عنوان المقال هذا ليس لي في الحقيقة؛ بل هو للكاتب الألماني المعروف غونتر غراس, الحاصل على جائزة نوبل في الآداب, والذي يُعاني - بالمصادفة – الآن من مسألةٍ في "تاريخه" لها علاقةٌ إلى حدٍ بعيد بمشكلة الحرية. فقد عاد الكاتب (البالغ من العمر 78 عاماً) لكتابة مذكراته من جديد, وهذه المرة بعنوان "تقشير البَصَل", نعم, تقشير البصل باعتبار صعوبته, وأنّ العين تدمع, وقد تجرح السكين اليد! ومذكّرات الكاتب عن فتوته طويلةٌ ومفصَّلة, وقد سبق أن قصَّ الكثير منها (روائياً) في قصصه الرائعة والتي تتوالى منذ العام 1959م, والتي أورثتْهُ جائزة نوبل للآداب بعد توماس مان وهاينر بول. إنما المهمُّ ليس الطول أو التفصيل أو الروعة؛ بل سرٌّ يذكره الرجل للمرة الأولى, وهو أنه في فتوته (كان عمره 17 سنة) خَدَم في فِرَق الأمن الألمانية (44-1945م)! وهذا الأَمْرُ شديدُ الحساسية ليس للألمان فقط؛ بل ولليهود أيضاً, وسائر الأوروبيين. فقد كانت كتائب الـ SS هذه بقيادتة هاينرش هملر مخيفةً ورهيبةً, وهي تحرس "الفوهرر", ومعسكرات الاعتقال, وتمارس أعمال القمع في الأقطار التي "فتحتها" ألمانيا النازية أو اجتاحتها. وقد كان النازيون الشبان المتحمسون يعتبرون ذلك السلاح والدخول إليه شرفاً ما بعده شرف, وما كانت فِرَقُ النخبة هذه مُتاحةً للجميع؛ ولذلك فهذه مشكلةٌ أُخرى لغــراس: إذ لا بد أنه رغم صِغَر سنّه كان نازياً متحمساً بحيث رضي الذين أجروا له مقابلة الاختيار أن يقبلوا طلبه الدخول إلى منتدى الشرف ذاك!
ولستُ هنا في معرض تقييم تاريخ غراس الشخصي, أو تأثيرات هذه الحادثة على "خلود" عمله الأدبي, الذي كان بمجمله نقداً قاسياً وأخلاقياً ضد نفاق الألمان وخضوعهم خلال العهد النازي, وتلاؤمياتهم "الكاثوليكية" بعد الحرب الثانية! السؤالُ هنا حول المعنى العميق للحرية أو الاختيار الإنساني الفردي": هل اختار غراس الانتماء إلى البوليس الحربي النازي بملء إرادته؟ هو يقول: نعم, لكنني كنتُ صغيراً، وكان الجوُّ النازيُّ جارفاً بين الفتيان الألمان. لكن: متى أدركْتَ خطأَكَ يا سيّد غراس؟ هو يقول: في مطلع الخمسينات، وظهر الندم في روايته الشهيرة: "الطبل الصفيح"، والتي وردتْ فيها العبارةُ المذكورة في عنوان المقال: أنّ للتبعية (الفكرية والروحية والمادية) وجهاً واحداً، وأنّ للحرية وجوهاً متعددة!. لكنْ يا سيد غراس, إذا كنت قد أدركْتَ ذلك فلماذا لم تُعلِنْ عنه في حين انصرفْتَ طوال أكثر من أربعة عقود إلى إدانة وتعرية ليس كلّ من سار مع النازيين فقط؛ بل وكلّ من جامَلَ أو سكت أو بقي على الحياد؟! ويجيب غراس: نعم هذا صحيح, لقد أردْتُ بناءَ فكرٍ نقدي لدى الألمان لإخراج الفتيان من إسار التاريخ ومن أوهام الحاضر. لقد أردْتُ أن أتسبّبَ في تحرير العقل الألماني والنفسية الألمانية من الجبن والخوف والنفاق والتماس المعاذير! لكنك يا سيد غراس تسبَّبْتَ في نشوء انطباعين باقيين: انطباع الذنب الأبدي للألمان باعتبارهم ألماناً.
فهم مُدانون لأنهم كانوا مع النازيين, أما الذين وُلدوا بعد الحرب فُهم مدانون لأنهم أبناءُ وأحفادُ أولئك, وكان ينبغي أن ينصرفوا للفهم والتبرؤ منهم ولا شيءَ غير. وهكذا فقد عمْلتَ ضدَّ فكرة الحرية وممارستها التي تزعُمُ أنك كنتَ تدعو إليها؛ فأين هي الوجوهُ المتعددة للحرية التي ذكرتَها على لسان أحد أبطال روايتك الشهيرة، إذا كان الألمانُ اليومَ لا يملكون غير خيارٍ واحدٍ (هذا إذا سميناهُ خياراً!) هو خيارُ لَعْنِ الآباء والأجداد والوجود الوطني لبلادهم دون أن يُكْسِبَهُم ذلك حقَّ اتخاذ خياراتٍ أُخرى فردية أو جماعية. الألماني الآخر هاينر بول الذي حصل على جائزة نوبل كان شديد الإحساس بالذنب الألماني تجاه الإنسانية, لكنه رأي إمكانَ الخلاص بالتوبة. وهذه هي الكاثوليكية المنافِقة التي لا يريدُها غراس, لا يريدُها للألمان, لكنه اختار أن يلعبَ معهم دور النبي العبراني الغاضب على معاصيهم والداعي عليهم باللعنة والهلاك من أجل ذلك .
وتبقى المسألةُ هنا مسألةَ الاختيار الفردي, والقرار الجَماعي, والنتائج المترتّبة على هذا المزيج من الفردي والجماعي. وأحسبُ أنّ هذا هو المعنى الذي قصده غونتر غراس من أنّ للحرية وجوهاً متعددة. إذ إن اعتبر الإنسَانُ نفسَهُ حراً, فهناك مسالك كثيرة للسير في هذه الحرية، بل وهناك مسالكُ كثيرةٌ للتفكير والتقدير. لكنني لا أحسبُ أنّ المشكلة لدى الألمان أيام هتلر كانت عدم استغلال المسالك المتعددة للحرية؛ بل الوقوع في الأمر الآخر الذي حَذَّّر منه غونتر غراس: الوجه الواحد للتبعية. فالخطيرُ أنّ هتلر ببرنامجه الانتخابي والسياسي المعروف نجح في الانتخابات النيابية عام 1933م, ووصل إلى منصب المستشارية (رئاسة الوزارة): وخلال ثلاث سنوات أحرق مبنى البرلمان, وتولى منصب رئاسة الدولة, وبدأَ حروبَهُ لاستعادة "الكرامة" الألمانية, ثم بدأ التصفيات الداخلية ومن ضمنها "الحلّ النهائي" للمشكلة اليهودية ثم الذهاب للحرب العالمية! وكان هناك – ومابين العامين 33 و 39 – صمتٌ كاملٌ في الداخل الألماني عن سائر أعمال الـ"فوهرر"، لأنه استعاد الأقاليم التي كانت ألمانيا قد فقدتْها في الحرب الأولى, ولأنه أرضى العامة الألمانية بمشروعاتٍ شعبيةٍ أخرجت من البطالة والتراجع الاقتصادي. وعلى أي حال, فإنّ المؤرّخ الألماني يواخيم فاست الذي كتب سيرةً لهتلر صارت شهيرة قال: إنّ كلَّ مَنْ يعتقد أنه في العام 1938م كان يمكن مقاومة التسلط الهتلري باسم الديمقراطية أو الحرية؛ فهو لا شكَّ واهِم. فعلى طلب الديمقراطية تجيبُ العامّة: لقد خَبَرْنا جمهورية قايمار 1918-1934)م) الديمقراطية وقد كانت بطالةً وفوضى. وعلى طلب الحرية, يجيب معظم الألمان عام 1938م: الفرنسيون والبريطانيون هم الذين كانوا ينتهكون حريتنا ووحدة وطننا. وقد بلغ بنا الهوان أنّ البولنديين أخذوا بعض الأراضي منا! الآن فقط تحققت حريتنا بفضل إصرار الفوهرر على حقوقنا الوطنية! وأمام منطقٍ كهذا، لا يمكنُ الاحتجاجُ بالحرية الفردية, التي تقومُ عليها كلُّ فلسفة الحرية في الغرب الحديث. فظُلْمُ هذا المواطن أو ذاك بحسب هذا المنطق القومي ليس شيئاً أو أنه لا يستحقُّ أن يكون أساساً لمعارضة نظامٍ حقّق ويحقّق الآمالَ بل والأحلامَ الوطنية العريقة! وهكذا فللتبعية أو الخضوع غير الحُرّ وجهٌ واحدٌ هو الاستسلام إمّا للمصلحة الفردية بالكامل، أو للمسلّمات الوطنية العامة .
لا يصحُّ إذن اعتبارُ تحقُّق الحرية الفردية ضماناً لنظام سياسيٍ للحريات والديمقراطية. إذ إنّ النوازعَ والمصالح الفردية هي أُمورٌ مختلفةٌ عن الالتزام الثقافي بالحرية. وأنـا أظنُّ أنّ الواصلَ المنطقيَّ والعمليَّ بين الفردية والنظام, هي ما يمكن تسميتُها بالأخلاق؛ بمعنى أنَّ الالتزامَ الأخلاقي هو المنقذُ من سلبيات الفردية، ومن هُوامات الجماعية. والأخلاقُ تعنى هنا الأمور القيمية، وتدبير الشأن العامّ. وقد ارتبطت الأخلاق في ديانات التوحيد بالذات بالدين منذ أزمنةٍ سحيقة. ولذلك وبدون تطويل فقد كان الفصلُ العنيفُ بين الدين والدولة في أدبيات وممارسات الثورة الفرنسية ضرباً للقيم الأخلاقية, وبالتَبَع إضعافاً لفكرة الحرية الفردية والجماعية؛ إذ لم تعد مقترنةً بالقيم الأخلاقية، رغم أنّ من مهامّها إدارة الشأن العامّ! ولذلك كثرت الديكتاتوريات والفاشيات في تاريخ أوروبا العلمانية الحديثة، ونجح جميع المستبدين في الانتخابات!
في كتابه "مفهوم الحرية في الإسلام" أظهر فرانز روزنتال تردداً شديداً في تحديد ذاك الأمر الذي وضعه في عنوان كتابه. استبق الموضوع كلَّه بالقول إنّ الحرية بالمعنى العميق وذي الأبعاد السياسية لم تُعرَفْ إلاّ عند اليونان. لكنه وعلى مدى الكتاب جمع نصوصاً عن حرية الإرادة, وعن الأبعاد الفقهية لفكرة الحرية (السجن والجنون مَثَلاً)، وعن التبعات الفلسفية، وعن المزاوحة التي حاولها النهضويون المسلمون بين "العدل" و "الحرية" أو بين الضرورات الشرعية (حقوق النفس والعقل والدين والنسْل والمِلْك) و"الحرية". ويبدو أنّ خطأَ روزنتال كان في بحثه عن مداخل الحرية في موروثنا كما هو الحال في الغرب، أي من المداخل والآليات نفسِها. والواقعُ أنّ العلاقة بين الله والعبد في الإسلام هي أساسُ فكرة الحرية, كما فهم ذلك الحلاّج وابن عربي تماماً. علاقةُ الله بالإنسان هي علاقةُ عبادةٍ وعبودية، وهي بمعنَىً ما التزامٌ من جانب العبد أو عقد, ومن جانبه -سبحانه وتعالى- ضمان، ضمانٌ للحرية الإنسانية. ويعبّر الصوفيةُ عن ذلك بانقطاع العلائق مع غير الله, أو انقطاع العلائق عن الخلائق. والواقع غير ذلك تماماً على أن ننظُر للأمر من أعلاه. فإذا "توحَّد هُّمك" كما يقول الصوفيةُ أيضاً، تحقّقتْ حريتك. وهم يعنون بتوحُّد الهمّ الإيمان بالله, وأنه الخالق ومصدرُ النظام الأخلاقي. وعندها تتحقق الحريةُ العميقة, القائمة على تعدد الخيارات وتضافُرها. فأساسُ مفهوم الحرية في الإسلام ليس النقاشات الكلامية الطويلة العريضة حول خَلْق أفعال الإنسان, أو عدم خَلْقِها من جانب الله –سبحانه-؛ بل في تأسيس فكرة الحرية على مصدر الخَلْق والأخلاق, لتصبح "المشكلات" تقنيةً أو مشكلة آليات, كيف يمكنُ إنجازُ الحرية فردياً وجَماعياً وفيما بين هذا وذلك. ليس بين الله والإنسان مشكلة حرية؛ بل هناك قضية فهمٍ والتزام تتأسَّسُ عليهما الحريةُ الإنسانيةُ البنَّاءة, القائمة على القيم الأخلاقية. وليس معنى ذلك الاشتراط على الإنسان أن يكونَ مؤمناً لكي يكون حراً؛ لكنّ الإيمان ضمانُ الحرية الأخلاقية التي لا تقعُ في المسلَّمات والأوهام والتأليهات التي لا تنتهي، كما هو شأن العقائد والفلسَفات الشمولية في القرن العشرين .
وللحرية عند العرب والمسلمين في الأزمنة الحديثة قصةٌ لا علاقة لها بعلماء الكلام ولا بالصوفية. فقد خرجوا من الدولة العثمانية بسقوطها في الحرب الأولى، وصارت فكرةُ الحرية فكرةً سياسيةً خالصةً لأنهم وقعوا في انتداب الاستعمار أو لا حريته. وما كادوا يتخلصون من الاستعمار حتى جاءت دولة الضباط القوميين الذين زعموا أنّ الحرية الفردية عيبٌ في عيب، وأنّ المطلوب "دولة الحرب" التي تحرر فلسطين، وتحقّق الوحدة العربية. وبعد أكثر من خمسين عاماً من السير في هذه الموجة أوتلك، نرى الآن أنّ فلسطين لم تتحرر وما تحقّقت الوحدة، وأننا خسرنا رِهاننا على دولة الضباط، وأنّ الخطأ ربما كان في التسليم بتناقُض الحرية مع الوحدة أو مع تحرير فلسطين، والنقاشاتُ اليومَ تنصبُّ على ما كان مفقوداً عندنا وهو الحريات السياسية. بيد أنّ المطلوب –حتى لا يتكرر ما حدث من قبل- تفجير الإحساس بالحرية الداخلية، وبقيمة الفرد وكرامته. ونحن لا ينقصُنا الإحساس بالكرامة، ولا بضرورة العمل على تحقيقها؛ وإنما ينقصنا الإحساسُ بالمسؤولية المترتّب فعلاً على الشعور العميق بالحرية وبالحق وبالكرامة وبالواجب.
ويبقى توضيحٌ لابُدَّ منه للوجه الواحد, والوجوه المتعددة. يقول الشاعر:
وما الوجه إلاّ واحدٌ غير أنه إذا أنت عدَّدْتَ المرايا تعددا
إنّ المرآة عند الشاعر العربي هي الإنسانُ الآخَر؛ فقد جاء في الأثر النبوي:
المؤمن مرآة المؤمن. فالتواصُل الإنساني يُثري الحرية ويعِّددُ وجوهَها، ويكثِّـر من خياراتها. وعلى فكرة "الجماعة" أي الأفراد المؤتلفون بالحرية والاختيار والالتزام، تأسَّستْ فكرةُ الاجتماع الشوروي في الإسلام، بمعنى أنّ الدولة هي مشروعٌ لأُناسٍ أحرارٍ، رأَوا في إقامتها اكتمالاً لاجتماعهم المدني، أو كما قال أبو الحسن العامري في "الإعلام بمناقَب الإسلام" : تحقُّقاً للكرامة الإنسانية. فالذي يتوحَّدُ بنفسه ويظن أنه صار بذلك حراً إنما يُخضع حريته لمنزعٍ واحدٍ يصبحُ معبوداً لديه. والذي تقودُهُ فكرةٌ واحـــدٌ -وإن كانت أخلاقية - يخرجُ بذلك من آفاق الحرية إلى التبعية والوهم. فالحرية اختيارٌ أخلاقيٌّ عميق، يفتحُ على آفاقٍ شعوريةٍ لاحدودَ لها .. هي آفاق إنسانية الإنسان .
وتبقى المسألةُ هنا مسألةَ الاختيار الفردي, والقرار الجَماعي, والنتائج المترتّبة على هذا المزيج من الفردي والجماعي. وأحسبُ أنّ هذا هو المعنى الذي قصده غونتر غراس من أنّ للحرية وجوهاً متعددة. إذ إن اعتبر الإنسَانُ نفسَهُ حراً, فهناك مسالك كثيرة للسير في هذه الحرية، بل وهناك مسالكُ كثيرةٌ للتفكير والتقدير. لكنني لا أحسبُ أنّ المشكلة لدى الألمان أيام هتلر كانت عدم استغلال المسالك المتعددة للحرية؛ بل الوقوع في الأمر الآخر الذي حَذَّّر منه غونتر غراس: الوجه الواحد للتبعية. فالخطيرُ أنّ هتلر ببرنامجه الانتخابي والسياسي المعروف نجح في الانتخابات النيابية عام 1933م, ووصل إلى منصب المستشارية (رئاسة الوزارة): وخلال ثلاث سنوات أحرق مبنى البرلمان, وتولى منصب رئاسة الدولة, وبدأَ حروبَهُ لاستعادة "الكرامة" الألمانية, ثم بدأ التصفيات الداخلية ومن ضمنها "الحلّ النهائي" للمشكلة اليهودية ثم الذهاب للحرب العالمية! وكان هناك – ومابين العامين 33 و 39 – صمتٌ كاملٌ في الداخل الألماني عن سائر أعمال الـ"فوهرر"، لأنه استعاد الأقاليم التي كانت ألمانيا قد فقدتْها في الحرب الأولى, ولأنه أرضى العامة الألمانية بمشروعاتٍ شعبيةٍ أخرجت من البطالة والتراجع الاقتصادي. وعلى أي حال, فإنّ المؤرّخ الألماني يواخيم فاست الذي كتب سيرةً لهتلر صارت شهيرة قال: إنّ كلَّ مَنْ يعتقد أنه في العام 1938م كان يمكن مقاومة التسلط الهتلري باسم الديمقراطية أو الحرية؛ فهو لا شكَّ واهِم. فعلى طلب الديمقراطية تجيبُ العامّة: لقد خَبَرْنا جمهورية قايمار 1918-1934)م) الديمقراطية وقد كانت بطالةً وفوضى. وعلى طلب الحرية, يجيب معظم الألمان عام 1938م: الفرنسيون والبريطانيون هم الذين كانوا ينتهكون حريتنا ووحدة وطننا. وقد بلغ بنا الهوان أنّ البولنديين أخذوا بعض الأراضي منا! الآن فقط تحققت حريتنا بفضل إصرار الفوهرر على حقوقنا الوطنية! وأمام منطقٍ كهذا، لا يمكنُ الاحتجاجُ بالحرية الفردية, التي تقومُ عليها كلُّ فلسفة الحرية في الغرب الحديث. فظُلْمُ هذا المواطن أو ذاك بحسب هذا المنطق القومي ليس شيئاً أو أنه لا يستحقُّ أن يكون أساساً لمعارضة نظامٍ حقّق ويحقّق الآمالَ بل والأحلامَ الوطنية العريقة! وهكذا فللتبعية أو الخضوع غير الحُرّ وجهٌ واحدٌ هو الاستسلام إمّا للمصلحة الفردية بالكامل، أو للمسلّمات الوطنية العامة .
لا يصحُّ إذن اعتبارُ تحقُّق الحرية الفردية ضماناً لنظام سياسيٍ للحريات والديمقراطية. إذ إنّ النوازعَ والمصالح الفردية هي أُمورٌ مختلفةٌ عن الالتزام الثقافي بالحرية. وأنـا أظنُّ أنّ الواصلَ المنطقيَّ والعمليَّ بين الفردية والنظام, هي ما يمكن تسميتُها بالأخلاق؛ بمعنى أنَّ الالتزامَ الأخلاقي هو المنقذُ من سلبيات الفردية، ومن هُوامات الجماعية. والأخلاقُ تعنى هنا الأمور القيمية، وتدبير الشأن العامّ. وقد ارتبطت الأخلاق في ديانات التوحيد بالذات بالدين منذ أزمنةٍ سحيقة. ولذلك وبدون تطويل فقد كان الفصلُ العنيفُ بين الدين والدولة في أدبيات وممارسات الثورة الفرنسية ضرباً للقيم الأخلاقية, وبالتَبَع إضعافاً لفكرة الحرية الفردية والجماعية؛ إذ لم تعد مقترنةً بالقيم الأخلاقية، رغم أنّ من مهامّها إدارة الشأن العامّ! ولذلك كثرت الديكتاتوريات والفاشيات في تاريخ أوروبا العلمانية الحديثة، ونجح جميع المستبدين في الانتخابات!
في كتابه "مفهوم الحرية في الإسلام" أظهر فرانز روزنتال تردداً شديداً في تحديد ذاك الأمر الذي وضعه في عنوان كتابه. استبق الموضوع كلَّه بالقول إنّ الحرية بالمعنى العميق وذي الأبعاد السياسية لم تُعرَفْ إلاّ عند اليونان. لكنه وعلى مدى الكتاب جمع نصوصاً عن حرية الإرادة, وعن الأبعاد الفقهية لفكرة الحرية (السجن والجنون مَثَلاً)، وعن التبعات الفلسفية، وعن المزاوحة التي حاولها النهضويون المسلمون بين "العدل" و "الحرية" أو بين الضرورات الشرعية (حقوق النفس والعقل والدين والنسْل والمِلْك) و"الحرية". ويبدو أنّ خطأَ روزنتال كان في بحثه عن مداخل الحرية في موروثنا كما هو الحال في الغرب، أي من المداخل والآليات نفسِها. والواقعُ أنّ العلاقة بين الله والعبد في الإسلام هي أساسُ فكرة الحرية, كما فهم ذلك الحلاّج وابن عربي تماماً. علاقةُ الله بالإنسان هي علاقةُ عبادةٍ وعبودية، وهي بمعنَىً ما التزامٌ من جانب العبد أو عقد, ومن جانبه -سبحانه وتعالى- ضمان، ضمانٌ للحرية الإنسانية. ويعبّر الصوفيةُ عن ذلك بانقطاع العلائق مع غير الله, أو انقطاع العلائق عن الخلائق. والواقع غير ذلك تماماً على أن ننظُر للأمر من أعلاه. فإذا "توحَّد هُّمك" كما يقول الصوفيةُ أيضاً، تحقّقتْ حريتك. وهم يعنون بتوحُّد الهمّ الإيمان بالله, وأنه الخالق ومصدرُ النظام الأخلاقي. وعندها تتحقق الحريةُ العميقة, القائمة على تعدد الخيارات وتضافُرها. فأساسُ مفهوم الحرية في الإسلام ليس النقاشات الكلامية الطويلة العريضة حول خَلْق أفعال الإنسان, أو عدم خَلْقِها من جانب الله –سبحانه-؛ بل في تأسيس فكرة الحرية على مصدر الخَلْق والأخلاق, لتصبح "المشكلات" تقنيةً أو مشكلة آليات, كيف يمكنُ إنجازُ الحرية فردياً وجَماعياً وفيما بين هذا وذلك. ليس بين الله والإنسان مشكلة حرية؛ بل هناك قضية فهمٍ والتزام تتأسَّسُ عليهما الحريةُ الإنسانيةُ البنَّاءة, القائمة على القيم الأخلاقية. وليس معنى ذلك الاشتراط على الإنسان أن يكونَ مؤمناً لكي يكون حراً؛ لكنّ الإيمان ضمانُ الحرية الأخلاقية التي لا تقعُ في المسلَّمات والأوهام والتأليهات التي لا تنتهي، كما هو شأن العقائد والفلسَفات الشمولية في القرن العشرين .
وللحرية عند العرب والمسلمين في الأزمنة الحديثة قصةٌ لا علاقة لها بعلماء الكلام ولا بالصوفية. فقد خرجوا من الدولة العثمانية بسقوطها في الحرب الأولى، وصارت فكرةُ الحرية فكرةً سياسيةً خالصةً لأنهم وقعوا في انتداب الاستعمار أو لا حريته. وما كادوا يتخلصون من الاستعمار حتى جاءت دولة الضباط القوميين الذين زعموا أنّ الحرية الفردية عيبٌ في عيب، وأنّ المطلوب "دولة الحرب" التي تحرر فلسطين، وتحقّق الوحدة العربية. وبعد أكثر من خمسين عاماً من السير في هذه الموجة أوتلك، نرى الآن أنّ فلسطين لم تتحرر وما تحقّقت الوحدة، وأننا خسرنا رِهاننا على دولة الضباط، وأنّ الخطأ ربما كان في التسليم بتناقُض الحرية مع الوحدة أو مع تحرير فلسطين، والنقاشاتُ اليومَ تنصبُّ على ما كان مفقوداً عندنا وهو الحريات السياسية. بيد أنّ المطلوب –حتى لا يتكرر ما حدث من قبل- تفجير الإحساس بالحرية الداخلية، وبقيمة الفرد وكرامته. ونحن لا ينقصُنا الإحساس بالكرامة، ولا بضرورة العمل على تحقيقها؛ وإنما ينقصنا الإحساسُ بالمسؤولية المترتّب فعلاً على الشعور العميق بالحرية وبالحق وبالكرامة وبالواجب.
ويبقى توضيحٌ لابُدَّ منه للوجه الواحد, والوجوه المتعددة. يقول الشاعر:
وما الوجه إلاّ واحدٌ غير أنه إذا أنت عدَّدْتَ المرايا تعددا
إنّ المرآة عند الشاعر العربي هي الإنسانُ الآخَر؛ فقد جاء في الأثر النبوي:
المؤمن مرآة المؤمن. فالتواصُل الإنساني يُثري الحرية ويعِّددُ وجوهَها، ويكثِّـر من خياراتها. وعلى فكرة "الجماعة" أي الأفراد المؤتلفون بالحرية والاختيار والالتزام، تأسَّستْ فكرةُ الاجتماع الشوروي في الإسلام، بمعنى أنّ الدولة هي مشروعٌ لأُناسٍ أحرارٍ، رأَوا في إقامتها اكتمالاً لاجتماعهم المدني، أو كما قال أبو الحسن العامري في "الإعلام بمناقَب الإسلام" : تحقُّقاً للكرامة الإنسانية. فالذي يتوحَّدُ بنفسه ويظن أنه صار بذلك حراً إنما يُخضع حريته لمنزعٍ واحدٍ يصبحُ معبوداً لديه. والذي تقودُهُ فكرةٌ واحـــدٌ -وإن كانت أخلاقية - يخرجُ بذلك من آفاق الحرية إلى التبعية والوهم. فالحرية اختيارٌ أخلاقيٌّ عميق، يفتحُ على آفاقٍ شعوريةٍ لاحدودَ لها .. هي آفاق إنسانية الإنسان .