في أواخر يناير وأوائل فبراير من سنة 1947 ألقـى المرحـوم عبد الرحمـن بـدوي محاضـراتٍ قصدَ منها إحياءَ بعضٍ من العناصر الممتازة الخليقة بالبقاء في تراثـنا العربي، مُبتعداً في ذلك عن التجافي في التمجيد الزائف من جهة وعن الازدراء المتعالي من جهةٍ أخرى. وقد أعاد نشر هذه المحاضرات ضمن كتابه "الإنسـانيـة والوُجـوديـة فـي الفـكر العـربـي" (دار القلم، بيروت، ط 1982). وقد كانت "النزعة الإنسانية" من بين تلك المسائل الممتازة التي عرفها الفكر العربي قديماً قبل ظهورها في أوروبـا ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر. فرأى عبد الرحمن بدوي ضرورة إحياء هذه النزعة، على الأقل بالتذكير بها، ودحض بعد أقوال المستشرقين.
ذلك العودُ المحوريّ إلى الوجود الذاتي الأصيل هو ما سُمّي في التاريخ العام باسم "النـزعـة الإنسـانيـة"، ويقرّ ع.بدوي أن خصائصه الإجمالية العامة هي واحدةٌ في كلّ الحضارات، ’’ ولهذا لم يعُد من المقبول في الفهم التاريخي الوجودي أن نقصر اسم هذه النزعة على "النزعة الإنسانية" الخاصة بالحضارة الأوروبية أو الفاوستية وحدها، دون بقية الحضارات، فهذا من قصر النظر التاريخي أو خداع المنظور أو من عدم الفهم الحقيقي لمدلول هذه النزعة الحقيقي‘‘. (م.ن، ص 24). وعند اليونان فقد تنبّه الباحثان W.Jeager و G.Saitta إلى حضور النزعة الإنسانية بكلّ معانيها عند السوفسطائيـة. و ع.بدوي نفسه لا يقف عند خصائص هذه النزعة في الحضارة الأوروبية إلا ويضـع ما يقابلها عند السوفسطائية في ثنايا عرضه.
يقـفُ ع.بدوي، بدايـةً، عند مصطلح "النـزعـة الإنسـانيـة" الذي صار من الألفاظ الكثيرة التداول، فيلاحظ أن هذا المصطلح قد جرى استعماله على معنيين؛ الأول "تاريخـي" والثاني "مذهبـي". أما الأول فهو النزعة الإنسانية التي سادت أوروبا فيما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، وأما الثاني فهو الذي استُعمِل من طرف أصحاب المذهب الوجودي، مثل كتاب جان بول سارتر "الوجودية نزعةٌ إنسانية" (l'existentialisme est un humanisme)، القائم على فهمٍ للوجود على أساس أن مركز النظر فيه هو الإنسان، وأن الوجود الحق والوحيد هو الوجود الإنسانـي.
بعد هذا يتساءل ع.بدوي: هل هناك نزعة إنسانية في الحضارة العربية؟! ويؤكد، بدايةً، أن هذا السؤال لم يُـثَر بصورة واضحة إلا عند باحثٍ واحدٍ هو كـارل هـينـرش، والذي أجاب عنه بالنفي. وذلك في محاضرةٍ له يشير إليها بدوي هي "الإسلام في نطاق تاريخ للحضارة عام"، والتي يخلص فيها هينـرش إلى أنّ التجربة الحية الحاسمة الكبرى بالنسبة إلى الغرب هي النزعة الإنسانية، وهي غير موجودةٍ في الشرق. (م.ن، ص 17). وفي اعتقاد بدوي أن كارل هينـرش لم يحكُم بهذا الحكم إلا لأنه تصوّر أنه لا بدً للنزعة الإنسانية في الحضارة العربية أن تتم تحت تأثير نفس العوامل والمقومات كما في الحضارة الأوروبية، رغم أن كلتا الحضارتين مختلفتين اختلافاً بيّناً، وبالتالي لا يمكن أن يتـمّ إحياء تراث ما في حضارتين مختلفتين بنفس الطريقة. (م.ن، ص 18). ولو أدرك هيـنـرش هذا لذهب في الطريق الصحيح ووجد أن النزعة الإنسانية حاضرة في الحضارة العربية. وهذا الطريق هو الذي سلكه المرحوم عبد الرحمن بدوي.
قبل الوقوف عند النزعة الإنسانية في الحضارة العربية، يتطرّق بدوي أولاً للخصائص العامة لهذه النزعة، فيجعلها خمس خصائص، مبينا أيضا حضورها عند الحركة السوفسطائية كما اكتشف ذلك الباحثين السالف ذكرهما.
الخاصية الأولى التي تتميّز بها هذه النزعة هي تأكيدها على أنّ معيـار التقويم والقياس هو الإنسـان وحده. وهو ما عبّرت عنه السوفسطائية حينما قالت على لسان أحد زعمائها هو بـروتـاغـوراس: ’’ الإنسـان مقيـاسُ كلّ شـيء‘‘. وهو قولٌ، كما يشير إلى ذلك بدوي، لا يجب فهمه إلا في سياقه الوجودي الحقيقي لا بالمعنى المبتذل الفاسد الذي أضفاه عليه الخصـوم. فبـروتـاغـوراس لم يقصد بقوله "الإنسـان" الإنسان المفرد، هذا الإنسان أو ذاك، بل قصد الإنسان عامةً، أي قصد "النوع" لا "الشخص" بلغة المنطق. ذلك ’’ لأنّه إنما يريد أن يضع الإنسان هنا في مقابل الآلهة من ناحية، والوجود الطبيعي أو الفيزيائي من ناحيةٍ أخرى، وأن يردّ التقويم إليه، لا إلى أشياء خارجية فيزيائية مادية، ولا إلى كائناتٍ خارجة مفروضة على الوجود على سبيل الأحوال النهائية، لا الواقعية الحقيقية. فالسوفسطائية، وقد رأوا العقل قد ضاع في الطبيعة الخارجية وفي عالم الألوهية، قد حاولوا إنقاذه بردّه إلى ينبوعه الأصيل. وما عدا هذا التفسير لهذا القول العميق الذي يجب أن يوضع شارةً عالية لكل فلسفةٍ وجودية ـــ فهو سوءُ فهمٍ مقصود من جانب الخصـوم‘‘. (م.ن، ص 19).
أما الخاصية الثانية فهي الإشادة بالعقل وردّ كل المعرفة إليه. وهنا أيضاً أمرُ السوفسطائية واضح، فقد أحلّوا محلّ آلهة الأولمب إلهاً واحداً هو العقل. والنزعة الإنسانية الأوروبية ’’ تقومُ في جوهرها على الشعور العالي بأن العالم الإنساني الحقيقي يقوم في الاستقلال المطلق للعقل‘‘. (م.ن، ص 21).
أما الخاصية الثالثة فهي تمجيد الطبيعة وأداء نوعٍ من العبادة لها. لكن معنى العبادة هنا لا يجب فهمه بمعنى عبادة الطبيعة التي كانت عند المجتمعات القديمة. فالأولى هي عبادة من نوع عبادة العاشق للمعشوق الأثير لديه، في حين أن الثانية هي عبادة قائمة على الخوف والرهبة من جبروت الطبيعة. فمدلول الطبيعة قد تغير عند أصحاب النزعة الإنسانية. فهذه الطبيعة لم تعد فاسدةً بحكم الخطيئة الأولى، كما تلاشت الأطروحة القائلة بأن إصلاحها لا يمكن أن يتم إلا بفضلٍ خارجي هو فضلُ الله، إذ أصبحت جزءاً من العالم الإنساني وليست خارجةً عنه. من هنا شعر الإنسان الأوروبي بقدرته على السيطرة عليها وكشف أسرارها. وهذا أيضاً حاضرٌ عند السوفسطائية، فقولهُم ’’ بالقوانين الطبيعية وبالطبيعة بوصفها معيار التقويم، هو قولٌ في الآن نفسه بأنّ الإنسان هو مقياسُ الأشياء، لأنّ الطبيعة لم تعد بعد طبيعة طاليس وأنكسمانس، بل هي تموضعُ Objectivation الذات في تحقيقها لإمكانياتها الذاتية خارج نفسها في العالم‘‘. (م.ن، ص 22).
من هنا كانت الخاصية الرابعةُ للنزعة الإنسانية هي الإيمان القويّ بالتقدم العام المستمر للعلم خاصةً وللإنسان عامةً. وعنايةُ السوفسطائية بالتنشئة وتوفير أكبر قدرٍ من الثقافة للمواطنين ليست سوى على أساس هذا المبدأ الذي أعطته النزعة الإنسانية الأوروبية كل مدلوله وتطبيقاته، فأنتجت بذلك التطور الهائل في العلم والصناعة الفنية كما هو معروفٌ تاريخياً. (م.ن، ص 23).
في حين أن الخاصية الخامسة والأخيرة هي تلك النزعة الحسية الجمالية التي تميل إلى الرجوع إلى العاطفة. فعقلانية النزعة الإنسانية لم تكن بالعقلانية الجافة، بل هي عقلانية مجبولةٌ بروح العاطفة والجمال. ونجد هذه الخاصية حاضرة عند السوفسطائية في اهتمامهم بالبيان أو الخطابة بوصفها فنّاً جميلاً ينبع من الإحساس ويخاطب العاطفة. وفي اعتقاد عبد الرحمن بدوي أنه لو لم تضع كتابات السوفسطائية لوجدنا فيها عنايةً خاصة بمعاني الجمال محققة في الفنون اليونانية التي كانت في عهدهم في ذروة ازدهارها. (م.ن، ص 24).
بعدما ظهرت خصائص "النزعة الإنسانية" وبانَ حضورها عند السوفسطائية وتأكّـد، نتساءل مع عبد الرحمن بدوي: أين تتمثّل هذه الخصائص في الحضارة العربية؟
قبل بيان ذلك نتساءل: ماذا يقصد عبد الرحمن بدوي بالحضارة العربية؟ إنه لا يقصد بها الحضارة الإسلامية، بل هي عنده، كما عند أوزڤالـد شپنغـلر، تلك الحضارة التي نشأت في تربةٍ واسعةٍ تحدُّها من الشمال منطقة تسودها مدينة الرها، ومن الجنوب سوريا وفلسطين ومصر وفيها تسود مدينة الإسكندرية، ومن الشرق نهر سيحون، أي أنها تشمل إيران كلها، ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط. (م.ن، ص 25). كما أن لفظ "العربـي" لا يقصد به بدوي سوى المعنى اللغوي الخالص، أي أن كل من كتَبَ باللغة العربية يندرج تحت هذا اللفظ.
بما أنّ النزعة الإنسانية لا تظهر في حضارة معينة إلا تدريجيا، فإن الحضارة العربية قد عرفت تمهيداً وصورَ باهتة لهذه النزعة. والصورة الأولى كما يحددها بدوي نجدها في عهد كسـرى أنوشـران، ذلك الملك المستنير الذي يقال عنه أنه كان أفلاطوني النزعة وأنه عني بمسائل الفلسفة وأتاح لها مجالاً في مجالسه. والذي يمثل تلك الصورة في أيامه هو "بُرزويـه" الذي يُذكر في مستهلّ "كليلة ودمنة". وإلى جانبه نجد أيضاً "بولـس الفارسـي" الذي يقدم لنا في استهلال كتابه "المنطـق السريانـي" عرضاً قاسياً لحال المعرفة وما هناك من تناقض بين المذاهب الدينية في المسائل الأساسية، وينتهي إلى تفضيل العلم على الإيمان، مُعتبراً موضوع الأول ما هو قريبٌ وواضحٌ ومعترفٌ به ولا شكّ فيه، والثاني موضوعه ما هو بعيدٌ وخفيٌ ويُداخله الشك. (م.ن، ص 29). إلى جانب الدور الكبير الذي لعبه ابن الرواندي في القرن الثالث. وهناك صورة أخرى أكثر وضوحاً هي المتمثلة في الغنوص Gnosis الهليني وفي كتب هرمس ورجال الأفلاطونية المحدثة، والتي تدور كلها حول فكرة أساسية هي فكرة "الإنسـان الكـامل" أو "الإنسـان الإلهـي". وكل هذه الصور، خاصةً الأخيرة منها، قد ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في ظهور النزعة الإنسانية بكل خصائصها في الحضارة العربية.
وعن الخاصية الأولى التي تعتبر الإنسان مركز الوجود فقد وَجدت خير تعبيرٍ عنها عند الشيخ الأكبر ابـن عربـي وعند إثره عبد الكريـم بن ابراهيم الجيلي. (م.ن، ص 40). كما نجد التعبير العملي عنها في الكتب المنسوبة لجـابر بن حيـان، حيثُ يحدّثنا، من جهة، عن "الإنسـان المُطلـق" وكيف أنه يشتمل على العقل والنفس والطبيعة والكواكب وما شابهها كأنه كـونٌ كامل. ويحدثنا، من جهة أخرى، عن نظرية "التكـويـن" وأن الإنسان إذا عرف سر التكويـن في الطبيعة استطاع أن يقوم بدورها فيه، وأصبح بالتالي مقارناً للإلـه في القدرة على الخلق. فهذا الأخير ليس حكراً على الإله وحده بل يمكن للإنسـان أيضاً أن يصل إلى مرتبة تمكنه من الخلق أيضاً. وهذا هو ما يهدف إليه جابر بن حيان كما بين كـرواس، ويضيف هذا الأخير أنّ ابن حيان قد استخلص هذه النتيجة العملية من التعريف المشهور المنسوب إلى أفلاطون، حين قال، في آخر حياته، إن الفلسفة هي التشبه بالإله بقدر طاقة الإنسان. وهذا عند ابن حيان لا يحتاج طاقات خارقة كما قد يُعتقَد بل هو مبني وفقاً لقوانين رياضية ثابتة. (م.ن، ص 56). لهذا نجد بدوي يقول: ’’ ولهذا يُخيّل إلينا أنها أبلغ تعبيرٍ عن مدى الجسارة الفكرية الذي وصل إليه الفكرُ عند العرب، مما لا نكاد نجد له نظيراً حتى في العصر الحديث عند بركلسوس ومن إليه‘‘. (م.ن، ص 57). وقد يُعترَض على بدوي بالقول إن هذا الإنسان الذي يؤلَّه الى هذا الحد لا يعود هو نفسه الإنسان الحي الحسي الذي قصدته النزعة الإنسانية. بيد أن بدوي يؤكد على أن هذا التأليه والتمجيد العظيم لم يكن في سبيل فكرةٍ مجردة لإنسان خيالي، بل في وسع الإنسان المكون من لحمٍ ودمٍ بلوغ تلك المرتبة التي تحدث عنها المتصوفة وجابر بن حيان ويحققها فعلاً وعملاً. (م.ن، ص 57). بل ويضيف قائلاً: ’’ وإذا كان النقاد المعاصرون يعدّون من أكبر الجرأة عند سارتر أن يقول: " الإنسان يتحقق إنساناً كيما يكون الله". فإن هؤلاء المفكرين العرب قد جاوزوا هذا الموقف ولسان حالهم يقول: الإنسـان يتحقق إلـهاً كيما يكون الإنسـان‘‘. (م.ن، ص 58).
أما عن الخاصية الثانية، أي تمجيد العقل، فهي حاضرةٌ وبقوةٍ في الحضارة العربية آنذاك، وأوغل فيها حتى أصبح العقل في مرتبة الألوهـة. ونجد هذا عند أبو بكر بن زكريا الرازي في الفصل الأوّل من كتابه "الطبّ الروحاني" الذي جعل العقل حاظياً بمكانةٍ جلية لا يمكن الحط منه ولا إنزاله عن عرشه ولا جعله محكوماً وهو الحـاكم، ولا تابعاً وهو المتبـوع، ولا نحتكم إلا إليه، فنقول "نعم" لما اعتبره حقاً ونقول "لا" لما اعتبره باطلاً. (انظر: "الطب الروحاني"، الفصل الأول، ضمن "رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكرياء الرازي، جمعها وصححها پ. كـراوس، الجزء الأول، مطبعة بول بارييه، القاهرة، ط 1939). والعقل هنا لا يقصد به التفكير المنطقي الجاف بل يراد به ما هو في مقابل الوحـي. إذ يصبح هو مصدر الأحكام والتقويم لا قوة خارجةً عنه. (عبد الرحمن بدوي، م.س، ص 60). وكل هذا وجد صداه في الفكر الحديث الأوروبي عند كَـنط وباقي رجال التنوير. وقد وجد هذا التمجيد الكبير للعقل سنده في الأحاديث النبوية، من قبيل الحديث المشهور: ’’ أول ما خلق الله العقـل‘‘. إلى غيرها من الأحاديث النبوية التي لا يَشكُّ بدوي أنها وردت في كتاب "العـقل" لداود بن محبِّر البصري (ت: 821م) الذي يضم مجموعة من الأحاديث الخاصة بتمجيد العقل. لكنه كتابّ مفقود، وكان له تاريخ شائق. (م.ن، ص 58).
أما عن تمجيد الطبيعة والشعور بالألفة بينها وبين الإنسان، إلى جانب النزعة الحسية الجمالية، أي الخاصية الثالثة والخامسة ـــ حيث يبدو أن بدوي قد دمجهما معاً في حديثه ـــ فإنها ساريةٌ لدى الصوفية والفلاسفة الطبيعيين. فبخصوص الأخيرين يستدل بدوي على بعض آرائهم بمقالةٍ تدعى "مقالة لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي فيما بعد الطبيعة"، والتي يشك كل الشك في نسبتها إليه. وهي رسالةٌ غريبة لا يُفهم ما قصد مؤلفها منها، وهي تنتقد آراء الفلاسفة في الطبيعة، وتتخذ موقف أقرب إلى من ينكرون الطبيعة ويفسرون بها حدوث الأشياء. (م.ن، ص 61). لكن ما يهم عبد الرحمن بدوي هنا هو أن هذه الآراء التي يردُّ عليها صاحب تلك المقالة لا شك أنها كانت منتشرة في الفكر العربي في القرن الرابع خاصة، وإلا لم يكن هناك أي داعٍ في وضع كتابٍ نقدي لها. (م.ن، ص 62). كما نجد تمجيد الطبيعة في الكتب المنسوبة لجابر بن حيان. في حين نجد عند الصوفية تلك النزعة الحسية الجمالية، رغم إيغالهم في الرمزية. ويمثل بدوي لذلك برسائل السهروردي المقتول، خاصة رسالة "أصوات أجنحة جبرائيل" (وهي موجودة في كتابه "شخصيات قلقة في الإسلام"). وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا القول ينبني على فهم وتفسير معينين لرسائل السهروردي، فالكثير من الشراح، مثل هنري كوربـان، لا يرون ذلك بل يفهمون من ورائها معاني مستورة رمزية، والتي من أجلها كُتبت الرسالة أو القصة، مثل رسالة "أصوات أجنحة جبرائيل" وقصة "الغربة الغربية" للسهروردي نفسه.
في حين أن الخاصية الرابعة المتمثلة في الإيمان القوي بالتقدم العام للعلم وللإنسانية، والتي جعلها بدوي هي الأخيرة، وذلك لسبب واضحٍ كما يبدو من حديثه وهو أن هذه الخاصية، عكس باقي الخصائص، قد وُجدَت في نطاق ٍ محـدود ليس فيه من الجرأة ما في بقية الخصائص كما تحضر في الحضارة الأوروبية. (م.ن، ص 63). لكن هذا لا ينفي أن هذه فكرة تقدم العلم، التي يُخـيَّل إلى المرء أنها أوروبية خالصة، قد وُجدَت في الحضارة العربية. لكن عند مَن؟ عند جابر بن حيان بصورة غامضة وعند أبي بكر الرازي بصورة واضحة وضوحاً كافياً. وذلك في المناظرات الشهيرة التي جرت بينه وبين أبي حاتم الرازي الذي يمثل المذهب التقليدي الديني، في حين أن أبو بكر يمثل المذهب التنويري العلمي. فأبو حاتم في هذه المناظرة نجده يقول مخاطبا أبا بكرٍ: ’’ [...] وأنتَ تزعم أنك أدركت ما لم يُدركوا [يقصد القدماء] بكثرة نظرك في رسومهم وكتبهم وهم لك أئمة وأنت لهم تبع لأنك درست رسومهم ونظرت في أصولهم وتعلّمت من كتبهم. فكيف يجوز أن يكون التابع أعلى من المتبوع والمأموم أتمّ في الحكمة من الإمام؟ ‘‘. فيردّ عليه أبو بكرٍ قائلاً: ’’ [...] اعلم أن كلّ متأخّرٍ من الفلاسفة إذا صرف همّته إلى النظر في الفلسفة وواظب على ذلك واجتهد فيه وبحث عن الذي اختلفوا فيه لدقّته وصعوبته عَـلِـمَ عِـلْـمَ من تقدّمه منهم وحفِظَه واستدرك بفطنته وكثرة بحثه ونظره أشياءَ أخر، لأنه مهر بعلم من تقدمه وفطن لفوائد أخر واستفضلها إذ كان البحثُ والنظر [.] والاجتهاد يوجب الزيادة والفضل‘‘. (انظر: "المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي"، ضمن "رسائل فلسفية لأبي بكر محمد بن زكرياء الرازي"، م.س، وبالضبط ص301). كما عرض أبو بكر الرازي لهذا الأمر في مستهل كتابه "الشكوك على جالينوس"، حين "تجرّأ" على مناقضة رجل مثل جالينوس في "جلالته ومعرفته وتقدّمه". وهذا يستلزم أن يكون المتأخرون من أهل الصناعات أفضل فيها من القدماء. والرازي يعترف بهذا ويصادق عليه، لكن فقط إذا كان المتأخرون في الزمان مكمّلون لما جاء به القدماء. (انظر: الشكوك على جالينوس، تحقيق وتقديم الدكتور مهدي محقّق، ط طهران، ص 3 من متن الكتاب). ’’ وبهذا عبّر عن فكرة التقدم العلمي على نحوٍ لا نشاهد له نظيراً من قبل، وإن وجدنا عند رجال العصر الهليني أثارات ضئيلة من هذه الفكرة، لكن في كثير من التحفظ والتحديد من نطاقها، بعكس الرازي الذي أطلق القول في هذا ولم يضع للتقدّم حداً. وبهذا أراد أن يحطم تلك النزعة التأخرية السائدة في الحضارة العربية والتي جعلت شارتها: " ما ترك الأول للآخِر شيئاً"، " هل غادر الشعراء من مُتَـرَدَّم"، إلى آخر هذه الأقوال التي تعبّر فعلاً عن خاصيةٍ أصيلة في الروح العربية مرتبطة بنظريتها في تصوّر الزمـان‘‘. (عبد الرحمن بدوي، م.س، ص 65).
بيـد أنه قـد يُقال إن هذه النزعة الإنسانية لم تكن من شأن سوى نفر من المتوحدين الشواذ المنعزلين في الحضارة العربية ليس إلاً. لهذا يوضح عبد الرحمن بدوي في خاتمة هذه الدراسة أن النزعة الإنسانية قد تجلّت في أوساطٍ كاملة تابعت الحركة بحماس كبير. ’’ فمؤلفات جابر هي عملٌ جماعي للأوساط الشيعية والإسماعيلية بحيث يمكن أن نعدها لسان حالها. [...] والآراء التي كان ابن عربـي خير معبّرٍ عنها قد لقيت رواجاً هائلاً في مدارس الصوفية كلها بحيث تحدّدت التيارات الصوفية التي ظهرت من بعده وفقاً لها‘‘. (م.ن، ص 66). أما الشخصية الوحيدة التي اعتبرها بدوي متوحدة إلى حد كبير فهي شخصية محمد بن زكريا الرازي. ذلك لأنه كان يتقدم عصره بمراحل واسعة جداً. (م.ن، ص.ن).
وأخيراً، فبعد تتبعه لهذه النزعة الإنسانية في الحضارة العربية يظهر جلياً لعبد الرحمن بدوي أن أكبر مؤثر ومصدر على هذه النزعة ليس التراث اليوناني بمعناه الخالص، وإنما هو التراث الشرقي من إيرانيٍ وإسرائيلي وأفلاطوني محدث، إلى جانب شيءٍ من الهندي والبابلي والكلداني. وهذه هي الأصول الروحية الأولى الحقيقية للروح العربية. وعدم تنبه الدارسين والباحثين إلى هذه الحقيقة، إلى جانب، حقيقةٍ أخرى وهي أنّ كلّ حضارةٍ كبيرة بلغت نضوجها إلا وعرفت نزعةً إنسانية، جعلهم لا يُدركون ما أدركه بدوي. والحضارة العربية ليست استثناء لهذه الحقيقة، فهي قد عرفت نزعةً إنسانيةً، بل ونزعةّ إنسانيةً جـداً. (م.ن، ص 67). كما ظهر لبدوي، بخصوص التحديد التاريخي لنشأة وتطور هذه النزعة في الحضارة العربية، أنّ صورتها القوية بدأت في القرن الرابع الهجري، واستمرّت توسع دائرتها من الدين إلى العلم إلى الأدب العام حتى تلقتها الصوفية الإشراقية في القرن السادس مع مؤسسها الأكبر شهاب الدين السهروردي المقتول، ثم اتسعت وتفصّلت أكثر مع الشيخ الأكبر ابن عربـي ومدرستـه، ثم مع ابن سبعـين. بعدها استمرت حتى بلغت صدر الدين الشيرازي (ملا صدرا) والداماد في القرن الحادي عشر الهجري. لكنها كانت قد فقدت خصائصها الأصلية مع نهاية القرن السابع. لهذا فالنزعة الإنسانية قد استمرت من بداية القرن الرابع إلى نهاية القرن السابع تقريباً. (م.ن، ص 69). وقد أغفل عبد الرحمن بدوي ذكر الإمام أبي حامد الغزالي عن قصد، على الرغم مما ينسب له بعض الباحثين من نزعةٍ إنسانية، وذلك لأن بدوي يعتبر تجارب الغزالي مفتقرة إلى الإخلاص، ولم تصدر عن تحرّرٍ فكري. (م.ن، ص.ن).