يرنو الحديث عن جدل الديني والسياسي في الفضاء العربي الاسلامي لحظة تحول صعب، تعتور جسدا على وشك الوضع، أو ما يسمه الباحث الفرنسي أوليفي روا ب"الإسلام السياسي" انشغالا مركزيا، يدخل ضمن خارطة اهتمامات باحثي العلوم السياسية والحركات الدينية وغيرهم، ويتغدى هذا الاهتمام راهنا، من كونه أضحى نقاشا يثير صخبا حادا من طرف جل أطياف الفعل السياسي، قياسا بحساسيته لدى البعض، وبراهنيته لدى الآخر في فهم مخاضات عميقة تعتمل داخل مختبر السياسة بالعالم العربي الاسلامي .
ولئن بدا ظاهريا الحضور القوي اليوم للحركات الاسلامية في المشهد السياسي، منذ انطلاقة ما يعرف بثورات الربيع العربي، فلأن هناك حديثا موازيا عن بداية مراجعات عميقة داخل هذه الحركات الاسلامية، في سياق ما ينعت ب"أسلمة الحداثة" أو "تحديت الاسلام" تكيفا مع واقع جديد.
أثارت إشكالية علاقة الدين بالسياسة جلبة واسعة بين المختصين، بدرجات مختلفة، وفي سياقات جغرافية متغايرة، وركزت مجمل هذه المساهمات التنظيرية عند منطلقات ولادة ما يسمى ب"الحركات الاسلامية"، وحدود اخفاق سكب ورسكلة الحداثة الغربية في الأصالة الحضارية ضمن مسيرة التاريخ للعالم العربي الاسلامي، إلى درجة جعلت البعض يتحدث عن حدوت زمن احتمالي رابع جديد للتطور الحضاري.
تنطرح جملة تساؤلات جديدة حول ما يرهن وضع العالم العربي الاسلامي، في سياق الصعود المفاجئ لحركات الاسلام السياسي، واعتلائها السلطة في معظم دول الثورات العربية، ثم السقوط السريع لبعضها في مصر مثلا، بلد المنشأ، وما استتبعه من موجات غضب متصاعدة، وصلت إلى درجة المواجهة مع هذه التيارات في عدد من هذه الدول ، مما يغذي نظريا ضرورة إعادة فتح النقاش حول هكذا موضوع بتساؤلات راهنة، تستقرئ المنجز السياسي للحركات الاسلامية، وتقف عند مطباتها في سياق الانتقال من الدعوي نحو السياسي، من السري نحو العلني، كيف يمكن فهم وتفسير أسباب سقوط السريع للإسلام السياسي في بعض من الدول العربية؟ وهل فكرة الاسلام السياسي تؤدي بالضرورة إلى الشمولية، ومن ثمة العنف؟ أية سيناريوهات مستقبلية تطرح بخصوص هذه الحركات؟ وبأية منطلقات فكرية ونظرية ستصمد حركات الاسلام السياسي أمام لهيب الشارع العربي ومطالب الشباب المستفحلة؟
يتقاطع كتاب " الإسلام السياسي في الميزان" للباحث المغربي حسن أوريد، الصادر عن دار توسنا، سنة 2016، مع رؤية الباحث الفرنسي المتخصص في الإسلام السياسي أوليفيي روا "إخفاق الإسلام السياسي" الذي صدر سنة 1992م ، من حيث ضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي، ذاك أن مدار الدين هو العقيدة والقيم، ومدار السياسة هي المصالح، فالدين في أساسه العقدي والأخلاقي يتميز بالثبات والاستمرارية، بينما تنطبع السياسة بالتحول والسعي نحو التكيف[1]، ويستقرأ ملمح ذلك من خلال ما زكاه حزب النهضة التونسي في مؤتمره الأخير سنة 2016، الذي يبرز هذا التحول.
ثمة تحول عميق يعتور مسارات الحركات الاسلامية بالعالم العربي، تحول يبدو في حاجة إلى ماهدين لا يكتفون بشرح العالم بل يسعون إلى تغييره[2]، ينأى بنفسه عن صيرورة تاريخانية كانت تعتبر الديموقراطية "نبتة خبيثة" استنبتت في غير سياقها[3]، وكان يتخذ وفقا لذلك شعار "الإسلام هو الحل" عقب انتكاسة العالم العربي الاسلامي في 1967، التي ستصعد بفكر السيد قطب إلى الواجهة، وستتناسل من رحم مؤلفاته ما يسمى ب"الاسلام الحركي"، التي تستعدي الغرب وحداثته ، وتقسم العالم العربي إلى فسطاطين.
ولَّد التنافر الذي شهدته المجتمعات العربية الاسلامية مع حداثة لم تصغها، وتطور ساقته فوهات مدافع الغرب، في لحظة تفتت الذات، ضرورة الاستنجاد بالدين، والاستمساك بتلابيبه[4]، أملا في تحصين ذات منكسرة، تلملم انجراحات الزمن التاريخي، وهو ما أثمر حسب يان بورما وأفيشاي ماركليت ب"أزمة عسر الهضم"[5] ،التي جَرَّدت الدين من قوالبه الميتافزيقية، وجعلته مبتسرا، وسمحت لنا بأن ننظر إلى الحركة الاسلامية كحالة عرضية لحداثة غير مقبولة، أو غير مستساغة[6]، تهيء نفسها بشكل خفي لخروج "الدين من الشأن العام"، وتنصهر إذاك في عملية التحديث السياسي[7]، فالديموقراطية لا يمكن أن تقوم في مجتمعات تنعدم فيها بنية الدولة، ويتم الخلط فيها داخل الفضاء العربي ما بين الدولة والنظام، مثلما يتم الخلط بين الدولة والمؤسسات الإدارية، حيث التطور لا يحدث عن طريق استنساخ بل من خلال نضج ومسار.[8]
تتبدَّى الدولة في العالم العربي اليوم كدولة مؤسسات ادارية، تستحكم في البشر عبر أجهزتها الأمنية، وتغيب دولة العقد الاجتماعي، التي بمقدورها أن تردم الهوة بين الفرد والدولة، عبر رعاية القطاعات الاجتماعية للأفراد، بشكل يساهم في امتصاص حدة الفوارق والتباينات المجالية، ويمكن أن نزعم بأن الاضطرابات التي نعيشها هي أعراض لتداخل الديني والزمني، وهي ارهاصات لحركة "خروج الدين من الساحة العامة"، كما يذهب إلى ذلك مارسيل كوشي، مستعينا بتحليل كل من ماكس فيبر ودروكهايم، مما سيجعل كثير من الأحزاب السياسية تفقد رومانسيتها تجاه الدين، فبنكيران الذي يرفع شعار رابعة، هو نفسه من يمتدح التجربة المصرية سنة 2015، ويرفض أي ارتباط بالأممية الاسلامية. إذ الذي يهم ليس ما يعلنه الفاعلون، وإنما ما يختبأ في تجاويف اللاشعور، أو ما يصفه باريتو ب"الرواسخ والمتحولات ".
قدَّم مروان مْعشر الأكاديمي الأردني تحليلا لا يخلو من حصافة في كتابه " اليقظة العربية الثانية" قائلا:" اليقظة العربية الأولى كانت شأن نخب من دون جماهير، والربيع العربي شأن جماهير من دون نخب[9]، وهو ما يجعلنا نتوقف عند حدود العلاقة بين السياسي والمثقف، فرجل السياسة ينطلق من الممكن، ويتحرك وفق ساحة محدودة، بينما المثقف يرنو إلى المأمول، لا تحده موانع، ولا يخضع لتوافقات ولا يرضخ لتسويات[10]، فلماذا ينخرط السياسي الإسلامي في خطاب السيد قطب، وله بديل من فكر علال الفاسي الليبرالي أو محمد بن العربي العلوي التقدمي؟ وكيف يمكن تفسير علاقتنا الملتبسة مع هذه الحداثة؟ وهل يستقيم تحديث الدولة والمجتمع من دون زعزعة قوالب التقليد؟ وهل يمكن أن نساير مارسيل كوشي في تحليله أننا ننتقل تدريجيا نحو مرحلة "خارج زمن الأديان"، تقود نحو فصل الدعوي عن السياسي، كما يظهر مع تجربة حزب النهضة التونسي بقيادة راشد الغنوشي؟ وهل يحدث نوع من كتارسيس " تطهير نفسي" على نحو ما يظهر في جريدة أخبار اليوم القريبة من حزب العدالة والتنمية، التي انبرت في نقد ذاتي شبيه بثوبة بشجبها للاتجاهات السياسية والفكرية التي ما انفكت تمتح من الشرق العربي؟[11]
ينقسم كتاب "الاسلام السياسي في الميزان" إلى خمسة فصول أساسية، تخضع لتقسيم موضوعاتي من خلال "استحداث التقاليد" "أسلمة الحداثة" "تسامي الحداثة وتصريف التقاليد" "تحديث الاسلام" و"الاسلام بين الاقتداء والتقليد".
يتتبع الفصل الأول تيمة "استحداث التقاليد" من خلال صورة الملك الحسن الثاني، كملك حداثي مفعم بالتاريخ، ومرتبط برجال حداثيين مثل رضا اكديرة والجنرال أوفقير، كملك يحاول استعادة ميراث فرنسا، عاملا على مغربة الحماية، مُرتديا جُبَّة المارشال هوبير ليوطي، مُنظر البنية المزدوجة: بنية تقليدية تخضع لإيقاع التقاليد أو "القاعدة" وفق مصطلح دار المخزن، وبنية عصرية أسماها ليوطي بنوع من الكناية بالمخزن الشريف العصري، هذه الازدواجية وهذا الاقتران، عبر عنه ليوطي بتعبير لفظي يحمل من الجناس باللغة الفرنسية " وصي على الأهالي، حاكم للمستعمرات".[12]
تكشف فترة التاريخ الراهن بالمغرب، التي أعقبت لحظة الاستقلال، عن مخاض عميق يعتمل داخل جهاز الدولة، انجلت ملامحه في الاصلاح الدستوري لسنة 1962 لبناء الدولة الوطنية الحديثة، يتجسد هذا المنحى من خلال قراءة تحديد إمارة المؤمنين، التي لم يكن سوى زخرف قانوني، أوحاه شخصان محافظان على القصر هما علال الفاسي وعبد الكريم الخطيب. ولسوف تنطبع ظرفية الستينات من القرن الماضي، بتقاطبات حادة، توجه اشتراكي وآخر عروبي ناصري، وستحدد السلطة توجهها كرد فعل ضد الزعيمين التاريخين المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد، وسيبدأ النظام منذ حرب الرمال 1963 في محاربة المد القومي، الذي سيظهر واضحا من خلال تقارب الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الجزائر[13].
مصطلح "استحداث التقاليد" تمت هندسته في الأصل من طرف المؤرخ البريطاني اريك هوبزباوم، وسيتأكد ملمحه المغربي من خلال مشروع محمد بنهيمة المتبني للازدواجية اللغوية، تزامنا مع مشروع آخر حضَّره الوزير التونسي محمد المسعدي. أو لم يقل عبد الله العروي عن التقاليد بأن توظيفها يحضر أكثر من الإيمان بها.
شكلت انتفاضة 1965 محطة مفصلية في تاريخ المغرب الراهن، جوبهت بالقمع من طرف النظام، إلى حد جعلت ريمي لوفو واحد من العارفين بالشأن السياسي بالمغرب، يقول بأن الإسلام سيصبح هو القوة الرئيسية لترسيخ شرعية السلطة[14]، وما القدر في النهاية إلا التقاء رجل وسياق، ولسوف تكون هزيمة 1967 مفيدة لنظام الحسن الثاني، التي حدَّت من خطر الناصرية والمد القومي، وجعلته ينكب على استحداث التقاليد.
أنشأ الحسن الثاني منظومة تأنف من الحداثة الفكرية ، فهي تريد الحداثة من دون نسغها الفكري، كان يريد الطرق والسدود والأراضي المستصلحة والبنيات العصرية من دون جامعات ومعاهد، أو بما يمكن أن تلقنه من علوم انسانية وفلسفة وسوسيولوجيا وفكر نقدي وقيم العدالة الاجتماعية والحرية[15].
حسب منير شفيق الخبير التربوي الذي عين في الديوان الملكي سنة 1968، سيعتبر أن سياسة الكتاتيب القرآنية هي من أمدت النظام بخدَّام الخنوع وانعدام الشجاعة الأدبية[16]، حيث فلسفة السلطة المخزنية التاريخية متطابقة مع الفلسفة البيداغوجية للمسيد القائمة على الخضوع وغض البصر.
هذه السكيزوفيرينية التي وسمت نظام الحسن الثاني كانت مرفوضة من طرف القوى اليسارية وحتى البورجوازية، والذي يستدل على ذلك، استشهاد الحسن الثاني بمقولة الإمام مالك أحد المذاهب السنية الأربعة أثناء المحاولة الانقلابية التي استهدفته " يجوز التضحية بالثلث الفاسد من أجل سلامة الثلثين"، والظاهر أن تلك المحاولة الانقلابية استدمجت خليطا لا يجتمع، أوفقير كلب الحراسة وأمقران عراب الناصرية[17]، ستجعل الحسن الثاني يكيل لأوفقير أشنع القول" خادم الحماية وذيل فرنسا وعميل اسرائيل"، وهو الذي حاول السيطرة على الخطاب الديني وتنظيم المنظومة التربوية وفق قوالب ترسخ التقاليد وتعريب التعليم.
ولسوف ينتقل الحسن الثاني في هيكلته للحقل الديني من استحداث التقاليد إلى عملية الضبط، وهو ما سيجر عليه سنة 1974 جلبة مفتش مغمور" عبد السلام ياسين" الذي سيتجرأ على تحدي الملك بأن بعث له برسالة تدعوه إلى الثوبة، على غرار الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وأن يعيد ممتلكاته للأمة، وأن يحيط نفسه بالعلماء، ويتخلص من مستشاريه المتغربين، وأن يقيم علاقته مع المحكومين على عقد مبايعة وليس عقد إذعان[18]، متوسلا بالتاريخ، ليحذره من أن يقتص من "الفلاح الفقير"، مُذكرا بجده مولاي عبد الحفيظ الذي قتل العلامة سيد الكبير الكتاني، فأذاقه الله خزي الحماية وضياع المُلك، وبحادثة ملك مصر فاروق الذي اغتال حسن البنا 1949.
تحدي فج بطريقة تعدم الأدب واللباقة، هذا الذي أقدم عليه صاحب " المنهاج النبوي" و" الثورة ساعة الاسلام"، فكان حظ الداعية الجسور، هو أن يحرم من المحاكمة أمام القضاء، بدعوى أنه مختل عقليا، أودع في مستشفى المجانين.
وما القدر حسب هنري مونسون في نهاية المطاف سوى التقاء رجل وسياق[19]، ولسوف تمده الثورة الايرانية الملك الحسن الثاني بهذا السياق، وهو ما سيجعله يتحول من الضبط إلى المراقبة.
أحداث شغب سنة 1984 بكل من مراكش والريف، ستجعل الحسن الثاني يستغني عن الورع الهاشمي الفيلالي ويعوضه بعبد الكبير العلوي المدغري، وسيتجه نحو اعتبار الشأن الديني شأن الدولة، وهي التي اعتبرها الباحث المغربي محمد الطوزي مفصلية في اعادة تنظيم وهيكلة الحقل الديني[20]، فإذا كان من الضروري تسييس الدين حسب منظور الحسن الثاني فليكن ذلك لفائدة السلطة وللسلطة وحدها[21]، من خلال محاولة التنسيق بين الفرقان والسلطان، إذ سيغدو دور العلماء عوض أن يكونوا ضمير الأمة صاروا أدوات في يد السلطة، ولسوف تتعزز هيكلة النسق الديني باستحداث التعريب، ويظهر ذلك من خلال امحمد باحنيني أستاذ اللغة العربية، ذو الثقافة الفرنسية الموسوعية، الذي كان يحرر خطب الحسن الثاني، وحارسا للتقاليد عن قرب، وكذلك عبد الوهاب بمنصور مؤرخ المملكة حارس التقاليد بلا منازع، وممثل الثقافة الاندلسية، وعراب التوجه المناوئ للأمازيغية، لقد كان عبد الوهاب بن منصور يمثل صورة رجل الدولة المُطهر للثقافة المغربية من البعد الأمازيغي.
في خضم هذا المخاض، سينشر علي صدقي أزايكو في مجلة أمازيغ مقالا ، يدعو إلى ضرورة إعادة قراءة تاريخ شمال افريقيا قراءة جديدة، سيحاكم صاحب المثال بالسجن، لتتولد عليه بذرة نشأة الحركة الثقافية الأمازيغية.
زمن جديد ومرجعيات جديدة:
سيفتتح وزير الأوقاف عبد الكبير العلوي المدغري سنة 1989 الدرس الرمضاني بقول مثير" لا يفلح قوم يولون على أمرهم امرأة"، في سياق تزامن مع اصدار الباحثة السوسيولوجية فاطمة المرنيسي لكتاب عن "الحريم السلطاني"، سيجر عليه ذلك احتجاجات واسعة من طرف يساريين وحقوقيين وحتى عند بعض الاسلاميين، وسيكشف عن الحديقة السرية للدولة في تدبيرها للحقل الديني، من خلال اصلاح مدونة الأحوال الشخصية 1992، في سياق ماكروسياسي طبعته تحولات جيواستراتيجية دولية، جعلت الحسن الثاني يتوجه إلى البرلمان في دورته الربيعية متوجها بخطاب مكتوب يتضمن مخططا للخوصصة، ويعلن ورشا لليبرالية الاقتصادية، من خلال ما يعرف بمنظومة برتون وودز[22].
ظرفية التحول خلال التسعينات ستجود على الحسن الثاني بماهدين جدد، تكنوقراطيين جدد، سيعتبرون كقنطرة عبور نحو المؤسسات المانحة، اندري ازولاي عراب ومستشار جديد، وفي جبته وصفات اقتصادية وعلاقات واسعة كان الظرف في صالحه، وسوف يبدو كالنجم الذي تحوم حوله الكواكب[23]، ،يجر معه كوكبة من التكنوقراطيين الجدد إلى السياسة محمد القباج إلى الاتحاد الدستوري وحسن أبو أيوب إلى الحركة الشعبية، وعبد العزيز بلفقيه إلى التجمع الوطني للأحرار.
قامت اديولوجية جديدة تكنوقراطية عقب تفكك الشبح السوفياتي بالمغرب، بتوجه اعلامي جديد[24]، وستتوضح أن منظومة الحسن الثاني الدينية تفيد على أنه راعي التحديث وحامي التقليد.
يتجه الفصل الثاني من كتاب الاسلام السياسي في الميزان نحو تحليل ما سماه ب" أسلمة الحداثة" من خلال تنظيم العدل والاحسان، واستغوار كتابات المرشد عبد السلام ياسين[25]، التي تبرز تناقضات ما بين الخطاب والممارسة، فالدين كما يقول يونغ نقطة بلورة المرجعيات الثقافية، إذ يعدو فكر عبد السلام ياسين بمثابة رد فعل على صدمة الحداثة، والسعي لامتلاكها عبر القوالب الدينية[26]، وهو وضع يشبه إلى حد ما مالك بن نبي الذي كان يتقن اللغة الفرنسية أكثر من العربية، ومحد اقبال منظر الدولة الاسلامية في باكستان، وعلي شريعتي الذي قام بترجمة كتاب فرانز فانون " المعذبون في الأرض" بعنوان "المستضعفون في الأرض".
يقع عبد السلام ياسين بين منزلتين: فوج الاصلاح لكل من محمد اقبال وبن نبي، وفوج الثوري لكل من السيد قطب وعلي شريعتي، فجذور أفكار الشيخ تبرز في رسالته الى الملك سنة 1974، التي تشكل عقد الميلاد السياسي، بل سيعتبر حسن أوريد أن كتاب "المنهاج النبوي" يتماثل مع الفكر الماركسي، أذ هو لا يعدو أن يكون "مماركسة مُبيثة".
كتاب "أسلمة الحداثة" لنادية ياسين كتب باللغة الفرنسية، أسلمة الحداثة وليس تحديث الاسلام، حيت تقول" نحن مستهلكون للحداثة عن رضا أو مجبرين، ومستودع رخيص لفضلات حداثة ملوثة، فئران تجارب يتم التحكم فيها للحداثة"[27]، ليس غريبا إذن حسب نادية ياسين أن تكون السواقي غير صافية إن كان النبع آسنا، وهي تنتقد بشدة ممارسات الغاب الاجتماعي، والتكالب الهمجي الذي تشيعه العولمة بما تقوم به تفكيك محيط الحياة، التي تدفع ثلاثة أرباع البشرية نحو البؤس، كي ترفل أقلية في النعيم وتتقلب في الثراء الفاحش، فأصل الداء يمتد إلى الجذور الثقافية، إلى الشعور الفلسفي الذي يحدد الخيارات الاستراتيجية للعالم الغربي.[28]
ستحمل نادية ياسين ديكارت مسؤولية الوضع، وستعتبره أب الداء الحديث، ولسوف تعتبر فلسفة الأنوار مظلمة، وبأن العالم سفينة تتأرجح من دون مرفأ في عرض اللُّجة، نهبا للقلق اللامتناهي لعالم عبثي، إذ العولمة تأخذ على عاتقها الرفاه المادي بفضل السوق، والمجال العام بفضل الديموقراطية، وتظهر كأداة للهيمنة، والديموقراطية هي إحدى السبل المفضية لهذه الهيمنة، الديموقراطية هي السلاح الإديولوجي المطلق للعولمة، إنها محارة فارغة وعلامة زئبقية وسراب جميل لعالم يخشى من مستقبله، وذريعة مخاتلة من أجل الاجهاز على الثقافات الأخرى بضمير مطمئن ،العولمة تاريخ للهيمنة فلتكن لنا الحصافة لنعاين ذلك، هي شمولية العولمة الثقافية للغرب[29]. العولمة هي رأس الحربة التي توجد بالولايات المتحدة، إلى درجة جعلت فرانز فانون يقول" اللعبة الأوربية انتهت"،
تظهر صلة نادية ياسين بالتحليل الماركسي قوية جدا، ويبرز معها الاسلاك كاستجابة لتطلع الانعتاق، ويمكن تشبيه هذا التحليل الذي أقدمت عليه نادية ياسين بذلك الذي أتى به روجي غارودي، المفكر الماركسي الذي اعتنق الاسلام في كتابه " وعود الاسلام/ تباشير الاسلام".
بيد أن الحركة حسب إفادة حسن أوريد تعيش منذ وفاة عبد السلام ياسين 2012 يثما نظريا، بسبب افتقادها للتنظير، ودورانها في نفس الأفكار، وهو ما قد يدخلها في التغريب اللاشعوري حسب عبارة دريوش شيغان[30] منظر الثورة الايرانية.
يتتبع حسن أوريد في الفصل الثالث ما يسميه "تسامي الحداثة وتصريف التقاليد" من خلال تجربة اسلاميي العدالة والتنمية، الذين يغيرون خطابهم وفق المستجدات ويتأقلمون بنوع من البرغماتية مع ما تفرضه الظروف[31]، فطبيعة السياسة المخزنية تتسم بنوع من الكياسة عوض المواجهة[32]، مما سيوجد شرعية لبروز الحزب، من خلال تقارب مع شخصية القصر عبد الكريم الخطيب، الذي سيمنح للإسلام السياس يحق الوجود.
سينفتح حزب العدالة والتنمية حسب جيل كبيل على البورجوازية الورعة التي تمده بالدعم المادي[33]، وفصله بين الدعوي والسياسي، مما سيفجر عليه جلبة من داخله، كتلك التي قام بها الشيخ فريد الانصاري في كتابه "الأخطاء الستة في الحركة الاسلامية" وعمر عمري في كتابه " كنت إسلاميا"، إذ تظهر محاولة فريد الانصاري المتأثر بتجربة المتصوف التركي بديع الزمان النورسي، من خلال رواية خصه بها تحمل عنوان" آخر الفرسان"، كانحراف في الفكر والممارسة، وتطهير نفسي من دخلاء على العمل الدعوي، جرتهم السياسة وميكيافيلتهما الفجة، وهو ما يظهر الوجه الاخر لحزب العدالة والتنمية.
يختم حسن أوريد هذه الدراسة بفصل أخير تحت عنوان "الاسلام بين الاقتداء والتقليد"، ويتعرض فيه إلى أشكال السلفيات، التي طفت على السطح بعد تفجيرات 2001 بأمريكا، و2003 بالدار البيضاء، والمد الجهادي الأفغاني، التي سيسهم في ولادة الارهاب العالمي، إلى درجة جعلت جيل كبيل يسم اللحظة، بأننا أمام فترة ثالثة من الارهاب العالمي، بعد فترة الأفغان العرب، التي صادرت الأنظمة الكافرة، وفترة أسامة بن لادن، وفترة أبو مصعب السوري، التي ستجعل "أروبا هدف" مخططا لكل أنشطتها الجهادية[34].
وختاما، يسد هذا الكتاب في لغتيه الفرنسية والعربية، نقصا في الدراسات العربية حول هذا الموضوع، ينأى بنفسه عن انهجاسات الانتماء الحزبي، والوشائج الدينية، معنيا بتحليل ومكاشفة تاريخانية وراهنية الحركات الاسلامية بالمغرب، انطلاقا من عتاد مرجعي متنوع وغني، في ظل هيمنة الأبحاث الأجنبية، الغارقة في الأحكام المسبقة، واستحكام مؤسسات المال والاعلام في توجيه الطلب الأكاديمي على دراسات تحت الطلب السياسي، ترسم وضعا محدد سلفا من طرف الغرب، وهذا ما يعطي للكتاب فرادته، بحكم قيمة صاحبه، وتدرجه في أسلاك الدولة، ومعرفة خبايا دار المخزن في التعامل مع حركات الاسلام السياسي، وقدرته على التركيب التاريخي لقضايا معقدة في قالب منهجي مميز.
صدر هذا الكتاب في الأصل باللغة الفرنسية تحت اسم "l’impasse de l’islamisme" سنة 2015م، وحاول المؤلف أن يتكلف بترجمته لدواعي فصلها في مقدمة الطبعة العربية، الصادرة عن دار توسنا، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 2016.
[1] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان ( حالة المغرب) مطبعة المعارف الجديدة، دار توسنا، 2016، ص5.
[2] - نفسه، ص 17.
[3] - نفسه، ص 6.
[4] - نفسه، ص9.
[5]- Ian Burma and Avichai Margalit, Occidentalism, The West in the Eyes of its Enemies, 2004.
[6] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان ( حالة المغرب)، مرجع سابق، ص 14.
[7] - نفسه، ص 15.
[8] - نفسه، ص 6.
[9]- The Second Arab Awakeninig and the battle for pluralism.
[10] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان ( حالة المغرب)، مرجع سابق، ص 11.
[11] - نفسه، ص 12.
[12] - Régent pour les indigènes et gérant pour les colons.
[13] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان، مرجع سابق، ص 20.
[14] - نفسه، ص 23.
[15] - نفسه، ص 24.
[16] - رسالة المثقف، حوار مع خمس عشر مثقفا من المغرب، 2014، ص 46، تحت اشراف ادريس كسيكس وفاطمة أيت موس ( بالفرنسية).
[17] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان، مرجع سابق، ص27.
[18] - نفسه، ص 28.
[19]- Henry Munson , Relegion and Power, Yale university, 1993.
[20] - Mohamed Tozy, Intellectuels et militants de l’islam contemporain, le seuil ,1990.
[21] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان، مرجع سابق، ص34.
[22] - نفسه، ص 49.
[23] - نفسه، ص51.
[24] - قناة عمومية يديرها رجل سلطة بأسلوب شبيه سياسيا بالديموقراطيات الشعبية، ثم قناة ثانية مشفرة مع توجه حداثي فرنكفوني وجرأة في التعبير يديرها صهر الملك فؤاد الفيلالي.
[25] - من بين الكتابات المرجعية لمرشد العدل والاحسان نذكر" الاسلام ما بين الدعوة والدولة" و " الإسلام غدا" و"الاسلام أو الطوفان".
[26] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان، مرجع سابق، ص57.
[27] - نفسه، ص 68.
[28] - Nadia Yassine , Toutes voiles dehors , le fennec, 2003
[29] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان، مرجع سابق، ص 72.
[30] - Daryush Shaygan, Qu’ est une révolution religieuse, Albin Michel, 1991
[31] - Malika Zeghal, Les islamistes marocains: Le pjd mosaïque islamiste, 2005 ; Belkacem Beloich, Portraits des hommes politiques du Maroc, 2002.
[32] - حسن أوريد، الاسلام السياسي في الميزان، مرجع سابق، ص78.
[33] - Gilles Kepel, The linuits of third generation jihad international, New York, Times Ferbraury, 2015.
[34] - حسن اوريد، الاسلام السياسي في الميزان، ص 132.