تؤكد لنا حركة التاريخ، أنه لا يمكن لنا النظر إلى مشاهد التحولات السياسية التي تطرأ على أي مجتمع من المجتمعات، بمعزل عن التحولات الاجتماعية_المعرفية التي تحدث بداخلها، فالثورة البلشفية _على سبيل المثال لا الحصر_ لم تكن لتنجح في سياق الواقع لو لم يؤسس لها كل من "ديستويفسكي" و"بوشين"، كما هو حال الثورة الفرنسية التي جاءت انعكاساً لأقلام كل من "فولتير" و"مونتسكيو" و"جان جاك روسو"، كما ينسحب ذلك على مجمل التحول التطوري الذي طرأ على أوروبا منذ الثورة الصناعية إلى اليوم، وهذا إن كان يدلل على شيء، فهو يدلل على أن التحول الاجتماعي_المعرفي، يغدو لزاماً بل شرطاً لكل تحول سياسي، يشكله، وينتجه، ويشير إليه، وهذا يذكرنا بمفهوم "الحرية" في فلسفة "كانت"، كما هو مفهوم "الثورة" في فلسفة "هيجل"، أي أن كليهما مجاله الفكر، وما أن يصطدما بالواقع، حتى يحكمهما عالم الضرورة..
من جانب آخر، وبرؤية معاكسة، ومن خلال عرض الاجتماعي على ضوء مشهد الصراع السياسي، نقف أمام واقع مجتمعنا العربي، ونتأمل، فنجد أنه ثمة إرثا ثقافيا ساهم في فرز وعي مؤطر وجامد، لا يزال يعيد إنتاج ذات مشهد الخنوع والرضوخ السياسي العربي، وذلك منذ القرن الثامن الهجري تقريباً، مروراً بما فعله المغول والتتار، والعثمانيون، ثم الاستعمار الغربي، والصهيونية العالمية، انتهاء بما نعيشه اليوم من أحداث ما يسمّى "ثورات الربيع العربي" التي لعبت دور حصان طروادة، وذلك بما حملته من ملفات العدوان والتآمر الغربي على وطننا العربي..
هذا الأمر يدفعنا للتساؤل، لماذا بقي هذا التكلّس مرافقاً للوعاء الثقافي الخاص بالمجتمع العربي طيلة هذه القرون، علماً أن أشخاصاً مرّوا على ذهنية ووعي وثقافة هذا المجتمع، كان لهم الدور الحضاري الأبرز على مشهد تطوّر الحضارة الإنسانية، أمثال "ابن رشد" الفيلسوف العربيّ الذي مدّ الحضارة الغربية بمصل الحياة الأول، وهل لنا أن نلتمس دوراً وظيفيّاً لهذا التكلّس والتحجّر، في تشكيل وإنتاج فئات اجتماعيّة تحاكي من مشاهد شذوذ فعل، ما تجاوزته الإنسانيّة منذ قرون؟!!..
تدفعنا الإجابة لإماطة اللثام عن إحدى أهم العوامل التي تساهم في بناء المجتمعات أو هدمها، ونقصد هنا المنظومة الفاعلة التي من خلالها يمكن النظر إلى خصوصيات المجتمعات، والدخول إلى مكوناتها، واستعراض تشكيلات أنظمتها وقيمها، وهي منظومة (النسق المعرفي)، وهو النسق المسؤول مباشرة عن استمرارية وجود المجتمع وتفاعله ضمن اللوحة الحضارية للإنسانية، ولأن كان (النسق المعرفي) الخاص بالمجتمع العربي، قد تشكّل ونضج داخل عصر الحضارة العربية الإسلامية، نرى أنه لا بدّ لنا بداية، من التفريق والتمييز بين مفهومين تاريخيين لتلك الحضارة، وهما (إسلام الدين) و (إسلام الحضارة)، حيث أنّ الإسلام كمصطلح تاريخي يحتوي على العنصرين، وقد تعايش النمطان من خلال الصراع وكان لكل منهما بصماته على مجمل الصيرورة التاريخية لذلك العصر، ونتيجة للصراع، ومع حلول القرن الثامن الهجري تقريباً، توقفت بشكل عام كل الفعالية الحضارية، وانفرد الدين بالعالم الإسلامي، وبين هذا وذاك يكمن الفارق الجوهري الثقافي في تحديدنا (للنسق المعرفي)..
من خلال هذا الخلط المشوّه المتعمّد بين هذين النمطين، تم تقييد (النسق المعرفي) للحضارة العربية الإسلامية، حرصاً على إبقائه داخل حدود إنتاج الوعي الديني، الوعي الذي يدفع باتجاه تأمين مشروعية السلطة السياسيّة دون أن يتجاوزها، فالقطيعة التي أقامها الدين مع الحضارة في الإسلام، جاءت مدمرة لفعالية الشخصية الحضارية للأمة العربية، فهي إمّا توقفت بها عند حدود "المطلق" المحايث للتاريخ، من أجل التحكم في مسارها بحيث يقف بها عند الماضي، فيبتر الزمان من آنيته الأساسية وهي المستقبل، وهو ما يعبّر عنه "التيار الأصولي"، وإمّا تجاوزتها بوعي كوني، ينفي التقليدي والتاريخي معاً، لينشد كل مجالات المعرفة خارج خصوصيتها ونسقها المعرفي، وهو ما يعبّر عنه "التيار العلماني"، ونتيجة لذلك بقي المجتمع العربي إلى اليوم غارقاً في الصراع القائم بين الماضي والحاضر، والقديم والحديث، وبعبارة أخرى بين "الأصولية الدينية" ومجمل النماذج المستعارة من الغرب..
ولكن مثلما أنّ الدين لا ينفرد بإنشاء حضارة، كما أنّه لا يكون سببا في انهيارها، حيث نرى أن هنالك عاملاً آخر، ساهم وبشكل كبير في اقتناص هذه الحالة وتثبيتها، من ثم استثمارها بما يخدم مصالحه التي لم تنفك عن منطقتنا العربية، وهو العامل الخارجي، الذي لا يخفى إلّا على المتجاهل والمتغافل منّا، إذ أن الأهداف السياسية للاستعمار الغربي جاءت متكاملة مع حالة الصراع التي أشرنا لها آنفاً _ولدينا من الأمثلة التاريخية ما لا يسعنا ذكره هنا، حيث كان مطلوباً أن يبقى هذا المجتمع متشرذماً بين هوة الاغتراب الواعي الحديث، والمكوث اللاواعي التقليدي..
وأخيراً ولأن كان ولا زال الفعل على مستوى الفضاء السياسي، محكوماً بفعل منتج الصيرورة الاجتماعية الداخلية، نرى أننا مطالبون اليوم وبحاجة ملحة، إلى مراجعة وإعادة تكوين وإنتاج (النسق المعرفي) داخل التراث الثقافي الخاص بحضارتنا العربية الإسلامية، وتفكيك أغلاله التاريخية، من ثم إطلاقه على أفق يجعله مرناً قابلاً للتفاعل مع مجمل ما أُنتج وما قد ينتجه التطور الحضاري الإنساني، الأمر الذي قد يتطلّب هدماً أنطولوجياً وفق تعبير "داريوش شايغان"، فهو يرى أنه عوضاً من أن ينفتح أفق الإنسان عمودياً على الدوائر السماوية، وعلى ((العلويات)) من حيث تنزل الرسالات الإلهية، فإنه يصطدم بالوقت الحاضر بالمستوى الأفقي لصيرورة خطية، مما يجعلنا مطالبون بإعادة تشكيل وتكييف، ولا نقول نفي أو مقاطعة، لمجمل منظومة (النسق المعرفي)، وذلك بما ينسجم بداية مع الصدمات الأولى الثلاث للعالم الحديث، وهي: (الصدمة الكوبرنيكية) و(الصدمة السوكيولوجية) و(الصدمة البيولوجية)، (فالنسق المعرفي) كما أشرنا له آنفاً، هو المسؤول مباشرة عن مرونة أي حضارة وتفاعلها مع مجمل ما قدّمه العلم الحديث، وبذلك نخلص أنه لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن ينشد فعلاً حضارياً حقيقيّاً، أو أن يتحرر من وطأة التآمر والاستغلال والاستثمار والاستعمار الخارجي، خارج منظومة (النسق المعرفي) التي تحفظ له شخصيته الحضارية، وتحول دون أي محاولة عبث سياسي تسلب وعيه وتفتك مصيره.!..
المراجع:
ـ داريوش شيغان، ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة، ترجمة د. محمد الرحموني، ط1، بيروت، دار الساقي بالاشتراك مع المؤسسة العربية للتحديث الفكري، 2004م
ـ هادي العلوي، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ط1، دمشق، دار الطليعة الجديدة، 1999م
ـ خالد العبود، حوار على أرض محايدة، ط1، دمشق، الأهالي للتوزيع والنشر، 1997م