" إن فعل المعرفة ليس مجرد تقبل سلبي لما يرد على الذات العارفة من الخارج بقدر ماهو نشاط مطابق للمبدأ الفاعل النشيط الساري في الكون"[1]
تعرف فلسفة زينون بالرواقية لأنه كان يجتمع مع تلاميذه في الرواق، وكانوا يجعلون من اجتماعهم فرصة للتدرب على محبة الحكمة تجاوزا للقصور الفكري والتقليد نحو حالة الرشد الذهني والإبداع المعرفي.
من المعلوم أن الرواقية تؤسس للمدرسة وتشرع لها بوصفها مؤسسة حاضنة تتبنى عقولا جديدة وتحتفي بالدرس. كما تؤكد على مبدأ الاحتذاء القائم بين الأستاذ والتلميذ وعلى شروط التدرب على الحكمة. ولكنها بوصفها مدرسة عملية توفر للمتعلم فرصة اتخاذ قبلة خاصة به في التفكير وما يلفت النظر في الرواقية هو انبناؤها على فكرة التعاطف الكوني وعلى مبدأ وحدة الوجود. فهي تآخي الموجودات وتدعو إلى الانسجام مع الطبيعة ومع الذات. بما يخدم لقاء الإنسان بالإنسان ويؤسس للتسامح والعيش معا.
علاوة على ذلك تقوم فلسفة الرواق على الراهن والحدثي وعلى الظفر بالحرية ضمن الأحداث. فهي فلسفة زمنية وليس أكثر حاجة منا اليوم إلى الانغراس في الزمن وفي التاريخ. الجميل هو وحده الحسن هكذا تذهب الرواقية، أما السعادة فهي الانخراط في دفق الحدثان وعيا بأنه نظام الكون. فما أحوج إنسان اليوم إلى تربية على هكذا جمالا وهكذا فضيلة. كما تنبهنا الرواقية إلى قيمة الآخر وقيمة الإيثار عند التعامل معه وعلى فضل التعاطف الكوني في تأسيس الأخلاقية الإنسانية بما يحتم ضرورة الاجتماع الانساني ومطلب تحقيق السعادة الجماعية. على هذا النحو تكمن حاجتنا في أن نربي من خلال الحكيم الرواقي في انتمائه إلى الكونية السياسية الكوسموبوليتية "الناس كلهم مواطنو العالم، العالم موطن الإنسان، والإنسان مواطن العالم". هكذا يعلن زينون. فإذا كانت الأعراف والعادات هي قانون البيئات المحلية فإن العقل هو القانون الطبيعي الحقيقي الذي يحكم العالم. فالمواطنة العالمية هي حكم الطبيعة فضلا عن كونها فضيلة أخلاقية وسياسية فإن إن المواطن العالمي مطالب بتأسيس أسرة والقيام بجميع وظائف المواطن: من اعتناء بالسياسة وتدبير شؤون المدينة. وكذا الاعتناء بالسياسة والحلم بتشييد دولة عالمية.
يمكن أن نذكر من الرواقيين: أبيكتات وسينيكا وشيشرون وماركوريل، فقد أكد أبيكتاتEpictete على أن الحرية تتحقق عندما يتمكن المرء من تجاوز السلطة السياسية الظالمة وتشييد السلطة السياسية العادلة. كما تتحقق السعادة عند الرواقية عبر المصالحة مع الذات والتناغم مع الطبيعة مع أبيكتات وشيشرون. لقد قاما بنقد التصورات الأرسطية التي تفرق بين الاختيار والإرادة وأقرا بأن العلامة على الحرية يكمن في التسلح بالإرادة في مواجهة الضغوطات وحول هذا الموضوع يصرح أبيكتات: " أيها الإنسان، انك تمتلك بالطبيعة إرادة لا تعرف العوائق ولا الاكراهات... وإرادتك لا يعترضها أي إكراه ولا عائق ولا مانع... انه حكمك هو الذي يجبرك على التصرف، إن الإرادة هي التي تلزم الإرادة. أيها الإنسان إذا أردت ، أنت حر، إذا أردت كل شيء سيكون حسب إرادتك والتي هي إرادة الله كذلك" كما يضيف في نفس الفكرة: " أنت ذاتك تريد أن تكون حرا وثمة طريق واحد يقودك إلى تحقيق ذلك ألا وهو الاستخفاف بكل ما ليس في متناولك" كالصحة والثروة والشهرة والحظ والمجد وامتلاك السلطة والاكتفاء بتطبيق كل ما يقع تحت يديك والرجوع إلى ذاتك والبحث عن القوة التي تمتلكها من أجل استخدامها واكتشاف القدرة على التحمل والتحلي بالصبر والتحكم في الذات ومواجهة الشدائد والعمل على التخلص من أسر التمثلات والآراء. حرية الإنسان تتجاوز كل سلطة : إذ يقول المستبد أنا السيد، استطيع فعل كل شيء وما الذي تستطيع فعله؟، لكن هل بإمكانك حرماني من حريتي؟... لن تستطيع تكدير صفائي. لا يمكن أن يكدر صفائي أحد سواي. يمكنك أن تهددني بقدر ما تشاء، فأقول لك إنني حر.أنت حر؟ وكيف ذلك؟- إن الألوهية نفسها هي التي حررتني... انك سيد على هيكلي العظمي فخذه. لكن ليست لك أي سلطة على نفسي.".
في نفس الاتجاه يرى شيشرونCiceron أن الحرية هي الانتصار على الضرورة ويبرر ذلك بأن:
- كل شيء يحدث بسبب القدر أي وجود الضرورة
- حركة الأرواح الإرادية الحرة تنفلت من القدر
- كل شيء يحدث بسبب القدر ولكن الرضا يحصل عن الاقتناع والحرية والاختيار مع الأشياء التي تكون في مقدورنا والأشياء التي تخرج من دائرة سلطاننا. تجنب الضرورة مع الاحتفاظ بالقدر بالتفريق بين الأسباب المسبقة والرئيسية والكاملة للأفعال والأسباب القريبة والمساعدة لها.
تبعا لذلك يشبه شيشرون الاختيار الحر بحالة الاسطوانة التي تتلقى دفعا أوليا ولكنها تواصل حركة الدوران بذاتها. زد على ذلك يمكن عرض بعض العتبات النصية التي تظل خالدة رغم مرور قرون على كتابتها من طرف الحكماء الرواقيين في الرسائل التي تبادلوها فيما بينهم يمكن أن نذكر منها التالية:
" كلما كانت هذه الأسباب الكاملة والرئيسية لا تدخل تحت نفوذنا ، كانت الإرادة أيضا خارج نفوذنا"
سينيكا ، رسالة إلى ليسيليوس
" تريد أن تعرف ما هو خطأك الرئيسي؟ أنت لا تعرف كيف تحسب: أنت تضع ما تعطيه أكثر من اللازم وتقليل ما تتلقاه." سينيكا ، رسالة الى ليسيليوس،
" عظيم جدا هو ضعف الروح التي ذهب عقلها!" سينيكا، ثبات الحكيم،.
" الجسد والروح والذكاء. إلى الجسم ، الأحاسيس. إلى الروح ، الميول ؛ إلى الذكاء ، والمبادئ" ماركورال، أفكار بالنسبة إلى نفسي ، الكتاب الثالث ، السادس عشر ،
حسن الختام هي هذه الحكمة الخالدة:" الموت والحياة ، المجد والغموض ، الحزن والسرور ، الثروة والفقر ، كل هذه الأشياء ترجع على قدم المساواة إلى الخير والأشرار ، دون أن تكون في حد ذاتها جميلة أو قبيحة. وبالتالي فهي ليست بضائع ولا شرور." لقد ذكر ذلك ماركورال، أفكار بالنسبة إلى نفسي ، الكتاب الثاني ، في القسم الحادي عشر ، فلماذا يتناسى الإنسان المعاصر الحكمة الرواقية وإيتيقا التصالح بين الذات والطبيعة والمجتمع؟
المرجع:
1- د جلال الدين سعيد، فلسفة الرواق، دراسة ومنتخبات، مركز النشر الجامعي، تونس،1999 ، ص29
كاتب فلسفي