ينطرح جدل التاريخ والذاكرة في تاريخ المغرب الراهن بشكل أكثر صخبا في قراءة منجزنا التاريخي، كإشكالية مركبة تخترق مخابر ابستمولوجيي المعرفة التاريخية، وتفرض تدخلا عاجلا لمختصي الزمن قصد الحد من انزلاقات الذاكرة، وتلاعبات مالكي وسائل الإكراه والانتاج بها، يحضر العنف والعنف المضاد في تفسير وقائع أحلك اللحظات عتمة في استوغرافيتنا الراهنة، تخبو اللغة والرمز وبعدها المكتوب وراء أقنعة النسيان، ويختفي خلسة معها الجلاد، فيصدح صوت زنازن السجون والمعتقلات السرية، مذكرا بجروج أليمة تعتور ذاتا مكلومة بطعم السياسة.
ففي تفاصيل أدب السجون، ومتابعات الصحفيين، ومذكرات المعتقلين، وكتابات المؤرخين، وشهادات الفاعلين ينكشف المعنى، وتفصح الذاكرة التاريخية المنسية خلف أقبية الظلام عن ماضي حزين، ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، والاعتقال التعسفي الذي ميز للحظات تاريخ التجاذب السياسي بين المؤسسة الملكية والقوى اليسارية حول شرعية ما بعد الاستقلال، لتنطق ذاكرة الألم الفردي والجماعي، مفصحة عن موضوع على درجة عالية من التشبيك والتعقيد، يغري آل الزمن، ورفقائهم من تخصصات مجاورة، بالبحث والتنقيب، للكشف عن الحقيقة الضائعة، للمصارحة قبل المصالحة.
ذلك أن الإكراه في هكذا "موضوع حارق" يقع في خط التماس مع " إلتباس منهجي" يعتمل داخل مختبر المؤرخين، حول شرعية البحث في التاريخ الراهن، وترك مساحات ظل في الوراء دون إضاءات تاريخية ، حول مدلول الوثيقة الجديدة التي اقتحمت حقل التاريخ، حول تفاعلات الأحياء مع ما يكتب وينشر في أعمدة الصحف وسوق النشر، حول مسؤولية الذاكرة في كتابة التاريخ، حول الطلب والشغف المعرفي الذي يبديه قراء لغة الضاد لاستكشاف حقيقة ما وقع من وقائع، باختصار حول جدل التاريخ والذاكرة[1].
تتغيا هذه الورقة تتبع جدل التاريخ والذاكرة القريبة من واقع الأحداث بالمغرب، بانهجاسات راهنة، تمتح من عدة تفاعلات تسم الرأي العام السياسي بالمغرب، لعل من ضمنها، تداعيات التصريحات الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول ملف قضية الصحراء، وبما يمكن للمؤرخ أن يقدمه من تحليلات تاريخية، متابعات، قراءات، حول ملابسات القضية وتفاعلاتها الراهنة في وضع دولي موسوم بالتغير، تبعا لتغير خارطة المصالح والرهانات الجيواستراتيجية، فيقودنا ذلك إلى تسجيل مفارقة مفصلية في تناول القضية: بين الحاجة الدولة إلى استحضار التاريخ في لحظات الأزمة والانكسار، وبين هامشية المؤرخ في مواكبة النقاش العمومي.
الاستحضار الثاني الذي يغدي هذه الورقة، يرتبط بتعزز سوق النشر والقراءة بالمغرب بصدور انتاجات من تخصصات مختلفة حول التاريخ القريب من الذاكرة، كان آخرها، رواية " زمن الخوف"[2] للصحفي ادريس الكنبوري، حول أحداث مجزرة " سوق الأربعاء" سنة 1957م، بين التيارات السياسية بالمغرب غداة الاستقلال، والتي لقيت تجاوبا كبيرا من طرف المختصين، وعموم القراء، للنبش في اللحظة التاريخية الموشومة بالعنف السياسي والعنف المضاد، مما يفسر وجود طلب معرفي حول هذا الأدب التاريخي.[3]
لتنطرح عديد الاستفهامات حول هذا النوع من الكتابة التاريخية كمداخل أولية في أفق تعميق النظر في تشعباتها الكبرى:
لماذا الاهتمام بالتاريخ الراهن؟ وما فائدته المنهجية والاستوغرافية؟ وهل تحقق تراكم استوغرافي كاف للقيام بحوصلة تنظيرية، والخروج بمراجعات ومقاربات وأوراش بحثية تخرج بالبحث التاريخي من حالة الانحباس والبؤس الذي يصفه البعض؟ وهل هناك اقتناع تام من طرف مختصي الزمن بهذا النوع من التاريخ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون هروب إلى الأمام من اشكاليات تاريخ الحماية ومن عقدة التركيب أساسا؟ وهل التاريخ الراهن يعبر عن مسار طبيعي ضمن شبكة البحث التاريخي بالمغرب، أم أنه انزلاق محفوف بمخاطر وهواجس؟ وهل يستقيم الحديث عن دراسات مرجعية عن هذا التاريخ، أم أن البحث لازال جنينيا في هكذا سياق؟ وأخيرا، هل يمكن للمؤرخ أن يقيم حوارا هادئا مع ذاكرة سياسية موشومة بالصخب؟
يعدو الخوض في إشكاليات كتابة التاريخ الراهن بالجامعة المغربية انشغالا مجتمعيا بامتياز، لكنه قد لا يخلو من انزلاقات منهجية واستوغرافية بالنسبة للمؤرخين، هواجس تمتح من مستويات عدة، من حيث المنهج، تمتل الزمن، البنية، الحدث، المفهوم، التحقيب، البيبليوغرافيا[4]...قياسا بتقاطعات وتمفصلات التاريخ الراهن- منذ الإستقلال الى فترة العهد الجديد- التي أفرزت معطيات جديدة، اشكالات مركبة، تداخلات علائقية معقدة، وقضايا تاريخية حارقة، أمور فرضت على المؤرخين، ولأول مرة، الانخراط في جدل التاريخ والذاكرة ، ومتابعة النقاش العمومي والدولي حول تفاعلات التاريخ القريب من الذاكرة، مواكبة للتحولات البنيوية التي شهدتها مرحلة الانفراج السياسي والحقوقي لمغرب التسعينات، وفترة العهد الجديد لحكم الملك محمد السادس[5].
استشعر البحث التاريخي بالمغرب ضرورة اشراك المؤرخين في التفاعل مع النقاش العمومي حول ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان سنوات الحمر والرصاص، وما صاحبها من اعتقالات قسرية، ومحاكمات صورية لضحايا العنف الرسمي، في سياق تجاذبات الصراع حول السلطة، بين المؤسسة الملكية والقوى اليسارية، لرصد جوانب العتمة في فترة تاريخية أدرجت ضمن خانة اللامفكر فيها، لحساسيتها التاريخية، وتفاعلاتها الممتدة، وارتباطها بفاعلين سياسيين لا زالوا على قيد الحياة، مما يطرح مأزق التأريخ للذات انطلاقا من شواهد الذاكرة.
تشهد على هذا المنحى، سلسلة الندوات واللقاءات التي نظمتها كليات الآداب والعلوم الانسانية بالمغرب منذ مطلع القرن الحالي، من قبيل ندوة "التاريخ الحاضر ومهام المؤرخ" في نونبر 2005م بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، وندوة من " الحماية الى الاستقلال: اشكالية الزمن الراهن" والأيام الوطنية للجمعية المغربية للبحث التاريخي ايام 1-2-3 دجنبر 2011 في موضوع "التاريخ المعاصر: التاريخ والهوية والحداثة".
تعكس هذه الندوات واللقاءات التاريخية، بالمغرب كما بالخارج، إضافة إلى جلسات الاستماع العمومية التي باشرتها هيئة الانصاف والمصالحة عن ترسخ انشغال معرفي وسياسي وحقوقي، للنبش في تفاصيل مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب، والرغبة في الانصات والاقتراب من ذاكرة المعذبين من سنوات الجمر والرصاص، وتكوين ذاكرة جماعية وطنية عن تاريخ عنف الدولة الرسمي، لطي صفحة الماضي، وبناء العدالة الانتقالية عن طريق الانصاف والمصالحة، كمدخل نحو ترسيخ قيم الديموقراطية والتنمية والحداثة والقيم الكونية لمرجعيات حقوق الانسان.
لقد كان لصدور كتاب جيل بيرو " صديقنا الملك"[6] للصحفي الفرنسي جيل بيرو، ورصد تقارير حقوقية دولية لوضعية حقوق الانسان بالمغرب، وضغط المنظمات الحقوقية المغربية في الداخل، انعكاس مباشر في التمهيد لسياسة الانفراج السياسي والحقوقي بالمغرب لحظة التسعينات، وبداية الحديث عن مرحلة الانتقال الديموقراطي، التي ستبدأ بعودة المنفيين السياسيين والحقوقيين الى المغرب، وتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، ومشاركة القوى السياسية المعارضة في الانتخابات، وذلك في سياق ماكروسياسي دولي، مطبوع بتحولات جيوسياسية عميقة، بعد انهيار جدار برلين، وانتقال بنية العلاقات الدولية من نظام القطبية الثنائية نحو القطب الواحد عقب تفكك واختفاء شبح الاتحاد السوفياتي.
رافق هذا الاقتحام الجديد لكتابة التاريخ الراهن، من طرف المؤرخين، والذي كان حكرا في ما مضى، على مختصي العلوم السياسية[7]، ورفقائهم من علماء الاجتماع والانتربولوجيين[8]، أقلام الصحافة وجهات النظر بخصوص هذا النوع من الكتابة التاريخية، بين مؤيد وداعم، وآخر رافض ومنتقد. اختلاف منهجي تمحور أساسا حول طبيعة الوسائل والأدوات المنهجية التي تجعل المؤرخين على مقربة من قراءة وتأويل معطيات الذاكرة السياسية القريبة، وملابستها المعقدة، والتي تفرض إعادة النظر في الثوابت المنهجية التي تشكل هوية التاريخ، وفي أساليب اشتغال الدراسات التاريخية، وفق الأسس الابستمولوجية التي قطعها التاريخ في طريق تأكيد العلمية والمشروعية، مرد هذا الصخب، مفهوم الوثيقة الجديدة، وانتفاء شرط اختمار الوثائق، ومقياس المسافة بين الحدث الراهن والمؤرخ الباحث.
وعلى أية حال، فقد ساهم انفتاح البحث التاريخي على قضايا التاريخ الراهن، وتجسير قنوات التواصل، والحوار المباشر مع تخصصات انسانية مجاورة، وفق قناعة التناهج التي ناضلت من أجلها المدارس التاريخية، في سياق تقعيد الأسس الابستمولوجية للمعرفة التاريخية، وفي أفق بناء السوق الانسانية المشتركة بتعبير مؤرخ المتوسط فرناند بروديل في رسم توجه جديد يجعل الكتابة التاريخية، والبحث التاريخي في واجهة النقاش، وفي صدارة العلوم الاجتماعية والسياسية، المهتمة بالتاريخ الراهن، حول فهم ملابسات فترة تاريخية مركبة، بمعالجات رصينة، وتأويلات تاريخية عميقة، تنهل من العمق الزمني، الذي يشكل بلازما البحث التاريخي، وتقرب تحليلات وتأويلات المؤرخين، بعد مرحلة غياب طويلة عن المشهد العمومي من جمهور القراء، ومؤسسات النشر، وشاشات الإعلام، بل وتجعل البحث التاريخي في قلب معركة الانتصار للعلمية التاريخية بتعبير مشيل دوسرتو[9] على حساب التوظيف السياسي للذاكرة الوطنية.
إنه اجتراح تاريخي لذاكرة الألم والمعاناة، معاناة جيل بأكمله في مواجهة سراديب الجلادين، وأنظمة القمع البوليسي، وأقسى أنواع التنكيل والاضطهاد التي تنهل من العمق التاريخي للمخزن، كبنية سياسية فوقية، والتي تجعل من سؤال التحول من التقليد إلى التحديث لا الحداثة، معاقا في وضع كهذا، ذاكرة موشومة بالعنف الرسمي، تلبي فضول وشغف عدد واسع من القراء، وتخرج البحث التاريخي من دائرة الاختصاص، والقواعد المنهجية الصارمة، نحو معانقة أمل بناء المشروع المجتمعي المجهض، مشروع بناء الانسان المغربي المتصالح مع التاريخ والذاكرة، انخراط يجعل الكتابة التاريخية، تستجيب لانتظارات توصيات الهيئات الحقوقية الدولية، ومطالب المنظمات الحقوقية المغربية من الداخل، وانشغالات الرأي العام بمختلف أطيافه.
والحال، يسجل للأدب انخراطه المبكر في الكشف عن ملابسات الاعتقال والتعذيب، وكشف النقاب عن ممارسات جلادي الأمس، فقد أثارت رواية " السجينة" لمليكة أوفقير و"حدائق الملك" لفاطمة أوفقير و"الغرفة السوداء: درب مولاي الشريف" لجواد مديدش و"تازمامارت": تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" لمحمد الرايس و"الزنزانة رقم 10" لأحمد المرزوقي وغيرها...صخبا سياسيا وحقوقيا، وتتبعا إعلاميا قويا بالمغرب وخارجه، نظرا لحرارتها وجرأتها في الكشف عن دهاليز المعتقلات السرية، وغذت بذلك شغف القراء والباحثين المهتمين بتفاصيل المرحلة، لاكتشاف زوايا الظل والعتمة في تاريخ مغرب الحسن الثاني، والوقوف على حقيقة الأحداث التي شهدها المغرب في فترة ما بعد الاستقلال، انطلاقا من ذاكرة الأفراد المعايشين لها ومذكرات الفاعلين[10].
في المقابل، يسجل للبحث التاريخي تخلفه عن الركب[11]، قياسا بباقي المباحث الانسانية الأخرى، التي اقتحمت منذ وقت مبكر قضايا التاريخ الراهن، أو التاريخ الفوري بتعبير الصحفي الفرنسي جون لاكوتير، ضمن المؤلف الجماعي" التاريخ الجديد" لعراب الجيل الثالث من مدرسة الحوليات الفرنسية جاك لوغوف، وذلك في ظل هيمنة النزعة الوطنية الحماسية التي استبدت برفاق جرمان عياش في كتابة مشروع التاريخ الوطني، لحظة المجابهة المباشرة مع الكتابات الكولونيالية، والانتصار للوثيقة المخزنية والارشيف المحلي[12]، إننا نقف بعد اختمار وتأمل، على عسر هذا التوجه، وارتكاسته المنهجية والاستوغرافية، في بناء وعي تاريخي نقدي لتاريخ المغرب، فهل يعني الانخراط في كتابة التاريخ الراهن فشل ضمني في مقاربة التاريخ الوطني من زاوية التركيب[13]؟ والاستعاضة عنه بكتابة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المونوغرافي؟ كما ثم مع المونوغرافيات الرائدة لأحمد التوفيق[14] وعلي المحمدي[15] وعبد الرحمان المودن[16] وغيرهم، أم هو هروب من تاريخ الحماية وعقدتها وأسئلتها الحارقة؟ وهل المسألة لها علاقة بالأرشيف الخارجي؟ أم بهيمنة الدراسات الأجنبية في هذا المسار من البحث، التي تشكل تحديا سيكولوجيا للباحثين المغاربة، ومن ثم استحالة تجاوز ما كتبته الاسطوغرافيا الأجنبية عن تاريخ المغرب من قبيل دانييل ريفي وليام هوينسطن ببير فيرمورين...؟ ثم هل يستقيم الحديث عن التاريخ الراهن، من دون المرور الطبيعي من تاريخ الحماية؟
وعليه، يجسد الانخراط في كتابة التاريخ الراهن المغربي، والمساهمة في تفكيك أسئلة اللحظة التاريخية، أمرا لا يخلو من هواجس، مرد هذا الانهجاس، جاذبية القرن التاسع عشر التي مارست استبدادها على عموم مؤرخي الجامعة المغربية، وأفرزت دراسات مرجعية رائدة، وأخرى استنساخية مكررة، جعلت البحث التاريخي لا يتخذ مساره الطبيعي، ويقفز على مرحلة الحماية الفرنسية، التي تركت رجة عميقة على مستوى البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية داخل المجتمع المغربي، ونذوبا مشوهة في الجسد المغربي، وتركت وراءها أسئلة تاريخية كثيرة، واشكالات مهجورة، دون أن يتمكن البحث التاريخي الخوض فيها.
"في الذاكرة والتاريخ: فصل الالتباس"
يحيل مفهوم الذاكرة إلى آليات تمتل الماضي واستحضاره، هذا التمثل الاسترجاعي لنسق الذهنيات والتصورات الرمزية يستدعي حفرا شاملا في الذاكرة البشرية، كإنتاج اجتماعي وسياسي وثقافي، وتفاعلا لعدة مباحث إنسانية من تاريخ، فلسفة، علم نفس، سوسيولوجيا، انتربولوجيا، علوم سياسية، لسانيات، سيميولوجيا...فالذاكرة بتوصيف المؤرخ الفرنسي بيير نورا تمتل " ما تبقى من الماضي في أذهان الناس، أو ما يتصورونه بخصوص هذا الماضي" فهي موروث ذهني تختزل مسيرة من الذكريات الفردية والجماعية التي تغذي التمتلات المجتمعية[17].
إنها مجرد صورة عن ماضي وقع استحضاره، اختزاله، تضخيمه، تقزيمه، تبريره...وفق حاجيات اللحظة وتناقضات الراهن، غالبا ما تغلب عليها صفة "القدسية" و" الرمزية" كصورة بعض الشخصيات السياسية والدينية، صورة قد تمتزج فيها الصورة بالخيال، وتقود نحو اختفاء الواقع بتعبير جون بوديار، وظهور ما "فوق الواقع."[18]
وعليه تتميز الذاكرة بتعدد المرجعيات، بتعدد الأفراد، الجماعات، المؤسسات...بالشفهية والإنتقائية والاحتفالية، بهدف تخليد الماضي، والاحتفال بالحاضر كنسق استمراري، عبر ممارسة الحكي والتذكر، مما يجعلها لصيقة بذاتية النظرة ونفسانية الحالة.
فالشهادة أو الذاكرة سواء كانت فردية أو جماعية تبقى ذات سمات ذاتية، انفعالية، رمزية، تفتقر إلى جهاز مفاهيمي، وتعمل بكيفية إرادية او لا إرادية على تضخيم/ تقزيم الوقائع وفق حاجيات اللحظة، ورهانات السياق المجتمعي، ومن ثم تبقى مجرد "صورة عن ماض متخيل وقع استحضاره" مطبوعة بقداسة ممجدة، كما يظهر في تقديس صورة بعض الرموز السياسية، مثل محمد الخامس المهدي بن بركة، عمر بن جلون، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله ابراهيم[19].
بينما التاريخ من حيث هو اشتغال مفاهيمي، موضوعاتي وإشكالي في آن، يقوم على المعالجة المنهجية، على "ترتيب الماضي" بعبارة لوسيان فيفر، على عملية بناء وإعادة بناء، كتابة وإعادة كتابة، صياغة وإعادة صياغة، لهذا الماضي، انطلاقا من سلسلة عمليات منهجية متداخلة، تشتغل بالتحليل والتأويل والنقد.[20]
هذا الترتيب أو البناء لا يتأتى إلا بجهد متعدد اللحظات، لحظة إقامة البرهان الوثائقي، لحظة التفسير والفهم، ولحظة الكتابة، مما يطرح معه استعصاءات تمثيل شيء غائب وقع سابقا، واستعصاء ممارسة مكرسة للاستذكار النشط للماضي، والتي رفعها التاريخ إلى مستوى إعادة البناء[21]، فتنطوي بذلك، عملية معالجة أحداث الماضي على تعقيد منهجي ومسؤولية كبيرة من الوجهة التاريخية الصرفة، فالتاريخ كما قال بول فين هو "العلم الاجتماعي الوحيد الذي لا يتحكم فيه صاحب الاختصاص وحده، لأن التاريخ هو تناول متعدد، فبالإضافة إلى التناول الجامعي، التخصص الاحترافي، هناك تناول مدرسي من حيث المقررات الدراسية، وتناول إعلامي من حيث المقالات الصحفية والأشرطة الوثائقية المعروضة بالقنوات التلفزيونية، وتناول من حيث استعمالات الماضي لدى عامة الناس".
تقترن الذاكرة التاريخية أو الشهادة بتعبير بيير نورا "بإعادة بناء المخيال وخروج المكبوت"[22]، فالذاكرة تحكمها الغائية، وتشتغل من منظور الواجب تحت شعار "حتى لا يتكرر هذا" وغالبا ما تخضع لتوجهات سياسية وأخلاقية، من أجل بناء التجانس والإلتحام، كما برز في فرنسا لحظة انكسار الوجدان الفرنسي سنة 1870، حينما تعبأ مؤرخون من قبيل ارنست رينان وارنست لافيس وساتوبريان لإعادة بناء مفهوم "الأمة" و"اللحمة الهوياتية" إذ يقول في هذا الصدد " ينشأ جوهر أمة ما عندما يتقاسم أفرادها أشياء كثيرة، وأيضا عندما يتمكنون من نسيان أشياء مثيرة.[23]
بينما الكتابة التاريخية تقوم على الموضوعية والتحليل والنقد، فالقارئ ينتظر من المؤرخ فك تعقيدات الماضي سواء كان قريبا أو بعيدا، ومساءلة الماضي والسعي إلى فهمه، هذا الفهم يقوم على النقد، على الاحتمال، على النسبية، لإعادة بناء نسق التطورات والاستمراريات الزمنية وسببية الأشياء، بعيدا عن أشكال الحكم المسبقة، لقد سبق لبول ريكور أن تحدث على أن " القاضي هو الذي يحاكم ويعاقب، والمواطن هو الذي يناضل من أجل النسيان، ومن أجل انصاف الذاكرة، أما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام أو تبرئة"[24].
لقد تتبع المؤرخ المغربي عبد الأحد السبتي تفاعلات قضية رجل الاستخبارات المغربية السابق أحمد البخاري بخصوص قضية المهدي بن بركة، وأثار قضية العلاقة التي تربط بين التاريخ والذاكرة، ودعا المؤرخين إلى ضرورة التمييز بين صنفين من الذاكرة: الذاكرة الجماعية والذاكرة التاريخية، بين الشهادة التاريخية والكتابة التاريخية. ومع ذلك، تبقى الذاكرة أكثر وقعا من التاريخ، بالقياس على درجة تأثيرها على أوساط عامة الناس، مع ما تختزنه ذاكرة هؤلاء من أحكام مسبقة موروثة جيلا عن جيل، فالتاريخ كما قال بيير نورا " ينتج كثيرا لكنه لا يقنع إلا قليلا، ليس فقط من حيث التلقي لدى المتمدرسين، بل حتى لدى المثقفين"، كما لاحظ كيف أن خزانات بأكملها حول بطلان العنصرية لم تتمكن من التغلب على الأحكام العنصرية المسبقة.
وعلى مستوى التاريخ الحديث، تتبعت المؤرخة الفرنسية لوسيت فالنسي موضوع الذاكرة من نافدة معركة وادي المخازن في كتابها المرجعي "أساطير الذاكرة"[25]، ووقفت على تحليل مستويات وأنساق الذاكرة، من منظور مخلفاتها الذهنية والرمزية والانفعالية عبر ثلاثة مستويات:
1- مضمون الذكريات من زاوية الفائز والخاسر " الذاكرة المغربية/ الذاكرة البرتغالية".
2- حول وسائل إنتاج الذكرى "التخليد والنسيان".
3- حول ما ظل خارج هذه الوسائل " التمتلات والأوهام".
يعيد كتاب "أساطير الذاكرة" بناء نسق من ذاكرة معركة الملوك الثلاثة، من زاوية بنائها الذهني، كما وقع تخليده في الذهنية المغربية، وكما وقع نسيانه في الذهنية البرتغالية، من زاوية توثيق الذاكرة وتخليدها بالنسبة للكتابة المغربية، وبثرها في الكتابة البرتغالية، من حيث علاقة الذاكرة المكتوبة بالذاكرة الشفهية، من خلال نظرة الذات للذات ونظرة الذات للآخر.
لقد ولد انتقال خبر معركة وادي المخازن شفهيا حسب لوسيت فالنسي تمثلات واحساسات مختلفة: بين المغاربة والبرتغاليين، إحساس بالعظمة والازدراء، يقابله إحساس بالغبن وعسر هضم الهزيمة.
وعلى أية حال، بدأ التفكير التاريخي في موضوع "التاريخ والذاكرة" نهاية سبعينيات القرن الماضي وتحديدا 1978م، السنة التي أصدر فيها المؤرخ الفرنسي بيير نورا مبحثا نظريا يحمل عنوان " الذاكرة الجماعية" ضمن كتاب جماعي " التاريخ الجديد" تحت إشراف جاك لوغوف، غير أن محاولات التأصيل لهذا النوع من الكتابة التاريخية، يعود بنا إلى الدراسة المرجعية التي ألفها موريس هالفاكس حول "الأطر الاجتماعية للذاكرة"[26] خلال العشرينات، من خلال التركيز على سيكولوجيا الذاكرة، ليتعزز هذا النوع من المباحث التاريخية بصدور عدة انتاجات تاريخية، فقد إهتم مثلا الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في سياق المجابهة العلنية مع مؤرخي الحوليات في فترة السبعينات بالتركيز على أهمية السرد والحكي في بناء التاريخ، من خلال مؤلفيه المرجعين " الزمن والسرد"و" الذاكرة التاريخ والنسيان".
" التاريخ والذاكرة: نحو بناء ورش جديد
أتاحت ظرفية الانفراج السياسي أمام مختصي الزمن رفع الطابوهات، وتقليص مساحة المحظور على الوقائع والأحداث، من خلال التحرر من عقدتين كبيرتين: أولا، عقدة الحماية[27]، أي ثقل التحول الذي أحدثه الحماية كمنظومة تغيير شاملة، وضرورة تفسيره تفسيرا تاريخيا بعيدا عن أي تشنج معرفي، وعقدة ما بعد الحماية، أي ثقل المخزن وتقلبات الأحوال السياسية التي عصفت بآمال وأحلام المغرب الجديد، بعيدا عن أي حساسية قومية.
ثمة فرق منهجي واضح بين الذاكرة التاريخية والذاكرة الجماعية، فالأولى عبارة عن ذاكرة نقدية، تأويلية، فكرية، بينما الثانية تجسد ذاكرة انطباعية، انتقائية واحتفالية...هذا التضارب يجعل الأوساط الاعلامية والسياسية تخلد ذكرى الملاحم والأمجاد لتشكيل مفهوم "الأمة"، وبناء التلاحم الاجتماعي، كذكرى معركة وادي المخازن 1578م، وذكرى أنوال 1921م، وذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال 1944، من خلال توظيف معجم تاريخي: الملاحم، البطولات، الأمجاد، المقاومة، الاستقلال، وتتغاضى في المقابل عن توثيق وتخليد الانكسارات. لقد تنبه بول ريكور إلى هذه عمق هذه القضية، وتساءل عن الافراط الذي يخلفه تخليد الذكرى الذي قد يقود إلى حجب التاريخ بل وربما مصادرته ؟[28]
وعبر هذا الانهجاس الذي عبر عنه صاحب "التاريخ الذاكرة والنسيان" ترتفع هواجس مصاحبة، لماذا لا يتم تخليد الانكسارات الوطنية ورفعها إلى السطح كهزيمة اسلي 1844م وهزيمة تطوان 1859م ومعاهدة الحماية 1912؟ وماذا عن المخزن؟ كيف تتمثل الذاكرة الجماعية كلمة المخزن؟ كيف تفهمها بالمقابل الذاكرة التاريخية؟ كيف تتجلى معانيها السياسية والمجالية؟ كيف تتفاعل هذه الكلمات في الوقت الراهن؟ من حيث الدلالة والتوظيف السياسي والتمثل العامي؟[29] هي أسئلة شائكة تستدعي حفرا تاريخيا عميقا لكنها ممكنة التناول.
الذاكرة والتاريخ: اضاءات منهجية
يقدم المؤرخ عبد الأحد السبتي تخريجات منهجية حول كتابة "التاريخ والذاكرة" لملامسة عمق أقرب القضايا التاريخية لمغرب اليوم ، فدراسة التاريخ السياسي/ الحدثي لا يعني بشكل من الأشكال عودة إلى انبعاث الحدث السياسي، وردة منهجية عن مكتسبات قلعة الحوليات، ومناصرة لعراب التاريخ المفتت فرانسوا دوس، بقدر ما هي حسب إفادة دائما عبد الأحد السبتي محاولة للكشف عن البنية، لأن الحدث ينتج البنية ويؤثر فيها في نفس الوقت، ومن وجب التمييز بين بيت التاريخ الحدثي/ الوضعاني، والتاريخ السياسي اعتمادا على مقياس الزمن الطويل الذي بإمكانه الإهتمام بقضايا أكثر عمقا من التاريخ الحدثي[30]، عوض التركيز على الأشخاص وتسلسل الأحداث والوقائع. مقاربة نوعية تمكن من مناقشة الآليات الاجتماعية للسلطة والعلاقات بين الدولة والمجتمع. وهذا التناول الجديد لقضايا التاريخ الراهن ، يتم عبر قنوات متعددة منها، الاهتمام بالسياسة كشكل اجتماعي وثقافي، ومقاربة المؤسسات السياسية على نحو انتربولوجي، فالتاريخ أمامه خيار واحد لإثبات مشروعيته العلمية، عليه أن يتحول إلى انتربولوجيا إجتماعية كما قال رائد التحليل الانقسامي افنس بريتشارد.
الكتابة التاريخية والاعتقال السياسي:
يفضي استقراء "استوغرافيا الأدب" التي تناولت جرح الذات المغربية سنوات الاعتقال السياسي إلى الاقرار بحضور وفرة كمية ونوعية، في ما يعرف ب"أدب السجون" من روايات ومجامع قصصية ومذكرات ورسائل السجن، وهي مكتوبة بالعربية أو الفرنسية، نشر بعضها بفرنسا، ونشر عدد منها بالمغرب، وقد صدر هذا الإنتاج منذ آواخر تسعينيات القرن الماضي، وتحمل هذه النصوص المتنوعة شهادات بدلالتين:
أولا: من حيث المضمون: شهادات حول سنوات الجمر والرصاص.
ثانيا: من حيث أشكال التلقي: شهادات حول إرادة معلنة لطي صفحة الماضي.
وبالتالي، أفرزت المرحلة كتابات متعددة ألفها أحيانا، فاعلون سياسيون مثل المذكرات السياسية، وأحيانا مسؤولون فرنسيون عن فترة الحماية بالمغرب، وأخرى من طرف مناضلين من الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة، وإسهامات لشخصيات قريبة من النظام الملكي من بينهم ضباط مرتبطون بأجهزة سرية متعددة، إضافة إلى حوارات مطولة تصدرت أعمدة الصحافة المكتوبة.
إنه اهتمام جديد بالذاكرة وبالشهادة التاريخية، حضور ساخن، وصاخب، في غياب مختصي الزمن، فما يحدث ببلادنا هو إنتاج الذاكرة، وهو عنصر فاعل ومعبر عن ظرفية تاريخية معينة، فالمؤرخ ملزم بنزع الصفة الميتولوجية عن عدد من الأحداث والفاعليين، مقابل تفادي السقوط في خلق ميتولوجيات ورموز جديدة[31]، إلى حد جعلت المؤرخ الفرنسي جيرار نوراييل في كتابه " الأبناء الملعونون للجمهورية" ينتقد بحدة هذا التوجه بقوله " إن التاريخ الذي يقدم في التليفزيون ليس تاريخا، وإنما مشاهد من الذاكرة، إنهم متعهدو الذاكرة الذين يتحدثون في التلفزيون، هم أناس يصنعون روايات سردية بغرض سياسي، وليست روايات مبنية ومفسرة لوقائع الماضي، وإنما مصنوعة للحكم على شيء ما ".
وهكذا، يصبح أمام المؤرخ رصيد هائل من الوثائق والأرشيفات قد تساعده على إنضاج عملية التحليل والتأويل، شريطة أن يتوفر على تكوين خاص، ومتشبع بمناهج ومقاربات متعددة، وهو ما يظهر في انفتاح الجامعة المغربية، وخاصة كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط على هذا الورش التاريخي، فقد أخدت الصحافة الفرنسية مثلا، منذ الخمسينيات من القرن العشرين تنفتح على تاريخ العمالة المرتبط بالاحتلال النازي لحظة الحرب العالمية الثانية، وتقيم حفرا تاريخيا في ذاكرة موشومة بالألم والعذاب.
ويقف المتتبع لتجاذبات الذاكرة والتاريخ في تاريخ المغرب، حضور تناقض في إنتاج الذاكرة بين الفرقاء السياسيين، فهناك فاعلون سياسيون ينتظرون تدخل المؤرخ حينما يتم الحديث عن وثائق ذات حساسية معينة، ولا يعبرون عن نفس المطلب حينما تنشر وثائق تدين ممارسات تيارات سياسية معادية، وهذا ما يعقد من مهمة المؤرخ، بين الرغبة في توضيح ملابسات الماضي، وبين هاجس حماية صورة بعض الشخصيات. وهو ما نلمسه من إقدام بعض الدراسات التاريخية على نشر بعض الوثائق، بخصوص تاريخ الحركة الوطنية، مما يوحي أن الحديث عن بعض أفعال الحركة الوطنية أصبح من الطابوهات والمحرمات، وهو ما قد يضرب بعمق مفهوم الحياد القيمي الذي يتنبناه المؤرخ، فكتابة الذاكرة هي التي أتاحت إمكانية الكتابة التاريخية حول الماضي القريب، من خلال وجود عرض وطلب للتاريخ القريب، كما أن كتابة التاريخ الراهن أتارت تعدد المحكيات وساهمت في تراجع مساحة المحظورات.
فالمؤرخ يساهم في بناء منهجي لإنتاج الذاكرة، من خلال وضع الشهادة المحكية ضمن سياقات تأليفها ونفسانية منتجيها ومواقع أصحابها، ويعمل على توضيب الشهادات التاريخية، بحيث يتم التوفيق بين نسيج من المقتطفات المأخوذة من الشهادات، وبين شبكة موضوعاتية لها صلة بإشكاليات محددة، بحيث لا يجب أن يغيب عن ذهن المؤرخ، أننا بصدد ذاكرة تمت إثارتها في سياق معين تحدده رهانات معينة.
مشكلات التاريخ الراهن:
تكمن مشكلات التاريخ الراهن
المشكلة الأولى: طبيعة ومصادر التاريخ وطريقة التعامل معها: مذكرات، صحف، روايات شفهية... التي لا تخلو من مشاكل بفعل أزيميتها، أي افتقارها لما يكفي من الاختمار، واتساع تداولها بين مختلف المتخصصين. بيد أنها أتبتت خصوبتها في انتاجات العلوم السياسية والانتربولوجيا مثل دراسات كل من دافييد هارت، ديل ايكلمان، جون واتربوري، المهدي بنونة وآخرين.
المشكلة الثانية: قضية الزمن ونقص المسافة بين الباحث والموضوع، مما يثير تحفظ العديد من الباحثين، وتطرح معها عدة أسئلة، هل بإمكان المؤرخ أن يبتكر أدوات منهجية جديدة لمعالجة التاريخ الراهن وفهمه وخلق مسافة منهجية من نوع آخر بينه وبين الأحداث، مسافة منهجية أكثر منها مسافة زمنية.
فالتاريخ الآني أو التاريخ الفوري بتعبير الصحفي الفرنسي جون لاكوتير هو سرد للأحداث واجتهاد في تأويلها وتفسيرها، تفسير ما هو متفاعل ليس سهلا، فقد يتحول التفسير إلى تشخيص، وقد يسقط التشخيص في التعليق، وهما معا أي التفسير والتشخيص لا يخلوان من تقلبات الساعة.
تراكم وثائقي حول استحضار الماضي المنسي والمسكوت عنه، حول العنف والعنق المضادـ يوظفه المؤرخ لإحداث نوع من التحليل النفساني الذاتي، عبر ممارسة الحكي عن تجربة سنوات الجمر والرصاص سواء كانت تجربة سياسية جماعية قبلية يحول الذاكرة المخفية الى ذاكرة علنية، هو محاورة هادئة لفترة تاريخية صاخبة لتوليد ما يمكن توليده من أفكار ومراجعات نقدية حول تضارب الذاكرة الرسمية وذا كرة الافراد.
خلاصات عامة:
وهكذا، يتأتى اقتحام ورش كتابة التاريخ الراهن بالمغرب، ومحاورة الذاكرة التاريخية من خلال الملاحظات المنهجية التالية:
أولا: ضرورة تنسيب العلاقة بين المسافة والموضوع، وما يفرضه من جرأة منهجية.
ثانيا: البحث التاريخي يتقدم وفق حركة تعاقب وتفاعل بين مسلسلين: تعميق الفرضيات والإشكاليات وتكثيف مجهود جمع الوثائق.
ثالتا: النضال من منح حرية اوسع لمختصي الزمن في مجال البحث العلمي بغرض الانتصار "للحقيقة التاريخية".
رابعا: ضرورة الانتباه إلى النصوص الشفهية ذات القيمة الاخبارية والاثنولوجية التي تعكس حكم المجتمع عن ذاته عبر أصوات الرواة وتعليقات المستمعين.
ولأن التاريخ باعتباره استوغرافيا بعبارة العروي، فإن الذاكرة تقدم إفادة مهمة في الكشف عن الجوانب الخفية والمعتمة من التاريخ، أو ما يمكن نعته ب"التاريخ الصامت"، وكشف أماكن الذاكرة سواء كانت ذاكرة رمزية أو مادية، والانتقال مت ذاكرة الأماكن إلى أماكن الذاكرة، من شأنه تخليد وتوثيق الذكريات الوطنية وخلق الالتحام الاجتماعي، كذكرى 4 غشت 1578 وذكرى 11 يناير 1944. غير أن تخليد الذكريات يبقى معرضا لمنزلقات كثيرة، منها تغييب التاريخ، والتركيز على كلام الشاهدين، على النحو الذي يخدم قضية معينة.
يبدو أن انخراط المؤرخين في كتابة ذاكرة الزمن الراهن محاولة لتحديد المعرفة التاريخية، وفتحها على ملابسات التاريخ القريب من الذاكرة، بعد ان كان حكرا على مختصي العلوم السياسية والانتربولوجيا وأقلام الصحفيين، وهو انخراط لا يخلو من مشكلات منهجية ومعرفية، من حيث مقاربة زمن فائر، متوتر، يدخل ضمن ما هو سياسي ، وليس ما هو تاريخي حسب المؤرخين التقليدين، هذا الاقتحام يطرح عدة قضايا منهجية واستوغرافية، فهل العودة بين الحاضر ومقاربة الماضي مسالة تخص الزمن القريب دون غيره؟ وهل يمكن للمصالحة بين الحكم والمجتمع والماضي أن تثير أسئلة المؤرخ خارج نطاق كتابة التاريخ القريب؟
ثمة بياضات قاتلة ترصع تاريخ مغرب الحماية، تجعل ورش كتابة التاريخ الراهن معاقا ومشوها، مفتقدا لوعي وتأطير معرفي، اسئلة كثيرة تشكل مدخلا نحو فهم التباسات التاريخ الراهن، من قبيل لماذا لم يفرز التدافع السياسي بالمغرب نخبة وطنية قادرة على بناء معالم مشروع مجتمعي وطني لعد الاستقلال؟ لماذا ظلت الاتكالية وغياب القرارات الحاسمة تهيكل الحياة السياسية المغربية؟ لماذا لم يحسم الوفد المغربي المشارك في محادثات اكس ليبان مسالة الاستقلال اشكالية الوحدة الترابية؟ وهل يمكن تحميل مسؤولية عسر الانتقال الديموقراطي والتحول المعاق إلى إرث الاستعمار الفرنسي والاسباني؟ هل كانت فترة الحماية قوسا في التطور التاريخي المغربي سرعان ما جاء الاستعمار ليغلقه وتستمر البنية الاجتماعية والاقتصادية في انتاج التقليد؟
وختاما، يجسد عبور مختصي الزمن من جسر تاريخ الحماية والتاريخ الراهن، مدخلا نحو بناء الديموقراطية والحداثة والعدالة الاجتماعية والوحدة الترابية، والاجابة عن الاسئلة الاستراتيجية لبلد لا زال لم يستكمل بعد وحدثه الترابية، انها اسئلة الراهن المغربي، التي تجعل من البحث التاريخي مساهما في بناء ورش المواطنة، مغرب المصالحة الحقيقية مع الماضي العنيف، وتخرج التاريخ والكتابة التاريخية من حالة الاغتراب التي تعيشها.
المراجع المعتمدة:
1- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة، الدار البيضاء، 2005.
2- محمد حبيدة، بؤس التاريخ، مراجعات ومقاربات، دار الامان، الطبعة الاولى، 2015.
3- عبد الاحد السبتي، التاريخ والذاكرة، اوراش في تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، الدار البيضاء، 2012.
4- حسام هاب، تاريخ الزمن الراهن، المفهوم والاشكاليات، ضمن مجلة وجهات نظر، عدد مزودج، 56-57، 2013.
5- بيير فرمورين، تاريخ المغرب منذ الاستقلال، ترجمة عبد الرحيم حزل، افريقيا الشرق، 2010.
8- صالح شكاك، من المغرب المعاصر الى المغرب الراهن: اشكاليات الاستمرار والتحول، ندوة التاريخ الراهن ومهام المؤرخ، تنسيق محمد كنبيب، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الرباط، سلسلة ندوات ومحاضرات، رقم 158، الطبعة الاولى، 2009.
9- ديل ايكلمان، المعرفة والسلطة في المغرب، صور من حياة مثقف من البادية المغربية في القرن العشرين، تعريب محمد أعفيف، مركز طارق بن زياد للدراسات والابحاث، الرباط، 2000.
10- جون واتربوري، أمير المؤمنين والنخبة السياسية بالمغرب، تعريب عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق، منشورات مؤسسة الغني، الرباط، 2004.
الندوات:
1- ندوة التاريخ والذاكرة ( 2001) منشورة بالعدد الاول من مجلة البحث التاريخي، 2003.
2- ندوة تاريخ المغرب: تحديد مجالات ومقاربات جديدة، أعمال الورشة الأولى لأيام تاريخ المغرب المغرب 2004، منشورات جامعة الاخوين، افران، 2006.
3-ندوة من الحماية الى الاستقلال: اشكالية الزمن الراهن، 2005، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الرباط، 2006.
بالفرنسية:
1- Bennouna Mehdi, Héros sans gloire, échec d’une révolution, 1963 1973, Casablanca, 2002.
2- Bouaziz Mostapha, Aux origines de la Koutla démocratique, Publication de la faculté des lettres et des sciences humaines de Casablanca, Ain chouk ,1997.
3-Dalle Ignace, Le règne de Hassan 2 ,1961-1999 : Une espérance brisée, Paris/Casablanca, 2000.
4- El Ouafi Ahmed, Opération Boraq, f5, 16 aout 1972, L’attaque du Boeing royal, Témoignage recueillis par François Tortet, Casablanca, 2004.
5-David Montgomery Hart, The Aith Waryagher of the Morrocan, Rif an Ethnography and History, Tucson, 1976.
6- Kenbib Mouhamed, Le Maroc indépendant, 1955- 2005, Essai de synthèse, Commission scientifique du cinquantenaire, Rapports transversaux, www. rdh50. ma.
7- Laroui Abdellah, Hassan 2 et le Maroc, Casablanca 2005.
8- Monjib Maati, La monarchie marocaine et la lutte pour le pouvoir, Hassan 2 face à l’opposition nationale, Paris, 1992.
9- Palazoli Claude, Le Maroc politique de l’indépendance a 1973, paris, 1974.
[1] - للإحاطة بهذه القضية يمكن مراجعة : محمد حبيدة، بؤس التاريخ، مراجعات ومقاربات، الطبعة الأولى، دار الأمان، الرباط ، 2015 ص 153-168، وعبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة، أوراش في تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2012 ،ص 209-217، وحسام هاب، تاريخ الزمن الراهن، المفهوم والاشكاليات، ضمن مجلة وجهات نظر، عدد مزودج، 56-57، 2013، ص3-7، إضافة إلى بعض الندوات مثل "ندوة التاريخ والذاكرة (2001) ،منشورة بالعدد الأول من مجلة البحث التاريخي، 2003، و ندوة "تاريخ المغرب: تحديد مجالات ومقاربات جديدة"، أعمال الورشة الأولى لأيام تاريخ المغرب 2004، منشورات جامعة الاخوين، افران، 2006.وندوة من "الحماية الى الاستقلال: اشكالية الزمن الراهن"، 2005، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الرباط، 2006.
[2] - رواية " زمن الخوف" للصحفي ادريس كنبوري المتخصص في الحركات الإسلامية والإرهاب لقيت متابعة مهمة من طرف الصحافة المغربية، وكذلك من طرف بعض المؤرخين، وهو ما تعكسه قراءة المؤرخين محمد معروف الدفالي والطيب بياض التي احتضنها مركز محمد بلحسن الوزاني في أبريل 2016.
[3] - يعرف بأنه الكتابات التي حاولت ملامسة تجربة الاعتقال السياسي إبداعيا، أي أنها اتخذت من الكتابة وسيلة لتصفية الحساب مع تجربة انسانية ووجودية ونفسية مريرة، وقد تكون تجربة واقعية أو متخيلة، يمكن أن نحيل القارئ هنا إلى عدة روايات تقع ضمن مصنف ما يسمى "أدب السجون" la littérature carcérales مثل: مليكة أوفقير، "السجينة"، ترجمة مشيل فيتوسي، تحقيق غادة موسى الحسين، دار الجديد، الطبعة الاولى، 2000، وفاطمة اوفقير، "حدائق الملك، الجنرال أوفقير والحسن الثاني ونحن"، شهادة ومذكرات، ترجمة مشيل خوري، الطبعة الاولى، 2000، وجواد مديدش، "الغرفة السوداء، درب مولاي الشريف"، منشورات مرسم، 2009، وأحمد المرزوقي، "تازمامارت، الزنزانة 10"، المركز الثقافي العربي، الطبعة الاولى، الدار البيضاء، 2012، ومحمد الرايس، "من الصخيرات الى تزمامارت: تذكرة ذهاب وإياب الى الجحيم"، ترجمة عبد الحميد جماهيري، منشورات الاتحاد الاشتراكي، الطبعة الاولى 2000، إضافة إلى بعض الأفلام السينمائية كفيلم " درب مولاي الشريف la chambre noire " لحسن بنجلون.
[4] - محمد حبيدة، بؤس التاريخ، م س، ص 7.
[5] - عبد العزيز الطاهري، المذكرات وكتابة تاريخ الزمن القريب والراهن، ضمن مجلة وجهة نظر، عدد 62، 2014، ص 8.
[6] - جيل بيرو، صديقنا الملك، ترجمة مشيل خوري، الطبعة الاولى، 2002
[7] -2- Mehdi Bennouna, Héros sans gloire, échec d’une révolution, 1963 1973, Casablanca, 2002.
[8] -David Montgomery Hart, The Aith Waryagher of the Morrocan, Rif an Ethnography and History, Tucson, 1976. Et Balta Paul, Le grand Maghreb dès l’indépendance à l’an 2000, paris ,1990 , Paris, 1992, Palazoli Claude, Le Maroc politique de l’indépendance a 1973, paris, 1974 ,I. Dalle, Le règne de Hassan 2 ,1961-1999 : Une espérance brisée, Paris ,Casablanca, 2000.
[9] Michelle de Certaeau, l’opération historique, dans Faire de l’histoire, nouveau objets, sous la direction de Jacques le Goff et Pierre Nora, Edition Gallimard,
1974.
[10] - أحمد البخاري، ضابط سابق في المخابرات المغربية، ضمن سلسلة حلقات بتتها قناة الجزيرة القطرية حول " أسرار مقتل المهدي بن بركة" سنة 2009. وكذلك:
A. El Ouafi, Opération Boraq, f5, 16 aout 1972, L’attaque du Boeing royal, Témoignage recueillis par François Tortet, Casablanca, 2004.
[11] - M. Monjib, La monarchie Marocaine et la lutte pour le pouvoir, Hassan 2 face à l’opposition nationale, M. Kenbib, Le Maroc indépendant, 1955- 2005, Essai de synthèse, Commission scientifique du cinquantenaire, Rapports transversaux, www. rdh50. ma,
A. Laroui, Hassan 2 et le Maroc, Casablanca 2005,M. Bouaziz Mostapha, Aux origines de la Koutla démocratique, Publication de la faculté des lettres et des sciences humaines de Casablanca, Ain chouk ,1997.
[12] - أشرف جرمان عياش على إنجاز عدة مونوغرافيات حول تاريخ القبائل، الزوايا، المدن، في سياق الرد على الاستوغرافيا الكولونيالية.
[13] - لاتزال الاستوغرافيا المغربية تعاني من عقدة التركيب في سياق هيمنة الأبحاث المونوغرافية، والتاريخ العلائقي، والتحقيق، على الرغم على صدور كتاب "تاريخ المغرب: تركيب وتحيين" سنة 2011م، تحت إشراف محمد القبلي، عن منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الذي تطلب عملا جماعيا ضخما لأكثر من 40 باحث.
[14] - أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر: اينولتان 1850- 1912، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الرباط،1983.
[15] - علي المحمدي، السلطة والمجتمع في المغرب، نموذج أيت باعمران، الدار البيضاء، 1989,
[16] - عبد الرحمان المودن، البوادي المغربية قبل الاستعمار: قبائل إيناون والمحزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الرباط، 1985.
[17] - بيير نورا، "التاريخ والذاكرة "(1978)، تعريب محمد حبيدة، "من أجل تاريخ إشكالي"، ترجمات مختارة، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالقنيطرة، 2004، ص 100.
[18] - جون بوديار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008.
[19] - عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة، م س، ص 212.
[20] -Pierre Nora, Le retour de l’évènement, in P. Nora et J. le Goff (dir) Faire de l’histoire, tome 1, Nouveau problèmes, Paris, Gallimard, 1974, PP 210 - 228
[21] - بول ريكور، الذاكرة، التاريخ النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الاولى2009، ص، 217.
[22] - بول ريكور، الذاكرة، التاريخ النسيان ، م س، ص، 211.
[23] Ernest Renan, Qu’est-ce que une nation, conférence, Sorbonne, 11 mars 1882, Paris, 1992, PP, 41- 42.
[24] - بول ريكور، كتابة التاريخ وتمتل الماضي، تعريب محمد حبيدة، من أجل تاريخ اشكالي، م س ، ص ، 182.
[25] L, Valensi, Fables de la mémoire, La glorieuse bataille des trois rois, paris, 1992.
[26] M, Halbwachs, Les cadres sociales de la mémoire, Paris, 1925, p159.
[27] - يلاحظ المهتم بتاريخ الحماية هيمنة الأجانب على الاستوغرافيا الكولونيالية ، وتتضح هذه الهيمنة حتى بعد الاستقلال من خلال اعمال المؤرخ الفرنسي دانييل ريفي الذي أنجز بحثا في البداية عن القيم العام الفرنسي "ليوطي" وآخر عن "محمد الخامس والحماية"، وفي مرحلة موالية عن "تاريخ المنطقة المغاربية":
D, Rivet, Lyautey et l’institution du Protectorat français au Maroc, paris ,1988
D, Rivet, le Maroc de Lyautey a Mohamed 5, le double visage du Protectorat, paris, 1999.
Daniel Rivet, Le Maghreb à l’épreuve de la colonisation, Paris, 2002.
وأيضا بيير فرمورين، "تاريخ المغرب منذ الاستقلال"، ترجمة عبد الرحيم حزل، افريقيا الشرق، 2010.
[28] بول ريكور، الذاكرة، التاريخ النسيان ، م س، ص 150.
[29] - تناول بول ريكور مسألة الذاكرة من زاوية النسيان، فهل يجتهد النسيان أو بالأحرى إجتهاد الذاكرة الجماعية في نسيان الأشياء ضمن سيرورة تشكل الأمة؟ وهل نعتبر مسح الطاولة كما يقال شرطا أساسيا للسير نحو الأمام والعمل على التجديد وإعادة التأسيس؟
[30] - عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة، م س، ص، 214-215.
[31] - عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة، م س ، ص ، 204.