قد نشأت الديمقراطية كنظام للحكم في تربة المجتمع اليوناني، ومعلوم أنه قد سبقها مخاض اجتماعي وسياسي عسير، أعقب قرونا طويلة من الحكم المستبد الذي كان يستمد فيه الحاكم شرعيته من العصبية أو الدين، ومعلوم أيضا أن الديمقراطية تعني حرفيا حكم الشعب، بحيث تقابل لفظة ديموس معنى الأحرار من أفراد الشعب، وكراتوس تعني الحكم، وذلك بانتخابهم ممثلين لهم. وقد تطورت مدلولات اللفظة مع مرور الزمن وتعاقب العصور، ففي عهد الإمبراطورية الرومانية مثلا كان الشعب ينتخب أعضاء مجلس الشيوخ وقد كانت لهذه الهيئة ــ في فترات عدة ــ صلاحيات كبرى قد تقيض حكم الإمبراطور وتقلص من نفوذه.
ولفهم الديمقراطية الغربية في شكلها الحديث يجب العودة إلى عصر التنوير وأفكار النزعة الإنسانية، ولاسيما الاطلاع على كتاب العقد الاجتماعي وغيره من المؤلفات التي ناقشت الدولة وأشكال الحكم، ثم المرور بالفكر الماركسي وتنظيره للديمقراطية في صيغتها الاشتراكية، ويمكن الوقوف أيضا عند النزعات العنصرية والشمولية التي سبقت الحرب العالمية الثانية. كل هذا الحراك الفكري والسياسي الذي امتد لقرون جعل من الديمقراطية وسيلة للتدبير التشاركي ولا يمكن فهم الديمقراطية خارج إطار الدولة، فالدولة في الغرب لا تتجاوز كونها هيئات ومؤسسات في خدمة المواطن، والمواطن بوعيه يساهم في تقوية هذه المؤسسات، وهذا مما لا يختلف فيه النظام الملكي عن الجمهوري. إن هذه العلاقة التي تربط دولة المؤسسات بمواطنيها هي التي أفرزت مدلولات الديمقراطية الغربية الحديثة، فالديمقراطية لا تتوقف عند صناديق القتراع بل تتجاوزه إلى إشراك المواطن والحرص على تمثيلية فاعلة للأقليات الدينية والعرقية والفكرية.
إن الأشخاص الذين يكلفهم الشعب عبر عملية الاقتراع لتسيير البلد لا يجدون في أنفسهم تميزا عن باقي المواطنين، فتجدهم يحتكون بأفراد الشعب مباشرة ليتعرفوا احتياجاتهم عن قرب، والمواطن لا يصوت على الشخص بقدر ما يمنح صوته لبرنامج الحزب، ولذلك يجد المسؤول نفسه ملزما بتنفيذ وعوده، فتعمل الأحزاب على كسب الأصوات من خلال خدمة الصالح العام...
إن هذا الوجه الذي تبدو عليه الديمقراطية الغربية لم ينزل من السماء، ولم يمنحه الحكام لزرقة عيون شعوبهم، بل جاء نتيجة صراع الشعوب التواقة إلى الحرية، هذا الصراع والجدل خلق نوعا من التعاقد على الحد الأدنى من المسؤولية المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، وهذا الحد الأدنى قد سار في منحنى متعرج، ولكن الطاغي على مسار العملية الديمقراطية كان هو الارتقاء حتى تماهى الحاكم بالمحكوم وامحت الفوارق الاجتماعية في بعض البلدان الديمقراطية خاصة الدول الاسكندنافية التي انعدم منها أو كاد الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي...
وبالعودة إلى المجتمعات العربية الإسلامية، لا بد أولا من الإقرار بأن نظام الدولة العربية الحديثة قد جاء نتيجة الاحتكاك بالمستعمر الغربي وخاصة بعد تفكيك الدولة العثمانية، ولأن واحدة من دوافع الاستعمار المعلنة كانت هي نشر الحضارة وتحضير الشعوب المتخلفة، فقد فرض المستعمر على الدول المستَعمَرة نظام الدولة الحديث هذا، وهذا الأخير يقوم على بنية المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وغيرها، وقد واجهت الشعوب المستضعفة هذا المد القسري لنظام الحكم الأوربي بانقسام بين مؤيد للانفتاح على الحضارة الغربية بكل مقوماتها وبين معارضين غاصوا في الأصولية والمحافظة. هذا من جهة، ولو بحثنا في التراث الإسلامي على ما يمكن أن يكون مقابلا للديمقراطية من جهة أخرى لوجدناه في ما يعرف بالشورى والدليل على هذا الحديث النبوي " وأمرهم شورى بينهم"، ولكن التاريخ الإسلامي لا يحتفظ لنا بنماذج ساهم فيها الشعب في الحكم والتدبير، بل وينعدم حتى أدنى شكل من التشاور بين الناس على اختيار الحاكم، وهذا لا يستثني تنصيب الخلفاء الراشدين أيضا. ولكن المعلوم الثابت هو أن استلام الحكم في النظام الإسلامي كان يتم إما من باب البيعة أو الاستيلاء عليه بقوة السلاح، وعليه لم يُنظَر إلى الشعب العربي المسلم في ظل الأنظمة الحاكمة على مدار الأربعة عشر قرنا المنصرمة إلا على كونه رعية لا أكثر، والتشاور لا يكون إلا بين فئتي علماء الدين أحيانا وأفراد الأسرة الحاكمة غالبا.
أوردت هذا كله لأن جل الأنظمة العربية تنهل ــ حسب منطوق دساتيرهاــ من معين الدين والمواثيق الدولية، ولكن الديمقراطية عندنا لا تتجاوز ـ على المستوى العملي ـ مجموعة من العمليات الشكلية التي يغلب على غايتها الطابع التجميلي لا أكثر، حيث تقتصر العملية الديمقراطية على الانتخابات فقط، والتي طالما يتم التلاعب بنتائجها، وكذلك تبقى المجالس والهيئات المنتخبة بدون عمل فعلي، اللهم تزكية القرارات الصادرة من قبة الحاكم الفعلي، وهذا الحاكم في كل الأنظمة العربية لا يخرج عن أوجه ثلاثة: إما ملكا مستبدا، أو رئيسا خالدا، أو عسكريا متسلطا، لكنهم رغم اختلافهم في الشكل الظاهر يشتركون جميعا في احتقار شعوبهم والخضوع للقوى الإمبريالية الغربية، وهكذا لا تعمل الديمقراطية إجرائيا إلا لتزيين واجهة الدولة للحصول على قروض دولية في الغالب، وهكذا تفقد الديمقراطية جوهرها عند الأنظمة العربية التقليدية، إما المتسلطة كالسعودية والدول التي يحكمها العسكر، أو الهجينة كالمغرب، أو المائعة كالأنظمة الجمهورية.
نأتي الآن إلى تشخيص علاقة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بالديمقراطية، وسنأخذ ثلاثة أحزاب كنماذج للدراسة و هي العدالة والتنمية المغربي والنهضة التونسي والإخوان المسلمين بمصر، وهذه الأحزاب قد خاضت التجربة بين سياقين مختلفين، سياق ما قبل الربيع العربي حيث عاشت على هامش الحياة السياسية، وقد عانت من سنوات الإقصاء الممنهج من قبل الأنظمة التي كانت تزور الانتخابات، وقد حاولت بعض هذه الأحزاب الفصل بين جناحي الدعوة والممارسة السياسية، أما الدعوة الدينية فقد خصصت لها قنوات استطاعت بها التقرب من الشعب وكسب تعاطفه، وهذه القنوات ظهرت جليا في انخراط عناصر من هذه الأحزاب في العمل الخيري والتطوعي، وربما عوضت أدوار الدولة في مناطق معينة.
والحق أن هذا كله قد أعطى أكله، فقد جنت الأحزاب الإسلامية ثمرات نبذها من قبل الحاكم وانخراطها في حركات الجماهير، خاصة بعد اندلاع شرارة الربيع العربي. ولأن الشعب كان يناصب الحاكم العداء المضمر، فقد وجد عزاءه في هذه الأحزاب التي لم تتوانى في جني قطاف حراك الشارع، ولأن الجماهير كانت تطالب بالحرية والديمقراطية فقد رأت هذه الأحزاب أنه ليس من مصلحتها الانقضاض على السلطة بالقوة، فذهبت مطمئنة إلى صناديق الاقتراع، ولأن الأحزاب الأخرى (اليسار الغارق في صراعاته الداخلية، والأحزاب الليبرالية التي تحالفت مع الطغمة الحاكمة)كانت أبعد من أن تتواصل مع الشارع، ولأنها تفتقد منهجية استمالة الجماهير، فقد كسبت الأحزاب الإسلامية الرهان وانتقلت على بساط الديمقراطية من درك المغضوب عليهم إلى سدة الحكم.
نعود إلى نقطة مهمة لاستكمال هذا العرض، إن الأحزاب الإسلامية تستند إلى المرجعية الدينية السلفية، ولكنها تدعي الاعتدال، ونحن لا نستطيع التمييز بين التوجهين إلا إن تواجدت الأسباب، إذ لا يمكن أن نقول على الوضيع أنه متواضع، ولأن الأحزاب الإسلامية كانت ولا تزال نسبيا مفتقدة للسلطة والسلاح فلا يمكن الحكم عليها بأنها معتدلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن الديمقراطية في مدلولها "حكم الشعب نفسه بنفسه" تتناقض مع منطلق الحكم في الإسلام:"الحكم لله" التي تعد حدا من حدود الله والتي لا يجوز تجاوزها، وهنا نقف حيارى: هل سيسمح الإسلاميون لغيرهم من الأقليات الإيديولوجية والطائفية بالمشاركة في الحكم بعد فوزهم؟ أم إنهم سيعوضون ديكتاتورية البورجوازية وخدام المستعمر بديكتاتورية الحزب الإسلامي؟
الحق أن الجواب عن هذا السؤال قد وضع الأحزاب على محك التطبيق الفعلي للديمقراطية وأظهر بجلاء قصور الحزب الإسلامي على أن يشكل بديلا فعليا، ما غن فاز إسلاميو مصر بواحد وخمسين في المائة حتى انهالوا على الشعب والمعارضة، وعوض إصلاح حال الشعب المادية الاجتماعية ومعالجة أسباب ثورة الجماهير، شرعوا في تغيير المؤسسات الدستورية ومسوا دون استشارة أحد مؤسسة القضاء، الأمر الذي أظهر أطماعهم وأفقد الشعب الثقة بهم وبنواياهم، فخرجت الجماهير إلى الشارع وعوض أن يدخل الحزب الحاكم مع الغاضبين من سياسته في حوار بناء حاربهم بعصاباته التي كان يواجه بها الطلبة اليساريين في الجامعة، وكأنه ليس سوى فصيل يحارب فصائل منافسة، الأمر الذي جعل الشعب ينادي بتدخل الجيش، وربما قد استوعب حزب الغنوشي الدرس في حينه فسارع إلى تخفيف وطأة حزبه، ولأن الشعب التونسي قد تربى أياما في ظل الانفتاح والعلمانية فإنه لم يخسر ثورته كليا.
بقي أمامي الآن حزب العدالة والتنمية المغربي، هذا الحزب الذي ولد من رحم القصر، ولا يزال العارفون بالشأن السياسي المغربي يذكرون أن الخطيب صديق البصري وخادم القصر قد احتضن تلك العناصر التي خًلِقَت لضرب اليسار الجذري من داخل الجامعة المغربية، فأسس بها حزبا وجناحا دعويا لمَّ به شتات كل إسلامي شارد. هذا الحزب الإسلامي (رغم أن البعض ممن عرفته منهم يرفضون صفة إسلامي) وصل إلى سدة رئاسة الحكومة التي خرجت من رحم الربيع العربي، لم يستطع هو الآخر سلك درب الديمقراطية الحديثة، وبمجرد فوزه بدأ أمينه العام بنفخ أوداجه أمام كل معارض، متخذا من عدد مقاعد حزبه في البرلمان سلاحه الفتاك، وبعد خمس سنوات عجاف عاد الحزب إلى قواعده الدعوية وجيوشه الإلكترونية التي تضم أزيد من مليون ونص منخرط، بهذا العدد وحده قد غزا صناديق الاقتراع خاصة في ظل مقاطعة الانتخابات الواسعة، وقد حاز الحزب على أغلبية جديدة. ولكن العقلية الإسلاموية التي لا ترى من الديمقراطية إلا صناديق الاقتراع التي تؤمن لها الطريق لتشكيل ديكتاتورية جديدة/قديمة لم تمكنه من تشكيل حكومة على مقاسه.
إن معالجة هذا الموضوع المتشعب قد تطلبت فتح أقواسا عدة، ولكن الواضح أن الأحزاب الإسلامية تقوم في عمقها على أساس ديكتاتوري، ولم تر في الديمقراطية إلا كوسيلة لا غاية في حد ذاتها، غاية للوصول إلى الحكم وتأسيس ديكتاتورية الأغلبية مرحليا على الأقل في أفق تعديل المؤسسات الدستورية التي ستسمح لهم بممارسة الديكتاتورية بكل أريحية، وهذا هو النهج الذي يسير عليه حزب العدالة والتنمية التركي، الذي دخل الحكم من باب الانتخابات وشرع في تصفية خصومه السياسيين والعسكريين ونظف الصحافة من الأصوات التي لا تطربه، وها نحن نراقبه وهو يغير الدستور ليستمر أوردغان في الحكم المطلق.