تعتبر اللغة،إلى جانب عوامل أخرى كالدين والثقافة والتاريخ ...، من بين العوامل التي تميز مجتمعا عرقيا عن المجتمعات الأخرى. قد تكون اللغة وحدها هي ما يميز عرقا عن غيره، كما يمكن أن تنضاف إليها عوامل أخرى مجتمعة. لكنها ليست دائما عاملا مميزا لعرق ما عن غيره. وما يجعل منها، ومن غيرها من العوامل، عاملا مميزا لعرق ما هو الظروف التاريخية لذلك العرق. فإذا ما نظرنا إلى وضعية المغرب الآن سنجد أن اللغة الأمازيغية (على اختلاف 'لهجاتها') تعتبر عاملا مميزا للأمازيغ، إذ تميزهم عن غيرهم من المجموعات العرقية المغربية الأخرى. وبالنظر إلى الظروف التاريخية الراهنة نجد أن المغرب عرف ولا زال يعرف حراكا من قبل النشطاء الأمازيغيين الذين لا ينفكون يطالبون بكامل حقوقهم اللغوية والثقافية.
ففي هذه الظروف جاءت دسترة اللغة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية كلغتين رسميتين للبلاد. وهنا يأتي السؤال التالي: ما محل اللغة الأمازيغية من السياسة اللغوية للبلاد؟ سؤال يحيلنا على سؤال آخر: هل هناك سياسة لغوية محددة تتبعها الدولة؟ وما هي هذه السياسة؟
قد تكون أفضل طريقة للإجابة عن هذا السؤال هي العودة إلى الوثائق الرسمية التي تجسد السياسة اللغوية. فالدستور، مثلا، الذي يعتبر الوثيقة الأسمى في البلاد، ينص في تصديره على أن "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبتة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربيةـ الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية." فالملاحظ هنا أن الدولة تعترف بمختلف مكونات المجتمع المغربي، ولكن في إطار الوحدة الوطنية التي تقوم على انصهار هذه المقومات. فالمهم إذا هو الوحدة أولا وأخيرا، وليس المجموعات العرقية المتنوعة في حد ذاتها، ويتجلى هذا بوضوح في باقي الوثائق والنصوص. وحفاظا على هذه الوحدة، يعمل الدستور على "حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الإنتماء الإجتماعي أو الجهوي أو اللغة"، كما هو مبين في التصدير. فبحظر التمييز بسبب اللغة أو الإنتماء الجهوي، أو حتى منع تأسيس الأحزاب السياسية على أساس الدين أو العرق أو اللغة كما ينص على ذلك الفصل السابع، إنما هو امتداد لما ذكر سلفا في الحفاظ على الوحدة الوطنية ووضعها فوق كل اعتبار. وما يزيد من تقوية هذا الطرح هو اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية، إلى جانب اللغة العربية، باعتبارها "رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء"، كما جاء في الفصل الخامس. إن اعتبار اللغة الأمازيغية "رصيدا مشتركا لجميع المغاربة" سواء كانوا أمازيغيين أو غيرهم، إنما هو في الحقيقة طريقة أخرى للقول بأن الأمازيغية ليست حكرا على الأمازيغيين وحدهم دون غيرهم من المغاربة، كما جاء في خطاب أجدير الذي يؤكد أنه "لا يمكن اتخاذ الأمازيغية مطية لخدمة أغراض سياسية" في إشارة واضحة إلى التركيز على البعد الوطني للأمازيغية بدل اقتصارها على مجموعة دون أخرى.
هذا وتعمل الدولة على "انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم"، حسب الفصل الخامس من الدستور. وليس جريمة أن نحاول اكتشاف مدى "انسجام" هذه السياسة اللغوية في بلادنا.
فالكتاب الأبيض، على سبيل المثال، يعتبر المناهج التربوية "مرآة للمجتمع المغربي" مع الأخذ بعين الإعتبار الأبعاد "المحلية والجهوية والوطنية والدولية"، كما يعتبر المتعلمين والأطر التربوية "القلب النابض للمجتمع المغربي في ضمان الإستقرار الإجتماعي والثقافي [...] وتحصين الهوية المغربية والإرتقاء بها"، ويربط فعالية ونجاعة عمليات إصلاح المناهج التربوية بتعبيرها عن "مقومات الذات التاريخية والحضارية" واستيعابها لمكاسب الحضارة المعاصرة. من هنا يتضح أن الكتاب الأبيض يتماشى مع الدستور فيما يخص وحدة الهوية الوطنية، بتنوع مكوناتها، والإنفتاح كذلك على مختلف الثقافات الأخرى.
ويرسخ الميثاق الوطني للتربية والتكوين أيضا نفس النظرة بحيث يرمي إلى جعل المتعلمين متشبعين "بالقيم الدينية والخلقية والوطنية والإنسانية" ومعتزين بهويتهم. كما تتاح للجاليات المغربية بالخارج الراغبة في ذلك الفرصة لتعليم أبنائها "اللغة العربية والقيم الدينية والخلقية والوطنية"، وفي نفس السياق يمكن لأبناء اليهود المغاربة فتح المدارس والإلتحاق بالمدارس العمومية والخصوصية، وإعفائهم من الدروس الدينية. وتعتبر هاتين المجموعتين الوحيدتين اللتين أتيحت لهما فرصة الإختيار عكس المجموعات الأخرى. وقد يرجع ذلك ربما إلى أعداد أفرادها القلائل والذين لا يشكلون أي خطر على "وحدة الهوية الوطنية".
هذا فيما يخص الهوية والثقافة الوطنية، أما على مستوى تدريس اللغات فالكتاب الأبيض ينص على "إتقان اللغة العربية وتخصيص حيز مناسب للغة الأمازيغية والتمكن من اللغات الأجنبية"، في حين يتوخى الميثاق الوطني "إدراك اللغة العربية مع الإستئناس ـ إن اقتضى الأمر ـ باللغات واللهجات المحلية"، و اللغة الأم لتيسير الشروع في تعلم العربية. وبالإضافة إلى ذلك، فالميثاق يروم تحسين استعمال العربية والتفتح، فقط، على الأمازيغية، وكذا التمكن أو أحيانا التحكم في اللغات الأجنبية. ومن هنا نستشف أن السياسة اللغوية، على الأقل من خلال هذه الوثائق، تميز بين مختلف اللغات واستعمالاتها، مع إعطاء أهمية كبرى للغة العربية وتسخير الأمازيغية لها أحيانا والتفتح عليها أحيانا أخرى، ثم إتقان اللغات الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية) أحيانا و"التحكم" فيهما أحيانا أخرى، مع التركيز على استعمالهما الوظيفي، وكأنهما تشكلان خطرا على اللغات الوطنية!
جدير بالذكر كذلك أن اللغة العربية في هذه النصوص تعتبر قناة لنقل تعاليم الدين الإسلامي، والقيم الخلقية الوطنية والإنسانية، وترتبط كذلك، إلى جانب اللغة الأمازيغية، بالحضارة والثقافة المغربية. كما أن هذه الوثائق تنص على حفظهما وتطوير استعمالهما، واعتبارهما إرثا يرجع إلى الأصالة والماضي. وفي المقابل، نجد اللغتين الأجنبيتين الأولى والثانية ترتبطان بالحضارات والثقافات المعاصرة.
ولا يخفى على متأمل هذه النصوص حجم المفارقات والتناقضات التي تتخلل السياسة اللغوية في بلادنا. ومن أولى هذه الإشكاليات تلك التي تتعلق بكيفية تحقيق الوحدة، مع الأخذ بعين الإعتبار مختلف مكونات الهوية المغربية، دون إفراط ولا تفريط على أرض الواقع. وثاني هذه المفارقات هو عدم ملاءمة الكتاب الأبيض والميثاق الوطني، اللذين يعودان إلى العقد الماضي، لما ينص عليه الدستور الجديد خصوصا فيما يتعلق باللغة الأمازيغية من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، كيف يتولى المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تطوير الثقافة واللغة الأمازيغيتين والظهير المؤسس له يعمل على "تعميق السياسة اللغوية المحددة في الميثاق الوطني" الذي يسخر الأمازيغية لتسهيل تعلم العربية ويكتفي بالانفتاح عليها فقط، في حين أن الدستور الآن يمنحها مكانة متكافئة مع العربية؟ ثالثا، كيف يمكن ربط اللغات الوطنية بالثقافة والحضارة الوطنية، وفي المقابل يتم تفريغ اللغات الأجنبية من حمولاتها الثقافية والحضارية؟ هل اللغة،المفرغة من حمولتها الثقافية، وحدها كفيلة بضمان التفتح على مكاسب الحضارات المعاصرة والفكر الإنساني كما ينص على ذلك الدستور وباقي النصوص؟
وإذا كانت الحكومة تلتزم في برنامجها الحكومي "بإرساء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية وتفعيل دوره في حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية والمكون الثقافي الصحراوي الحساني ومختلف التعبيرات الثقافية واللسانية المغربية" وبالعمل "على تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية عبر قانون تنظيمي يحدد كيفيات إدراج الأمازيغية وإدراجها في التعليم والحياة العامة"، فلماذا لم ير هذان القانونان التنظيمييان النور بعد مرور أربع سنوات على تقديم البرنامج الحكومي؟