تقديم
يقارب موران في هذا المقال موضوعا راهنا تمثل في التحول الكبير الذي تشهده الحياة السياسية في الغرب، حيث انتقلت علاقة المواطن بالشأن السياسي من الاهتمام بالقضايا الكبرى والأفكار والبرامج إلى الانشغال بالأمور الشخصية للفاعلين السياسيين، وأضحت الممارسة السياسية فرجة وحلبة صراع بين الخصوم السياسيين، وأصبح المواطن مجرد متفرج يتطلع إلى الفائز. ولكي تكون هذه الفرجة أكثر تشويقا، فإن كل الضربات بين هؤلاء المتنافسين تصبح مباحة، تقحم فيها حياتهم الشخصية، وفضائحهم الأخلاقية وماضيهم الشخصي.
وقد انتقلت عدوى هذا الابتذال إلينا، فأصبحنا نعيش على وقع الخصومات الشخصية التي لا صلة لها بحرمة تدبير الشأن العام . من هنا تأتي راهنية هذا المقال وفائدته بالنسبة إلى مجتمعنا، لأنه مقال يعالج ظاهرة سلبية تزداد استفحالا، لكنه يعالجها من منظور معرفي، ومن زاوية تحليل سوسيولوجي هادئ ينأى بنفسه عن السجال السياسي العابر. ( المترجم)
نص إدغار موران
إن للثقافة الجماهيرية، شأن كل الثقافات، آلهتها وأبطالها الذين سنسميهم الأولمبيين. يصلح هؤلاء الأولمبيون كنماذج من جهة، ويمكنهم، من جهة أخرى، أن يشكلوا l موضوعا للإسقاط (تنعكس عليه) الأحلام والتطلعات الجماهيرية.
إننا نشهد، منذ ثلاثين سنة، ظاهرة هامة تتمثل في تطور عالم الأولمبيين هذا، وفي مقدمتهم نجد طبعا نجوم السينما. يرتكز هذا العالم على شخصيات مزدوجة الجوهر والمادة. من جهة أولى ، يتوفر الأولمبيون على خصال مجدتها السينما: الجمال، الحضور، الخ؛ كما يتوفرون على حياة خارقة حافلة بالمهرجانات والغراميات العديدة والمكثفة. وهي تجارب لا يتاح مثلها للعامة. ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء النجوم يعرضون علينا، في أغلب الأحيان وبشكل متزايد، أثناء حياتهم اليومية؛ يعرضون علينا في بيوتهم، يتعرضون للاغتياب، وتنشر تفاصيل حياتهم الخاصة. قبل الثلاثينات، كان من الصعب أن نتصور أن نجما سينمائيا يمكن أن ينجب طفلا، لأن هذا الفعل يعني تورطا مشينا في عالم مادي بيولوجي غريب عن جوهر النجم السينمائي آنذاك، على الأقل من الزاوية الأسطورية التي صنعت له. أما في الوقت الراهن، فإن إنجاب طفل لم يعد فقط أمرا ممكنا، بل صار حدثا يستقبل بحماس جماعي يشبه الهذيان، كما حدث مع طفل جينا لولوبريجيدا Gina Lollobrigida أو طفل بريجيت باردوBrigitte Bardot .
هذه الشخصيات الشعبية الجديدة التي تقدمها لنا وسائل التواصل الجماهيري تختلف عن الأبطال القدماء. لقد بينت دراسة ميدانية تتعلق بالشخصيات النجومية، خلال سنة 1901 وخلال سنتي 1941 و 1942، نشرت بالدورية الأمريكية ساتورداي إفنينغ بوستSaturday Evening Post ، أن أغلب النجوم خلال 1901 كانوا رجال أعمال، مقاولين أو رجال سياسة، بينما أصبحنا نشهد اليوم تدفقا لمن يسميهم الباحث "المرفهون"، النجوم ، الأبطال (الرياضيون)، المستكشفون، فهؤلاء هم من أصبح يحتل الحيز الأكبر (إعلاميا).
ويكفي أن نتصفح كل أسبوع مجلة باري- ماتش Paris-Match لندرك أن الشخصيات المهيمنة ليــست أبـــطال المقاولة أو الشغل، ولكن أبطال التسلية. وأقتبس هنا ملاحظة جيدة لورايت ميللس Wright Mills: إن أبطال التسلية هؤلاء يمثلون التطلعات العميقة لثقافة الجماهير، تطلعاتهم نحو السعادة، ونحو تفتح الشخصية من خلال الأسفار والغراميات، الخ. أبطال التسلية هؤلاء هم أبطال الحياة الخاصة أساسا، وثقافة الجماهير تتعلق بالحياة الخاصة قبل كل شيء. وحينما تتناول السينما موضوعا سياسيا، وليكن حول نابليون أو حول الثورة الفرنسية مثلا، فإنها تضطر إلى إقحام موضوع يتعلق بالحياة الخاصة يحظى بالأهمية القصوى: كأن يكون حب نابليون لماري واليفسكا Marie Walevska مثلا.
المسألة التي تهمنا هنا هي طبعا مسألة انعكاس هذه الثقافة المهتمة بالحياة الشخصية على الصور التقليدية للسياسة.
في العمق، تجمع السلطة في ذاتها بين تيمتين كبيرتين: التيمة الأبوية والتيمة الأمومية. تعبر التيمة الأبوية عن نفسها من خلال السلطة الصارمة، ولكن العادلة، التي تمارسها الدولة صاحبة الأوامر، بينما تعبر التيمة الأمومية عن نفسها من خلال صورة الوطن الأم. تهيمن التيمة الأبوية في الصورة التقليدية لولي الأمر (الأب)، وأحيانا الأخ الأكبر أو العم ( كان بيريكليس Périclès صديقا للمدينة، مستشارا ونوعا من العم الذي يتمتع بسلطة مؤسسية)؛ في التيمة الأبوية، يتمتع ولي الأمر بحكمة كبيرة وبسلطة عادلة، ويكن غالبا حبا عميقا للشعب أو الأمة. هناك طبعا أنواع مختلفة من أولي الأمر: ولي الأمر ممثل الأمة الملهم، وهو نوع من الوسيط المعبر عن العبقرية الوطنية كهؤلاء القادة ذوي المزاج المرضي الذين يمثل هيتلر نموذجهم الأقصى؛ ويمثل ستالين نموذجا آخر لهم، هو نموذج القائد العبقري، المعبر بأفعاله عن عبقرية الماركسية اللينينية المركزة في ذهنه.
يمكننا أن نتساءل إن كانت هذه الثقافة الجماهيرية تدخل سمات جديدة على الحياة السياسية عن طريق تعديل هذه السيكولوجية التقليدية أم أنها تنضاف إليها. أعتقد أن ما يميز ثقافة الجماهير هو أنها لاسياسية apolitique . لا أقصد بذلك أنها مجردة من أي محتوى سياسي، وإنما أقصد أنها تتموضع في عالم خارج السياسة. فحينما تحدثنا الثقافة الجماهيرية عن زيارة خروتشوف لفرنسا مثلا، فإن ما تعرضه علينا أولا وقبل كل شيء هو فرجة كبرى. هذا الجانب المسرحي الذي يتحدث عنه دوفيرجي Duverger تؤججه الثقافة الجماهيرية، ويعرض علينا خروتشوف كشخص جاءنا من أقصى الشمال ليقدم لنا فرجته وعرضه حول نوبات غضبه، وحول حبه للذرة ، الخ.
إن استثمار التيمات السياسية من طرف الثقافة الجماهيرية لا يشبه في شيء خلق النجوم عن طريق الدعاية السياسية كما تمارس من خلال توزيع المناشير أو الصور الخ. إنها تأتي في العمق من مصدرين عميقين، بل من قطبين متعارضين، رغم ما بينهما من تقاطعات. يمكن أن نلمس هذين المظهرين في الجانب الفيزيولوجي لدوغول ضمن الثقافة الجماهيرية: فهو تارة مظهر النجم، المشابه لمظهر خروتشوف الذي عرض علينا أثناء زيارته لفرنسا، مع بعض الاختلافات طبعا، وتارة أخرى هو مظهر رجل الدولة التقليدي حين يقدم نفسه بالزي العسكري على شاشة التلفزة أو أثناء الندوات الصحفية . ومنذ روزفلت، شكل رؤساء الولايات المتحدة سلالة للابتسامة. إن وراثة (الحكم) لا تدخل طبعا ضمن علاقة النسب التقليدية، ولكن ضمن ما يمكن أن نسميه سلالة الابتسامة. إننا نتدرج من ابتسامة روزفلت إلى ابتسامة كينيدي مرورا بابتسامة إيزنهاور. لا يتعلق الأمر بنفس الابتسامات بالضبط، لكن لها جميعا سمة مشتركة عميقة: الحفاوة والمودة. إن دوغول لا يستخدم الحفاوة، وإنما يستخدم مصادر قوة أخرى، بينما يلعب رؤساء أمريكا ورقة المودة، مثلما يحرص البطل السينمائي على أن يكون ودودا، محبا ومحبوبا. ندرك هنا ما جاءت به الثقافة الجماهيرية والتلفزة: نوع من المسرح أو المشهد (المسرحي) حيث يواجه البطل جماهير التلفزة. ما جاءت به الثقافة الجماهيرية والتلفزة هو سمات المودة والألفة، هو الأحاديث المألوفة والهادئة، هو سفور الحياة الخاصة، الحياة العائلية التي تحولت إلى حياة عامة. بل إن عنصر الألفة هذا يمكن أحيانا أن يغير الإطار الخاص بالحياة السياسية. فخلال زيارة الرئيس كينيدي، ذكــرت مــجلــــــــة لوكانار أونشيني Le Canard Enchainé رد فعل امرأة بالمترو وهي ترى صورة الرئيس وزوجته إذ قالت "لقد صحبت معها زوجها إذن!". ففي لحظة، أصبح للزوجة دور أهم من الزوج. ونفس الأمر نلاحظه إذا حللنا الصحافة الفرنسية خلال زيارة خروتشوف، حيث نجد حضورا لموضوع نينا Nina التي خصصت لها فرانس سوارFrance-Soir عنوانا عريضا. وتم الحديث عن نينا وهي تزور أروقة لافاييت. كذلك حـكي لنا عن الحب الكبير بين خروتشوف ونينا، الخ. إضافة إلى ذلك، فحالة خروتشوف هامة جدا. حين يكون خروتشوف بالاتحاد السوفياتي، ومع وسائل الإعلام الجماهيرية الضخمة التي تتوفر عليها السلطة السياسية، لا يتم تقديمه كنجم. ليس خروتشوف بالاتحاد السوفياتي إلا الرجل الذي يقيم بالكرملين ويسير من هناك الحزب الشيوعي. ومن هنا تأتي دون شك صورته كقائد شيوعي، وهي صورة ربما ترتبط بالصراعات الخفية خلف أسوار الكرملين. أما خلال زيارتيه للولايات المتحدة ولفرنسا، فقد تم تحويله فورا إلى نجم من طرف الصحافة، ليس كبريات الصحف اللاسياسية فقط ، ولكن أيضا من طرف الصحافة (السياسية) المعادية للشيوعية. إن الكيفية التي عرضت بها الأحداث وحدها كفيلة بأن تظهر لنا أن منابر إعلامية مثل لورورL’aurore أو لوفيغاروLe Figaro أو لوباريزيان ليبيريLe Parisien Libéré قد انساقت في نفس الاتجاه. بل إن إحدى الدراسات قد بينت أن الجريدة التي كانت فيها صورة خروتشوف أقل شخصنة، باستثناء لوموندLe Monde ، هي جريدة لومانيتيL’Humanité . يمكن تفسير هذا بطريقتين: الفرضية الأولى هي أن الحزب الشيوعي الفرنسي لا يؤيد خروتشوف. والفرضية الثانية هي أن جريدة لومانيتي، التي لم تتعود على استخدام تقنيات التواصل الجماهيرية، قد وجدت نفسها شبه عاجزة عن استخدام هذه التقنيات لفائدة الزعيم السوفياتي. وإذا أخذنا قائمة من الشخصيات السياسية، سنجد نماذج شديدة التنوع. سنجد نماذج تكاد تكون شخصيات نجومية خالصة تكف، في الحالات القصوى عن أن تعتبر شخصيات سياسية، ولا ينظر إليها إلا كأبطال بالنسبة للثقافة الجماهيرية. ولدينا في الصحافة الفرنسية شاه إيران كمثال. إنه لا يقدم البتة كشخصية سياسية، وإنما كملك يعيش حكاية عاهل يبحث عن زوجة.
وإذا كانت مجلة فرانس ديمانشFrance-Dimanche وأسبوعيات أخرى قد خصصت على مدى اثنين وخمسين أسبوعا ودون توقف، عناوين للثلاثي المكون من الشاه وثريا وفرح ديبا، فذلك لأن هناك عنصرا مربحا جدا في الأخبار اليومية، مادته الحياة الخاصة الشبيهة بمسلسل تلفزيوني، وليس لأن رئيس السياسة الإيرانية يهم، باعتباره كذلك، قراء هذه المجلات بشكل خاص. إننا هنا على تخوم السياسة حيث تبخرت السياسة فعلا أو كادت.
يمكن أن نقول نفس الشيء عن مشاكل بوكينغام Buckingham: فحتى لا يتم الحديث عن مارغريت و طوني، في كبريات الصحف، تدور كل الأخبار المتعلقة بإليزابيت حول واقعة درامية: هل يحبها فيليب حقا أم لا؟ وإذا كان يحبها حقا، فما سبب أسفاره المستمرة حول العالم؟ من المؤكد أنه يسهل استبعاد كل محتوى سياسي حين يتعلق الأمر بشخصيات تمثيلية أكثر منها تنفيذية، كما هو الحال هنا. فإليزابيت انجلترا تستحضر هنا كممثلة للملكية، وليس كشخصية تمارس السلطة.
ولكن الشخصيات السياسية التقليدية لا يتم تحويلها إلى نجوم إلا بشكل جزئي: إن ماكميلانMacmillan بالتأكيد رجل مهذب تقليدي جدا؛ لكنه أيضا ماك الرائع، كما يتم تصويره في الرسوم الكاريكاتورية؛ إنه السوبرمان الصغير الذي يشبه بطل سلسلة سوبرمان بوشSuperman-Poche ؛ إن مظهره الخارجي لا يوحي بأي شيء، ولكن انظروا كيف يستطيع في الواقع أن يتدبر أمره مع خروتشوف.
هل هناك منافسة بين الأولمبيين الجدد، النجوم، من جهة، والزعماء السياسيين التقليديين من جهة أخرى؟ بعبارة أخرى، هل تضاءل الاهتمام بالشخصيات السياسية لصالح هؤلاء الأبطال الجماهيريين الجدد؟ في الواقع، لا أعتقد أن طرح المشكل يجب أن يتم بهذا الشكل، وإنما يجب أن نعود إلى مسألة أكثر عمقا، وهي أن نعرف إن كان الاهتمام بالحياة الخاصة يتزايد على حساب الاهتمام بالحياة العامة، أن نعرف إن كانت اهتمامات جماهير (يتزايد عددها باستمرار) تركز على المسائل الشخصية على حساب القضايا السياسية.
هناك مظهر آخر لنفس هذا المشكل، وهو إضفاء النجومية على الحياة السياسية نفسها. والمثال الأكثر إثارة وأهمية هو بالطبع سباق الرئاسة بالولايات المتحدة الذي يقدم نفسه كفرجة كبرى، ولكن كفرجة على المتفرج أن يتخذ خلالها قرارا، وأن يدلي بصوت.
من الواضح أن الانتخابات تنزع في هذه الحالة، في جزء كبير منها، إلى أن تصبح تابعة لمظاهر عرضية وشكلية يراد تكريسها. إنها تسير في اتجاه إضفاء النجومية على الشخص، بحيث إذا افتقد البطل للطابع الودي، أو للابتسامة المحبوبة، فإن حظوظ انتخابه تصبح قليلة- وهو أمر لا يفسد قواعد اللعبة إلى حد كبير، ما دامت هناك مدارس تعلم هؤلاء كيف يصبحون ودودين، ذوي ابتسامة محبوبة. ومع ذلك، يبدو أن هذه المظاهر الثانوية تفسد بشكل ما السياسة من الداخل.
غير أن مسرحة الحياة السياسية التي تفتح ساحة تلفزية هائلة على الصعيد الوطني، وحتى إضفاء النجومية نفسه قد يعتبران حيلة يمارسها العقل السياسي من أجل جذب المتفرج، الإنسان الذي يبحث عن التسلية، وتوجيه اهتمامه نحو السياسة. ويمكن في هذا الصدد أن نعيد طرح السؤال حول هؤلاء المسيرين الكبار، هؤلاء التقنيين الكبار، وهؤلاء المديرين الذين يسير قسم متزايد من الحياة السياسية نحو التمركز بين أيديهم. حتى الآن، ظل صانعو القرار التقنيون من نوع جان مونيه Jean Monnet مثلا، يعملون في الخفاء نسبيا، ولم تكن الأضواء تسلط عليهم لا من طرف السياسة بحصر المعنى، ولا من طرف الثقافة الجماهيرية. ربما يحدث هذا مستقبلا. فقد شهدنا نجومية جزئية للوي أرماند Louis Armand، من خلال تيمات متنوعة، غاية في الأهمية، ذات صلة بسيكولوجية التقني الحديث الكبير، المقاول الجديد، الذي يعمل في إطار جهاز الدولة أو ضمن المقاولات المؤممة. مهما يكن، فإننا هنا أمام تيمة جديدة، وإن كانت ذات صلة جزئيا بالتيمة القديمة المتعلقة برجل الأعمال خلال القرن التاسع عشر. ولنأخذ مثالا أكثر شعبية يتم الحديث عنه كثيرا بإيطاليا، وهو مثال ماطيي Mattéi. إنها صورة الشخص المتسم بالدينامية، ذي الطبع القوي، صاحب الحس الاستباقي، وهو في نفس الوقت صاحب الثقافة العلمية الواسعة، والطبيعة الإنسانية العميقة، والقدرة على تكييف الأرقام مع ظروف الإنسان. بهذا الشكل، سنشهد ربما تشكل صورة – ولا أقول أسطورة، رغم أن كلمة أسطورة مناسبة هنا لكن بمعنى غير قدحي- سنشهد تشكل صورة التقني الكبير الذي يتحكم في واقع السلطة؛ سيكون هذا طبعا أمرا مهما، لأن السلطات تنزع إلى التمركز بشكل متزايد بين أيدي المديرين.
يجب أيضا أن نميز بين الشخصنة personnalisation و التشخيص personnification . لقد اتجهنا باهتمامنا نحو مشكلات الشخصنة أكثر من أي شيء آخر. إن مشكل التشخيص يتعلق بالطريقة التي يتمثل بها السلطة أولئك الخاضعون لها: المواطنون، الجماهير. إنه مشكل التمثل الجماعي. تتجلى الطريقة الأولى لهذا التمثل في تشخيص كائنات عقلية، وفي منح روح وعقل وقلب وإرادة لكيانات قد تكون هي الدولة أو الأمة أو الوطن، وهذه ليست أشخاصا طبعا. هكذا نقول: "إن فرنسا تفرض الطاعة على الجنود". وربما كانت الحالة القصوى هي حالة الحزب الشيوعي حيث نقول عادة: "يطلب منك الحزب أن تفعل كذا، لقد قرر الحزب أن يفعل كذا". يفهم الحزب هنا ككائن يتمتع بالذكاء والقدرة على التمييز وبالإرادة لاتخاذ القرار. هنا نصادف من جديد الصورة الأبوية أو الأمومية داخل هذه الكيانات الكبرى المتمثلة في السلطة وفي أجهزة الدولة. هناك طريقة ثانية تشخصن بها السيكولوجية الجماعية أفعالا وقرارات سأسميها "لاشخصية- شخصية" « impersonnelles-personnelles »، لأننا نتواجد ضمن مجال السلطة حيث يتوفر كل شيء على مظهر مزدوج. إن ولي الأمر يتخذ قرارات شخصية باسم إكراهات غير شخصية تتعلق بالمصلحة العامة، أو يقدم قرارا شخصيا على أنه إكراه غير شخصي. ونجد ميكانيزما مشابها في حالة كبش الفداء حيث تحمل المسؤولية بعديا لشخص تلقى عليه تبعات الميكانيزمات اللاشخصية للتاريخ: نجد أمثلة لذلك في المحاكمات النازية، في قضية روزنبرغ Rosenberg وفي شعارات مثل "خروتشوف سفاح". باختصار، يبدو أن عملية الشخصنة ترتبط برد فعل سيكولوجي بسيط وعميق في نفس الوقت، وهذا موضوع يستحق ربما انتباه ندوتنا.
أريد الآن أن أختم بالحديث عن مشاكل أكثر عمومية، تتعلق بــالشخصنة. يجب ألا ننسى حقيقة معروفة، وهي أن الاستنجاد بمنقذين، وبشخصيات قوية يحدث في فترات الأزمات الكـبرى الاجتماعية أو السياسية. وقد سبق أن ذكرنا بمشكلات ثلاث بلدان أوروبية: انجلترا، ألمانيا والولايات المتحدة. إلا أن عملية شخصنة السلطة لا يمكن فهمها بالاقتصار على دراسة سوسيولوجية خالصة للعلاقات بين المؤسسات وطريقة اشتغالها. ففي هذه الحالات الثلاث ترتبط عملية شخصنة السلطة بأزمة شاملة للأمة. إن الشخصنة المفرطة لتشورتشل مرتبطة بأزمة 1940، والشخصنة المفرطة لأديناور Adenauer ترجع إلى الانتقال من ألمانيا العدم إلى ألمانيا الخارقة؛ ومع إيزنهاور لدينا استنجاد بمنتصر كبير حين كان على الولايات المتحدة أن تواجه مشكلات بالغة الصعوبة. في الحالات الثلاث، نتعامل في العمق مع منتصرين كبار، وأكثرهم أهمية هو أديناور الذي اختار طريق الهزيمة ليحقق النصر.
كذلك ، إذا أردنا أن ندرس عملية الشخصنة في شكلها الأكثر أهمية، يجب أن ننظر إليها داخل سياق أزمة تاريخية يتحمل وزرها المجتمع بكامله. إذا نظرنا الآن إلى مستقبل المجتمعات الغربية، يمكن أن نجازف بصياغة التكهنات التالية: إذا كان مجرى أحداث هذه المجتمعات هادئا، وإذا خفت حدة التهديدات الخارجية، ستظهر حينئذ نزعة لتجريد السلطة السياسية التقليدية من شخصنتها؛ هذا التجريد من الشخصنة dépersonnalisation سيشتغل طبعا لفائدة "إضفاء النجومية" vedettisation الذي سيصبح مجرد قناع، مجرد مظهر، سينتقل خلفه واقع السلطة السياسية تدريجيا إلى أيدي "المديرين"، رجال القرار التقني غير المشخصن الذين سيعملون على ضمان نمو سنوي للدخل القومي يصل إلى 4.5%. إن القضاء على عوامل التوتر سيمكننا إذن من أن نتنبأ للبلدان الغربية بالتطور في اتجاه تجريد السلطة من طابعها المشخصن . ولكن هذه الفرضية هي الأقل احتمالا دون شك. فالأرجح أن المجتمعات الغربية ستعرف الآن توترات كبرى ذات منابع خارجية أو داخلية، وبالتالي ستشهد الندوات حول الشخصنة أياما زاهية.
Edgard Morin, La vedettisation de la politique (in sociologie, Fayard, 1994, pp. 315-323)