبير السياسي وتاريخيته، وذلك رغم اكتفاء أغلب هذه النصوص بمعالجة قضايا سياسية جزئية ومفصولة عن تربتها الفكرية والتاريخية الناظمة، واكتفاء بعضها الآخر بمحاولات في تركيب بعض الإشارات التي تتجه لتبني المرجعية السياسية الحداثية في فكرنا السياسي.
وفي هذا السياق، ستتحول نصوص من ذكرنا إلى إرهاصات ممهدة لنوعية الخطابات الجديدة التي تبلورت ملامحها في الثلث الأول من القرن العشرين، حيث عملت نصوص لطفي السيد وعلي عبد الرزاق وطه حسين على إنجاز تركيب نظري في مجال التحديث السياسي، ساهم بدوره في إغناء رصيد المرجعية السياسية الحداثية في فكرنا، وعزز دائرة ما أصبح يعرف بالعصر الليبرالي في فكرنا المعاصر(22).
نتبين في جهود هذه اللحظة نواقص عديدة، أبرزها كما قلنا الطابع التجزيئي الذي حوَّل الرؤية السياسية الحداثية إلى جملة من المعارك الجزئية، المرتبطة بقضايا مفصولة عن حواملها الفكرية وسياقاتها التاريخية، حيث لا نعثر في هذه المعارك على أي عناية بالمرتكزات والأسس الفلسفية النظرية العامة المؤسسة لمشروع الحداثة والتحديث السياسي، فقد انشغل المصلحون بموضوعات تندرج في صلب الحداثة السياسية (التأخر التاريخي، الإصلاح الديني، فصل الدين عن الدولة، بناء المؤسسات الحداثية، دور العلم في تحقيق النهضة ...) لكنهم أغفلوا مبدأ العناية بالأصول الفلسفية الكبرى الناظمة للرؤية الحداثية والمؤسسة لها، وهو الأمر الذي سيظل سمة ملازمة لمعارك التحديث السياسي في فكرنا وواقعنا وإلى يومنا هذا ..
واكب هذه اللحظة انفتاح في العمل في المجال السياسي على بعض آليات نظام الحكم النيابي، وقد عملت على تعزيزه وبناء بعض التصورات الموصولة به، وبالآفاق السياسية التي اتجه صوبها، بهدف ترسيخ نماذج جديدة من العمل السياسي الرامية إلى التخلص من ميراث عصورنا الوسطى. وقد تعزز هذا المنحى في بعده النظري وفي أبعاده العملية بالتحول الذي أنجزه مصطفى كمال أتاتورك وهو يعلن سنة 1924 انتهاء عهد الخلافة الإسلامية، وتأسيس دولة تركيا الحديثة، الدولة التي تستعير مفردات ومساطر وآليات عملها من نموذج الدولة الوطنية كما نشأت في المجال السياسي الأوروبي الحديث، نحن نشير هنا بالذات إلى مرحلة ما قبل التجربة الناصرية في مصر، وهي المرحلة التي بلغ فيها المد السياسي الحداثي والتحديثي في الفكر العربي حدوده القصوى.(23) ، وذلك بمعيار تجربة مايزيد عن قرن من الزمان في مجال الاهتمام بالمشروع الحداثي كطريق مناسب لبلوغ مرمى الاصلاح.
ورغم أن هذا المد الحداثي كان يحصل ضمن دائرة السياج العقائدي التقليدي، وفي إطار مجتمع مقيد بالهيمنة الاستعمارية وتوابعها، ومقيد بنظام في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية العتيقة، فقد ساهمت الأفكار المتبلورة في إطاره رغم نواقصها العديدة، في تقوية وتعزيز رصيد الحركات الاستقلالية الناشئة في أغلب الأقطار العربية بهدف مقاومة الاستعمار، ومقاومة إدارات الحماية التي كانت ترسم للغرب ولمشروعه الحداثي في فكرنا المعاصر صوراً متداخلة ومتناقضة، وتصنع لجدليات التاريخ في عالمنا أبعاداً مختلطة...
3 - لحظة الاستعمار المباشر،
في ديناميات التحديث القسري وتوابعه
عندما نتعامل مع متغيرات التاريخ العربي المعاصر بلغة تاريخية وضعية، ونتجه لتشخيص معطياته دون مواقف قبلية دوغمائية، فإن الوقائع والمعطيات تتخذ مواصفات تختلف عن المواصفات التي يمكن أن تتخذها في حال المقاربة المسنودة بمواقف لا تاريخية .. وبناء على روح هذا المبدأ العام، يتحول تاريخنا المعاصر بمختلف إشكالاته في الفكر والسياسة والمجتمع والاقتصاد إلى محصلة تتداخل فيها مؤشرات عديدة، مركبة ومتناقضة، مؤشرات داخلية موصولة بإيقاع التحول التاريخي البطيئ، الذي شكل سمة ملازمة لأزمنة مايعرف في الكتابة التاريخية العربية التقليدية »بزمن الانحطاط« ، ومؤشرات خارجية مرتبطة بآليات الصراع العالمي كما تبلورت ملامحه في سياق تطور نمط الانتاج الاقتصادي الرأسمالي في القرن التاسع عشر، حيث سيشكل المد الامبريالي في مختلف الصور التي اتخذ المظهر الأبرز للسطوة الأوروبية على العالم ...
يقرأ الحدث الاستعماري في لغة حركات التحرير الوطنية بطريقة تختلف عن الطريقة التي يمكن أن يقرأ بها في إطار التحولات العامة للتاريخ في بعده العالمي، حيث تتقلص الشحنة الأخلاقية لتترك المجال للغة صراع المصالح في التاريخ. ونحن هنا لانريد أن نتحدث عن القراءة المقاوِمة، ولا عن القراءة المبرَّرة لما حدث. إن هدفنا الأساس موصول أولاً وقبل كل شيء بموضوع التفكير في الحداثة السياسية العربية، وموصول بمحاولتنا تركيب نمذجة نظرية بهدف منهجي، نتوخى منه إحاطةً عامة غايتها الأساس إعادة تنظيم سياقات وآليات وعلامات تشكل المرجعية السياسية الحداثية وتطبيقاتها في تاريخنا المعاصر. ولهذا السبب تصبح الأحداث الكبرى من قبيل الحدث الاستعماري الغربي في العالم العربي ظاهرة مركبة بكل معاني الكلمة، ويصبح سياق توظيفها في محاولتنا متحكماً في نوعية التأويل الذي نتجه لبناء عناصره بكثير من الاختزال والتركيز.
لقد شكلت الظاهرة الاستعمارية في العالم العربي حدثاً متعدد الأبعاد والدلالات، وصنعت أحداثاً ومقاومات، ومقابل ذلك بنت تاريخاً جديداً حققت بواسطته مشاريعها في الهيمنة والاستغلال، ومارست في الآن نفسه دوراً آخر ساهم بطريقة أو بأخرى في خلخلة المقومات التاريخية الموروثة والحافظة لذات تاريخية محاصرة .. وهو الأمر الذي انعكس من جهة أخرى على الذات المذكورة وعمل على إلحاق تغييرات فاعلة فيها وفي مصيرها التاريخي ..
لا يمكن إذن أن نقرأ الحدث الاستعماري كظاهرة سلبية وبصورة كلية ومطلقة. كما لا يمكن أن نتعامل معه بمعايير اللغة الأخلاقية وحدها، أو بمواقف التنديد والإدانة السياسيين وحدهما ... وعندما نتخلص من الحدود المعرفية والسياسية التي تتضمنها القراءات السابقة، ونتجه لبناء مقاربة لا تبخس المواقف المذكورة قيمتها، وخاصة في السياقات والأزمنة التي تبلورت فيها، فإنه يكون بإمكاننا أن نقرأ في قلب ديناميات الحدث المذكور، ومن زاوية مغايرة جملةً من المعطيات المتناقضة، أي يمكننا على سبيل المثال أن نتبين في معطيات الحدث عناصر السلب والايجاب، حيث يصبح لهذا الحدث دور الفاعل المساهم في بناء الملامح التاريخية المؤسسة لتاريخنا المعاصر في أبعاده المختلفة.
ويعلمنا التاريخ في هذا الباب أن التطور في المجتمعات لا يكون دائماً وبالضرورة بفعل المؤثرات الداخلية وحدها، بل إن التحول والتطور في التاريخ تسببه عوامل عديدة من بينها العوامل التي يمكن أن تكون في بعض مفاصل وحلقات التاريخ أجنبية وخارجية.
وإذا كان الوطنيون العرب في مختلف البلدان العربية قد تغنوا بشعار الحرية والاستقلال، فإنه ينبغي أن لا نغفل انهم استعملوا في تركيب هذا الشعار مفاهيم الفكر السياسي الحديث والمعاصر، بحكم أنها تعكس روح الاختيارات الانسانية المطابقة لطموحاتهم وطموحات إرادة التحرر كما يمكن أن تتبلور في أمكنة وأزمنة لاحصر لها ..(24)
ورغم درجات اختلاف المد الاستعماري في الأقطار العربية، حيث يظهر التشخيص المباشر بعض أوجه الاختلاف بين الاستعمار البريطاني والفرنسي والايطالي والاسباني في هذا القطر العربي أو ذاك، إلا أن ما حصل من تحول في مختلف المجتمعات العربية إبان المرحلة الاستعمارية، صنع قاعدة جديدة للتحول السياسي والاقتصادي، ورسم أفقاً جديداً لاختيارات تاريخية، في الفكر وفي العمل تختلف عن اختيارات المرجعية التاريخية الذاتية الأكثر رسوخاً (مرجعية التقليد السائدة)، وتفتح المشروع النهضوي العربي والمستقبل العربي وتحصل على دوائر أخرى في الفكر وفي المجتمع، دوائر لم يعد بالامكان تجاهلها، ولا الاستغناء عنها من أجل فهم أكثر عيانية وأكثر قرباً من مكونات الأحداث والوقائع كما حصلت في التاريخ وفي تاريخنا بالذات ...
من هنا أهمية الدعوة إلى إعادة قراءة الفعل الاستعماري في بناء الذات العربية والتاريخ العربي المعاصر ... صحيح أن العنف الاستعماري وشم تاريخنا ومجتمعنا بكثير من صور الاستغلال والاستبداد، وصحيح أيضاً أنه مارس كثيراً من أنماط الاغتصاب المادي والنفسي، بل إنه يمكننا أن نتحدث عن دوره الكبير في توقيف ديناميات التطور الداخلي الذاتي.. إلا أنه رغم كل ذلك ساهم بطرقه الخاصة في بناء المؤسسات والقواعد الادارية والاقتصادية والمؤسسية الحديثة في بلداننا، ووضع مجتمعاتنا على قاطرة الانخراط في الأزمنة الحديثة بما لها وما عليها .. وهنا لاينبغي أن ننسى أن جوانب من مبررات ما حصل في زمن الاستعمار تعود إلى الوهن التاريخي الذي لحقنا في إطار ما يعرف في فلسفات التاريخ الكلاسيكية بدورة الزمان ومكر التاريخ..
وعندما نتجه لفهم ماذكرنا في علاقته بمسألة الحداثة التحديث السياسي في العالم العربي، سنكتشف أن اللحظة الاستعمارية ستعمق بطريقتها الجدلية الخاصة، التحولات التي كانت قد انطلقت في العالم العربي تحت تأثير مشروع النهوض الأوروبي، والفرق بين إسهام المصلحين السياسيين الذين سبقوا لحظة المد الاستعماري، وما سيعمل المشروع الاستعماري على توليده وتركيبه في الواقع، يتحدد في الأهداف والطموحات التي كان يتجه كل منهما لتحقيقها في الواقع، وهي أهداف متقاطعة، لكن نتائجها في المدى البعيد قابلة لأكثر من قراءة ترى في معطياتها عناصر تتام وتكامل..
وفي هذا السياق، لابد من التوضيح هنا أن الآلة الاستعمارية في العالم العربي لم تنجز ما أنجزت بهدف حماية وتطوير مجتمعاتنا، حيث أطلقت كما هو معروف على فعل الاختراق التاريخي الذي مارست على مجتمعاتنا اسم »الحماية«، ذلك أن ما أنجزته كان يشكل في العمق جزءاً من مشروع حمايتها لمشروعها الاستعماري، وذلك بمزيد من ترسيخ قوتها وحضورها في العالم. ولهذا السبب نقول إن نتائج المشروع الاستعماري في الواقع العربي، ومآثر المشروع الحضاري الغربي في الفكر الانساني، تقدم نموذجاً واضحاً على التركيب التاريخي الجامع بين المتناقضات والنقائض.
لقد ساهم الحدث الاستعماري في خلخلة أنظمة السياسة وقواعدها في مجتمعاتنا وترتب عن هذه العملية انطلاق مسلسل بناء قنوات وقواعد التحديث السياسي في التجربة التاريخية العربية .. نستطيع أن نشير هنا إلى المظاهر السلبية العديدة التي اتخذها مشروعنا الحداثي بفعل حصوله العنيف والمفاجئ، وبفعل عدم وجود الروافع المجتمعية والاقتصادية والفكرية المساعدة على تحقيق ما يرتبط به من أهداف. لكننا نستطيع في الوقت نفسه تبين بعض المظاهر الايجابية في الفعل المذكور، بحكم أن التحول كما قلنا لايخضع لمقتضيات التحول الداخلي وحده، بل تتحكم فيه أيضاً العوامل الخارجية، وقد تكون لهذه الأخيرة قيمتها العظمى في اللحظات المفصلية الفاعلة في التاريخ، من قبل اللحظة التي نحن بصددها، حيث يصنع التاريخ بفعل القَسر، وحيث يولِّد القَسر مفعولاتٍ فاعلة ومؤثرة رغم تناقضها، فينشأ عن ذلك ترتيب جديد في المصير التاريخي للمجموعات البشرية، ترتيب يفعل في التاريخ بضغط من الديناميات الخارجية التي تتجاوز التصورات المرتبطة بالطموحات الذاتية وحدها.. ولهذا السبب وضعنا هذه اللحظة في سياق ترتيب تاريخي نظري يمنحها صفة اللحظة المساهِمة في تطوير وتكوين حداثتنا الموسومة بخصائص محددة ...
4 - التراجعات الكبرى،
وانطلاق مشروع ترسيخ وتوسيع التحديث السياسي
ترتبط هذه اللحظة زمانيا ببداية النصف الثاني من القرن العشرين، حيث انطلقت في كثير من الأقطار العربية تجارب في العمل السياسي تتوخى تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والوحدة القومية، ومقابل ذلك تخلت عن مطلب تعزيز مجال الحريات الخاصة والعامة لربح رهان التقدم.
وهكذا أصبح إعلان الاشتراكية والتنمية والوحدة بمثابة إعلان للتخلي عن قيم مشروع الحداثة السياسية، دون التفكير في إمكانية إنجاز أي نوع من المواءمة التاريخية القادرة على عدم التفريط في مكاسب فترة انتعاش المشروع التحديثي في ثقافتنا السياسية، وهي الفترة التي أنتجت نصوصاً ومؤسسات وتجارب في العمل السياسي في بعض الأقطار العربية، خلال العقود الثاني والثالث والرابع من القرن العشرين.
لا نتجه هنا لإنجاز مراجعة نقدية شاملة للتجربة الناصرية، أو لتجارب أحزاب البعث القومية الاشتراكية، وهي تجارب وصلت سدة الحكم، وأصبحت عنواناً لمواقف واختيارات سياسية يمكن قياس مدى نجاعتها أوفشلها بمعايير التاريخ وحساباته، إننا نتجه هنا أساساً لتشخيص منعطف في الفكر السياسي العربي عطَّل مسلسلاً سياسياً تاريخياً، وبنى بدائله بناء على مقدمات وأصول فكرية مختلفة عن مقدمات المعتقد السياسي الليبرالي.
انتعشت في الفكر السياسي العربي خلال الفترة الآنفة الذكر شعارات الطريق الاشتراكي الثالثي، وذلك في سياق التحولات السياسية العالمية وانقسام العالم إلى قطبين كبيرين، وقد اختارت بعض الدول العربية كما وضحنا إبعاد الاختيار السياسي التحديثي لتصطف بجانب تجربة الاتحاد السوفياتي وتجارب أوروبا الشرقية فيما كان يعرف بالمعسكر الشرقي وتجارب العالم الثالث.
لم تكن هذه الخيارات السياسية المناهضة للحداثة السياسية ومبدأ إطلاق الحريات، وبناء قنوات تدبير العمل السياسي القائم على مبدأ تداول السلطة، لم تكن هذه الخيارات سوى محاولة لبناء شرعية ثورية، ترفع شعارات مواجهة الخطر الأجنبي بالتنمية الاقتصادية والوحدة القومية، بهدف تحصين الذات والمحافظة على استقلالها..
أطلقنا على تجارب هذه اللحظة في الجزء الأول من عنوانها نعت التراجعات الكبرى، وذلك لتخلي الفاعلين السياسيين فيها عن مبادئ وقيم التحديث السياسي، وسَنَدنا في هذا الموقف يعود إلى معطيات محددة تنتمي إلى مجال تاريخي معين، يتعلق الأمر بالمجال السياسي بالذات، كما يتعلق بالآثار والنتائج التي حصلت في تاريخنا المعاصر.(25)
إننا ندعم موقفنا هنا بالرجوع إلى النتائج المترتبة عن عملية المقايضة المذكورة، ذلك أننا عندما نقيس الشعارات التي رفعت في هذه المرحلة بنتائجها في الواقع وفي التاريخ الحي، نتبين الخسارات التي لحقت مجال تطوير فكرنا وممارستنا السياسية.. وفي هذه المسألة بالذات نحن لانريد أن نفكر بمنطق الحسابات السياسية الظرفية والسريعة، التي تتعامل مع الأسئلة التاريخية الكبرى بروح التصنيفات الحدية المغلقة، حيث يتم تغليب آليات التحليل السياسي الميكانيكي على التحليل التاريخي الموضوعي، الذي يحرص كما نتصور على أن يُدرِك في الظواهر لحظة تقويمها ونقدها مختلف جوانبها، وحيث تسمح أبعاد الظواهر المختلفة بمعاينة درجات التعقد والتناقض، وهو الأمر الذي يتيح في نهاية التحليل إدراكاً أكثر تاريخية للسياقات والاختيارات والنتائج، ويمكننا في نهاية المطاف من قراءة نقديةٍ مستبعدةٍ ما أمكن لشحنة الحساسيات السياسية اللاتاريخية، من أجل مراجعة تاريخية أكثر استيعاباً للظواهر والقضايا موضوع الدرس والنقد والتقويم .. حيث لايعود بإمكاننا أن نرفض بسهولة المكاسب التي تبلورت في الحقبة الناصرية على سبيل المثال، ولا إدراك عناصر التراجع الذي الحقته بمسلسل في التطور التاريخي سيجعلنا نعيد بناء بعض المعطيات التي اعتقدنا أنها بنيت في فترة سابقة وهو الأمر الذي يعني توقيف مسلسل التراكم اللازم لكل تحول يقع في التاريخ ..
إننا نصوغ هذه التدقيقات النظرية العامة، ونلح عليها بتكرارها، لنبرز بوضوح دلالة موقفنا من النزعات السياسية الكليانية، ممثلة في الناصرية وأحزاب البعث وتجارب الاختيار الاشتراكي المتنوعة كما تشكلت في تاريخنا المعاصر، في كل من مصر والجزائر واليمن والعراق وليبيا وسوريا ... فقد أثمرت معطيات هذه الاختيارات والتجارب كما قلنا بعض المكاسب التاريخية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، وساهمت بنصيب معين في إسناد طرف من أطراف القطبية الثنائية في أزمنة ما يعرف بالحرب الباردة، إلا أنها قبل ذلك وبعده أثمرت في المحصلة النهائية أهم مكونات المآل السياسي والتاريخي الذي آلت إليه أوضاعنا اليوم وفي مختلف الأقطار العربية، (26) حيث نحن مطالبون اليوم مجدداً بإعادة بناء مشروعنا في الحداثة والتحديث ..
إن الاختلال التاريخي الكبير الذي نعده سمة الوضع العربي الراهن، يعكس أهم نتائج تجربة أكثر من أربعة عقود من التجريب السياسي، الذي لم يتمكن من بلوغ مراميه وتحقيق شعاراته، حيث يكشف الواقع استمرار معاناة المواطن العربي في أغلب الأقطار العربية من غياب التدبير السياسي الديمقراطي، و من التوزيع العادل للموارد والثروات الاقتصادية، إضافة إلى استمرار حضور الاستعمار وتوابعه في أغلب الأقطار العربية، وهو ما يعني انعدام استقلال القرار العربي.(27)
وفي السياق نفسه، ازدادت مشكلة تحرير الأرض العربية في فلسطين تعقداً، وازدادت الغطرسة الصهيونية بأساً وعنفاً، إضافة إلى المعطيات التاريخية الجديدة المتمثلة في الاحتلال الأمريكي للعراق وما تلاه من أحداث تظهر درجات تراجع المد التحرري في العالم العربي وفي العالم، حيث ترتفع حدة التوتر، وتزداد مؤشرات انعدام التوازن في بقاع مختلفة من العالم، متخذةً مسميات جديدة .. لكنها تعبر في العمق عن تناقض في المصالج، لم تستطع الآليات القانونية والمؤسساتية القائمة في العالم اليوم أن تجد له المخارج المناسبة بأساليب التدبير العقلاني القانوني المتوازن والعادل ..
تشخص المعطيات المختزلة في الفقرات السابقة جوانب من الوضع السياسي العام في العالم العربي، وقد نشأت بمحاذاتها مواقف أخرى تتوخى بناء تصورات بديلة معلنةً أن سبل تجاوز التراجعات القائمة يتمثل في تمثل الرؤية السياسية الحداثية وإعادة بناء مشروع التحديث السياسي، الرؤية والمشروع اللذان تم التخلي عنهما في تجارب مشروع »الثورة العربية«، التي قدمت نمطاً من الاستجابة التاريخية لشعارات كانت تملأ الفضاء السياسي العالمي في زمن تبلورها، لكنها لم تنجح فيما برمجت وأعلنت وذلك بحكم الأخطاء التاريخية التي واكبت عملية تشكل هذه الشعارات وتشكل المواقف والأنظمة السياسية المعبرة عنها ..(28)
ومنذ هزيمة 1967، بدأ ينشأ في الفكر السياسي العربي مشروع التفكير في النهضة العربية الثانية(29)، أي مشروع نقد وتقويم تجربة مشروع النهوض العربي، الذي عكسته تجارب الاصلاح السياسي النظرية والتطبيقية كما تمظهرت في التاريخ العربي المعاصر، سواء في الفكر الاصلاحي النهضوي أو في الممارسة السياسية التي رفعت كما قلنا شعار »الثورة العربية«.
ارتبط الحديث عن نهضة ثانية بمحاولة تعزيز دوائر الفكر النقدي والفكر التاريخي في ثقافتنا المعاصرة، وقد أثمر هذا المنحى في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مشاريع في الدعوة إلى تأصيل المشروع السياسي الديمقراطي في الفكر العربي، مشروع التحديث السياسي بهدف نقد الاختيارات السياسية الشمولية، وإسقاط أنظمة حكم الحزب الوحيد والفكر الواحد، كما أثمر بعض مشاريع نقد القيود النصية التراثية، بهدف تكسير العقل التراثي، والانخراط في رفع وتيرة تمثل مكاسب الفكر التاريخي النقدي، في مجالات المعرفة المختلفة.
وقد ساهمت بعض مؤسسات الفكر العربي في تعزيز هذا المنزع الفكري النقدي، سواء في المجال السياسي، أو في مجال تحديث الذهنيات الموصول بمجال التحديث الثقافي.. كما ساهمت بعض مؤسسات المجتمع المدني العربية في تقوية هذه الاختيارات داخل دوائر النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في كثير من الأقطار العربية. وقد دعم هذا الاختيار منتوجاً جديداً في الفكر السياسي العربي، عمل على إعادة تركيب بعض جوانب النقص القائمة في منظومة النظر السياسية العربية، ومشروع الحداثة السياسية على وجه العموم. (نحن نشير هنا إلى التنظيمات المدنية العربية المهتمة بمجالي الديمقراطية وحقوق الإنسان على وجه الخصوص).
ويقدم الجدل السياسي الدائر بصورة مكثفة في الفضاء السياسي العربي في مطالع الألفية الثالثة نموذجاً لمخاضات وتوتراث عديدة جارية في فضائنا السياسي والمجتمعي، وهو يكشف ليس فقط نتائج المآل الراهن الذي آلت إليه أوضاعنا، بل إنه يتجاوز ذلك ليبني وسط الخرائب والهزائم وسط الحرائق والأزمات آفاقاً مشرعةً على طموحات وتطلعات تاريخية بديلة، حيث تجري عملية تركيب نظري تاريخي يروم مواجهة العلل العميقة التي تسببت في حصول هذا الذي حصل، مع إرادة في الفكر والعمل السياسي تروم بناء اختيارات سياسية، تستفيد فيها من تجارب المرجعية السياسية الحداثية كما نشأت في مصادرها الأولى، وكما تشكلت في التأويلات التي حصلت في فكرنا السياسي المعاصر، وهو الأمر الذي نعتقد أنه ستكون له في المستقبل نتائج في باب تطوير المنزع السياسي الحداثي في فكرنا السياسي.
تعكس المواقف المشار إليها في الفقرة السابقة إرادة سياسية جديدة، تتجه لمعاودة بناء المشروع السياسي الحداثي في فكرنا، وهذه العملية التاريخية الجديدة، تواجه اليوم تحديات أخرى فرضتها تيارات الاسلام السياسي. وتكشف التحديات الجديدة طبيعة التوترات والتراجعات التي ينبغي مقاومتها بالنظر النقدي المجتهد، بهدف بناء ما يمكن تسميته بنقط اللاعودة إلى أنظمة في الفكر وفي السياسة لم تعد مناسبة لمقتضيات الزمن.
إن معركة الحداثيين اليوم مع من يرفضون المشروع الديمقراطي واللغة السياسية التاريخية، تتطلب جهوداً نظرية كبيرة ومبدعة، من أجل إعادة بناء الخطاب والممارسة السياسية الحداثية في العالم العربي..
نسجل إذن صعوبة المعركة السياسية الدائرة في المجال الثقافي والمجال السياسي العربي، ونفترض أن المواجهة الحوارية النقدية والمركبة هي المطلب المناسب للمعارك الناشئة،، حيث لم يعد هناك وقت للمهادنة والمخاتلة وتركيب المتناقضات، ويبدو لنا أن الملامح العامة للخطابات السياسية المتصارعة اليوم في الفكر العربي تقتضي أن ندفع بمختلف الأسئلة الممكنة نحو فضاء الحوار الأكثر وضوحاً وجذرية، بهدف محاصرة تيارات التقليد المستند إلى قواعد في الفكر لاعلاقة بينها وبين نتائج الثورات المعرفية والسياسية التي حصلت في العالم، والتي نحن مدعوون إلى فهمها والاستفادة التاريخية والنقدية من كل نتائجها، لنتمكن من مصارعة عللنا الداخلية والخارجية.. بأقصى ما يمكن من الوضوح في الرؤية والنجاعة في الفعل. (30)
- نحو إعادة تأسيس مرجعية
الحداثة السياسية في الفكر العربي
ركبنا في الصفحات السابقة نمذجة في المقاربة الفكرية التاريخية لبعض أنماط تعامل الفكر والممارسة السياسية في العالم العربي مع منظومة الحداثة السياسية. لم يكن الهدف من وراء التحقيب المنمذج في مقاربتنا يتجاوز مبدأ إنجاز عملية في إعادة تنظيم كيفية انتقال القيم السياسية الحداثية ومؤسساتها إلى الفضاء السياسي العربي. وقد مكنتنا المعطيات التي رتبنا من معاينة أشكال المد والجزر التي واكبت عمليات استنبات وترسيخ الخطاب الحداثي في الفكر السياسي العربي والمشروع التحديثي في الأقطار العربية، وأتاحت لنا أيضاً الانتباه إلى الأسئلة التي لم تطرح بعد في هذا المجال، وهي الأسئلة التي نعتقد أن غيابها يؤثر سلباً على ديناميات تملُّك الحداثة في حاضرنا ..
ان الناظم المشترك للمحطات المذكورة، يتمثل في نوعية التوتراث والمخاضات التاريخية التي صاحبتها، وصاحبت عملية تولد المشروع الحداثي في فكرنا السياسي، ويترتب عن ذلك نواقص وثغرات عديدة في النظر السياسي وفي المجال المؤسسي الموصول به.
يمكِّننا الرصيد النظري والتاريخي المتبلور في أزمنة المحطات السابقة رغم خصاصه الكبير من إعادة بناء مشروع الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر، ويتيح لنا إمكانية تجاوز العواثق التي ساهمت في عدم رسوخ هذا المشروع في حياتنا السياسية.
ونحن نتصور أن حصول هذه العملية يتطلب الانخراط في عملية إعادة تأسيس المشروع المذكور بكثير من الجرأة والحسم، وذلك لمواجهة حداثتنا المنقوصة، ومواجهة المشروع الحداثي في صيرورته المتنوعة.
نعتبر في هذا السياق أن القاعدة النظرية الكبرى المساعدة على بلوغ مرمى إعادة التأسيس، تتمثل أولاً وقبل كل شيء في عدم إغفال المكون الفلسفي باعتباره القاعدة النظرية، التي تحدد للرؤية الحداثية للطبيعة والانسان والتاريخ قواعدها وشروط تشكلها وإعادة تشكلها ..
التقليد المحاصر
والحداثة المحاصرة
قد لانكون مجازفين عندما نعلن أن مظاهر التوتر والتناقض والتراجع التي تشكل السمات الأبرز في فكرنا السياسي المعاصر تعود إلى قصر النفس النظري المهيمن على معاركنا في الفكر والسياسة والمجتمع .. إننا هنا لا تفسر ظواهر تاريخية مركبة بعامل واحد، ولكننا نتصور أن القصور النظري يعد واحداً من العوامل المساعدة على فهم أكثر وضوحاً لجوانب هامة من إشكالات السياسية والثقافة السياسية في واقعنا المعاصر.
لقد انطلقت معاركنا في الإصلاح الديني والإصلاح الثقافي والإصلاح السياسي وإصلاح المؤسسات منذ مايقرب من قرنين من الزمان، ومع ذلك تكشف كثير من مظاهر التأخر العامة السائدة في مجتمعات اليوم أمام محصلة معاركنا وتجاربها السابقة لم تثمر ما يسعف ببناء قواعد ارتكاز نظرية قادرة على تحصين ذواتنا من أشكال التراجع بل والتردي التي تعبر عن كثير من مظاهر العطب في واقعنا التاريخي.
ولأننا نتصور أن التحولات الهامة في التاريخ تتطلب مواصلة الجهد والعمل دون كلل.
ويمكننا أن نقسم افتراضاً معارك الراهن في موضوع الحداثة السياسية إلى معركتين كبيرتين، تتصل الأولى منهما ببعض الإشكالات الجزئية التي تساعد العناية بها في تعزيز الجدل السياسي الحداثي في فكرنا .. وهنا نفترض أن الاهتمام بالنواقص التي شكلت سمة ملازمة لتمظهر النظر السياسي الحداثي في فكرنا النهضوي، يساهم في تطوير حداثتنا وتعميق جذورها في تربة مجتمعاتنا. أما أبرز القضايا المرتبطة بهذه المعركة فيمكن اختزالها في الفقرات الآتية:
أ - تجاوز الخطاب المخاتل والمهادن للتيارات السياسية التي تستنجد بلغة الإطلاق في نظرها للشأن السياسي والتاريخي، ويترتب عن هذا التجاوز في تصورنا التخلي عن المنزع التوقيقي، الذي ساهمت في تأسيسه الاختيارات ذات المنحى السلفي، والاختيارات المهادنة لها بمبرر مراعاة متطلبات التدرج التاريخي والمرحلية في عملية التغيير.. ورغم أهمية المواقف التي يبنيها المفكرون الذين ينحون هذا المنحى، فإننا نتصور أن وظيفة الفكر لا تتمثل في قدراته على التبرير والتكريس، قدر ما تتمثل في جرأته وإقدامه في مجال بلورة الحدوس والتصورات القادرة على استباق ومغالبة ضغوط الواقع، حيث تساهم المواقف النقدية في تعزيز ممكنات التغير والتحول في التاريخ ..
ب - تجاوز المعالجات التجزيئية في النظر إلى الحداثة السياسية، فقد ظل الفكر السياسي العربي يُعنى بأسئلة لايمكن فصلها عن مشروع الحداثة السياسية في شموليتها وفي قواعدها الأساس، الناظمة والحاملة لعناصرها ومعطياتها التقنية والمؤسساتية، إلا أن إغفاله لمطلب استيعاب الحداثة السياسية في كليتها وبناءً على مقدمات الرؤية الفلسفية المؤسسة لها، حوَّل القضايا الجزئية إلى قضايا معزولة عن منظومتها الفكرية الجامعة، وهو الأمر الذي نتج عنه جملة من الاختيارات المعزولة، أو جملة من المعطيات المفتقرة إلى الأصول النظرية المساعدة على إمكانية ترسيخها، وإمكانية بناء خطاب حداثي متماسك في موضوعاتها..
أما المواجهة الثانية في باب المعارك النظرية التي نفترض أنه ينبغي أن تتواصل في المدى المتوسط والطويل، بهدف مزيد من إسناد المشروع السياسي الحداثي بالفكر القادر على تعزيز مستويات حضوره، فإنها ينبغي أن تشمل موضوعات بعضها نظري وكثير منها موصول بإشكالات العمل السياسي والمؤسسي في مجتمعاتنا، إننا نتجه هنا نحو بعض الأسئلة التي تشكل في سياق بحثنا دعامات مركزية لإعادة بناء مشروع الحداثة السياسية في فكرنا، وذلك رغم أن البعض منها ينفتح على آفاق تبدو في الظاهر مفصولة عن المجال السياسي، لكننا لانتصور بلوغ عتبات الحداثة السياسية الأكثر تأثيراً في واقعنا بدون التفكير فيها، وبناء قناعات واضحة في موضوعاتها.
نحن هنا نتجه صوب مجال الاصلاح الثقافي والاصلاح الديني في فكرنا المعاصر، صحيح أن مشاريع في إصلاح المجالين المذكورين نشأت في فكر النهضة العربية، في القرنين الماضيين، وأن مشاريع فكرية أخرى ماتفتأ تؤسس لتصورات مساعدة على اتمام عمليات هذا الاصلاح، إلا أننا نعتقد أنه لن يكون بإمكاننا توسيع دوائر الوعي الحداثي في فضائنا السياسي فكراً وممارسة، دون مزيد من العمل القادر على تفتيت الاسمنت اللاحم للفكر الوثوقي في ثقافتنا، والمنطق النصي في وعينا الديني.
لقد انطلق مشروع الإصلاح الديني في فكرنا المعاصر كما هو معروف في نهاية القرن التاسع عشر، وأنجزت الحركة السلفية في بداياتها خطاباً توفيقياً نزع نحو بناء شكل من أشكال المواءمة بين قيم الاسلام وقيم الفكر الحديث والمعاصر، في مجالات المعرفة المختلفة، وقد عكس مشروع محمد عبده الإصلاحي الذي كان يروم تكييف المجتمع الإسلامي ومبادئ العقيدة مع مقتضيات ومتطلبات الأزمنة الحديثة، عكس هذا المشروع في روحه العامة صورة لنمطٍ في التوفيق مكافئ للمعطيات التاريخية التي سمحت بتمظهره، لكنه استنفد قيمته الاصلاحية في السياقات التاريخية اللاحقة، وأصبحنا بعده في حاجة إلى بناء مواقف أكثر قدرة على مواجهة أسئلة زماننا... (19)
اتخذ هذا التوجه الاصلاحي لاحقاً صوراً ومظاهر أكثر قوة في مجال نقد العقل العربي الإسلامي كما بلورته أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون (20)، وتبلور بصيغ أخرى أكثر قوة وتنويعاً في إسهامات الفكر النقدي العربي المعاصر، كما تشكلت في نهاية الربع الأخير من القرن العشرين (21)، وهو الأمر الذي نعتقد أنه ساهم في تعزيز جبهة العمل الفكري في مجال الحداثة السياسية. ومن هنا تبرز أهمية دعم مختلف هذه الجهود النقدية، الساعية إلى مزيد من استيعاب مكاسب الفكر المعاصر في مجال المعرفة والتاريخ، وفي مجال النظر إلى الإنسان والعقل والمستقبل.
أما معركة الاصلاح الثقافي، فإننا نعتقد أن تعميقها يتطلب مزيداً من تقوية دعائم الفكر التاريخي والتاريخ المقارن ، حيث تساعد معطيات التاريخ المقارن على سبيل المثال في تنسيب الأحكام والتصورات الاطلاقية المهيمنة على آليات تفكيرنا ..
صحيح أن إنجاز ثورة ثقافية في فكرنا يتطلب جهوداً متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفية والعلمية التي تبلورت في الفكر المعاصر، إلا أن هذا الأمر الذي نتصور إمكانية تحققه في المدى الزمني المتوسط لا ينبغي أن يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجلة المتمثلة في مشاريع الترجمة ومشاريع تطوير منظوماتنا في التربية والتعليم، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع والاقتصاد الخ، فنحن نعتقد ان هذه المعارك باعتبارها الممهدات التي تعبد الطريق الموصول لباب تحرير الأذهان ..
لا تنفصل إذن في نظرنا معارك المجال الثقافي والديني عن مشروع ترسيخ الحداثة السياسية في فكرنا، وفي هذا السياق، نحن نعتبر أن انتشار دعاوى تيارات الاسلام السياسي، ودعاوى تيارات التكفير في ثقافتنا ومجتمعنا، يمكِّننا أكثر من أي وقت مضى من بناء النظر النقدي القادر على كشف فقر ومحدودية وغربة التصورات الموصولة بهذه التيارات، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع والمساهم في إنشاء اختيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم..
تلك جملة من المعارك القائمة في واقعنا، وينبغي علينا المساهمة في توسيعها وتطويرها لربح رهانات التقدم الموضوع كأولوية في جدول أعمالنا التاريخي. لكن ترسيخ الحداثة السياسية يتطلب أيضاً المشاركة في إعادة بناء مفاهيم الفلسفة السياسية، وذلك بتركيب بعض الموضوعات السياسية النظرية التي نعتقد أن عدم إدراجها في فكرنا لايعفينا من تبعات القضايا التي يطرحها حضورها وغيابها. وسنكتفي في عملنا هذا بالوقوف على موضوعين اثنين نظراً لأهميتهما البالغة في المعارك الحاصلة اليوم في مجالنا السياسي، يتعلق الأمر بموضوع »حدود المجال السياسي«، »استقلال السياسي«، وموضوع »الديمقراطية وحقوق الإنسان« في الصيغ التي يتخذها في مشهدنا السياسي الراهن.
1 - في حدود المجال السياسي
نحن نعتقد أن من أبرز القضايا التي نحن مدعوون لبنائها في فكرنا السياسي سؤال طبيعة وحدود المجال السياسي. فنحن لم نحرر بعد مجالنا السياسي من لغة عصورنا الوسطى، ولم نستفد بعد من ثورة الفلسفة السياسية الحديثة في مجال إبراز استقلالية السياسي وضبط حدوده وماترتب عن ذلك من نتائج في مجال تطوير الفكر والممارسة السياسية. ولهذا السبب يتحدث الفاعلون في مشهدنا السياسي لغات متناقضة مشحونة بمرجعيات بعضها سابق على ميلاد الحداثة، وبعضها يستعيد مفردات الحداثة في سياق رفضها، وهذا الأمر يساهم في بلورة خطاب سياسي ملفق وتلفيقي.
تأتي أهمية الدفاع عن استقلال المجال السياسي، ومحاولة بناء وترتيبب المكونات المحددة لملامحه وبصورة عينية. لتشكل فضاء لمقاربة إشكالات فلسفية هامة، من قبيل، أنماط التقاطع القائمة بين المجال الأخلاقي ومجال القيم السياسية، تقاطع المقدس مع الدنيوي، وعندما نضيف إلى هذه القضايا النظرية الكبرى، الأسئلة الفرعية المتعلقة بالصراعات السياسية الإجتماعية والثقافية القائمة في الواقع، في مستوى مواجهة التأخر التاريخي القائم والمتواصل في مجتمعاتنا، نزداد تأكداً من صعوبات المعارك التي تنتظرنا، فيصبح من مهامنا الأساسية في هذا المجال العمل على تقليص درجات الإختلاط والتنافر الحاصلة في فكرنا المعاصر.
إن مطلب فك الارتباط بين العناصر المختلطة والمتداخلة داخل المجال السياسي، والتدقيق في طبيعة هذا المجال باعتباره مجالاً معرفياً مستقلاً، يعدّ من القضايا الملحة في فكرنا السياسي، وينبغي أن نواجهها انطلاقاً من معطيات الجدل والصراع السياسيين القائمين في فكرنا. وتزداد أهمية هذا السؤال اليوم، ولعلها تتضاعف وسط ارتفاع أصوات المنادين »بالصحوة الإسلامية« و»الإسلام السياسي«، و»دولة الشريعة«، حيث يصبح استعمال اللغة المعيارية بمختلف أصنافها مناسبة لفحص ونقد الأصول والمبادئ التي تروم مواصلة ربط السياسي بالمقدس، دون إدراك مخاطر الربط المذكور على المجالين معاً.
لا يتعلق الأمر هنا بموقف يعطي الأولوية في التاريخ والسياسة للنظر المجرد أو للفكر المثالي الخالص، قدر ما يتعلق برغبتنا في الإلحاح على أهمية الفكر في التاريخ، ووظيفة الفكر في العمل السياسي وهي الزاوية التي وجهت كثيراً من أسئلتنا في هذا العمل. فلا يعقل أن تظل الممارسة السياسية في بلادنا حركة تجريبية متعثرة،ومختلطة الملامح والخطابات، بل ينبغي المساهمة في تأصيل أبعادها بالفكر النقدي القادر على تعيين الحدود، وتركيب الأسئلة وبلورة المواقف، وذلك بالصورة التي تكشف ملامح الطريق الذي نسير فيه والذي نتجه صوبه، فقد يمكِّننا هذا الاختيار من معرفة مواقع أقدام الفاعلين والممارسين، وهو الأمر الذي يؤسس المبادىء الفكرية الكبرى الناظمة للعمل السياسي الحداثي، والمطورة لآفاقه وأدواره في صناعة التاريخ.
صحيح أنه بذلت في الفكر السياسي العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، جهود كبرى في تحقيق وتحليل كثير من نصوص التراث السياسي الإسلامي، للمساهمة في توضيح صورة النموذج التاريخي الإسلامي الملتبس، وصحيح أيضاً أن ترجمات متعددة أنجزت في باب التعرف المباشر على التراث السياسي الإنساني الحديث والمعاصر، إلا أن هذه الجهود لا تتناسب مع حجم المهام والأسئلة والإشكالات التي لاتزال مطروحة علينا، ومطروحة أمامنا في الواقع السياسي العربي فكراً وممارسة (28).
لم يتمكن خطاب النهضة العربية الإصلاحي بما في ذلك خطاب متنوري مطاليع القرن العشرين من إنشاء أسئلة التنظير السياسي، فقد كان مشدوداً إلى برامج الإصلاح العملية، إلى شعاراته ودعاويه، ذات الصبغة السجالية الأيديولوجية والمستعجلة، بحكم ارتباط منتجي هذا الخطاب بحركات فاعلة في مجال الصراع السياسي التاريخي. فظل الفكر يلهت وراء مطالب الظرفيات السياسية، دون أن يتمكن من بناء مشروع في النظر السياسي، المفككِّ والباني لنظامه في النظر، والمعبِّر في الوقت نفسه عن عمق وعيه بإشكالات الحداثة السياسية، كما يمارسها الفاعلون، ويتمثلها المنظرون للسلطة والمشروع السياسي الحداثي في حاضرنا .
2 - سؤال الديمقراطية وحقوق الإنسان
أما أسئلة الديمقراطية وحقوق الإنسان في خطاباتنا السياسية فإنها تتخذ في الأغلب الأعم مظاهر أداتية، تغلب عليها المعالجة المحكومة بأفعال الممارسة دون كبير عناية بالمرجعية النظرية الحداثية التي بنت المشروع السياسي الديمقراطي في تاريخ التجربة السياسية الغربية.
إن كثيراً من أوجه القصور الحاصلة في هذين المجالين، تعود أسبابها إلى عدم عنايتنا بنظام النظر السياسي الحداثي، الذي يحدد للممارسة الديمقراطية والوعي الحقوقي بقضايا الانسان فضاءهما وسياقهما العام.
صحيح أن كثيراً من مظاهر التناقض والصراع في هذا المجال، وفي كثير من البلدان العربية تُفَسَّرُ بسياقاتها التاريخية الفعلية والمباشرة، الا أننا نرى في الوقت نفسه أن بعضاً من هذه المظاهر يمكن تفسيرها بغياب الإحاطة النظرية المؤصِّلة لمختلف أبعاد سؤال الديمقراطية وأسئلة حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر.
ولو تمت مواكبة العمل والحركة القائمة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان مثلاً بمساعي التأصيل النظري المؤسسة للتصورات والأفكار، التي ساهمت وما تزال تساهم في توليد العمل في هذا المجال، لجاءت اختياراتنا النظرية ومواقفنا السياسية أكثر تماسكاً وأكثر غنى، وهو مايعني إنجاز إسهام سياسي تاريخي مُطوِّرٍ للنظر، إنجازٍ لايغفل أهمية بناء أعمدة الإرتكاز النظري المانحة لمشروع حقوق الإنسان أرضيته الفكرية الصلبة، القادرة على تحصين رؤيته الجديدة للعالم وللمجتمع وللإنسان.
يدل غياب سؤال الحداثة المرتبط بالمرجعية النظرية الناظمة للتصورات السائدة في مجال حقوق الإنسان على غياب مكون مركزي من مكونات هذا المجال، ولن تسمح الأبحاث القانونية المفسرة لقواعد المواثيق الدولية أو المحللة لآلياتها الإجرائية في مستوى التنفيذ، كما لن تسمح النضالات الميدانية المباشرة في هذا الباب بإنجاز مشروع في استيعاب الاختيارات الفكرية المركزية المتضمِّنة في مواثيق حقوق الإنسان، ان الطريق المؤدي إلى ذلك لا يحصل الا بالانفتاح على أسئلة المرجعية الفلسفية الحداثية، في مختلف أبعادها، والانفتاح أيضاً على مختلف الإشكالات النظرية والتاريخية التي تطرحها.
سيظل سؤال الحداثة والحداثة السياسية مطروحاً في جدول أعمال المشتغلين بقضايا حقوق الإنسان، وكل استمرار في مخاتلته أو القفز عليه لا يلغيه، قدر ما يؤجله ويراكم إشكالات جديدة في موضوعه، إشكالات تقتضي بناء آليات في الفهم والنقد والمراجعة، قادرة على تهيئة الشروط النظرية المساعدة على تركيب وعي أكثر مطابقة لمتطلبات حقوق الإنسان في حاضرنا ومستقبلنا(16).
ولابد من التوضيح هنا بأننا لا نتصور أن هذا الدفاع سيكتفي بنسخ قيم الحداثة ومبادئها كما تبلورت في الفكر الحديث والمعاصر، بل المقصود منه هو محاولة إعادة تركيب مقدمات الحداثة وآفاقها في ضوء تطورات التاريخ المعاصر، أي في ضوء المكاسب والاخفاقات التي تراكمت ومافتئت تتراكم في تاريخنا المعاصر، تاريخنا المحلي والخاص، وتاريخ الانسانية، وهو الأمر الذي يغني عملنا ويؤطر اشكالاتنا في إطار المرجعيات الفكر المعاصر.
الهوامش :
1 - سبق أن أنجزنا في هذا المجال بالذات بعض الأبحاث وقد جمعنا في مصنفين :
1 - العرب والحداثة السياسية، دار الطليعة بيروت 1997.
2 - أسئلة النهضة العربية، التاريخ الحداثة والتواصل م.د.و.ع بيروت 3٠٠2.
2 - لقد اتخذنا هذا المنحى في المعالجة في أبحاثنا المتعلقة بموضوع الديمقراطية وحقوق الانسان في العا++لم العربي، ويمكن مراجعة نماذج من هذه الأبحاث في مصنفنا، أسئلة النهضة العربية السابقة الذكر صفحات (16 - 26) و (28 - 50).
3 - مرجع في الحداثة، فلسفي باللغة الفرنسة.
4 - مرجع في الحداثة السياسية (يؤخذ إما من الديمقراطية أو من حقوق الانسان).
5 - راجع كيفية نظرنا لدور الاختيارات النقدية في تحريك أنماط الفكر في الفكر العربي المعاصر، في كتابنا: أسئلة النهضة العربية صفحات 113 - 125.
6 - هناك اجماع في المراجع الكبرى التي أعادت تركيب أنظمة الفكر العربي المعاصر على أهمية لحظة الاصطدام المذكورة مع اختلافات عديدة في فهم وتفسير المسار الذي اتخذته مدارس واتجاهات الفكر الاصلاحي في العالم العربي.
نذكر من بين هذه المراجع:
- البرت حوراني ، الفكر العربي في عصر النهضة، - عبد الله العروي، الايديولوجية العربية المعاصر ماسيرو 1967.
7 - الاستعمار والتحديث مواقف متناقضة ومستويات في الفهم مختلطة، راجع ماركس والاستعمار البريطاني للهند.
8 - راجع مواقف محمد أركون أثناء مقارنته بين النظام المعرفي للأزمنة الحديثة ونظام المعرفة في عصورنا الوسطى، ويمكن البداية هنا بمشيل فوكو ثم أركون.
9- يستمر عدم التمييز في المعارك القائمة بيننا وبين الغرب بين المشروع الحضاري الغربي والصراع السياسي والاشتراكي الغربي والعربي، يمكن مراجعة تصورنا للموضوع في ندوة م.د.و.ع نحو مشروع حضاري نهضوي عربي (جماعي) .
10 - تثار في الآونة الأخيرة في العالم حول موضوع الاصلاح من الداخل والخارج.
11 - تهدف النمدجة التحقيقية المنجزة في هذا البحث إلى اختزال مسارات الحداثة والتحديث السياسي في الفكر والتاريخ العربيين وهي موجهة بهاجس تاريخي معرفي يروم ترسيخ حضور تأويل محدد للمرجعية الحداثية في فكرنا مع التشديد على عمق المدى الزمني الذي تشكلت خلال هذه المرجعية.
21 - يشير اسم محمد علي إلى الحاكم المعروف وإلى الطبقة التي حكم فيها مصر، كما يشير إلى أبنائه ابراهيم وعباس واسماعيل، ويغطي مجالاً افتراضياً يتجاوز من ذكرنا من الأسماء ليعكس الملامح العامة لتوجه في الاصلاح مورس بصورة مختلفة في مناطق عربية أخرى ..
13 - فغالة خير الدين والطهطاوي كتاب التأويل المفارقة
- مراجع أخرى في موضوع العثمانيين موجز في الكتاب نفسه.
14 - العروي وتجربة المغرب في أطروحته، عمومية الظاهرة.
15- راجع هامش رقم 12
16 - راجع أبحاثنا حول انتاج الطهطاوي وخير الدين في كتابنا التأويل والمفارقة ومرجع سبق ذكره).
17 - راجع نص الطهطاوي مناهج
18 - راجع قراءتنا لأسئلة النهضة العربية ضمن كتابنا مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر دار الطليعة بيروت 1992.
19 - راجع قراءتنا للخطاب الذي أنتجه فرح أنطون في كتابنا:
التفكير في العلمانية، نحو إعادة بناء النظر السياسي في الفكر العربي افريقيا الشرق، بيروت 2000.
20 - عبد الله العروي الايديولوجيا العربية المعاصرة Maspers Paris 1967
21 - عبد الله العروي مفهوم الحرية م. ت.ع بيروت 1982
عبد الله العروي مفهوم الدولة م. ت.ع بيروت 1982
22 - عفاف لطفي السيد
23 - راجع بحثنا العلمانية في الفكر العربي، الحدود الآفاق ضمن كتابنا التأويل والمفارقة م.ت.ع بيروت 1987.
24 - تثير مناقشة الدور الذي لعبه الاستعمار في التاريخ العربي إشكالات متعددة، وليس هناك اتفاق على معطيات واحدة في هذا الباب ولهدا السبب لجأنا في سياق التحليل هنا إلى إبراز القضايا النظرية والمبدئية العامة.
25 - راجع ندوة الوحدة العربية
ويمكن مراجعة بحثنا حركة التحرر العربي، المفهوم والأهداف الممكنة ضمن كتابنا مفاهيم ملئية في الفكر العربي المعاصر.
26 - في تقييم التجربة الناصرية يمكن الرجوع إلى:
27 - راجع مخطوطة تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2003 وموضوعه.
28- راجع نماذج من اصدارات م.د.و.ع في موضوع الديمقراطية وحقوق الانسان في الوطن العربي فهي تقدم صورة عن أنماط الجدل السياسي الذي يدور في هذا المجال والذي يمكن إدراجه في خانة تعزيز ودعم المشروع السياسي الحداثي.
29- استعمل هذا المفهوم من طرف مجموعة من الدارسين بهدف إعادة النظر في خطابات النهضة العربية نذكر من بينهم أنور عبد المالك، ناصف نصار، عبد الله العروي ثم أصبح متساعاً بعد ذلك كصيغة من صيغ تحقيب فكر النهضة العربية.
30 - راجع نقدنا لنتائج أعمال المؤتمر القومي الاسلامي في كتابنا الحداثة والتاريخ ، حوار نقدي مع بعض أسئلة الفكر العربي (افريقيا الشرق)، بيروت
ليست الحداثة في معطيات هذه الورقة سواء ما تعلق منها بالمنظور الفكري الحداثي أو بالتحديث السياسي، أو ما تعلق منها بالإشكالات الثقافية والحضارية الموضوعة اليوم موضع جدل وسجال في الفكر المعاصر، ليست الحداثة في كل ما سبق مجرد مفهوم أو جملة من المفاهيم الموصولة ببعض الأنساق والمنظومات الفلسفية والوقائع التاريخية الحاصلة في أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر، بل إنها كما نتصورها ونفكر فيها تستوعب ذلك وتتجاوزه، وذلك بناء على معطيات التاريخ الذي ساهم في تبلورها وتبلور المعطيات المركبة والمتناقضة التي نشأت في سياقات صيرورتها وتطورها ..
ومعنى هذا أننا لا نستكين في منظورنا للحداثة ونحن نمارس عمليات تحليل ونقد منظومات فكرنا السياسي إلى تصورات ورؤى فكرية مُغلَقة، قدر ما نسلم بجملة من المبادئ النظرية التاريخية العامة التي تنظر إلى الانسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ من منظور يستوعب ثورات المعرفة والسياسة كما تحققت وتتحقق في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي أوروبا بالذات، باعتبار أنها موطن التشكل الأول للمشروع الفلسفي الحداثي، ثم في باقي مناطق وقارات العالم الأخرى بحكم شروط التحول العالمية التي واكبت بعد ذلك انقلابات الحداثة في مختلف بقاع المعمور، مستوعبةً مظاهر مختلفة من الحياة في الاقتصاد والسياسة والعلم والميتافيزيقا.(3)
إن قوة الموقف الفلسفي الحداثي كما نفهمه تتمثل أولاً وقبل كل شيء في الوعي بمبدأ المخاطرة الانسانية الساعية إلى التغيير استناداً إلى قيم جديدة، قيم بديلة لقيم التقليد المتوارثة وقيم العقل النصي، حيث فجرت مغامرة البحث الانساني ابتداء من أزمنة النهضة في القرن ٦1م آفاقاً واسعة أمام العقل البشري، وهو الأمر الذي ترتب عنه في الفكر الحديث والمعاصر ميلاد مجموعة من القيم المعرفية والأخلاقية الجديدة في النظر إلى الطبيعة والإنسان والمستقبل.
أما الحداثة السياسية فإنها تقدم في نظرنا أفقاً في النظر والعمل يُمكِّن العرب في حال بنائه وإعادة بنائه من تهديم أوثانهم القديمة والجديدة، ويسعفهم بتقويض دعائم الاستبداد السياسية، ومختلف أشكال الحكم المطلق، بهدف فسح المجال أمام مُختلف المبادرات القادرة على تطوير نظرنا السياسي في مجالات السلطة والسياسة والحكم، حيث يصبح من الممكن إبداع فكر سياسي جديد مطابق لطموحاتنا المتعلقة ببناء حياة مشتركة متكافئة وعادلة.(4)
تتمثل قيمة المشروع السياسي الحداثي في استناده أولاً وقبل كل شيء إلى مقدمات العقل النقدي، ذلك أننا نعتبر أن الدفاع عن الحداثة السياسية يعني الاحتكام إلى سلطة العقل والنقد، ولهذا السبب ندافع على أهمية الاختيارات العقلانية والتنويرية في الفكر السياسي العربي المعاصر، لأنها تملك أكثر من غيرها القدرة على إسناد مشروع النهوض العربي وتطوير مرجعيتنا في الفكر السياسي.(5)
إن إيماننا التاريخي بالحداثة السياسية يصاحبه إيمان مُماثل بنظرتنا إليها من زاوية أنها عبارة عن أفق فكري تاريخي مفتوح على كل ممكنات الإبداع الذاتي في التاريخ، فلا يمكن تصور إمكانية تحقق الحداثة بالتقليد، بل إن سؤال الحداثة في أصوله ومبادئه الفكرية والتاريخية العامة يعد ثورة على مختلف أشكال التقليد.
ولا تستبعد عملية إبرازنا لأهمية التصورات الفكرية الحداثية الإشكالات النظرية والتاريخية الكبرى التي ولَّدتها هذه التصورات والرؤى في مختلف أصعدة الوجود التاريخي للإنسان، فنحن نعي أن ثقافة الحداثة السياسية تواجه اليوم إشكالاتها الجديدة بأدوات النقد والبحث، للتقليص من حدتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها. ونحن نتصور أن هذه المسؤولية الأخيرة مسؤولية مواجهة مآزق الحداثة وتناقضاتها ليست موكولة للغرب وحده، بل إنها مسؤولية كل الثقافات التي تواصلت بطريقة ايجابية مع أفق الفكر الحداثي المفتوح، أفق الثقافة الكونية التي ننظر إليها كمشروع تاريخي يهم الإنسانية المنخرطة بصورة إرادية أو بطريقة قسرية في مغامرة التاريخ المعاصر ...
2 - العرب في الأزمنة الحديثة:
تاريخ من ردود الفعل المتواصلة
أما الأمر الثاني الذي ينبغي الإقرار به وإعلانه في هذا التقديم، من أجل رسم حدود واضحة للعمل الذي نحن بصدد تركيبه، فإنه يتعلق بمقدمة كبرى نسلم بها، ونبني بواسطتها مختلف عناصر هذا البحث وخلاصاته الأساس.
إننا نقرأ تاريخ الفكر السياسي العربي المعاصر خلال القرنين الماضيين باعتباره محاولة لتأويل معين للحداثة وللمشروع السياسي الحداثي كما تشكل وتطور في أوروبا.. فقد حصل تململ وتحول في الفكر وفي التاريخ العربي في اللحظة التي حصل فيها نوع من التواصل بيننا وبين العالم الأوروبي، بين رصيدنا التاريخي في الصور والآثار وأنماط الفكر والتفكير التي آل إليها في القرن الثامن عشر ومابعده، وبين مشروع النهوض الأوروبي المتصاعد في مختلف مجالات المعرفة والحياة ومنذ القرن السابع عشر. وقد نتج عن هذه العلاقة البينية غير المتكافئة (التواصل الصدامي) معطيات تجاوزت الطموحات والإرادات والمشاريع المعلنة، وهو الأمر الذي تكشف ملامحه العامة عن صيرورة تاريخية، ساهمت بكثير من القوة في رسم الملامح العامة للتحول السياسي والتاريخي والثقافي الناشئ في واقعنا، منذ أواسط القرن التاسع عشر وإلى حدود لحظتنا الراهنة ..(6)
إن الأحداث التي تلاحقت في المجال التاريخي العربي طيلة القرنين الماضيين، والصور والمظاهر السياسية والثقافية التي واكبتها، تعكس جدليات تاريخية معقدة في موضوع التواصل بين الثقافات، وتكشف جوانب هامة من ردود الفعل المؤسسة لتاريخنا في مختلف مظاهره وأبعاده ...
وعندما نستحضر في سياق التحليل نماذج من الأسماء والرموز والوقائع والنصوص المشخِّصة لما حدث، فإننا نتجه لإنجاز نوع من القراءة المساعدة على تقريبنا أكثر من أنماط التحول التي حصلت في الواقع العربي، حيث نتمكن من معاينة العوائق والصعوبات التي عاقت وماتزال تعوق عمليات تبلور وتشكل حداثتنا السياسية في الفكر وتحديثنا السياسي في الواقع.
تحدد روح هذه المقدمة الثانية الإطار العام الموجه لعملية تفكيرنا في عوائق الحداثة والتحديث السياسي في العالم العربي، ذلك أننا لا نستطيع التفكير في هذا الموضوع دون الانتباه إلى الجدلية التاريخية الصراعية التي تمت فيها عملية تبلور مشروع الحداثة، جدلية الداخل والخارج، جدلية التأخر والنهضة، فلم يعد ممكنا التفكير في مآل الذات ومصيرها التاريخي دون استحضار صور الآخر والآخرين في تجارب التاريخ الموصولة بتاريخنا .. إن مساعي التحديث ، تحديث الدولة والمجتمع والمدرسة مطالب مرتبطة بمجال مجتمعي تاريخي محدد، ولكنها موصولة في الوقت نفسه بتجربة في التاريخ نشأت بجوارنا، وصنعت جوانب من قوتها في علاقاتها بنا وبمختلف مظاهر تأخرنا، ومن هنا أهمية استحضار معطيات هذا الإطار التاريخي المرجعي لإضاءة بعض جوانب موضوعنا، وتركيب ما يسمح بفهم أكثر تاريخية لما جرى ومافتئ يجري في حاضرنا، وذلك رغم اختلاف نوعية المعطيات التاريخية المؤطرة لحقب التحول في تاريخنا المعاصر.
- الحداثة السياسية العربية
في عملية انبناء المشروع الحداثي في الفكر العربي
أشرنا سابقاً إلى أن الحركية التي عرفها الفكر السياسي العربي منذ مطالع القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، جاءت في صورة ردود فعل على النموذج الفكري والسياسي والتاريخي الذي أنجزته أوروبا الناهضة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، حيث بلغت أوروبا درجة من الصعود التاريخي أوصلتها إلى مستوى بناء مشروع حضاري تاريخي، احتلت بواسطته مكانة رمزية في واقع التاريخ الحديث والمعاصر وذلك بمقارنة أوضاعها العامة مع باقي الشعوب غير الأوروبية. وقد شمل هذا البناء مختلف مستويات الحياة والفكر، وأنتج في سياقات تفاعله التاريخي نوعاً من المركزية الثقافية الأوروبية المسنودة بالمنزع الامبريالي .. وككل مشروع تاريخي جديد، اتجهت أوروبا إلى اكتساح العالم مُعليةً من شأن ثقافتها ومعارفها وقيَّمها، ومكاسبها في العلم والتقنية والميتافيزيقا..
جمعت عملية التأورب الصاعدة في الزمن الذي نتحدث عنه بين ثقافة التسامح والهيمنة، وتوسيع دوائر التدبير العقلاني، مع قدرة لا أخلاقية على تبرير المفارقات والتناقضات الجامعة بين قيم التحرر وقيم معاداة الآخرين واستغلالهم.. وانتقل كل ذلك من المستوى الأوروبي المحلي والقاري إلى المستوى العالمي داخل المستعمرات، ليشمل في فترات متلاحقة مختلف بقاع المعمور ة..
وفي هذه اللحظة التي شكل المنعطف الاستعماري فيها حدثاً فاصلاً في إعادة تمفصل التاريخ، انخرط العالم العربي وبصورة قسرية في تعلم مقدمات الحداثة والفكر الحديث.(7) لقد تم توقيف مسلسل تاريخي ذاتي في التطور، وإطلاق مسار آخر مغاير له ومختلف عن بنيته التاريخية الناظمة، مما ساهم في توسيع مجال العناصر المؤسسة لأفعال التاريخ في العالم العربي، فأصبح المتغير التاريخي المتمثل في تجربة التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر جزءاً من صيرورة عامة في التاريخ العربي، لم يعد التمييز فيها ممكنا بسهولة بين معطيات الداخل والخارج.
لقد أدى الانحسار الذي عرفه الفكر العربي في لحظات تراجع المد التاريخي الاسلامي وعطاءات الفكر والمعرفة في عصورنا الوسطى إلى ادخال الفكر العربي الإسلامي في دائرة التقليد، فتعطلت آليات الابداع، وحصل انكفاء فكري أوقف الاجتهاد وعطَّل آلية استيعاب مقتضيات أن تكون المصالح مرسلةً في التاريخ، ومتطلبات تعقلها وفك مغلقاتها بالكفاءة البشرية في الفهم والتعليل والتجاوز.. ومقابل ذلك تم مَنْحُ بعض النصوص سلطة تفوق سلطة البشر في التعقل والتأويل والإنتاج.. فأصبحنا ندور في حلقة مغلقة، وأصبح منتوج المعرفة المتبلورة في حقب التاريخ الإسلامي الأولى يمثل مرجعية نصية مطلقة ... وعندما وصلت أوروبا بجيوشها ولغاتها ومعارفها إلى جغرافيتنا، واستقرت داخل مجتمعاتنا بهدف الاحتلال والسيطرة، وجدنا أنفسنا أمام مرآة جديدة تقتضي منظوراً جديداً في العمل والفكر والإنتاج، فكان لابد من مواجهة مصيرنا.. وفي لحظة المواجهة التي حصلت ومافتئت تحصل بصور وصيغ مختلفة في أزمنتنا الحديثة، بدأ يتولد ويتشكل مشروع سياسي تاريخي جديد في واقع المجتمعات العربية، مشروع الإصلاح المساعد على بناء ما يسمح بتجاوز مظاهر التأخر التاريخي العام، لتمكين الذات العربية من مواجهة ذاتها ومواجهة الآخر ..(8)
وككل الظواهر والحوادث الفاصلة في التاريخ، ترتب عن هذه المواجهة جروح في الجسد والوجدان والعقل ، كما نتج عنها وعي جديد فَجَّر إمكانية تخطي أسباب التأخر التاريخي، من أجل إعادة بناء الذات ومعالجة أعطابها عن طريق الاستفادة من ممكنات التاريخ المنفتح على تجارب مختلفة عن تجاربنا .. وفي قلب هذه الجدلية المتناقضة، نشأت كما قلنا مشاريع الاصلاح الهادفة إلى تدارك أحوال التأخر التاريخي العربي.(9)
ان الجدل التاريخي الحاصل في هذه اللحظة الفاصلة بين تاريخين، يكشف ميكانيكية دعاوى رفض مكاسب ومنجزات تاريخ الآخر بالآليات الذهنية والتاريخية التي تقيم تمييزاً قاطعاً بين الداخل والخارج، ذلك أن التاريخ الفعلي لا يقبل ثنائية الداخل والخارج عندما تكون قائمة فقط على مبادئ التباعد والتفاضل والتمايز، مغفلةً آليات المثاقفة والتواصل وإعادة البناء.. مثلما أن مبدأ واحدية التاريخ لايقبل بالضرورة آليات التنميط وصناعة النسخ والأشباه. فهناك في سيرورة التواريخ الخاصة والعامة أنماط من التداخل والتنوع والغنى والتناقض الصانع للأزمنة والتواريخ في مختلف حقب التاريخ، أما الثنائيات التي ترسم التقابلات الحدية بين الأطراف المتصارعة والمتصالحة، فإنها تقلص من وهج التواترات الحية والفاعلة في جدليات بناء وإعادة بناء التاريخ العالمي في صيرورته وتنوعه، في وحدته واختلافه ..(10)
ومن أجل الكشف عن بعض جوانب الحداثة السياسية التي حصلت في العالم العربي ابتداء من لحظة المواجهة المذكورة، لقياس درجات تفاعلها التاريخي مع مجتمعاتنا وثقافتنا، ومعاينة الأسئلة الجديدة التي تطرحها آليات مواصلة عمليات الحداثة والتحديث بنجاعة تاريخية أكثر، نتجه لانجاز تحقيب مفترض لتاريخ استيعاب المرجعية السياسية الحداثية في فكرنا وتاريخنا المعاصرين، مستندين في ذلك إلى جملة من المفاهيم والوقائع والنصوص الكاشفة عن كيفية تصورنا لعمليات استنبات وتوليد المشروع السياسي الحداثي في فكرنا المعاصر.
يكشف نموذج التحقيب الذي نتجه لتقديم عناصره الكبرى بصورة مختزلة عن رؤيتنا للنمط الذي تمت بواسطته عملية تركيب المرجعية الحداثية في فكرنا المعاصر، كما يكشف عوائق وصعوبات التشكل التاريخي المواكبة لتطور هذه المرجعية في فكرنا، حيث سيتجه بحثنا في جزئه الثاني لصوغ بعض الأسئلة التي نعتقد أن التفكير فيها يمكننا من بناء المعطيات النظرية المساعدة في عملية تعميق النظر في سؤال الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر.
ننظر إلى لحظات التحقيب المنجزة في هذا العمل باعتبارها نقط ارتكاز نظرية فاعلة في تطوير الفكر السياسي العربي، وهي تختزل مسارات عديدة في مسلسل تطور الحياة السياسية العربية المعاصرة. ولاندعي أبداً أنها تستوفي مختلف جوانب ومعطيات المشهد السياسي العربي في سيرورته المعقدة، إنها علامات دالة نوظفها في التحليل بهدف مساعدتنا على إدراك منظم لهذه السيرورة، ولنوعيات الأدوار التي مارست ولا تزال تمارس في الطور الانتقالي المتواصل في تاريخنا المعاصر ..
ولتوضيح هذه المسألة بصورة أخرى نقول إن تحولات الفكر السياسي العربي في باب تمثل مشروع الحداثة السياسية أكثر تعقيداً وأكثر توتراً من الصور والمعطيات النظرية والتاريخية التي نستحضر في هذا التحقيب، لكن مقتضيات البحث والفهم تتطلب كما نعرف بناء نماذج نظرية مساعدة على تركيب المعطيات بهدف فهمها وتحليلها واكتشاف حدودها.(11)
1 - أولوية الإصلاح السياسي في النهضة العربية
وانطلاق مشروع التحديث السياسي
نسجل في بداية هذه اللحظة ملاحظة أولية تتعلق بكون إصلاح الأوضاع العامة في العالم العربي اتخذ طابعاً سياسياً، حيث شكل مشروع اصلاح الدولة المدخل الأبرز في مسلسل الاصلاح الذي شمل مختلف فضاءات المجال السياسي في العالم الاسلامي.
وفي هذا السياق يكشف مبدأ إصلاح الدولة في المشروع السياسي لمحمد علي وأبنائه من بعده طبيعة التوجه الذي سيتخذه المنحى الاصلاحي النهضوي في الفكر العربي، ويغطي هذا المشروع ما يعادل ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر(12)
فقد أدرك محمد علي أن سر قوة الغرب الأوروبي يعود إلى الدور المركزي الذي لعبته الدولة الوطنية في أوروبا، ولهذا انطلق مشروعه الاصلاحي في اتجاه بناء نموذج هذه الدولة في مصر. وقد ساعده على بلورة هذا الموقف الجهود الإصلاحية التي انطلقت في الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، حيث نشأت بعض المحاولات الهادفة إلى تطوير المجال السياسي التقليدي. وشكل نموذج الدولة الوطنية الأوروبية في عمليات الإصلاح الصورة المثالية للدولة الحديثة القابلة للتعميم.(13)
تعلم محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر ان الدولة الوطنية تستند إلى جيش نظامي قوي، لكنه أدرك في الآن نفسه أنه لاجيش قوي بدون تعليم، أي بدون محاولة لتطوير أنظمة المعرفة والتعليم، وأن هذا العمل الأخير يتطلب موارد مالية كبيرة، الأمر الذي يقتضي بالضرورة أيضاً إعادة تنظيم المجال الاقتصادي وذلك بإنشاء مؤسسات التدبير الاقتصادي والمالي المستندة إلى معرفة عصرية جديدة.
نلاحظ هنا أن إطلاق مسلسل الاصلاحات ولَّد معطيات تم فيها الانتقال من المجال السياسي إلى المجال الاقتصادي إلى مجال التربية وإنتاج المعرفة، حيث سمح هذا الانتقال بإدراك العلاقة بين المعرفة الاقتصادية وبين نمط الانتاج الرأسمالي في الصور التاريخية التي اتخذ كل منهما في زمن الثورة الصناعية وثورات العلوم الانسانية المرتبطة بها، وما ترتب عن كل ذلك من نتائج في مستوى العلاقات الاجتماعية. وهكذا تحول الإصلاح السياسي إلى اصلاح متعدد الأبعاد، ذلك أنه لايمكن بناء دولة عصرية دون جيش نظامي، ولا يمكن إنشاء جيش نظامي دون تعليم عصري، ولا تعليم عصري دون موارد مالية، حيث سيتيح برنامج الاصلاح في نهاية التحليل إمكانية بناء نموذج للتطور الشامل، الشبيه بالتطور الذي شكل في التاريخ الأوروبي الروافع المؤسسة للمجتمع الحديث.(14)
انطلاقاً مما سبق نشأت في تاريخنا المعاصر الخطوات الأولى في مشروع مساعي استيعاب مكاسب ومنجزات الأزمنة الحديثة، فلم يعد بإمكان هياكل التنظيمات السياسية والانتاجية التي قننت في عصورنا الوسطى لقواعد الملك والسلطة والسياسة والاقتصاد ومراتب المجتمع، لم يعد بإمكان هذه الهياكل وبنياتها المؤسَّسة في عصورنا الوسطى أن تساعد على حركية سياسية تاريخية جديدة، مستندة بصورة أو بأخرى إلى القواعد والأصول التي بنيت في الأزمنة الحديثة.
وعندما نتحدث في هذا السياق عن دولة محمد علي وأبنائه وإلى حدود إصلاحات إسماعيل التي تمت محاصرتها بفعل استعمار مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فإننا نتحدث عن علامة رمزية تشير إلى وقائع حصلت في التاريخ، وتشير في الآن نفسه إلى ما يتعدى تلك الحوادث، إن النموذج التاريخي الذي بلورته تجربة محمد علي يرتبط بما يماثله وما ينشأ في سياقه وبما يعكس جوانب منه بحكم استفادته منه، إننا نستعمل هذا النموذج للإشارة والتدليل على علامة نظرية كبرى في مشروع التحول السياسي يروم الانخراط في عملية تعقب تجربة محددة في تصور الحداثة وإنجاز عمليات التحديث السياسي .. ونحن نتوخى من هذه العملية وضع اليد على مختلف التوجهات الاصلاحية التي اتخذت المنحى نفسه في بعض جهات العالم العربي، وفي جهات أخرى من العالم.. وقد برز ذلك أيضاً في الأعمال التي باشر بعض بايات تونس، وذلك بتدشينهم كذلك خلال عقود القرن التاسع عشر لمشاريع في الإصلاح ضمن سياقات مرجعية متقاربة، حيث تحضر في هذه التجربة الثانية مكاسب الاصلاح المنجزة في الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي تجربة تلعب هنا دور الوسيط ودور الموجه والفاعل، بحكم المكانة التي كانت تتمتع بها مؤسسة الخلافة الاسلامية في تاريخنا.
لقد عكس برنامج محمد علي في الإصلاح الاداري والمالي والتعليمي نموذجاً لمحاولة تركيب بنيات المجتمع العصري والدولة الوطنية، مع توجه واضح يتوخى الانتقال من مجرد نسخ تجارب ذات طبيعة مؤسسية موصولة بالتحديث السياسي إلى مستوى إنجاز عملية تأويل لمرجعية الحداثة السياسية، وهذا الأمر الأخير تم إنجازه من طرف المصلحين الذي انخرطوا في دعم وإسناد مشروع الإصلاح السياسي.(15)
تعكس الأمثلة المذكورة كيفية تمثل النخبة السياسية والنخبة العالِمة لأسئلة النهضة والاصلاح في القرن التاسع عشر، وتتمثل أهميتها في إعلانها لمبدأ التكيف الإيجابي مع مقتضيات ومستلزمات الحداثة والتحديث.
وتمثل نتائج التجربة في الواقع الخطوة الأولى في عملية استنبات بعض مقدمات وأصول التحديث السياسي في واقعنا المعاصر، ونظراً للعوائق العديدة التي اعترضتها، والتي تمثلت بالدرجة الأولى في ثقل الموروث الثقافي والسياسي والاجتماعي، فقد نشأ المشروع الحداثي في مظاهره وصوره الأولى مؤطراً بعوامل التردد والإخفاق، ومقيداً بقراءة محاصرة بمفاهيم مناقضة لروح مكاسبه ومنجزاته..
لقد استعمل كل من الطهطاوي وخير الدين التونسي وهما المصلحان اللذان حاولا ترجمة اختيارات دولة محمد علي في مصر، وبايات السلطة العثمانية في تونس، استعملا معاً أثناء دفاعهما على مشروع الإصلاح السياسي الحداثي لغة تنتمي إلى مقدمات في الفكر السياسي الوسيط المناقضة لمقدمات الحداثة السياسية، مما تترتب عنه تبلور مفارقات عديدة في الكتابة والفكر، مفارقات ظلت تمارس قيودها على بنية الخطاب ونظام التحديث السياسي زمناً طويلاً(16)، ومن هنا يمكننا أن نشير إلى أن أهمية مشروع هذه اللحظة في الإصلاح لا يتجاوز مسألة إعلان المبدأ العام الرامي إلى إنجاز عملية تكيف ومواءمة ايجابية بين متطلبات النهضة العربية ومكاسب الفكر السياسي الأوروبي الحديث الحاضر والحاضن لمشروع الحداثة في الفلسفة والسياسة. وهذا الأمر لا يمكن الاستهانة به أو التقليل من قيمته التاريخية، وخاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أعباء التقليد التي كانت تشكل السمة الأبرز في زمن تبلور نصوص وممارسات من أشرنا إلى منتوجهم وتجاربهم.
2 - الإصلاح السياسي الحداثي
في خطابات النهضويين العرب
ننتقل في اللحظة المفصلية الثانية في تحقيبنا من استحضار فعل إصلاح الدولة إلى أفعال بناء التصورات والبرامج الاصلاحية السياسية المعبرة عن تحولات الفكر العربي المعاصر، في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وذلك بهدف تركيب النمط الذي تمظهرت به اللغة السياسية الحداثية في فكرنا. فقد تبلور في الفترة المذكورة جملة من الاختيارات الفكرية الاصلاحية الرامية إلى مواصلة عملية التحرك التي ولدتها متغيرات إصلاح الدولة وأجهزتها، ومتغيرات التحول العالمي التي كانت تتجه لتنفيذ المشروع الامبريالي الأوروبي، وقد تميزت هذه اللحظة بالمخاضات الفكرية والمحاولات الاصلاحية الساعية إلى بناء التصورات المساعدة على تجاوز مظاهر التأخر العامة.
وإذا كانت نصوص الطهطاوي وخير الدين التونسي كما وضحنا آنفاً قد عملت بأساليبها الخاصة على دعم اختيارات الإصلاح السياسي، الموصول بمبدأ الاستفادة من تجارب الحداثة السياسية، وذلك رغم استعمالها لآلية توفيقية المنزع في لحظات سجالها مع الفقهاء المحافظين الرافضين لرياح التغيير، فإنها رغم كل ذلك شكلت مدخلاً تمهيدياً مساعداً على تبلور ما سيحصل لاحقاً. إن المأثرة الكبرى لنصوص من ذكرنا أسماءهم تتمثل في نوعية التحول الذي حققته خطاباتهم، وهي تتجه لاستيعاب منطق تدبير المنافع العمومية بآليات الدولة الحديثة كما نشأت في تربة المجتمع الأوروبي(17)، فقد ساهم هذا العمل في مد جسورٍ من التواصل بيننا وبين الآخرين، وهو الأمر الذي مهد لميلاد الجيل الثاني من المصلحين الساعين إلى دعم اختيارات التحديث السياسي، وتحديث الذهنيات في الفكر العربي المعاصر .. نحن نشير هنا إلى لحظة ميلاد المثقف النهضوي في الفكر العربي المعاصر، حيث قدم طلائع رواد الاصلاح والتنوير في فكرنا السياسي المعاصر النصوص المؤسسة لخطاب النهضة العربية في مختلف أنماطه المتناقضة والمتوترة .. إن محمد عبده والكواكبي وشبلي الشميل وفرح أنطون وأديب اسحاق وغيرهم من أعلام الفكر العربي، ساهموا جميعاً في تركيب نصوص الخطاب السياسي العربي المتجه للقطع مع نصوصنا السياسية الوسيطية، والمتجه في الوقت نفسه للتعبير عن مجمل تحولات هذا الخطاب، ومختلف تناقضاته وسجالاته في فكرنا المعاصر(18)
رسمت نصوص اللحظة الثانية نوعية ردود الفعل الإصلاحية التي عبرت عنها النخب العربية، وقد توزعت في مجملها إلى تيارين إصلاحيين كبيرين، عكسا كيفيات نظرهما لمسألة تجاوز التأخر التاريخي في العالم العربي الإسلامي، تيار المواءمة والتوفيق بين المرجعية الإسلامية وبين مكاسب العصر، والتيار الهادف إلى الاستفادة بدون حساب من منجزات التاريخ الحديث، باعتبار أن هذه المنجزات تمنح الذات العربية إمكانية تجاوز أسباب تأخرها، وتمنحها إضافة إلى ذلك انخراطاً أفضل في العالم. وقد تحمس دعاة التنوير لروح المشروع الحداثي ولمجمل شعارات التحديث السياسي، واعتبروا تجربة الموسوعيين في فرنسا بمثابة نموذج صالح للاقتداء، وهو الأمر الذي يتطلب في نظرهم المساهمة باستعجال في إعادة بناء تاريخ المعارف والعلوم في ضوء تحولات المعرفة في التاريخ، وذلك من أجل انفتاح أفضل على العالم وعلى مكاسبه المتحولة والمتطورة في مجالات المعرفة والحياة، فهذا ماحصل في أوروبا، وهذا ماينبغي أن يحصل في العالم العربي. ولهذا السبب بالذات بلور فرح أنطون مشروعه الاصلاحي في منبر »الجامعة«. وأصدر محمد عبده بعض الفتاوى الساعية إلى تحقيق نوع من التوازن بين قيم الإسلام وقيم العصر الجديدة.
واكبت هذه اللحظة في فكرنا السياسي بداية انطلاق مسلسل المشروع الامبريالي في العالم، حيث اقتسمت أوروبا العالم العربي الإسلامي، ومارست أساليب جديدة في الاختراق التاريخي الهادف إلى بلوغ مرام محددة، وقد ترتب على ذلك جملة من ردود الفعل الرافضة لمبدأ الاستعانة بتجارب التاريخ المغاير والمختلف والمغتصب .. حيث تعززت دوائر الانكفاء على الذات، تحت ضغط المواقف الاستعمارية العدوانية المناقضة لكثير من توجهات الفكر الحديث ذات المرتكزات الفلسفية الانسانية والأخلاقية.
لكن أهمية هذه اللحظة كما نتصور تعود لكونها بلورت بلغة واضحة مبدأ لزوم التعلم من درس الفكر السياسي الحديث في ثقافتنا المعاصرة، وذلك كما قلنا رغم التناقضات والتوترات التاريخية والنفسية، التي ولدتها نتائج المد الاستعماري في حياة المجتمعات العربية. فقد كانت نصوص فرح أنطون التي نعتبرها بصورة رمزية بمثابة العنوان الأبرز في هذه اللحظة، تدعو إلى قراءة الأوضاع العربية في مطلع القرن العشرين بمعايير تسلم بمبدأ واحدية التاريخ البشري، وتسلم بناء على ذلك بأهمية الاستفادة من تجارب الأمم في التاريخ، بالصورة التي تساعد على تخطي وتجاوز عتبات التأخر وعواقبه.
نعثر في نصوص فرح أنطون على ملامح المنزع الحداثي والتحديثي، ورغم أننا نقرأ ملامح هذا المنزع في زمن الاستعمار الأوروبي المباشر، فإن الجدلية المفترضة في علاقة النص السياسي الإصلاحي بالتاريخ المباشر، لا ينبغي أن تجعلنا نتجه لتفسيره بصورة ميكانيكية.. بل إنه ينبغي أن نتجه لبحث مختلف أبعاد هذه النصوص في علاقتها بمجمل سياقاتها القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، لنتمكن من استيعابها بصورة أكثر تاريخية(19).
وفي هذا السياق نحن نتصور أن أهمية نصوص التنويريين العرب، تتمثل في سعيها لتعميم بعض مفاهيم الحداثة السياسية في الثقافة العربية المعاصرة..
وضح عبد الله العروي في قراءته للفكر العربي المعاصر أبرز سمات الاختيار الحداثي في المجال السياسي العربي، وقد صنف في نص الايديولوجيا العربية المعاصرة فئات المثقفين الذين نحن بصددهم الآن في خانة التوجه الانتقائي(20)، لكنه في مصنفيه المعنويين بمفهوم الحرية ومفهوم الدولة،(21) اعتبر أن هذا الجيل من المثقفين يمثل التيار الليبرالي والفكرة الليبرالية في مشروع النهضة العربية، مبرزاً أهم الصعوبات التي كانت تواجه ليبراليي عصر النهضة العربية، في لحظات مواجهتهم لأعاصير زمن جديد محمَّلٍ باختيارات في الفكر، مختلفةٍ تماماً عن رصيد التراث العربي الإسلامي المتبلور في عصورنا الوسطى.
لقد واجه مصلحو النهضة لحظة تأخر موسومة بالجمود والتقليد، وواجهوا في الآن نفسه تيارات الفكر الحديث والمعاصر بطابعها المركب، وقد عجزوا في النهاية عن تمثل معطيات هذا الفكر في صيغ صيرورتها الفكرية المتحولة والمعقدة، لهذا لجأوا إلى الانتقاء، واتجهوا في تعاملهم مع تيارات الفكر المذكور إلى بلورة برامج في العمل السياسي أكثر من اهتمامهم ببناء النظر القادر على تركيب الفكر المطابق لحاجيات تاريخية محددة، اتجهوا إلى صياغة برامج في التحديث السياسي أكثر من عنايتهم بأصول المرجعية النظرية الحداثية.
ونحن نتصور ان الاسهام الفكري الذي بلورته أعمال النهضويين الذين أشرنا إلى البعض منهم، يقف وراء المنجزات النظرية المتمثلة في بناء مدخل ثانٍ من مداخل غرس قيم التحديث السياسي في فكرنا المعاصر. فإذا كانت أعمال الطهطاوي وخير الدين التونسي وإنجازات محمد علي وأبنائه في مصر قد أثمرت مداخل سياسية مباشرة لإدماج مسلسل تحديث آلة الدولة في العالم العربي، فإن نصوص مصلحي مطالع القرن العشرين قد دفعت بهذا المشروع في اتجاه تركيب خطابات أكثر جرأة في باب الإعلاء من مبدأ دنيوية التدبير السياسي وتاريخيته، وذلك رغم اكتفاء أغلب هذه النصوص بمعالجة قضايا سياسية جزئية ومفصولة عن تربتها الفكرية والتاريخية الناظمة، واكتفاء بعضها الآخر بمحاولات في تركيب بعض الإشارات التي تتجه لتبني المرجعية السياسية الحداثية في فكرنا السياسي.
وفي هذا السياق، ستتحول نصوص من ذكرنا إلى إرهاصات ممهدة لنوعية الخطابات الجديدة التي تبلورت ملامحها في الثلث الأول من القرن العشرين، حيث عملت نصوص لطفي السيد وعلي عبد الرزاق وطه حسين على إنجاز تركيب نظري في مجال التحديث السياسي، ساهم بدوره في إغناء رصيد المرجعية السياسية الحداثية في فكرنا، وعزز دائرة ما أصبح يعرف بالعصر الليبرالي في فكرنا المعاصر(22).
نتبين في جهود هذه اللحظة نواقص عديدة، أبرزها كما قلنا الطابع التجزيئي الذي حوَّل الرؤية السياسية الحداثية إلى جملة من المعارك الجزئية، المرتبطة بقضايا مفصولة عن حواملها الفكرية وسياقاتها التاريخية، حيث لا نعثر في هذه المعارك على أي عناية بالمرتكزات والأسس الفلسفية النظرية العامة المؤسسة لمشروع الحداثة والتحديث السياسي، فقد انشغل المصلحون بموضوعات تندرج في صلب الحداثة السياسية (التأخر التاريخي، الإصلاح الديني، فصل الدين عن الدولة، بناء المؤسسات الحداثية، دور العلم في تحقيق النهضة ...) لكنهم أغفلوا مبدأ العناية بالأصول الفلسفية الكبرى الناظمة للرؤية الحداثية والمؤسسة لها، وهو الأمر الذي سيظل سمة ملازمة لمعارك التحديث السياسي في فكرنا وواقعنا وإلى يومنا هذا ..
واكب هذه اللحظة انفتاح في العمل في المجال السياسي على بعض آليات نظام الحكم النيابي، وقد عملت على تعزيزه وبناء بعض التصورات الموصولة به، وبالآفاق السياسية التي اتجه صوبها، بهدف ترسيخ نماذج جديدة من العمل السياسي الرامية إلى التخلص من ميراث عصورنا الوسطى. وقد تعزز هذا المنحى في بعده النظري وفي أبعاده العملية بالتحول الذي أنجزه مصطفى كمال أتاتورك وهو يعلن سنة 1924 انتهاء عهد الخلافة الإسلامية، وتأسيس دولة تركيا الحديثة، الدولة التي تستعير مفردات ومساطر وآليات عملها من نموذج الدولة الوطنية كما نشأت في المجال السياسي الأوروبي الحديث، نحن نشير هنا بالذات إلى مرحلة ما قبل التجربة الناصرية في مصر، وهي المرحلة التي بلغ فيها المد السياسي الحداثي والتحديثي في الفكر العربي حدوده القصوى.(23) ، وذلك بمعيار تجربة مايزيد عن قرن من الزمان في مجال الاهتمام بالمشروع الحداثي كطريق مناسب لبلوغ مرمى الاصلاح.
ورغم أن هذا المد الحداثي كان يحصل ضمن دائرة السياج العقائدي التقليدي، وفي إطار مجتمع مقيد بالهيمنة الاستعمارية وتوابعها، ومقيد بنظام في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية العتيقة، فقد ساهمت الأفكار المتبلورة في إطاره رغم نواقصها العديدة، في تقوية وتعزيز رصيد الحركات الاستقلالية الناشئة في أغلب الأقطار العربية بهدف مقاومة الاستعمار، ومقاومة إدارات الحماية التي كانت ترسم للغرب ولمشروعه الحداثي في فكرنا المعاصر صوراً متداخلة ومتناقضة، وتصنع لجدليات التاريخ في عالمنا أبعاداً مختلطة...
3 - لحظة الاستعمار المباشر،
في ديناميات التحديث القسري وتوابعه
عندما نتعامل مع متغيرات التاريخ العربي المعاصر بلغة تاريخية وضعية، ونتجه لتشخيص معطياته دون مواقف قبلية دوغمائية، فإن الوقائع والمعطيات تتخذ مواصفات تختلف عن المواصفات التي يمكن أن تتخذها في حال المقاربة المسنودة بمواقف لا تاريخية .. وبناء على روح هذا المبدأ العام، يتحول تاريخنا المعاصر بمختلف إشكالاته في الفكر والسياسة والمجتمع والاقتصاد إلى محصلة تتداخل فيها مؤشرات عديدة، مركبة ومتناقضة، مؤشرات داخلية موصولة بإيقاع التحول التاريخي البطيئ، الذي شكل سمة ملازمة لأزمنة مايعرف في الكتابة التاريخية العربية التقليدية »بزمن الانحطاط« ، ومؤشرات خارجية مرتبطة بآليات الصراع العالمي كما تبلورت ملامحه في سياق تطور نمط الانتاج الاقتصادي الرأسمالي في القرن التاسع عشر، حيث سيشكل المد الامبريالي في مختلف الصور التي اتخذ المظهر الأبرز للسطوة الأوروبية على العالم ...
يقرأ الحدث الاستعماري في لغة حركات التحرير الوطنية بطريقة تختلف عن الطريقة التي يمكن أن يقرأ بها في إطار التحولات العامة للتاريخ في بعده العالمي، حيث تتقلص الشحنة الأخلاقية لتترك المجال للغة صراع المصالح في التاريخ. ونحن هنا لانريد أن نتحدث عن القراءة المقاوِمة، ولا عن القراءة المبرَّرة لما حدث. إن هدفنا الأساس موصول أولاً وقبل كل شيء بموضوع التفكير في الحداثة السياسية العربية، وموصول بمحاولتنا تركيب نمذجة نظرية بهدف منهجي، نتوخى منه إحاطةً عامة غايتها الأساس إعادة تنظيم سياقات وآليات وعلامات تشكل المرجعية السياسية الحداثية وتطبيقاتها في تاريخنا المعاصر. ولهذا السبب تصبح الأحداث الكبرى من قبيل الحدث الاستعماري الغربي في العالم العربي ظاهرة مركبة بكل معاني الكلمة، ويصبح سياق توظيفها في محاولتنا متحكماً في نوعية التأويل الذي نتجه لبناء عناصره بكثير من الاختزال والتركيز.
لقد شكلت الظاهرة الاستعمارية في العالم العربي حدثاً متعدد الأبعاد والدلالات، وصنعت أحداثاً ومقاومات، ومقابل ذلك بنت تاريخاً جديداً حققت بواسطته مشاريعها في الهيمنة والاستغلال، ومارست في الآن نفسه دوراً آخر ساهم بطريقة أو بأخرى في خلخلة المقومات التاريخية الموروثة والحافظة لذات تاريخية محاصرة .. وهو الأمر الذي انعكس من جهة أخرى على الذات المذكورة وعمل على إلحاق تغييرات فاعلة فيها وفي مصيرها التاريخي ..
لا يمكن إذن أن نقرأ الحدث الاستعماري كظاهرة سلبية وبصورة كلية ومطلقة. كما لا يمكن أن نتعامل معه بمعايير اللغة الأخلاقية وحدها، أو بمواقف التنديد والإدانة السياسيين وحدهما ... وعندما نتخلص من الحدود المعرفية والسياسية التي تتضمنها القراءات السابقة، ونتجه لبناء مقاربة لا تبخس المواقف المذكورة قيمتها، وخاصة في السياقات والأزمنة التي تبلورت فيها، فإنه يكون بإمكاننا أن نقرأ في قلب ديناميات الحدث المذكور، ومن زاوية مغايرة جملةً من المعطيات المتناقضة، أي يمكننا على سبيل المثال أن نتبين في معطيات الحدث عناصر السلب والايجاب، حيث يصبح لهذا الحدث دور الفاعل المساهم في بناء الملامح التاريخية المؤسسة لتاريخنا المعاصر في أبعاده المختلفة.
ويعلمنا التاريخ في هذا الباب أن التطور في المجتمعات لا يكون دائماً وبالضرورة بفعل المؤثرات الداخلية وحدها، بل إن التحول والتطور في التاريخ تسببه عوامل عديدة من بينها العوامل التي يمكن أن تكون في بعض مفاصل وحلقات التاريخ أجنبية وخارجية.
وإذا كان الوطنيون العرب في مختلف البلدان العربية قد تغنوا بشعار الحرية والاستقلال، فإنه ينبغي أن لا نغفل انهم استعملوا في تركيب هذا الشعار مفاهيم الفكر السياسي الحديث والمعاصر، بحكم أنها تعكس روح الاختيارات الانسانية المطابقة لطموحاتهم وطموحات إرادة التحرر كما يمكن أن تتبلور في أمكنة وأزمنة لاحصر لها ..(24)
ورغم درجات اختلاف المد الاستعماري في الأقطار العربية، حيث يظهر التشخيص المباشر بعض أوجه الاختلاف بين الاستعمار البريطاني والفرنسي والايطالي والاسباني في هذا القطر العربي أو ذاك، إلا أن ما حصل من تحول في مختلف المجتمعات العربية إبان المرحلة الاستعمارية، صنع قاعدة جديدة للتحول السياسي والاقتصادي، ورسم أفقاً جديداً لاختيارات تاريخية، في الفكر وفي العمل تختلف عن اختيارات المرجعية التاريخية الذاتية الأكثر رسوخاً (مرجعية التقليد السائدة)، وتفتح المشروع النهضوي العربي والمستقبل العربي وتحصل على دوائر أخرى في الفكر وفي المجتمع، دوائر لم يعد بالامكان تجاهلها، ولا الاستغناء عنها من أجل فهم أكثر عيانية وأكثر قرباً من مكونات الأحداث والوقائع كما حصلت في التاريخ وفي تاريخنا بالذات ...
من هنا أهمية الدعوة إلى إعادة قراءة الفعل الاستعماري في بناء الذات العربية والتاريخ العربي المعاصر ... صحيح أن العنف الاستعماري وشم تاريخنا ومجتمعنا بكثير من صور الاستغلال والاستبداد، وصحيح أيضاً أنه مارس كثيراً من أنماط الاغتصاب المادي والنفسي، بل إنه يمكننا أن نتحدث عن دوره الكبير في توقيف ديناميات التطور الداخلي الذاتي.. إلا أنه رغم كل ذلك ساهم بطرقه الخاصة في بناء المؤسسات والقواعد الادارية والاقتصادية والمؤسسية الحديثة في بلداننا، ووضع مجتمعاتنا على قاطرة الانخراط في الأزمنة الحديثة بما لها وما عليها .. وهنا لاينبغي أن ننسى أن جوانب من مبررات ما حصل في زمن الاستعمار تعود إلى الوهن التاريخي الذي لحقنا في إطار ما يعرف في فلسفات التاريخ الكلاسيكية بدورة الزمان ومكر التاريخ..
وعندما نتجه لفهم ماذكرنا في علاقته بمسألة الحداثة التحديث السياسي في العالم العربي، سنكتشف أن اللحظة الاستعمارية ستعمق بطريقتها الجدلية الخاصة، التحولات التي كانت قد انطلقت في العالم العربي تحت تأثير مشروع النهوض الأوروبي، والفرق بين إسهام المصلحين السياسيين الذين سبقوا لحظة المد الاستعماري، وما سيعمل المشروع الاستعماري على توليده وتركيبه في الواقع، يتحدد في الأهداف والطموحات التي كان يتجه كل منهما لتحقيقها في الواقع، وهي أهداف متقاطعة، لكن نتائجها في المدى البعيد قابلة لأكثر من قراءة ترى في معطياتها عناصر تتام وتكامل..
وفي هذا السياق، لابد من التوضيح هنا أن الآلة الاستعمارية في العالم العربي لم تنجز ما أنجزت بهدف حماية وتطوير مجتمعاتنا، حيث أطلقت كما هو معروف على فعل الاختراق التاريخي الذي مارست على مجتمعاتنا اسم »الحماية«، ذلك أن ما أنجزته كان يشكل في العمق جزءاً من مشروع حمايتها لمشروعها الاستعماري، وذلك بمزيد من ترسيخ قوتها وحضورها في العالم. ولهذا السبب نقول إن نتائج المشروع الاستعماري في الواقع العربي، ومآثر المشروع الحضاري الغربي في الفكر الانساني، تقدم نموذجاً واضحاً على التركيب التاريخي الجامع بين المتناقضات والنقائض.
لقد ساهم الحدث الاستعماري في خلخلة أنظمة السياسة وقواعدها في مجتمعاتنا وترتب عن هذه العملية انطلاق مسلسل بناء قنوات وقواعد التحديث السياسي في التجربة التاريخية العربية .. نستطيع أن نشير هنا إلى المظاهر السلبية العديدة التي اتخذها مشروعنا الحداثي بفعل حصوله العنيف والمفاجئ، وبفعل عدم وجود الروافع المجتمعية والاقتصادية والفكرية المساعدة على تحقيق ما يرتبط به من أهداف. لكننا نستطيع في الوقت نفسه تبين بعض المظاهر الايجابية في الفعل المذكور، بحكم أن التحول كما قلنا لايخضع لمقتضيات التحول الداخلي وحده، بل تتحكم فيه أيضاً العوامل الخارجية، وقد تكون لهذه الأخيرة قيمتها العظمى في اللحظات المفصلية الفاعلة في التاريخ، من قبل اللحظة التي نحن بصددها، حيث يصنع التاريخ بفعل القَسر، وحيث يولِّد القَسر مفعولاتٍ فاعلة ومؤثرة رغم تناقضها، فينشأ عن ذلك ترتيب جديد في المصير التاريخي للمجموعات البشرية، ترتيب يفعل في التاريخ بضغط من الديناميات الخارجية التي تتجاوز التصورات المرتبطة بالطموحات الذاتية وحدها.. ولهذا السبب وضعنا هذه اللحظة في سياق ترتيب تاريخي نظري يمنحها صفة اللحظة المساهِمة في تطوير وتكوين حداثتنا الموسومة بخصائص محددة ...
4 - التراجعات الكبرى،
وانطلاق مشروع ترسيخ وتوسيع التحديث السياسي
ترتبط هذه اللحظة زمانيا ببداية النصف الثاني من القرن العشرين، حيث انطلقت في كثير من الأقطار العربية تجارب في العمل السياسي تتوخى تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والوحدة القومية، ومقابل ذلك تخلت عن مطلب تعزيز مجال الحريات الخاصة والعامة لربح رهان التقدم.
وهكذا أصبح إعلان الاشتراكية والتنمية والوحدة بمثابة إعلان للتخلي عن قيم مشروع الحداثة السياسية، دون التفكير في إمكانية إنجاز أي نوع من المواءمة التاريخية القادرة على عدم التفريط في مكاسب فترة انتعاش المشروع التحديثي في ثقافتنا السياسية، وهي الفترة التي أنتجت نصوصاً ومؤسسات وتجارب في العمل السياسي في بعض الأقطار العربية، خلال العقود الثاني والثالث والرابع من القرن العشرين.
لا نتجه هنا لإنجاز مراجعة نقدية شاملة للتجربة الناصرية، أو لتجارب أحزاب البعث القومية الاشتراكية، وهي تجارب وصلت سدة الحكم، وأصبحت عنواناً لمواقف واختيارات سياسية يمكن قياس مدى نجاعتها أوفشلها بمعايير التاريخ وحساباته، إننا نتجه هنا أساساً لتشخيص منعطف في الفكر السياسي العربي عطَّل مسلسلاً سياسياً تاريخياً، وبنى بدائله بناء على مقدمات وأصول فكرية مختلفة عن مقدمات المعتقد السياسي الليبرالي.
انتعشت في الفكر السياسي العربي خلال الفترة الآنفة الذكر شعارات الطريق الاشتراكي الثالثي، وذلك في سياق التحولات السياسية العالمية وانقسام العالم إلى قطبين كبيرين، وقد اختارت بعض الدول العربية كما وضحنا إبعاد الاختيار السياسي التحديثي لتصطف بجانب تجربة الاتحاد السوفياتي وتجارب أوروبا الشرقية فيما كان يعرف بالمعسكر الشرقي وتجارب العالم الثالث.
لم تكن هذه الخيارات السياسية المناهضة للحداثة السياسية ومبدأ إطلاق الحريات، وبناء قنوات تدبير العمل السياسي القائم على مبدأ تداول السلطة، لم تكن هذه الخيارات سوى محاولة لبناء شرعية ثورية، ترفع شعارات مواجهة الخطر الأجنبي بالتنمية الاقتصادية والوحدة القومية، بهدف تحصين الذات والمحافظة على استقلالها..
أطلقنا على تجارب هذه اللحظة في الجزء الأول من عنوانها نعت التراجعات الكبرى، وذلك لتخلي الفاعلين السياسيين فيها عن مبادئ وقيم التحديث السياسي، وسَنَدنا في هذا الموقف يعود إلى معطيات محددة تنتمي إلى مجال تاريخي معين، يتعلق الأمر بالمجال السياسي بالذات، كما يتعلق بالآثار والنتائج التي حصلت في تاريخنا المعاصر.(25)
إننا ندعم موقفنا هنا بالرجوع إلى النتائج المترتبة عن عملية المقايضة المذكورة، ذلك أننا عندما نقيس الشعارات التي رفعت في هذه المرحلة بنتائجها في الواقع وفي التاريخ الحي، نتبين الخسارات التي لحقت مجال تطوير فكرنا وممارستنا السياسية.. وفي هذه المسألة بالذات نحن لانريد أن نفكر بمنطق الحسابات السياسية الظرفية والسريعة، التي تتعامل مع الأسئلة التاريخية الكبرى بروح التصنيفات الحدية المغلقة، حيث يتم تغليب آليات التحليل السياسي الميكانيكي على التحليل التاريخي الموضوعي، الذي يحرص كما نتصور على أن يُدرِك في الظواهر لحظة تقويمها ونقدها مختلف جوانبها، وحيث تسمح أبعاد الظواهر المختلفة بمعاينة درجات التعقد والتناقض، وهو الأمر الذي يتيح في نهاية التحليل إدراكاً أكثر تاريخية للسياقات والاختيارات والنتائج، ويمكننا في نهاية المطاف من قراءة نقديةٍ مستبعدةٍ ما أمكن لشحنة الحساسيات السياسية اللاتاريخية، من أجل مراجعة تاريخية أكثر استيعاباً للظواهر والقضايا موضوع الدرس والنقد والتقويم .. حيث لايعود بإمكاننا أن نرفض بسهولة المكاسب التي تبلورت في الحقبة الناصرية على سبيل المثال، ولا إدراك عناصر التراجع الذي الحقته بمسلسل في التطور التاريخي سيجعلنا نعيد بناء بعض المعطيات التي اعتقدنا أنها بنيت في فترة سابقة وهو الأمر الذي يعني توقيف مسلسل التراكم اللازم لكل تحول يقع في التاريخ ..
إننا نصوغ هذه التدقيقات النظرية العامة، ونلح عليها بتكرارها، لنبرز بوضوح دلالة موقفنا من النزعات السياسية الكليانية، ممثلة في الناصرية وأحزاب البعث وتجارب الاختيار الاشتراكي المتنوعة كما تشكلت في تاريخنا المعاصر، في كل من مصر والجزائر واليمن والعراق وليبيا وسوريا ... فقد أثمرت معطيات هذه الاختيارات والتجارب كما قلنا بعض المكاسب التاريخية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة، وساهمت بنصيب معين في إسناد طرف من أطراف القطبية الثنائية في أزمنة ما يعرف بالحرب الباردة، إلا أنها قبل ذلك وبعده أثمرت في المحصلة النهائية أهم مكونات المآل السياسي والتاريخي الذي آلت إليه أوضاعنا اليوم وفي مختلف الأقطار العربية، (26) حيث نحن مطالبون اليوم مجدداً بإعادة بناء مشروعنا في الحداثة والتحديث ..
إن الاختلال التاريخي الكبير الذي نعده سمة الوضع العربي الراهن، يعكس أهم نتائج تجربة أكثر من أربعة عقود من التجريب السياسي، الذي لم يتمكن من بلوغ مراميه وتحقيق شعاراته، حيث يكشف الواقع استمرار معاناة المواطن العربي في أغلب الأقطار العربية من غياب التدبير السياسي الديمقراطي، و من التوزيع العادل للموارد والثروات الاقتصادية، إضافة إلى استمرار حضور الاستعمار وتوابعه في أغلب الأقطار العربية، وهو ما يعني انعدام استقلال القرار العربي.(27)
وفي السياق نفسه، ازدادت مشكلة تحرير الأرض العربية في فلسطين تعقداً، وازدادت الغطرسة الصهيونية بأساً وعنفاً، إضافة إلى المعطيات التاريخية الجديدة المتمثلة في الاحتلال الأمريكي للعراق وما تلاه من أحداث تظهر درجات تراجع المد التحرري في العالم العربي وفي العالم، حيث ترتفع حدة التوتر، وتزداد مؤشرات انعدام التوازن في بقاع مختلفة من العالم، متخذةً مسميات جديدة .. لكنها تعبر في العمق عن تناقض في المصالج، لم تستطع الآليات القانونية والمؤسساتية القائمة في العالم اليوم أن تجد له المخارج المناسبة بأساليب التدبير العقلاني القانوني المتوازن والعادل ..
تشخص المعطيات المختزلة في الفقرات السابقة جوانب من الوضع السياسي العام في العالم العربي، وقد نشأت بمحاذاتها مواقف أخرى تتوخى بناء تصورات بديلة معلنةً أن سبل تجاوز التراجعات القائمة يتمثل في تمثل الرؤية السياسية الحداثية وإعادة بناء مشروع التحديث السياسي، الرؤية والمشروع اللذان تم التخلي عنهما في تجارب مشروع »الثورة العربية«، التي قدمت نمطاً من الاستجابة التاريخية لشعارات كانت تملأ الفضاء السياسي العالمي في زمن تبلورها، لكنها لم تنجح فيما برمجت وأعلنت وذلك بحكم الأخطاء التاريخية التي واكبت عملية تشكل هذه الشعارات وتشكل المواقف والأنظمة السياسية المعبرة عنها ..(28)
ومنذ هزيمة 1967، بدأ ينشأ في الفكر السياسي العربي مشروع التفكير في النهضة العربية الثانية(29)، أي مشروع نقد وتقويم تجربة مشروع النهوض العربي، الذي عكسته تجارب الاصلاح السياسي النظرية والتطبيقية كما تمظهرت في التاريخ العربي المعاصر، سواء في الفكر الاصلاحي النهضوي أو في الممارسة السياسية التي رفعت كما قلنا شعار »الثورة العربية«.
ارتبط الحديث عن نهضة ثانية بمحاولة تعزيز دوائر الفكر النقدي والفكر التاريخي في ثقافتنا المعاصرة، وقد أثمر هذا المنحى في العقدين الأخيرين من القرن العشرين مشاريع في الدعوة إلى تأصيل المشروع السياسي الديمقراطي في الفكر العربي، مشروع التحديث السياسي بهدف نقد الاختيارات السياسية الشمولية، وإسقاط أنظمة حكم الحزب الوحيد والفكر الواحد، كما أثمر بعض مشاريع نقد القيود النصية التراثية، بهدف تكسير العقل التراثي، والانخراط في رفع وتيرة تمثل مكاسب الفكر التاريخي النقدي، في مجالات المعرفة المختلفة.
وقد ساهمت بعض مؤسسات الفكر العربي في تعزيز هذا المنزع الفكري النقدي، سواء في المجال السياسي، أو في مجال تحديث الذهنيات الموصول بمجال التحديث الثقافي.. كما ساهمت بعض مؤسسات المجتمع المدني العربية في تقوية هذه الاختيارات داخل دوائر النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في كثير من الأقطار العربية. وقد دعم هذا الاختيار منتوجاً جديداً في الفكر السياسي العربي، عمل على إعادة تركيب بعض جوانب النقص القائمة في منظومة النظر السياسية العربية، ومشروع الحداثة السياسية على وجه العموم. (نحن نشير هنا إلى التنظيمات المدنية العربية المهتمة بمجالي الديمقراطية وحقوق الإنسان على وجه الخصوص).
ويقدم الجدل السياسي الدائر بصورة مكثفة في الفضاء السياسي العربي في مطالع الألفية الثالثة نموذجاً لمخاضات وتوتراث عديدة جارية في فضائنا السياسي والمجتمعي، وهو يكشف ليس فقط نتائج المآل الراهن الذي آلت إليه أوضاعنا، بل إنه يتجاوز ذلك ليبني وسط الخرائب والهزائم وسط الحرائق والأزمات آفاقاً مشرعةً على طموحات وتطلعات تاريخية بديلة، حيث تجري عملية تركيب نظري تاريخي يروم مواجهة العلل العميقة التي تسببت في حصول هذا الذي حصل، مع إرادة في الفكر والعمل السياسي تروم بناء اختيارات سياسية، تستفيد فيها من تجارب المرجعية السياسية الحداثية كما نشأت في مصادرها الأولى، وكما تشكلت في التأويلات التي حصلت في فكرنا السياسي المعاصر، وهو الأمر الذي نعتقد أنه ستكون له في المستقبل نتائج في باب تطوير المنزع السياسي الحداثي في فكرنا السياسي.
تعكس المواقف المشار إليها في الفقرة السابقة إرادة سياسية جديدة، تتجه لمعاودة بناء المشروع السياسي الحداثي في فكرنا، وهذه العملية التاريخية الجديدة، تواجه اليوم تحديات أخرى فرضتها تيارات الاسلام السياسي. وتكشف التحديات الجديدة طبيعة التوترات والتراجعات التي ينبغي مقاومتها بالنظر النقدي المجتهد، بهدف بناء ما يمكن تسميته بنقط اللاعودة إلى أنظمة في الفكر وفي السياسة لم تعد مناسبة لمقتضيات الزمن.
إن معركة الحداثيين اليوم مع من يرفضون المشروع الديمقراطي واللغة السياسية التاريخية، تتطلب جهوداً نظرية كبيرة ومبدعة، من أجل إعادة بناء الخطاب والممارسة السياسية الحداثية في العالم العربي..
نسجل إذن صعوبة المعركة السياسية الدائرة في المجال الثقافي والمجال السياسي العربي، ونفترض أن المواجهة الحوارية النقدية والمركبة هي المطلب المناسب للمعارك الناشئة،، حيث لم يعد هناك وقت للمهادنة والمخاتلة وتركيب المتناقضات، ويبدو لنا أن الملامح العامة للخطابات السياسية المتصارعة اليوم في الفكر العربي تقتضي أن ندفع بمختلف الأسئلة الممكنة نحو فضاء الحوار الأكثر وضوحاً وجذرية، بهدف محاصرة تيارات التقليد المستند إلى قواعد في الفكر لاعلاقة بينها وبين نتائج الثورات المعرفية والسياسية التي حصلت في العالم، والتي نحن مدعوون إلى فهمها والاستفادة التاريخية والنقدية من كل نتائجها، لنتمكن من مصارعة عللنا الداخلية والخارجية.. بأقصى ما يمكن من الوضوح في الرؤية والنجاعة في الفعل. (30)
- نحو إعادة تأسيس مرجعية
الحداثة السياسية في الفكر العربي
ركبنا في الصفحات السابقة نمذجة في المقاربة الفكرية التاريخية لبعض أنماط تعامل الفكر والممارسة السياسية في العالم العربي مع منظومة الحداثة السياسية. لم يكن الهدف من وراء التحقيب المنمذج في مقاربتنا يتجاوز مبدأ إنجاز عملية في إعادة تنظيم كيفية انتقال القيم السياسية الحداثية ومؤسساتها إلى الفضاء السياسي العربي. وقد مكنتنا المعطيات التي رتبنا من معاينة أشكال المد والجزر التي واكبت عمليات استنبات وترسيخ الخطاب الحداثي في الفكر السياسي العربي والمشروع التحديثي في الأقطار العربية، وأتاحت لنا أيضاً الانتباه إلى الأسئلة التي لم تطرح بعد في هذا المجال، وهي الأسئلة التي نعتقد أن غيابها يؤثر سلباً على ديناميات تملُّك الحداثة في حاضرنا ..
ان الناظم المشترك للمحطات المذكورة، يتمثل في نوعية التوتراث والمخاضات التاريخية التي صاحبتها، وصاحبت عملية تولد المشروع الحداثي في فكرنا السياسي، ويترتب عن ذلك نواقص وثغرات عديدة في النظر السياسي وفي المجال المؤسسي الموصول به.
يمكِّننا الرصيد النظري والتاريخي المتبلور في أزمنة المحطات السابقة رغم خصاصه الكبير من إعادة بناء مشروع الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر، ويتيح لنا إمكانية تجاوز العواثق التي ساهمت في عدم رسوخ هذا المشروع في حياتنا السياسية.
ونحن نتصور أن حصول هذه العملية يتطلب الانخراط في عملية إعادة تأسيس المشروع المذكور بكثير من الجرأة والحسم، وذلك لمواجهة حداثتنا المنقوصة، ومواجهة المشروع الحداثي في صيرورته المتنوعة.
نعتبر في هذا السياق أن القاعدة النظرية الكبرى المساعدة على بلوغ مرمى إعادة التأسيس، تتمثل أولاً وقبل كل شيء في عدم إغفال المكون الفلسفي باعتباره القاعدة النظرية، التي تحدد للرؤية الحداثية للطبيعة والانسان والتاريخ قواعدها وشروط تشكلها وإعادة تشكلها ..
التقليد المحاصر
والحداثة المحاصرة
قد لانكون مجازفين عندما نعلن أن مظاهر التوتر والتناقض والتراجع التي تشكل السمات الأبرز في فكرنا السياسي المعاصر تعود إلى قصر النفس النظري المهيمن على معاركنا في الفكر والسياسة والمجتمع .. إننا هنا لا تفسر ظواهر تاريخية مركبة بعامل واحد، ولكننا نتصور أن القصور النظري يعد واحداً من العوامل المساعدة على فهم أكثر وضوحاً لجوانب هامة من إشكالات السياسية والثقافة السياسية في واقعنا المعاصر.
لقد انطلقت معاركنا في الإصلاح الديني والإصلاح الثقافي والإصلاح السياسي وإصلاح المؤسسات منذ مايقرب من قرنين من الزمان، ومع ذلك تكشف كثير من مظاهر التأخر العامة السائدة في مجتمعات اليوم أمام محصلة معاركنا وتجاربها السابقة لم تثمر ما يسعف ببناء قواعد ارتكاز نظرية قادرة على تحصين ذواتنا من أشكال التراجع بل والتردي التي تعبر عن كثير من مظاهر العطب في واقعنا التاريخي.
ولأننا نتصور أن التحولات الهامة في التاريخ تتطلب مواصلة الجهد والعمل دون كلل.
ويمكننا أن نقسم افتراضاً معارك الراهن في موضوع الحداثة السياسية إلى معركتين كبيرتين، تتصل الأولى منهما ببعض الإشكالات الجزئية التي تساعد العناية بها في تعزيز الجدل السياسي الحداثي في فكرنا .. وهنا نفترض أن الاهتمام بالنواقص التي شكلت سمة ملازمة لتمظهر النظر السياسي الحداثي في فكرنا النهضوي، يساهم في تطوير حداثتنا وتعميق جذورها في تربة مجتمعاتنا. أما أبرز القضايا المرتبطة بهذه المعركة فيمكن اختزالها في الفقرات الآتية:
أ - تجاوز الخطاب المخاتل والمهادن للتيارات السياسية التي تستنجد بلغة الإطلاق في نظرها للشأن السياسي والتاريخي، ويترتب عن هذا التجاوز في تصورنا التخلي عن المنزع التوقيقي، الذي ساهمت في تأسيسه الاختيارات ذات المنحى السلفي، والاختيارات المهادنة لها بمبرر مراعاة متطلبات التدرج التاريخي والمرحلية في عملية التغيير.. ورغم أهمية المواقف التي يبنيها المفكرون الذين ينحون هذا المنحى، فإننا نتصور أن وظيفة الفكر لا تتمثل في قدراته على التبرير والتكريس، قدر ما تتمثل في جرأته وإقدامه في مجال بلورة الحدوس والتصورات القادرة على استباق ومغالبة ضغوط الواقع، حيث تساهم المواقف النقدية في تعزيز ممكنات التغير والتحول في التاريخ ..
ب - تجاوز المعالجات التجزيئية في النظر إلى الحداثة السياسية، فقد ظل الفكر السياسي العربي يُعنى بأسئلة لايمكن فصلها عن مشروع الحداثة السياسية في شموليتها وفي قواعدها الأساس، الناظمة والحاملة لعناصرها ومعطياتها التقنية والمؤسساتية، إلا أن إغفاله لمطلب استيعاب الحداثة السياسية في كليتها وبناءً على مقدمات الرؤية الفلسفية المؤسسة لها، حوَّل القضايا الجزئية إلى قضايا معزولة عن منظومتها الفكرية الجامعة، وهو الأمر الذي نتج عنه جملة من الاختيارات المعزولة، أو جملة من المعطيات المفتقرة إلى الأصول النظرية المساعدة على إمكانية ترسيخها، وإمكانية بناء خطاب حداثي متماسك في موضوعاتها..
أما المواجهة الثانية في باب المعارك النظرية التي نفترض أنه ينبغي أن تتواصل في المدى المتوسط والطويل، بهدف مزيد من إسناد المشروع السياسي الحداثي بالفكر القادر على تعزيز مستويات حضوره، فإنها ينبغي أن تشمل موضوعات بعضها نظري وكثير منها موصول بإشكالات العمل السياسي والمؤسسي في مجتمعاتنا، إننا نتجه هنا نحو بعض الأسئلة التي تشكل في سياق بحثنا دعامات مركزية لإعادة بناء مشروع الحداثة السياسية في فكرنا، وذلك رغم أن البعض منها ينفتح على آفاق تبدو في الظاهر مفصولة عن المجال السياسي، لكننا لانتصور بلوغ عتبات الحداثة السياسية الأكثر تأثيراً في واقعنا بدون التفكير فيها، وبناء قناعات واضحة في موضوعاتها.
نحن هنا نتجه صوب مجال الاصلاح الثقافي والاصلاح الديني في فكرنا المعاصر، صحيح أن مشاريع في إصلاح المجالين المذكورين نشأت في فكر النهضة العربية، في القرنين الماضيين، وأن مشاريع فكرية أخرى ماتفتأ تؤسس لتصورات مساعدة على اتمام عمليات هذا الاصلاح، إلا أننا نعتقد أنه لن يكون بإمكاننا توسيع دوائر الوعي الحداثي في فضائنا السياسي فكراً وممارسة، دون مزيد من العمل القادر على تفتيت الاسمنت اللاحم للفكر الوثوقي في ثقافتنا، والمنطق النصي في وعينا الديني.
لقد انطلق مشروع الإصلاح الديني في فكرنا المعاصر كما هو معروف في نهاية القرن التاسع عشر، وأنجزت الحركة السلفية في بداياتها خطاباً توفيقياً نزع نحو بناء شكل من أشكال المواءمة بين قيم الاسلام وقيم الفكر الحديث والمعاصر، في مجالات المعرفة المختلفة، وقد عكس مشروع محمد عبده الإصلاحي الذي كان يروم تكييف المجتمع الإسلامي ومبادئ العقيدة مع مقتضيات ومتطلبات الأزمنة الحديثة، عكس هذا المشروع في روحه العامة صورة لنمطٍ في التوفيق مكافئ للمعطيات التاريخية التي سمحت بتمظهره، لكنه استنفد قيمته الاصلاحية في السياقات التاريخية اللاحقة، وأصبحنا بعده في حاجة إلى بناء مواقف أكثر قدرة على مواجهة أسئلة زماننا... (19)
اتخذ هذا التوجه الاصلاحي لاحقاً صوراً ومظاهر أكثر قوة في مجال نقد العقل العربي الإسلامي كما بلورته أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون (20)، وتبلور بصيغ أخرى أكثر قوة وتنويعاً في إسهامات الفكر النقدي العربي المعاصر، كما تشكلت في نهاية الربع الأخير من القرن العشرين (21)، وهو الأمر الذي نعتقد أنه ساهم في تعزيز جبهة العمل الفكري في مجال الحداثة السياسية. ومن هنا تبرز أهمية دعم مختلف هذه الجهود النقدية، الساعية إلى مزيد من استيعاب مكاسب الفكر المعاصر في مجال المعرفة والتاريخ، وفي مجال النظر إلى الإنسان والعقل والمستقبل.
أما معركة الاصلاح الثقافي، فإننا نعتقد أن تعميقها يتطلب مزيداً من تقوية دعائم الفكر التاريخي والتاريخ المقارن ، حيث تساعد معطيات التاريخ المقارن على سبيل المثال في تنسيب الأحكام والتصورات الاطلاقية المهيمنة على آليات تفكيرنا ..
صحيح أن إنجاز ثورة ثقافية في فكرنا يتطلب جهوداً متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفية والعلمية التي تبلورت في الفكر المعاصر، إلا أن هذا الأمر الذي نتصور إمكانية تحققه في المدى الزمني المتوسط لا ينبغي أن يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجلة المتمثلة في مشاريع الترجمة ومشاريع تطوير منظوماتنا في التربية والتعليم، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع والاقتصاد الخ، فنحن نعتقد ان هذه المعارك باعتبارها الممهدات التي تعبد الطريق الموصول لباب تحرير الأذهان ..
لا تنفصل إذن في نظرنا معارك المجال الثقافي والديني عن مشروع ترسيخ الحداثة السياسية في فكرنا، وفي هذا السياق، نحن نعتبر أن انتشار دعاوى تيارات الاسلام السياسي، ودعاوى تيارات التكفير في ثقافتنا ومجتمعنا، يمكِّننا أكثر من أي وقت مضى من بناء النظر النقدي القادر على كشف فقر ومحدودية وغربة التصورات الموصولة بهذه التيارات، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع والمساهم في إنشاء اختيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم..
تلك جملة من المعارك القائمة في واقعنا، وينبغي علينا المساهمة في توسيعها وتطويرها لربح رهانات التقدم الموضوع كأولوية في جدول أعمالنا التاريخي. لكن ترسيخ الحداثة السياسية يتطلب أيضاً المشاركة في إعادة بناء مفاهيم الفلسفة السياسية، وذلك بتركيب بعض الموضوعات السياسية النظرية التي نعتقد أن عدم إدراجها في فكرنا لايعفينا من تبعات القضايا التي يطرحها حضورها وغيابها. وسنكتفي في عملنا هذا بالوقوف على موضوعين اثنين نظراً لأهميتهما البالغة في المعارك الحاصلة اليوم في مجالنا السياسي، يتعلق الأمر بموضوع »حدود المجال السياسي«، »استقلال السياسي«، وموضوع »الديمقراطية وحقوق الإنسان« في الصيغ التي يتخذها في مشهدنا السياسي الراهن.
1 - في حدود المجال السياسي
نحن نعتقد أن من أبرز القضايا التي نحن مدعوون لبنائها في فكرنا السياسي سؤال طبيعة وحدود المجال السياسي. فنحن لم نحرر بعد مجالنا السياسي من لغة عصورنا الوسطى، ولم نستفد بعد من ثورة الفلسفة السياسية الحديثة في مجال إبراز استقلالية السياسي وضبط حدوده وماترتب عن ذلك من نتائج في مجال تطوير الفكر والممارسة السياسية. ولهذا السبب يتحدث الفاعلون في مشهدنا السياسي لغات متناقضة مشحونة بمرجعيات بعضها سابق على ميلاد الحداثة، وبعضها يستعيد مفردات الحداثة في سياق رفضها، وهذا الأمر يساهم في بلورة خطاب سياسي ملفق وتلفيقي.
تأتي أهمية الدفاع عن استقلال المجال السياسي، ومحاولة بناء وترتيبب المكونات المحددة لملامحه وبصورة عينية. لتشكل فضاء لمقاربة إشكالات فلسفية هامة، من قبيل، أنماط التقاطع القائمة بين المجال الأخلاقي ومجال القيم السياسية، تقاطع المقدس مع الدنيوي، وعندما نضيف إلى هذه القضايا النظرية الكبرى، الأسئلة الفرعية المتعلقة بالصراعات السياسية الإجتماعية والثقافية القائمة في الواقع، في مستوى مواجهة التأخر التاريخي القائم والمتواصل في مجتمعاتنا، نزداد تأكداً من صعوبات المعارك التي تنتظرنا، فيصبح من مهامنا الأساسية في هذا المجال العمل على تقليص درجات الإختلاط والتنافر الحاصلة في فكرنا المعاصر.
إن مطلب فك الارتباط بين العناصر المختلطة والمتداخلة داخل المجال السياسي، والتدقيق في طبيعة هذا المجال باعتباره مجالاً معرفياً مستقلاً، يعدّ من القضايا الملحة في فكرنا السياسي، وينبغي أن نواجهها انطلاقاً من معطيات الجدل والصراع السياسيين القائمين في فكرنا. وتزداد أهمية هذا السؤال اليوم، ولعلها تتضاعف وسط ارتفاع أصوات المنادين »بالصحوة الإسلامية« و»الإسلام السياسي«، و»دولة الشريعة«، حيث يصبح استعمال اللغة المعيارية بمختلف أصنافها مناسبة لفحص ونقد الأصول والمبادئ التي تروم مواصلة ربط السياسي بالمقدس، دون إدراك مخاطر الربط المذكور على المجالين معاً.
لا يتعلق الأمر هنا بموقف يعطي الأولوية في التاريخ والسياسة للنظر المجرد أو للفكر المثالي الخالص، قدر ما يتعلق برغبتنا في الإلحاح على أهمية الفكر في التاريخ، ووظيفة الفكر في العمل السياسي وهي الزاوية التي وجهت كثيراً من أسئلتنا في هذا العمل. فلا يعقل أن تظل الممارسة السياسية في بلادنا حركة تجريبية متعثرة،ومختلطة الملامح والخطابات، بل ينبغي المساهمة في تأصيل أبعادها بالفكر النقدي القادر على تعيين الحدود، وتركيب الأسئلة وبلورة المواقف، وذلك بالصورة التي تكشف ملامح الطريق الذي نسير فيه والذي نتجه صوبه، فقد يمكِّننا هذا الاختيار من معرفة مواقع أقدام الفاعلين والممارسين، وهو الأمر الذي يؤسس المبادىء الفكرية الكبرى الناظمة للعمل السياسي الحداثي، والمطورة لآفاقه وأدواره في صناعة التاريخ.
صحيح أنه بذلت في الفكر السياسي العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، جهود كبرى في تحقيق وتحليل كثير من نصوص التراث السياسي الإسلامي، للمساهمة في توضيح صورة النموذج التاريخي الإسلامي الملتبس، وصحيح أيضاً أن ترجمات متعددة أنجزت في باب التعرف المباشر على التراث السياسي الإنساني الحديث والمعاصر، إلا أن هذه الجهود لا تتناسب مع حجم المهام والأسئلة والإشكالات التي لاتزال مطروحة علينا، ومطروحة أمامنا في الواقع السياسي العربي فكراً وممارسة (28).
لم يتمكن خطاب النهضة العربية الإصلاحي بما في ذلك خطاب متنوري مطاليع القرن العشرين من إنشاء أسئلة التنظير السياسي، فقد كان مشدوداً إلى برامج الإصلاح العملية، إلى شعاراته ودعاويه، ذات الصبغة السجالية الأيديولوجية والمستعجلة، بحكم ارتباط منتجي هذا الخطاب بحركات فاعلة في مجال الصراع السياسي التاريخي. فظل الفكر يلهت وراء مطالب الظرفيات السياسية، دون أن يتمكن من بناء مشروع في النظر السياسي، المفككِّ والباني لنظامه في النظر، والمعبِّر في الوقت نفسه عن عمق وعيه بإشكالات الحداثة السياسية، كما يمارسها الفاعلون، ويتمثلها المنظرون للسلطة والمشروع السياسي الحداثي في حاضرنا .
2 - سؤال الديمقراطية وحقوق الإنسان
أما أسئلة الديمقراطية وحقوق الإنسان في خطاباتنا السياسية فإنها تتخذ في الأغلب الأعم مظاهر أداتية، تغلب عليها المعالجة المحكومة بأفعال الممارسة دون كبير عناية بالمرجعية النظرية الحداثية التي بنت المشروع السياسي الديمقراطي في تاريخ التجربة السياسية الغربية.
إن كثيراً من أوجه القصور الحاصلة في هذين المجالين، تعود أسبابها إلى عدم عنايتنا بنظام النظر السياسي الحداثي، الذي يحدد للممارسة الديمقراطية والوعي الحقوقي بقضايا الانسان فضاءهما وسياقهما العام.
صحيح أن كثيراً من مظاهر التناقض والصراع في هذا المجال، وفي كثير من البلدان العربية تُفَسَّرُ بسياقاتها التاريخية الفعلية والمباشرة، الا أننا نرى في الوقت نفسه أن بعضاً من هذه المظاهر يمكن تفسيرها بغياب الإحاطة النظرية المؤصِّلة لمختلف أبعاد سؤال الديمقراطية وأسئلة حقوق الإنسان في الفكر العربي المعاصر.
ولو تمت مواكبة العمل والحركة القائمة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان مثلاً بمساعي التأصيل النظري المؤسسة للتصورات والأفكار، التي ساهمت وما تزال تساهم في توليد العمل في هذا المجال، لجاءت اختياراتنا النظرية ومواقفنا السياسية أكثر تماسكاً وأكثر غنى، وهو مايعني إنجاز إسهام سياسي تاريخي مُطوِّرٍ للنظر، إنجازٍ لايغفل أهمية بناء أعمدة الإرتكاز النظري المانحة لمشروع حقوق الإنسان أرضيته الفكرية الصلبة، القادرة على تحصين رؤيته الجديدة للعالم وللمجتمع وللإنسان.
يدل غياب سؤال الحداثة المرتبط بالمرجعية النظرية الناظمة للتصورات السائدة في مجال حقوق الإنسان على غياب مكون مركزي من مكونات هذا المجال، ولن تسمح الأبحاث القانونية المفسرة لقواعد المواثيق الدولية أو المحللة لآلياتها الإجرائية في مستوى التنفيذ، كما لن تسمح النضالات الميدانية المباشرة في هذا الباب بإنجاز مشروع في استيعاب الاختيارات الفكرية المركزية المتضمِّنة في مواثيق حقوق الإنسان، ان الطريق المؤدي إلى ذلك لا يحصل الا بالانفتاح على أسئلة المرجعية الفلسفية الحداثية، في مختلف أبعادها، والانفتاح أيضاً على مختلف الإشكالات النظرية والتاريخية التي تطرحها.
سيظل سؤال الحداثة والحداثة السياسية مطروحاً في جدول أعمال المشتغلين بقضايا حقوق الإنسان، وكل استمرار في مخاتلته أو القفز عليه لا يلغيه، قدر ما يؤجله ويراكم إشكالات جديدة في موضوعه، إشكالات تقتضي بناء آليات في الفهم والنقد والمراجعة، قادرة على تهيئة الشروط النظرية المساعدة على تركيب وعي أكثر مطابقة لمتطلبات حقوق الإنسان في حاضرنا ومستقبلنا(16).
ولابد من التوضيح هنا بأننا لا نتصور أن هذا الدفاع سيكتفي بنسخ قيم الحداثة ومبادئها كما تبلورت في الفكر الحديث والمعاصر، بل المقصود منه هو محاولة إعادة تركيب مقدمات الحداثة وآفاقها في ضوء تطورات التاريخ المعاصر، أي في ضوء المكاسب والاخفاقات التي تراكمت ومافتئت تتراكم في تاريخنا المعاصر، تاريخنا المحلي والخاص، وتاريخ الانسانية، وهو الأمر الذي يغني عملنا ويؤطر اشكالاتنا في إطار المرجعيات الفكر المعاصر.
الهوامش :
1 - سبق أن أنجزنا في هذا المجال بالذات بعض الأبحاث وقد جمعنا في مصنفين :
1 - العرب والحداثة السياسية، دار الطليعة بيروت 1997.
2 - أسئلة النهضة العربية، التاريخ الحداثة والتواصل م.د.و.ع بيروت 3٠٠2.
2 - لقد اتخذنا هذا المنحى في المعالجة في أبحاثنا المتعلقة بموضوع الديمقراطية وحقوق الانسان في العا++لم العربي، ويمكن مراجعة نماذج من هذه الأبحاث في مصنفنا، أسئلة النهضة العربية السابقة الذكر صفحات (16 - 26) و (28 - 50).
3 - مرجع في الحداثة، فلسفي باللغة الفرنسة.
4 - مرجع في الحداثة السياسية (يؤخذ إما من الديمقراطية أو من حقوق الانسان).
5 - راجع كيفية نظرنا لدور الاختيارات النقدية في تحريك أنماط الفكر في الفكر العربي المعاصر، في كتابنا: أسئلة النهضة العربية صفحات 113 - 125.
6 - هناك اجماع في المراجع الكبرى التي أعادت تركيب أنظمة الفكر العربي المعاصر على أهمية لحظة الاصطدام المذكورة مع اختلافات عديدة في فهم وتفسير المسار الذي اتخذته مدارس واتجاهات الفكر الاصلاحي في العالم العربي.
نذكر من بين هذه المراجع:
- البرت حوراني ، الفكر العربي في عصر النهضة، - عبد الله العروي، الايديولوجية العربية المعاصر ماسيرو 1967.
7 - الاستعمار والتحديث مواقف متناقضة ومستويات في الفهم مختلطة، راجع ماركس والاستعمار البريطاني للهند.
8 - راجع مواقف محمد أركون أثناء مقارنته بين النظام المعرفي للأزمنة الحديثة ونظام المعرفة في عصورنا الوسطى، ويمكن البداية هنا بمشيل فوكو ثم أركون.
9- يستمر عدم التمييز في المعارك القائمة بيننا وبين الغرب بين المشروع الحضاري الغربي والصراع السياسي والاشتراكي الغربي والعربي، يمكن مراجعة تصورنا للموضوع في ندوة م.د.و.ع نحو مشروع حضاري نهضوي عربي (جماعي) .
10 - تثار في الآونة الأخيرة في العالم حول موضوع الاصلاح من الداخل والخارج.
11 - تهدف النمدجة التحقيقية المنجزة في هذا البحث إلى اختزال مسارات الحداثة والتحديث السياسي في الفكر والتاريخ العربيين وهي موجهة بهاجس تاريخي معرفي يروم ترسيخ حضور تأويل محدد للمرجعية الحداثية في فكرنا مع التشديد على عمق المدى الزمني الذي تشكلت خلال هذه المرجعية.
21 - يشير اسم محمد علي إلى الحاكم المعروف وإلى الطبقة التي حكم فيها مصر، كما يشير إلى أبنائه ابراهيم وعباس واسماعيل، ويغطي مجالاً افتراضياً يتجاوز من ذكرنا من الأسماء ليعكس الملامح العامة لتوجه في الاصلاح مورس بصورة مختلفة في مناطق عربية أخرى ..
13 - فغالة خير الدين والطهطاوي كتاب التأويل المفارقة
- مراجع أخرى في موضوع العثمانيين موجز في الكتاب نفسه.
14 - العروي وتجربة المغرب في أطروحته، عمومية الظاهرة.
15- راجع هامش رقم 12
16 - راجع أبحاثنا حول انتاج الطهطاوي وخير الدين في كتابنا التأويل والمفارقة ومرجع سبق ذكره).
17 - راجع نص الطهطاوي مناهج
18 - راجع قراءتنا لأسئلة النهضة العربية ضمن كتابنا مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر دار الطليعة بيروت 1992.
19 - راجع قراءتنا للخطاب الذي أنتجه فرح أنطون في كتابنا:
التفكير في العلمانية، نحو إعادة بناء النظر السياسي في الفكر العربي افريقيا الشرق، بيروت 2000.
20 - عبد الله العروي الايديولوجيا العربية المعاصرة Maspers Paris 1967
21 - عبد الله العروي مفهوم الحرية م. ت.ع بيروت 1982
عبد الله العروي مفهوم الدولة م. ت.ع بيروت 1982
22 - عفاف لطفي السيد
23 - راجع بحثنا العلمانية في الفكر العربي، الحدود الآفاق ضمن كتابنا التأويل والمفارقة م.ت.ع بيروت 1987.
24 - تثير مناقشة الدور الذي لعبه الاستعمار في التاريخ العربي إشكالات متعددة، وليس هناك اتفاق على معطيات واحدة في هذا الباب ولهدا السبب لجأنا في سياق التحليل هنا إلى إبراز القضايا النظرية والمبدئية العامة.
25 - راجع ندوة الوحدة العربية
ويمكن مراجعة بحثنا حركة التحرر العربي، المفهوم والأهداف الممكنة ضمن كتابنا مفاهيم ملئية في الفكر العربي المعاصر.
26 - في تقييم التجربة الناصرية يمكن الرجوع إلى:
27 - راجع مخطوطة تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2003 وموضوعه.
28- راجع نماذج من اصدارات م.د.و.ع في موضوع الديمقراطية وحقوق الانسان في الوطن العربي فهي تقدم صورة عن أنماط الجدل السياسي الذي يدور في هذا المجال والذي يمكن إدراجه في خانة تعزيز ودعم المشروع السياسي الحداثي.
29- استعمل هذا المفهوم من طرف مجموعة من الدارسين بهدف إعادة النظر في خطابات النهضة العربية نذكر من بينهم أنور عبد المالك، ناصف نصار، عبد الله العروي ثم أصبح متساعاً بعد ذلك كصيغة من صيغ تحقيب فكر النهضة العربية.
30 - راجع نقدنا لنتائج أعمال المؤتمر القومي الاسلامي في كتابنا الحداثة والتاريخ ، حوار نقدي مع بعض أسئلة الفكر العربي (افريقيا الشرق)، بيروت