الفكر والمادة
إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه سابق عليه .تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكر، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات.
والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها. فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل قبل الإفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي.
الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها في الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة. وهذا يختلف عن صمت الانسان وامتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام.
ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الانعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكار التعبيرية عنه فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور فكريا يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..
العقل والفكر
الفكر المادي أو الفكر المثالي المعبّر عنهما باللغة في علاقتهما بالوجود لا يتم تفريقه النوعي بينهما في تعبير الفكر عنهما باللغة المجردة، فالوجود المادي المستقل لا تحدد ماديته اللغة كونه ماديا أو مثاليا أو أي شيء آخر كموضوع خيالي مستمد من الذاكرة بمقايسته باللغة كنظام دلالي يعطي معاني الاشياء في ملازمته التعبير عنها.
إن الانسان كائن مفكر، والحقيقة أن الذي يغّير مسار الانسانية أنما هو الفكر حسب تعبيربوشنسكي. واضح أن التاكيد هنا على فاعلية الفكر كمضمون عقلي تخليقي هو الذي يقوم بتغيير العالم وليس اللغة كشكل تأطيري تعبيري لمضمون التفكير العقلي،، الفكر هو الذي يقوم بتجديد الوجود المادي أو المثالي كماهية وجوهر. فالفكر مضمون عقلي واللغة تأطير شكلي له. والفكر نظرية والموجودات وقائع تحملها الصدف الإدراكية بها أو الوعي القصدي لمعرفتها.
أما الذي يمنح الوجود المادي حقيقته كموجود، ويعطي الموجود الخيالي متعيّنه كموضوع في الذهنية الفكرية، في تمييز العقل بينهما إنما هو الفكر الناتج عن مصنع الحيوية العقلية والتخليق في إدراك الوجود وإضفاء ماهيته وصفاته عليه قبل إعادته بالفكر المعبّر عنه لعالم وجود الاشياء ثانية.. الفكر لايخلق الموجودات من فراغ بل هو يقوم بمعرفتها وأدراكها عقليا كمواضيع مادية أو خيالية بغية إعادة تأثير العقل بها ومعالجتها في وجودها المادي المستقل بعالم الاشياء. ومن دون الإدراك العقلي للأشياء لا قيمة موجودية تمتلكها الاشياء في وجودها المستقل.
كيف يتغير الموجود؟
الوجود المادي للاشياء لا يتغير تلقائيا ذاتيا ديالكتيكيا بقانون وحدة وصراع الأضداد داخل المادة أو داخل الظاهرة الواحدة من دون توفر العوامل الموضوعية الخارجية والظرفية التي تقوم بتحريك وتفعيل التضاد الداخلي الذاتي، في تخليق العقل له على مستوى المادة بما يتوجب أن يكون عليه الوجود من تغيير مستمر.
تخليق التفكير العقلاني هو الذي يعطي الوجود الحركة والتطور وتبقى اللغة تعبّرعن الوجود في صيرورته المستمرة في ملازمتها الفكر والوجود معا. هنا يكون تخليق العقل للوجود يحضر كعوامل موضوعية خارجية محكومة بظرفية تعمل على تسريع التناقضات الجدلية داخل الظاهرة المادية كي ينبثق عنها ظاهرة مستحدثة جديدة أكثر تطوريا من الاولى وهكذا..
أما حضور العوامل الموضوعية الخارجية كجدل ديالكتيكي على مستوى تثوير التضاد والتناقض على مستوى تفاوت مستوى معيشة الطبقات الاجتماعية بين الذي يملك والذي لا يملك فهو يكون بوسيلتين الاولى مصالح الطبقة الفقيرة المحرومة كوسيلة وأداة تغيير والثانية هو النظرية التي تستهدي بها الطبقات المقهورة في تسريع النضال الذاتي لديها من أجل نيل مصالحها المشروعة المغتصبة واستحصال حقوقها المصادرة منها كفائض ناتج قيمة عملها.
الوجود لا يتغير بالفكر النظري فقط .....
ولايتم تفريق الفكر المادي أو المثالي بمقايسته بالوجود الطبيعي المستقل للاشياء وتفسيرها وفهمها لأن الوجود غير المدرك عقليا في استقلاليته في عالم الاشياء، هو غيره الوجود الذي تم تخليقه وتصنيعه في تناول العقل له أول مرة قبل إعادته ثانية بتخليق فكري وفهم جديد الى واقع الاشياء. وليس باللغة المعبرّة عن الوجود فقط ينفرز عنها تباين الفكر المادي عن الفكر المثالي إلا بعد الإدراك العقلي لموضوع التفكير أولا ، وفي تعبير اللغة عنه ثانيا.
فالفكر يكتسب هويته وماهيته بعلاقته بالوجود المادي المتبادل المتخارج معه، وليس باللغة التي تعّبر عن الوجود في ملازمة الفكر التجريدي لها. فالفكر يكسب الوجود ماهيته، ويكتسب هو أي الفكر بالوجود هويته وصفاته ماديا أو مثاليا.
والفكر واللغة في تلازمهما معا لا يستطيعان خلق وجود شيء وإعطائه صفاته وعلّة وجوده في علاقة تعبيرهما عنه كوجود مجرّد في الذهن فقط، وإنما الوجود يكتسب صفاته وماهيته في تعالقه مع الإدراك العقلي له، قبل الفكر المعبّر عنه في تعالقه مع اللغة.
وجود الاشياء في نوع علاقتها مع التفكير العقلي لها، تسبق الفكر واللغة المعبّرة عنها لاحقا. فالعقل يستبق الفكر واللغة في تلازمهما وإدراكهما للوجود الخارجي ، وهذا يخالف مثاليو فلاسفة نظرية المعرفة في تزمتّهم القول( أن فعل المعرفة لا يقوم في عملية إدراك الموضوع، بل في فعل خلق الموضوع، وأن الوجود لا يوجد في ذاته، إنما الفكر هو الذي ينشؤه). ببساطة متناهية الفكر لا ينشيء وجودا من فراغ مادي وجودي سابق عليه، بل من موجود أو موضوع مدرك له سابق عليه، لكنه (الفكر) يضطلع بمهمة تغيير وتبديل الاشياء والموجودات كمواضيع يدركها العقل ويعمل على تخليقها في جدلية من الصيرورة الدائمة غير المنتهية بين الموجودات ولغة الفكر المعبّر عنها. فهل يسبق الفكر أو اللغة أحدهما تراتيبيا في تعبيرهما عن الوظيفة الإدراكية التخليقية العقلية التناوبية للموضوع،؟ وفي تعبيرهما عن وجود المادي في أختلافه عن التفسير المثالي على مستوى إفصاح اللغة في علاقتها بالاثنين كوجودين غير مختلفين المادي والمثالي؟
إننا في هذه الحالة نفهم أن الفكر المادي في تمايزه عن المثالي هو في أسبقية الفكر على اللغة على صعيد الإدراك الوجودي للاشياء في الواقع عقليا (صمتا) تفكيريا تخليقيا من دون الإفصاح عنه باللغة تعبيريا. بمعنى أن تخليق وإعادة إنتاجية الشيء المفكر به (جوّانيا) من قبل العقل الذي نقلته له الحواس كموضوع لتفكير العقل به، يكون حضور الفكر سابق على عطالة اللغة في فعالية التفكير بالموضوع عقليا صامتا، وتنقلب المعادلة في الأسبقية حين يتم توظيف العقل اللغة التعبير عن الشيء في وجوده الخارجي وبإدراكه المتعيّن الجديد. فاللغة هنا تسبق الفكر. فإدراك الشيء في العالم الخارجي يكون في أسبقية اللغة التي تكون هي الفكر في ذات الوقت ونفس المهمة في تعيين وجود الشيء المدرك حسيا أو حدسيا.
وإن بدت(اللغة والفكر) كليهما متلازمتان لا يمكن التفريق بين الفكرة واللغة المعبّرة عنها إدراكا أو حدسا، كما من المتّعذّر إعطاء أسبقية لاحداهما على الاخرى في التعبير المختلف عن الوجود ماديا أم مثاليا بشكل مفارق في تمييز أحدهما عن الآخر.فاللغة قرينة الفكرفي عدم إمكانية التفريق بينهما في تعبيرهما عن الاشياء الموجودة في العالم الخارجي. والفكر يتعالق مع اللغة في فهم الاشياء وإدراكها. واللغة لا وجود حقيقي لها في مفارقتها التعبير عن الفكر وكذا لا أهمية للفكر في الوجود خارج العقل في تعبير اللغة المتعذّر عنه. فاللغة لا تعبّر عن موجودات خالية من المعنى المضموني الفكري المدرك عقليا بل وفي هذا تفقد اللغة أسمى خاصّية لها أنها وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي.
عليه يكون التمييز بين الفكر المادي عن الفكر المثالي لا يتم بمنطق تعبير اللغة المجردة أو المفصحة عنهما كموضوعين مختلفين في التعبير اللغوي فقط، كما فعل هيجل بخلاف ماركس في إعتباره الجدل أو الديالكتيك المثالي يتم بالفكر المجرد وحده وليس في تعالقه المتخارج مع الواقع أو الوجود الحقيقي المادي للاشياء.
إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكر المتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة.
في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهر الطبيعة ومواضيعها، بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان له، وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات، والعامل الأهم أنه ينظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده، والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...
فالفكر نتاج عقلي لا يعمل بغياب موضوع تفكيره، بل والفكر قوة مادية يكتسب ماديته من الجدل المتخارج مع موضوعه.. والفكر من غير موضوع مدرك له غير موجود في نظام العقل في وعيه الاشياء، أي لا يعي أدراك ومعرفة الموجودات، لأن غياب موضوع الادراك يعني غياب وجوده المادي أو المتخيّل الذي يعطي الافكار نظامها الادراكي المقبول المتسق بين موضوع الادراك ومدرك الانسان العقلي له ..
الحقيقة الثانية في إشتراط توفرها في الفكر لكي يكون فاعلا منتجا، أنه لا وجود لشيء بظواهر وماهية أي متعيّن في شكل ومحتوى مادي يدركه الانسان في الطبيعة وعالم الاشياء لا يتمتع بنوع من القوانين التي تحكم علاقته الذاتية الخاصة به كجوهر وصفات، مع العلاقة الإدراكية بالانسان كفعالية فكرية تنظم وجود الاشياء وتعمل التعريف بها وإكسابها تخليقا وجوديا مستحدثا، وأن ما يخلعه الفكر الانساني من معارف في تعديله تلك القوانين في عالم الاشياء أنما هي قوانين أدراكية فكرية لم تكن موجودة قبل ملازمة الاشياء للفكر الانساني لها الذي يريد فهمها وتفسيرها وتنظيمها،.. وليست قابلية الفكر الانساني إنشاء قوانين تخليقية بغية إيجاده كائنا أو شيئا آخر جديدا لم يكن موجودا بالفكر كما يرّوج له فلاسفة المثالية...الفكر لا ينتج عوالم الاشياء ماديا في وجودها الطبيعي من لا شيء متعيّن يسبق وجوده تفكيرالانسان المنظّم به....وعالم الاشياء والموجودات في الطبيعة هو عالم مادي رغم أن وسيلة تخليقه وبنائه المعرفي تقوم بالفكر واللغة التعبيرية المجردة التي تعتبر بمثابة المنهج والدليل الذي يقود الانسان الإهتداء به كنظريات وقوانين في تغيير عوالم الاشياء وفي مدركات الطبيعة معا..
إن نظام العالم الطبيعي الخام ونظام العالم الانساني المخترع المصنوع كيفيا متمايزا ومبتكرا في قوانينه في تلازمهما معا عرف بهما الانسان كيف ينظّم أفكار إدراكاته بما يفيده منها في عالم تفاعله الإدراكي مع عوالم الاشياء من حوله، كما أن الانسان في تخليقه لعالمه الانساني المتطور علميا ومعرفيا وعلى مختلف الصعد والنواحي وفي كافة المجالات لم يستمد تقدمه الا بمفارقته (وهم) فرضية أن قوانين الفكر التي يبتكرها ويخترعها الانسان تسعى في حقيقتها المطابقة مع قوانين الاشياء بما يقعد تطور وتبديل وجود الاشياء المحكومة بقوانين ذاتية وموضوعية ثابتة قبل محاولة الانسان تغييرها من جهة ، كما أن مطابقة الافكار لموجودات الاشياء والقوانين التي تحكمها ليس رغبة الإكتفاء بمعرفتها دون إرادة تغييرها وتبديلها، وبغير ذلك يجعل من الفكر مثاليا إبتذاليا ساكنا في علاقته بواقع الاشياء في وجودها المادي الساكن أيضا في الطبيعة، وبذلك لا يتم تبديل الواقع بالفكر، ولا تطوير الفكر بعلاقته الجدلية بتغيرات وتحولات الواقع....
الفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان الاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة مع قوانين الاشياء في وجودها قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي..
بل أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في جدل ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة واستحداث رؤيته وقوانينه لها..النتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا...
كيف تكون اللغة هي الفكر المعبّر عنه؟
التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز إدراك العقل للاشياء التفريق بينهما أي بين الفكر واللغة. إذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد بأكثر من إدراك وتأويل واحد؟.
هنا اللغة والفكر الملازم لها في التعبير ليس بمقدورهما تفسير وجود الاشياء بمعزل أحدهما عن الاخر أي بمعزل اللغة عن الفكر، أو الفكر عن اللغة لأنه يكون ذلك إستحالة إدراكية تعجيزية للعقل.في إمتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغب العقل التعبير عنه وجودا مدركا. إن في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة أن الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، أو أن اللغة هي وعاء الفكر، أو أن اللغة هي بيت الوجود. وأن اللغة مبتدأ ومنتهى إدراك وجود الاشياء في العالم الخارجي.
جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على أنها فعالية إدراكية عقلية في تحديد الفكرة أو الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم إدراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال إدحاضه في الإحتكام للعقل إدراكه الوجود.
في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل أو خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة أو الموضوع المعّبر عنه بهما. فبهما(الفكر واللغة) أصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا و متعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا أو بالأحرى من أجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.
صمت اللغة في إشكالية الفصل بين اللغة والفكر
حين نقول تفكير العقل الداخلي الاستبطاني المقصود به هو التفكير الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا.وبالواقع أن هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، إنما هما في الأصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي أو متخّيل آخر.أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة الموضوع ) المدرك في زمن واحد.وهكذا هي الحال في تناول أي موضوع أو شيء من العالم الخارجي.
إن ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعها وتوقيتاتها الزمنية المتباعدة والمختلفة في نوعيتها، لايعقلها العقل دفعة واحدة، ويعطي الدماغ ردود الافعال الإنعكاسية الإرادية وغير الإرادية لها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.
ذهبنا الى إستحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة إفصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود أو شيء ما في العالم الخارجي. وليس في التفكير الصامت داخليا للعقل. نذّكر أن علم اللغة واللسانيات تعتبر اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسير وجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة. بإعتبار اللغة فعالية العقل في تعيين إدركاته للموجودات والاشياء الخارجية.
لكننا نجازف بالمباشر قولنا أنه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي أو خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لأنه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما اللغة ، ويكون صمتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه كوجود غير مادي، أي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له.
للتوضيح أكثر التفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي أو شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، أما في تفكير الصمت (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو إلهام تخييلي في إنتاج العقل موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي، لم يكن إدراكه متيّسرا قبل إفصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال إنتاج لوحة فنية أو قطعة نحتية أو أي ضرب من ضروب التشكيل ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنه بغير لغة الكلام أو لغة الكتابة.
نأتي الآن الى معالجة أصل إمكانية فصل الفكر عن اللغة، على أنها إستحالة إدراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في إستقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالإدراك وأعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، أو لم يدركها في وجودها المستقل التي أيضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها.
يبقى عندنا أن التفكير العقلي الصامت ماديا أو خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية وأثناء التفكير بموضوع ما، أي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط بموضوع الفكر الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء أو في موضوع إبتدعه الخيال ايضا يحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه وإعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا أهمية ولا وجود لها يتاح إدراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية.
وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، أي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فأن العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة ألا على أنها جزء من الفكر وملازمة له خارج الدماغ أو العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك خارجيا من غيره إلا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.
وعندما يتجسد ويتعين الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا أو بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية أو المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات أهمية كبيرة في إتمام عملية الإدراك، ولكن تبقى اللغة في إثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها بأولويتها في التعبير عن الوجودات الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة إدراك الحس والعقل لها بعد تخليقها لموضوعها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.
بمعنى توضيحي أن اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته المستقليّن كليهما عن العالم الخارجي، وإنما تستمد اللغة أقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في إدراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع. وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون إدراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة عنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وأيضا من الفكر واللغة. لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل أهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي خارجيا عنه. اللغة إثناء زمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير الصوري لغويا. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، لكن العقل بتفكيره بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل الى مدركاته الشيئية.
علي محمد اليوسف /الموصل