يحتل الفيلسوف اليوناني سقراط(470 ق.م - 399 ق.م) مكانة هامة داخل الفلسفة بوجه عام والفلسفة اليونانية على وجه التحديد - رغم كونه لم يكتب شيئا ولربما في ذلك تكمن عظمته وقوته - ذلك أنه ترك بفلسفته بصمة وأحدث تحولا في الفلسفة اليونانية، ليس لكونه نقل التفكير من مجال الطبيعة والسؤال الذي شغل رواد المدرسة الطبيعية (طاليس ،أنكسيمانس ،هرقليطس بارمندس ،.....) والمتمثل في البحث عن أصل الكون إلى الإنسان وقضاياه ، أو بعبارة "شيشرون" إن سقراط هو الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، بل لما خلفه من إرث فلسفي والأثر الذي تركه في تلامذته وعلى رأسهم "أفلاطون" فقد عاش متنقلا ينشر الحكمة ويدافع عن القيم جاعلا من نفسه خصما للسفسطائيين [1] الذين كان شغلهم الشاغل وأهم ما يصبون إليه هو جني المال باعتبارهم كانوا معلمي الخطابة ومحترفي الجدل والإقناع ولكن ليس عن طريق العقل والحجة ،وإنما بواسطة التلاعب بالألفاظ والعمل على التأثير وجعل الآخر يقبل بما يروجونه من أفكار ولو كانت تتعارض مع العقل والقيم الأخلاقية، لقد أصبحت هذه الأخيرة تحمل طابعا نسبيا انطلاقا من مبدأ الإنسان مقياس كل شيء ،وأصبحت الحقيقة تتوقف على ما هو ذاتي أو بالأحرى ما يخدم المصلحة الشخصية والذاتية.
غير أن سقراط لم يقف موقف المتفرج إزاء هؤلاء ،بل كرس فلسفته لمواجهتهم والدفاع في مقابل ذلك عن القيم الأخلاقية كقيم الخير والعدالة الشجاعة....،واستعان لمواجهة هذا المد إن صح التعبير بالمنهج التوليدي قائلا "إنني كنت أولد الأفكار كم كانت تولد أمي النساء" [2] .إذ كان يعمد إلى ادعاء جهله، وهو ما عبر عنه في قولته المشهورة "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا" ويكتفي بطرح الأسئلة وترك المُحَاوَر يجيب ،وانطلاقا من الجواب المقدم يطرح سؤالا آخر وهكذا دوليك .الأمر الذي يجعل السفسطائي يسقط في التناقض وتهافت دعواه وزيف ما يعتقد به ،وبالأحرى ما يحاول الترويج له ،وبالتالي يضطر إلى التراجع عن أقواله ،وفي مقابل ذلك يعمد سقراط إلى تحديد دلالة المفهوم موضوع النقاش ،فقد عرف سقراط ببحثه عن الحدود الماهوية للمفاهيم الأخلاقية التي يتحاور بشأنها ،ونصب نفسه للدفاع عن القيم وأحدث قطيعة ما بين قيم تخدم المصلحة الذاتية والشخصية ،وقيم أخلاقية تنشد الخير للجماعة ، لقد كان سقراط ينشد الحكمة ويسعى للبحث عن الحقيقة بعيدا عن التلاعب بالألفاظ واحتراف المغالطة و لم يساير نزعة السفسطائيين في نسبيتها نحو المعرفة والقيم الأخلاقية ،وقد جسده ذلك بشكل واقعي وعملي ،فعندما حوكم بالإعدام فقد قبل تنفيذ العقوبة في حقه على الرغم من الاتهامات الباطلة ،وإمكانية فراره من السجن ،ولكنه فضل عدم القيام بذلك احتراما للدستور الأثينتي وإطاعة لقوانين بلده . [3]
لقد كان قادرا على تخليص نفسه والإفلات بجلده من المحاكمة سواء بالدفاع عن نفسه وانتهاج طريق الاستمالة ،أي استمالة القضاة أو بواسطة التلاعب بالألفاظ والاستعانة بقدراته في التحاور والإقناع ،أو انتهاج طريق آخر ألا وهو استغلال فرصة الهرب التي جهزها له تلامذته ،غير أنه لم يختر هذه الطرق ولم يرض لنفسه بأن يكون ذلك الخائف الجبان الذي يستسلم للخوف ،بل أكثر من ذلك فقد وقف أثناء محاكمته منتصب القامة هادئا معبرا عن شجاعة الحكماء الذين لا يرهبهم الموت بقدر ما يرهبهم التخلي عن المبادئ والخنوع لمن يودون نشر الرذيلة والشر واستصغار العقول ،فلم يكن "سقراط يعتبر نفسه مذنبا ، و ليس من الحكمة والفضيلة أن يخرق القوانين التم تم الاتفاق عليها والتي تشكل رابطة وأساسا يجمع بين أفراد المجتمع ،وبذلك يكون سقراط يجسد ذلك الحكيم الذي وضع الحكمة نصب عينيه ،وجعل احترام القوانين شيئا لا محيد عنه رغم النواقص التي كانت تعتري الديمقراطية اليونانية ،هذه الديمقراطية التي لم تكن رحيمة به وحكمت عليه بالإعدام بشرب السم ،بحيث وجهت له ثلاث تهم وهي: إنكار الآلهة ،وتنصيب آلهة جديدة ،وإفساد عقول الشباب ،وهي تهم واهية تم تلفيقها لسقراط باعتباره كان مزعجا بحكمته ،وبجرأته ودهائه الفلسفي الذي مكنه من كشف أعطاب المجتمع الأثيني وفضح أعداء الحكمة .
لقد اختط سقراط لنفسه طريق البحث عن الحقيقة ولم يكن يضع في حسبانه غير الدفاع عنها وعن القيم الأخلاقية التي تليق بالإنسان كذات حاملة للمعرفة وللحكمة الإنسانية ،ولهذا خاطب سقراط الإنسان قائلا أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك " غير أن المعرفة التي كان ينشدها كانت هي المعرفة الصادقة والتي تتمحور حول القيم الإنسانية بعيدا عن كل نزعة تسعى للدفاع عن قيم نسبية تخدم الفرد فقط كتلك القيم التي نادى بها "بروتاغوراس" وغيره من رجال النزعة السفسطائية ،ولهذا فقد كان سقراط صوتا مزعجا بمحاوراته التي كشفت عورة المتاجرين بالفلسفة زادهم في ذلك هو الجدل والسفسطة والحنكة في التلاعب بالألفاظ والمهارة في اللغو...،في حين كان شهيد الفلسفة الأول متسلحا بالحكمة والفلسفة بما هي فكر يقوم على النقد والسؤال ،إذ جعل سقراط من الحوار التوليدي والتهكم ركائز فلسفته وبمثابة سلاح استعمله ضد من يدعون المعرفة ويزعمون حيازة الحكمة ويحترفون المغالطة والتلاعب ،وشتان بين صديق وباحث عن الحكمة وبين من يدعي تملكها، بحيث تبدأ المحاورات بسؤال يطرحه سقراط على المحاور الذي عادة ما يكون واحدا من السفسطائيين ، وقد قد كان سقراط يفاجئ خصمه مدعيا أنه جاهل بكل شيء وأن غرضه هو تعلم الحكمة على يد محاوره مرددا كما ذكرنا سلفا قولته الشهيرة "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا ". ولم يكن غرضه غير التصدي لكل من تسول له نفسه الترويج لأفكار مغلوطة والكشف عن أعطاب المجتمع الأثيني الذي لم يتخلص من الفكر الديني والخرافي خاصة في ظل تواجد طائفة من المفكرين الخرافيين والدينيين والشعراء والسفسطائيين المتاجرين بالفلسفة ،في حين كان سقراط ذلك الفيلسوف الذي يجعل من الفلسفة غاية في ذاتها وليست مجالا لكسب الأموال أو الشهرة ...،فقد عاش الرجل مترفعا عن كل ما من شأنه أن يسيء للفلسفة ،لذلك فقد ظل وفيا للفلسفة ومبادئها ومحبا للحكمة والتي لم يجعلها حكرا على نفسه أو مشاعة بين الخاصة من الفلاسفة، وإنما سعى لنشرها بين شباب أثينا أو على الأصح استخراجها من الشباب، ومساعدتهم على ذلك عبر أسئلته المتشعبة ،فهو يصف نفسه عن جدارة بأنه مثل قابلة فكرية تخرج تساؤلاتها أفكار الآخرين إلى النور .ولكن مهارة الشرح والمجادلة هذه التي يمتلكها سقراط بوفرة ليست شكلا من أشكال الحكمة الحقيقية بالنسبة لسقراط ،فالحكمة الحقيقية هي المعرفة الكاملة فيما يخص القضايا الأخلاقية وسبل المعيشة[4] .وبهذا يكون سقراط قد جسد الحكمة بأجل معانيها ،ومهد الطريق لتلامذته، ووضع اللبنات الأولى للتفكير الفلسفي الذي يجعل من الإنسان وقضاياه الأخلاقية والاجتماعية والسياسية موضوعا محوريا وهو ما تجسد في نسق أفلاطون هذا الأخير الذي أراد من خلال جمهوريته إصلاح ما أفسدته الديمقراطية اليونانية التي لم تكن رحيمة بأعظم شخصية عرفتها اليونان ألا وهي سقراط.
1- يمكن القول إن موقف الباحثين والمؤرخين حول السفسطائيين ينقسم إلى موقفين متعارضين أحدهما يشيد بمكانتهم ودورهم في تبلور الممارسة الفلسفية في اليونان والأكثر من ذلك لولاهم لما ظهر سقراط ،والموقف الثاني يدين ممارستهم القائمة على السفسطة والتلاعب بالألفاظ وجعل الفلسفة وسيلة للمتاجرة وكسب الأموال.
2- يشار إلى أن أم سقراط كانت تعمل قابلة ،بمعنى كانت تساعد النساء في عملية الولادة ،لذلك شبه أسلوبه في توليد الأفكار وجعل محاوره يقر بما يعتقد به من أفكار أو ما يدعيه خاصة من السفسطائيين. كما أنه نهج أسلوب التهكم والسخرية
3- لما اشتد الخناق على السفسطائيين فقد دبروا له مكيدة واتهموه بإفساد عقول الشباب وانكار الآلهة وتقدم أحدهم بدعوى وحوكم سقراط بالإعدام بشرب السم
4- غوتيب أونطونيو ،حلم العقل ،تاريخ الفلسفة من عصر النهضة إلى عصر اليونان. ترجمة،محمد طلبة نصار ،دار النشر ،مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ،ط 1. 2015،ص168