- مقدمة المترجم : " كتب بول سيزان ( الرسام الفرنسي (1839- 1906) أحد
أعلام الحركة الانطباعية أو بالأحرى المابعد انطباعية، رسالة إلى إيميل برنار، الرسام والكاتب الفرنسي المابعد إنطباعي (1868-1941) بتاريخ 23 أكتوبر 1905 قبل موته بقليل، وردت فيها هذه الجملة التي أضحت شهيرة لدى الفلاسفة ومؤرخي الفن: " أنا مدين لكم بالحقيقة في فنّ الرسم وسأقولها لكم""Je vous dois la vérité en peinture, et je vous la dirais . وقد كان هيبار داميش . Hubert Damisch (فيلسوف فرنسي معاصر مختص في الاستيتيقا ) من أوائل من أحال إلى هذه الجملة في كتابه " ثمانية أطروحات من أجل ( أو ضدّ؟) سيميولوجيا الرسم (1974) الذي أشار فيه إلى أنّه إذا ما وجدت حقيقة في الرسم ، فلا يمكن إلاّ أن تفوق بكثير حدود السيميولوجيا. غير أنّ جاك داريدا جعل من عبارة وردت في هذه الجملة وهي " الحقيقة في الرسم" عنوانا لكتابه " الحقيقة في الرسم" والذي فضّل عليه في النهاية عنوانا آخر عزم عليه من قبل وهو " الحقّ في الرسم". وقد خصّ داريدا هذه الجملة المذكورة لسيزان بتحليل في نص إضافي هو عبارة عن تمهيد جعل له عنوانا " الحاشية Passe-partout " ، رغم أنه لم يذكر عبارة " الحقيقة في الرسم" في الكتاب إلاّ في الصفحة 364. فحسب(1) . يعلن داريدا أنّه سيجعل من هذه الجملة الشهيرة " خيطا ناظما " لنصه " الحقيقة في فنّ الرسم" . ويمكن أن نوجز القول عمّا ورد في النص المقترح في يلي: " لقد وعد سيزان صديقه إيميل بارنار الرسام شيئا - هو الحقيقة. وإذا ما كان قد وعده بذلك فذاك يعني أنه مدين له به. يوجد إذن دَيْنٌ . نحن إذن إزاء " عقد رسميّ أو تصويريّ" حيث الحقيقة بوصفها وعدا ، إذا ما قيلت ، فلن تقال إلاّ بفعلٍ هو فعل الرسم الذي يتعدّى الحدود ( الحدود هنا هي ما يسمّى " البارارجونParergon أي ما يسميه داريدا trait الخطّ وهو ما يتصل بالعمل الفني من إضافات ، من توقيع وحاشية وتعليق ... لذا ودون أن يريه (أي بارنار) شيئا ( باعتبار أن الأمر يتعلق برسالة )، يلتزم سيزان أن يحدث شيئا أو يولّد نتيجة يشهد بها رسمه . يتعلق الأمر إذن بحقيقة خاصة غير قولية ، تصويرية خالصة، لا أحد يعرفها مسبقا والتي هي متفردة لدى كلّ ناظر.(2)
- النصّ:
" الحقيقة في فنّ الرسم، بإمضاء سيزان Cézanne. هي كلمة لسيزان. يتردّد صداها في عنوان كتاب، وترنّ بوصفها واجبا عليه تأديته.
أعترفُ بالدَّيْن، إذن، كي أردّها( أي الكلمة) لسيزان، و أوّلا لداميش Damisch الذي يذكرها قبلي (3) . أنا مدين بها. حتّى يعود الخطّ trait (4)parergon لصاحب الحقّ.
لكن الحقيقة في الرسم هي بعدُ ما يجب عليه.
لقد وعد سيزان بالوفاء بها :" أنا مدين لكم بالحقيقة في فنّ الرسم، وسأقولها لكم". ( من رسالة إلى إيميل بارنار 23 أكتوبر 1905).
قول غريب. المتكلّم رسّام. هو يتكلّم ، وبالأحرى يكتب، إنّها رسالة ، وتُكْتَبَ هذه "الكلمة الحسنة" أيسر مّما تُقال. هو يَكتب، بلغة لا تُبْدي شيئا. لا يهب شيئا للرؤية، ولا يصف شيئا ، ناهيك عن التمّثل. لا تُبنى الجملة في شيء على نمط التقرير، إنّها لا تقول شيئا يوجد خارج الحدث الذي تُمثّله، لكنّها تلزم المُوقّع بقولٍ سيسمّيه هنا منظّروا الأفعال الكلامية speech acts بـ"الإنجازي" performatif، وعلى نحو أدقّ من قبيل الإنجازي الذي يسمّونه " الوعد" promesse". لا أستعير من هؤلاء المنظرين الآن سوى أمور سهلة تقريبية ، عناوين مشكلات ، دون معرفة بوجودها ، و" تقريرات" و" إنجازيّ" خالص.
ماذا يصنع سيزان؟ إنّه يكتب ما يستطيع قوله ، ولكن بقولٍ لا يقرّ بشيء. فـ"الأنا المدين" ذاته ، الذي قد يتضمّن إحالة وصفية ( أقول، أعرف، أرى أنّني مدين لكم)، مقترن باعتراف بالدَّيْن، يُلزم بقدر ما يَصف: إنّه يوقّع باسمه.
إنّ وعد سيزان، وعد من نربط إمضاءه ببعض أنواع الأحداث في تاريخ الرسم والذي يُلْزِم بتبعاته أكثر من واحد، هو وعدٌ متفرّدٌ. لا َتعدُ توفيته بشيء، حرفيّا، بقول في معنى التقرير، لكن "بـ"فعل" أيضا. إنّه يَعِدُ بـ"تقريريperformatif" آخر، ومحتوى الوعد محدّد، كما في شكله ، بإمكانية هذا الآخر. إنّ الإضافة الإنجازية مفتوحة إذن على اللانهائيّ. يصنع الوعد حدثا ( "يَصْنَعُ" بالقول) دون مرجعية وصفية أو " تقريرية" ، شريطة أن يضمن إمكانه تأطيرا اصطلاحيا معينا، وبعبارة أخرى سياقا متسما بتخيّل إنجازي. عندئذ لا يصنع الوعد حدثا، شأن كلّ " فعل كلامي ": إنّه " يُنْتِج" بوصفه إضافة للفعل أو يُمَثِّلُه ، حدثا متفرّدا يتّصل بالبنية الإنجازية للقول- فالأمر يتعلّق بوعدٍ. لكن، مع إضافة أخرى ، هي موضوع هذا الوعد، ما يعد به الوعد، هو إنجازيّ آخر، "قول" يمكن فعلا ، ونحن لا نعرف ذلك بعدُ، أن يكون " فعل رسم" peindre un" لا يقول ولا يصف، الخ.
ستكون إحدى شروط أداء مثل هذا الحدث، و فكّ سلسلته، بحسب المُنَظِّرين الكلاسيكيين للأفعال الكلامية، هو أن سيزان يريد أن يقول شيئا وأن نقدر على فهمه. يُمَثّل هذا الشرط جزءا من التخيّل، بعبارة أخرى جزءا من مجموع البروتوكول الاصطلاحي ، لحظة يستعدّ إيميل برنار لفتح الرسالة.
لنفترض أنّني كتبت هذا الكتاب(*) لمعرفة إذا ما كان بإمكان هذا الشرط أن يُوَفّى، وإذا ما وجد حتّى معنى لتعريفه- ما يتبقّى إذن معرفته.
هل لنظرية الأفعال الكلامية ما يوافقها في الرسم؟ وهل تُفهم في الرسم؟
كيف تدعو دوما وبالضرورة إلى قيمِ القَصْدِ ، والحقيقة والإخلاص، يجب على بروتوكول مطلق أن يطوي مباشرة هذا السؤال الأوّل: ماذا يجب أن تكون عليه المعرفة حتّى تكون واجبا (وعدا) ، بمعنى حتى تُردّ؟ في الرسم؟ وإذا ما تَمَثُّلتْ ، في الرسم، في الردِّ ، فماذا يمكن أن نقول حينما نَعِدُ بردّها بذاتها بوصفها واجبا أو"إرجاعا" ؟
ماذا يعني أن نقول ، أن نردّ؟
ماذا بشأن الإرجاع؟ وفي الرسم؟
لنفتح الرسالة ، بعد إيميل برنار." ستكون " الحقيقة في الرسم" La vérité en peinture" إذن خطّا لسيزان. لقد وقَّعَه مثلما نوقّع خطّا للفكر. فيم يتعرّف ذلك على نفسه؟
أوّلا في هذا، كون الحدث ، الحدث المزدوج و المزدوج الاحتمال لا ينقبض مع ذاته إلاّ في اللحظة التي ينقسم فيها تفرّد الخطّ ليرتبط باللّعب، بالحظّ وباقتصاد لغة. فإذا وُجدت فيه ، بنقاء تامّ ، لغة أو لهجة، كان علينا التعرف عليها ، في التجسيد، في هذا الفعل لسيزان. ستكون( أي الحقيقة) لوحدها قادرة على ضمان صورنة اقتصادية جدّ قويّة في الادخار الإضماري elliptique للغة طبيعيّة، وقول أشياء كثيرة في عدد قليل جدّا من الكلمات، طالما يتبقّى منها دوما، بقايا ( leipsomena)، لأجل تناول الإضمار في مُدَّخره، وتفعيل لعبة الاقتصاد بوضعها أمام حظّها.
لنفترض أنّني حاولت إنجاز هذا الكتاب، في لحظاته الأربع، من أجل فائدةِ، - أو فضلٍ- هذه البقايا.
بقيّة- المتعذّر ترجمته.
ليس لكون لغة " الحقيقة في الرسم" هي ببساطة المتعذّر ترجمته ، أريد أن أقول لغة إصطلاح، إذ لا تكفي المعقّفات لطمأنتنا بشأنها: فقد يتعلّق الأمر بلغة الحقيقة في الرسم، وربما يبدو من الممكن أن يكون مرجع هذه الكلمة الغريبة والذي تفهم بعدُ بطرق متعدّدة. ليست هذه الكلمة غير قابلة للترجمة مطلقا. وقد يُقترح لها، في لغة أخرى ، مع وجود الحيّز، والزمان والاستمرار، وخطابات مطوّلة ، مقاربات جديّة. لكنّها تبقى غير قابلة للترجمة في أداءها الاقتصادي، في إضمار خطّها، الكلمةُ كلمةٍ ، الكلمةُ للكلمةِ أو باررجون للباررجون parergon ( الخطّ trait) حيث يتقلّص : كثير من الكلمات، ومن العلامات، والحروف، ونفس الكميّة أو نفس التكاليف لنفس المحتوى الدلالي، مع نفس المردود من فائض القيمة. هذا ما يُهُمُّني، هذا "النفع" حينما أقول :" سأهتمّ باصطلاحية لغة l'idiome الحقيقة في الرّسم" .
أمّا فيما يخصّ المعنى، فبأيّ خطوط دقيقة علينا أن نعتبر، في ترجمة لا تنظر البتة في التكلفة البيداغوجية ؟ إنّها على الأقلّ أربعة، قبولا مع التحفّظ ، على افتراض بأنّ وحدةَ كلّ واحد منها تظلّ غير قابلة للإختراق.
1- ما يتعلّق بالشيء ذاته. بموجب السلطة التي منحناها للرسم ( إعادة إنتاج أو استعادة مباشرة ـ تطابق وشفافيةّ، الخ) ، يمكن لـ"الحقيقة في الرسم " في اللغة الفرنسية التي ليست رسما، أن تُقال وتُفهم على معنى : الحقيقة المستعادة ذاتها، في شخصها، دون واسطة ولا طِلاء ولا قناع ولا حجاب. وبعبارة أخرى فإنّ الحقيقة الحقيقيّة أو حقيقة الحقيقة مستعادة في قدرتها على الاستعادة، الحقيقة التي تشبه ذاتها بقدر كبير كي تفلت من كلّ كراهية أو وهم؛ بل حتّى من كلّ تمثّل- لكنّها مقسّمّة جدّا بعدُ حتّى تشبه ذاتها، وتنتج أو تولّد مرّتين، وفق الإضافتين: حقيقة الحقيقة و حقيقة الحقيقة. vérité de la vérité et vérité de la vérité.
2- ما يتعلّق ، بالتالي، بالتمثّل المتطابق، على صعيد التخيّل أو على صعيد معالم صورته. وإذا ما وُجد في اللغة الفرنسية ما هو كذلك وإذا لم يكن رسما، فإنّ " الحقيقة في الرسم " يمكن أن تُقال وتُفهم : الحقيقة المُتَمَثّلة بأمانة، خطّا لخطّ، في لوحتها، أو صورتها. وقد يذهب هذا من الانعكاس إلى الأمثولة. فليست الحقيقة إذن هي ذاتها فيما يمثّلها في الرسم، بل شبيهها فحسب، مهما كان مشابها وبالتحديد آخر بموجب التشابه. حقيقة الحقيقة أيضا، مع المُضَافَين، لكن قيمة التطابق قد أزاحت هذه المرّة قيمة الانكشاف dévoilement. قد يكون رسم الحقيقة مطابقا لنموذجه، بتمثّله، لا يظهره بذاته بعرضه. لكن بما أن النموذج هنا هو الحقيقة، أي هذه القيمة للعرضprésentation أو التمثّل représentation ، للانكشاف أو التطابق، فإنّ خطّ سيزان يفتح الهاوية. ( يسمّي هيدجر، في كتابه "أصل العمل الفنّي " الخطّ" (riss) (" شقّا أو شرخا" )، ذاك الذي لا يُفتح فحسب من فوق الهوّة لكنه يمسك بمجموع الضفاف المتفرّعة). ولفهم كلمةَ سيزان ، يجب أن تُردّ الحقيقة (عرض أو تمثّل ، انكشاف أو مطابقة) "في الرسم"، إمّا إلى العرض أو الإظهار présentation أو إلى التمثّل représentation، بحسب نموذجي الحقيقة. عندئذ ، فإنّ الكلمة الشاسعة " حقيقة الحقيقة"، تلك التي قد تَحْمِلُ على القول بأنّ الحقيقة هي اللاحقيقة la non-vérité ، يمكن أن تتقاطع مع ذاتها بحسب كل ضروب تقاطع الألفاظ، بحسب تحديدنا للنموذج بوصفه تمثيلا أو تمثّلا. تمثيل التمثّل، وتمثيل التمثيل ، وتمثّل التمثّل ، وتمثّل التمثيل . هل أجَدْتُ الحساب؟ هي على الأقلّ أربعة إمكانيات.
3- ما يتعلّق بالرّسميّة أو التصويرية picturalité ، بالمعنى " الحقيقي"، للتمثيل أو العرض أو التمثّل . يمكن للحقيقة أن تُعرض أو تُتمثّل على نحو آخر، بحسب أنماط أخرى. تقوم بذلك هنا في الرسم: لا في الخطاب ( مثلما هو متعارف عليه) ، في الأدب، وفي الشعر، والموسيقى أو في فضاءات أخرى ( الهندسة المعمارية أو النحت). نحتفظ هنا بخاصّة الفنّ وهو الذي للمُوَقِّع ، لسيزان الرسّام. ما يخصّ فنّا ، فنّا يفهم في دلالته الحقيقية هذه المرّة ، في عبارة " في فنّ الرسم" . لم نقم بهذا في الحالتين السابقتين:" يأتي "الرسم " ليشخّص تمثيلا أو تمثّلّ نموذج يجد نفسه الحقيقة. غير أنّ هذا التشخيص المداري يصلح لمنطق كلّ فنّ آخر وللعرض( التمثيل) أو التمثّل . وإذا ما وجد ، في اللغة الفرنسية، ما يكون كذلك وإذا لم ، يكن رسما، " الحقيقة في الرسم" ، فيمكن لذلك أن يُقال ويفهم : الحقيقة على نحو ما تُعرض ، وتمثُل أو تُتمثّل في حقل تصويري حقيقي، حتّى لو كان هذا النمط مداريّا بالنسبة إلى الحقيقة ذاتها. وإذن ، يجب من غير شكّ لفهم عبارة " حقيقة في الرسم" ، الابتعاد قليلا عن أعظم قوّة استعمال ( على فرض أنّنا نملك معايير لتقييمها)، مع الحفاظ في ذات الوقت على المعيارية النحويّة والتركيبيّة ، بمعنى الدلالية. لكن لغة ما أو اصطلاحا idiome ما، هي ذاك، إذا ما وجدت. فهي ( أي الإيدوم idome،) تثبّت فحسب الخاصية الاقتصادية لـ،" الأصلle foyer"، بل تنظّم أيضا إمكانية ألعاب وفوارق واشتباهات، و إقتصادٍ في مجمله، وتحديدا، الخطّ trait. يشوّش هذا الاقتصاد على ذاته.
4- ما يتعلّق بالحقيقة على صعيد الرسّم ، إذن ، وبموضوع الرّسم، لا فيما يتّصل فحسب بما هو التمثيل( العرض) أو التمثّل التصويري أو الرسميّ للحقيقة. يسمح تشويش اللغة " في فنّ الرسم" بذاته من استضافة معنى جديد: الحقيقة بالنسبة إلى الرسم ، في ميدان أو في موضوع الرسم، أي الحقيقيّ عن الفنّ الذي نسمّيه تصويريّا. وإذا كنّا الآن نعرّف هذا الفنّ بقيمة الحقيقة، في معنى أو آخر، فسنفهم هنا الحقيقيّ عن الحقيقيّ le vrai sur le vrai . فإذا وجد في اللغة الفرنسية ما هو كذلك ولم يكن رسما ، وإذا ما أمكن لها أي (اللغة الفرنسية) مع ذلك، أن تفتح نسقها لتشويشها بالذات، فيمكن أن تقال " الحقيقة في الرسم" وتفهم : الحقيقة في ميدان الرسم وموضوعها في الرسم، مثلما نقول بأنّ لدينا معرفة بالرسم. "أنا مدين لكم بالحقيقة عن الرسم وسأقولها لكم"، وبما أنّه يجب أن يكون الرسم هو الحقيقة، فأنا مدين لكم بالحقيقة عن الحقيقة وسأقولها لكم. وبانقياده إلى التشويش parasitage، سيشوّش نسق اللغة بوصفه نسق الاصطلاح على نسق الرسم؛ وبشكل أدقّ فقد يظهر بشكل تناظري، التشويش الأساسي الذي يفتح كل نسق على خارجه ويقسّم وحدة الخطّ الذي يزعم رسم حدوده. هذا التقسيم للحاشية bordure، هو ذا ربّما ما يُكتب ويجري في كل مكان من هذا الكتاب، ويتضاعف الإطار البروتوكولي دون حدّ، بتوطئة وإضافات وبتوضيحات، في خراطيش بدءا بلغة حاشية الصورة passe-partout . نترك أنفسنا دائما لإغراء هذا الاعتقاد في الاصطلاح : قد لا يقول حقّا سوى شيئا واحدا ولن يقوله إلاّ بربط صارم للمعنى بالمبنى تهيّئا للترجمة. لكن إذا كان الاصطلاح ذاك، أي ما نعتقد أنّه ما يجب أن يوجد، فلن يكون، وسيفقد كلّ قوّة ولن يصنع لسانا langue. وسيُحرم مّما يعتمل فيه مع آثار الحقيقة. فإذا كان لعبارة " الحقيقة في الرسم" قوّة " الحقيقة" و تَنفتح على الهاوية، بلَعِبِهَا، فلربّما يُعتمد في الرسم على الحقيقة ، وفي الحقيقة، تعتمد ( هذه اللغة) على الهاوية.
يتحرّر باررجون ( الخطّ trait ( سيزان بسهولة من سياق مباشر. فهل من الضروري معرفة أنّه مُوقّع من رسّام؟ تتعلق قوّته بالذات بهذه القدرة على الّلعب بتحديدات السياق دون أن تُحدّد نفسها. يقوم الباررجون من غير شكّ مقام حاشية الصورة. يتحرّك بسرعة كبيرة بين مُمْكناته. وينقل بخفّة مربكة نبراته وتنقيطه المخفيّ ويعزّز ويُصَوْرِنُ ويقتصد خطابات ضخمة، يضاعف بينها المساومات والصفقات والتهريب و الأبْر greffe ، والتشويش. غير أنّه لا يكون سوى حاشية صورة passe-partout ، فهو هنا مظهر: إنّه لا يريد أن يقول كلّ شيء وأيّ شيء . وفضلا عن ذلك، يجب عليه، كأيّ حاشية ( في دلالتها الحرفية!)، شكليّا ، أريد أن أقول على أشكالها ، أن يستجيب لنسق إكراهات محدود.
ماذا تصنع حاشية ما؟ ما الذي تسمح بفعله أو ما الذي تسمح برؤيته؟
إنّ الرسام لا يعد برسم هذه الحقائق الأربعة في الرسم، حتّى يردّ دَيْنَهُ، برسمها. إنّه يلتزم حرفيا على الأقلّ ، بقولها:" أنا مدين لكم بالحقيقة في الرسم ، وسأقولها لكم". وإذا فهمنا ذلك حرفيا، فإنّه يُقْسِمُ على الكلام؛ ولا يتكلّم فحسب، بل يُقْسِم على فعلها، و يلتزم بالقول. يقسم على قولها، بالقول، بقول الحقيقة في الرسم، والحقائق الأربعة في الرسم. إنّ فعل الكلام- الوعدُ- يُطرح بعدُ بوصفه حقيقيّا، وعلى أيّ حال صادقا ونزيها، ويَعِدُ فعلا بقول الحقيقة حقّاً . و في الرسم حتّى لا نَنْسَى.
ولكن، هل يجب أن يفهم كلام الرسام حرفيا ، بمجرّد أن يتكلّم ؟
أن يكون الكلام صادرا عن سيزان ، فإنّ عبارة " سأقولها لكم" قد تُفهم مجازا: لقد استطاع أن يعد بقول الحقيقة في الرسم، بالقول على طريقته، وفق المجاز التصويري للخطاب أو مثل خطاب يشتغل بصمت على فضاء الرسم، هذه الحقائق الأربع. وبما أنّه يعدُ بقولها " في الرسم" ، فلا حاجة لنا حتّى ، بهذا الافتراض ، إلى معرفة المُوَقِّع le signataire من جهة أخرى، أنّه رسّام.
هذا الباررجون (الخطّ trait) بين الحرف والخطاب والرسم، ربّما يكون هو الذي يحدث أو يتسلّل في الحقيقة في فنّ الرسم.
يعدُ المُوقِّعُ، على ما يبدو، "بالقول " في الرسم، رسما أو بالرّسم ، بالحقيقة بل ، إن شئنا، بالحقيقة في الرسم. ويمكن أن يفهم هذا الـ" أنا مدين لكم بالحقيقة في الرسم" ، دون عناء على معنى:" عليّ أن أردّ لكم الحقيقة في الرسم" ، على شكل رسم ومتصرّفا أنا نفسي كرسّام. لم نستوف بعد هذا الفعل الكلامي speech act الذي ربمّا يَعِدُ بالفعل الرسميّ أو التصويري painting act . يصنع سيزان شيئا ما بفضل هذا الوعد اللفظي، وبواسطة هذا ألإنجازي الذي لا يصف شيئا، يفعل شيئا بقدر وأكثر ممّا لا يقول. لكن بفعله هذا يعدُ بأنه سيقول الحقيقة في الرسم. فما يصنعه هو الالتزام بالقول. غير أن هذا القول يمكن أن يكون أيضا فعلا، إمّا فعلا قابلا للنقاشdiscussif، قولا آخر إنجازيا منتجًا حقيقة لم تكن بعدُ هنا ، وإمّا فعلا تصويريًّا له قيمةُ القول بموجب بعض الإقامة للكلام في الرّسم . وتكون أمثولة الحقيقة في الرسم، في إنجازية هذا الإنجازي الذي يَعِدُ بإنجازيّ آخر ويتكلّم إجمالا دون أن يقول شيئا يكون هنا، أبعدُ من أن تَمْثُل عارية تماما في لوحة.
نحلم إذن برسم دون حقيقة، وهو الذي يجابه ، من دون دَيْنٍ، خطر عدم قول شيء لأيّ إنسان، ولن يمنع عن الرسم. ويشكّل هذا الـ"من دون" sans، مثلا ، في عبارة " من دون دين" أو " من دون حقيقة" ، إحدى العِبَر الخفيفة لهذا الكتاب.
ما الذي يحدث في كل مكان حيث تُشَبِّكُ ملحقات الإنجازي المطلقة العنان هذه ، شبيهاتها وحَرْفِيّتها الأكثر جديّة؟ ما الذي يحدث في لعبة ضالّة جدّا ولكنها ضرورية أيضا؟ نتساءل ما الذي تبقّى منها حينما يكون من نصيبها أثر اللغة، و يترك "الباررجون" بالكاد المبادرة لما يسمّى مُوقّعا للوعد. هل وَعَدَ سيزان ، وَعَدَ حقّا ، وعد بقول الحقيقة ، بالقول رسمًا ، بالحقيقة في فنّ الرسم ؟
وأنا؟
جاك داريدا " الحقيقة في الرسم" champ essais - flammarion 1978
ص 6 - 14
الهوامش:
*- إشارة إلى كتاب "داريدا " الذي اقتطف منه هذا النص وهو بذات العنوان:" الحقيقة في فنّ الرسم".(المترجم)
1- أـنظر موقع " idixa .net "
2- نفس المصدر
3- أ. داميش. ثمانية أطروحات من أجل ( أو ضدّ؟) سيميولوجيا الرسم، في "ماكيلا" Macula 1977 ..." متبعا كلمة ، القول الغامض لسيزان ." ( تعليق داريدا).
4- بارارغون هي الإضافات التي تلحق باللوحة، بالأثر الفني والتي يسميها " داريدا " الخطّ " trait وهي من قبيل " التوقيع والحاشية والتعليق الخ ..) يقول داريدا :" البارارغون هو ما يجب كي يوجد العمل ( ergon) وكي نحتمي من طاقته energeia)
عبد الوهاب البراهمـــــــي
( متفقد عام للتربية تخصص فلسفة)