الإصلاحات الأخيرة في نظام التعليم عمّقت التباينات والانقسام فيما بين أطر هيأة التدريس، والذين توحدهم نفس الأزمة في صلة بتحولات مهام مهنة الأستاذ: أزمة المعنى، وأزمة الهوية المهنية .
شكلت مهنة التعليم في العهود السابقة مرادفا للترقي الاجتماعي، غير أنها لم تعد تُغري، وتراجعت جاذبيتها، حتى أن وزارة التربية لم تستطع تغطية عدد المناصب التي عرضتها في آخر مباريات ولوج التعليم(كانت بعدد 4000منصب) أمام نقص عدد المترشحين الذين تقدموا للمباراة.
لطالما كانت مهنة التعليم تصقلها هوية قوية متماسكة، ويسندها معنى إيتيقي، غير أنها اليوم، ومع تنوع الوضعيات التي يوجد عليها أطر التدريس، تعيش تشظيا بتقاطب بارز.
فما صنف التمايزات الجديدة التي تعرفها مهنة التعليم؟ وكيف يمكن تجاوزها ؟.
توجد فعلا خلف الوحدة الظاهرة لمهنة التعليم، وصِفَة الأستاذية فئات مختلفة من الموظفين، وبتباينات واضحة : المبرزون، حاملو الشهادات، أساتذة الثانويات المسار المهني، أساتذة المدارس الابتدائية.
وكان، بالتالي، ضروريا انتظار فترة الستينات من القرن العشرين لتترسخ تلك التمايزات، بينما كانت في السابق تظهر فيما بين أستاذ مبرّز بالثانوي، وأستاذ الابتدائي، وبالمدرسة الجماعاتية، لدرجة أن تجميعهم داخل نفس الفئة يستتبع سوسيولوجيا اختلافات ضئيلة .
إن صورة أستاذ مَدرَسَة بأصول متواضعة، يقطن بمقر المؤسسة، وله انخراط في الحياة السياسية بالمجتمع المحلي الصغير، هي تلك الصفات التي اشتهرت بها مهنة الأستاذ إبّان العهود السابقة.
وانطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين، أدى تزايد الطلب الاجتماعي على التعليم وكثافة المجتمع المدرسي، إلى زعزعة صورة ومهنة الأستاذ، وتسريع التقارب ما بين الفئات المختلفة التي تكون عنصرها البشري، تَقارُبُ بداياته يعود إلى القرن19م.
إن تغيير بنيات المدارس، التي تقود إلى مؤسسات الإعدادي، وظهور فئة جديدة من حاملي الشهادات منذ 1972،مختلفة عن فئة المبرزين، وتمايزاتُ تلك الوضعية لم تقف عند طبيعة المباريات فقط، ولكنها شملت أيضا مسارات التكوين البيداغوجي، وطرائقه، ومدة العمل، فكانت تلك هي المعالم البارزة لحركة التقارب .
وضعية أساتذة المدارس، التي جاء إحداثها بشكل تدريجي منذ 1990 بدلا عن وضعية المعلمين المكونين، أحدثت تغييرا شمِل مدة سنوات الدراسة المطلوبة، والوضعية المادية، والشبكة الاستدلالية للراتب، ومنذ سنة 2000 أصبح كافة ممتهني التعليم يحصلون على الماستر، وكان إقرار الإطار المرجعي للكفايات بالنسبة لجميع المدرسين منذ 2013 بمثابة نهاية لمسار التقارب .
لا ينبغي لعناصر التلاقي تلك، أن تكون سببا في إغفال حقيقة قائمة: إن كل فئة مهنية تتمتع بتاريخ خاص بها، هو ما يبرر اختلافات، وتراتبيات، تعكسها هيكلة الفئات داخل نفس القطاع.
وحتى على الرغم من اعتماد مجزوءات تكوين مشتركة مستعرضة، فإن نوعا من التمايز يظل قائما.
وعملت الإصلاحات المتوالية لما بعد 1990 على رسم تمايزات وصور نمطية جديدة ما بين مكونات مهنة الأستاذ: لقد تم تدقيق الأدوار، والمهام، والكفايات المنتظرة، تحت هاجس التكيف مع تنوع الفئات والمستويات. وللمثال، حدّد الإطار المرجعي لسنة 2013 كفايات المدرسين تبعا لانتسابهم وسياق ممارسة عملهم: الأساتذة في مدارس الابتدائي عليهم تحويل مهاراتهم المتعددة لتحقيق التعلمات الأساس، بينما في الإعدادي فإن الأمر يتعلق بمصاحبة التلاميذ في مسارهم التعليمي نحو تخصص يختارونه نهاية السلك، وفي الثانوي العام والتقني يكون المنتظر من الأستاذ هو إعداد التلاميذ لمرحلة التعليم العالي ومتطلباته العلمية.
وفي نفس الوقت، أفضت لا مركزية السياسات التعليمية وتطوير العمل بمشاريع المؤسسات إلى تسريع الحاجة للتكيف في المهنة والممارسة مع صنف التلاميذ ومستوياتهم .
هكذا صارت التباينات أكثر وضوحا ما بين أطر تنتسب لنفس المهنة، وتتجلى في العمل نظريا وفعليا.
يفسر هذا بالفوارق في الأجور على الرغم من تشابه الشبكات الاستدلالية ما بين الأساتذة بغض النظر عن سلك التعليم المعني: إنهم لا يتقاضون نفس الأجرة (أقل من 2379 أورو بالنسبة لأستاذ مدرسة مقابل 2656 لأستاذ بشهادة ).
كغيرهم من المنتمين للوظيفة العمومية، وبشكل واسع، يمر أطر التدريس في مجموعهم بتحول فعلي في المهنة .
وقد صار عمل الأستاذ، مع الانتظارات القوية المطلوبة عند الإنجاز، تعززها نتائج التقويمات الدولية، أكثر معيارية. يأخذ هذا التحول شكله المادي مثلا من خلال المقررات والبرامج التي ازدادت تدقيقا، أو عبر الطلب المتزايد في التطوير البيداغوجي وطرائقه .
وللأساتذة، أكثر من ذلك، أن يتقدموا بجرد حساب حول الكيفية التي يستعملون بها ساعات العمل وزمنه سواء داخل الفصول أو خارجها .
ضمن سياق عام، شعاره" التدبير العمومي الجديد" صار توصيف الانتظارات وتدقيقها بناء على موارد مالية وميزانيات لها إكراهاتها.
لم يعد الأساتذة يكتفون بعمل الفصول الدراسية، بل عليهم ربط ذلك بمشروع المؤسسة، وفي إطار ممارسة ذات صلة بالتطوير المهني(المهننة) .
إنه تغيير في البراديغم ترافقه تحولات في الأدوار،والمهام، واستعمال الموارد، والعتاد البيداغوجي، أي أن يصير ممتهن التعليم أستاذا- مرجعا .
وإذا كان بعض المدرسين يستقبلون هذا البراديغم الجديد وما يحمله من تغير في المهنة بنوع من الارتياح، فإن كثيرين منهم يرون في ذلك انزياحا في معنى المهنة ،مهنة غالبا ما يكون اختيارها مبنيا على ما يميزها من أبعاد إنسية، وما لها من نفع اجتماعي، أو لذوقٍ يفضل مادة دراسية محددة .
الفوارق ما بين الانتظارات الجديدة لمهنة التعليم، وشروط العمل، ونوعية تمثّلها والانتماء لها، عناصر من شأنها أن تفسر المخاطر النفسية والاجتماعية التي يتعرض لها الأساتذة أكثر من غيرهم من أطر القطاع العمومي .
عادة ما يمتلك الطلبة الذين يطمحون لولوج مهنة التعليم وعيا بتلك الحدود التي قد تدفع البعض منهم لتغيير الوجهة والبحث عن مهنة غيرها.
وبالنسبة للدولة، فإن الأمر يتعلق بفقدان رصيد خِصبٍ من المترشحين، في الوقت بدا فيه الخصاص من المدرسين موضوعا رئيسيا مع الدخول المدرسي الجديد لموسم الحالي.
*مترجم عن مجلة علوم إنسانية-ع351- ص42-43(2022).
-15يناير2023-