«أيُّ فائدةٍ تَجْنِيها من دراسة ﭐلفلسفة، إذا كان كُلُّ ما تقوم به بـﭑلنسبة إليكـ هو أن تَجعلكـ قادرًا على ﭐلتعبيـر بشكلٍ مقبولٍ نِسْبِيًّا عن بعض ﭐلْمسائل ﭐلْمنطقية ﭐلْمُسْتَغْلِقَة، إلَخِ.، وإذا كان هذا لا يُحَسِّن طريقتَكـ فِي ﭐلتفكيـر فِي ﭐلْمسائل ﭐلْهامة للحياة ﭐليومية، وإذا كان ذالكـ لا يَجعلكـ أشدَّ وعـيًا من أيِّ صِحَافِي فِي ﭐستعمالك لتعابيـر خطيـرة يستخدمها أُنَاسٌ من أمثاله لِأَغْرَاضهم ﭐلْخاصة ؟ » لودﭬﻴﮓ ﭬِـتْـﮕِـنْشتيـن (مراسلات)
من ﭐلشائع أن "ﭐلفلسفة" لا تقبل ﭐلتعريف، حيث يُنْظَرُ إليها كنوع من ﭐلتجربة ﭐلفردية/ﭐلشخصية/ﭐلذاتية ﭐللَّتِي تستعصي، بطبيعتها، على كل تَحديدٍ موضوعي (=توضيعٌ). ولعل أهم ﭐلصعوبات ﭐلْمتعلقة بـ"ﭐلفلسفة" تَجد بدايتها مع هذا ﭐلِاعتقاد ﭐلسائد بَيْن مُحترفِي "ﭐلفلسفة" أنفسهم، ﭐلذين يَظُنُّ معظمُهم -فِي ﭐلغالب- أن "ﭐلفلسفة" تكتسب مزيدا من ﭐلِامتياز إذا نُظِر إليها وعُرِضَت بِهذا ﭐلصورة. لَكنَّ أيَّ تفكيـرٍ حول "ﭐلفلسفة" لا يُمكن أن يتم من دون إعطاء تعريفٍ لَها، يكون شاملًا وواضحا بِهذا ﭐلقدر أو ذاكـ. لِهذا نَجد أنفسنا، فِي بداية هذا ﭐلْمقال، نستعمل لفظ "ﭐلفلسفة" بـﭑلتعريف ﭐلتالِي : "ﭐلفلسفة" مَجالٌ لِمُمارسةِ نوعٍ من ﭐلتفكيـر ﭐلْمنهجي الذي يتجسد فِي مادةٍ خِطَابِيَّةٍ (هي ﭐللَّتِي تشكل موضوعَ ﭐلدراسة/ﭐلتدريس على مستوى ﭐلتعليم ﭐلثانوي وﭐلْجامعي بعددٍ من بلدان ﭐلعالَم ﭐلْمعاصر)، والذي يَنْصَبُّ على ﭐلْمُشكلات ﭐلأساسية فِي ﭐلوجود ﭐلْإنسانِي ويتميز بأنه تفكيـر عميق وعام ؛ وهو ﭐلتفكيـر الذي يرجع فِي جذوره -على ﭐلْأقل بـﭑلنسبة لبعض ﭐلْأمم- إلَى بضعة قرون قبل ميلاد ﭐلْمسيح. ويترتب على هذا ﭐلتعريف أن "ﭐلفلسفة" تفكيـر عميق يتجاوز ﭐلتفكيـر ﭐلسطحي للإنسان ﭐلعادي ويرمي إلَى ﭐلْإمساكـ بـ"ﭐلْعِلَلِ" ﭐللَّتِي تَـتَحَكَّمُ فِي سَيْرِ ﭐلْأشياء، وتفكيـرٌ عامٌّ يَعْلُو على ما هو جُزئي وفَردي فِي ﭐلوجود ﭐلْإنسانِي بـﭑلنظر فِيما ينطبق على ﭐلْمجموع بِحيث يكونُ كُلِّـيًّا وجَامِعًا (قد لا يكون، فِي ﭐلْواقع، تَحديدُ ﭐلفلسفةِ كفكرٍ عميقٍ وعام سوى ﭐدِّعَاءٍ سرعان ما ينقلب إلَى فكرٍ سطحِيٍّ يقفُ عند ﭐلصُّوَرِ ﭐلذِّهْنِيَّةِ ﭐلْقَبْلِيَّةِ ولا يتجاوز ﭐلتجربةَ ﭐلفرديَّةَ ﭐلْمُتَحَيِّزَةَ زمانيا ومكانيا، وهذه مسألة تستدعي -هي وحدها- وقوفًا طويلًا ليس هذا مقامه). ومن هنا يَأْتِي ﭐلتساؤلُ عن فائدة "ﭐلفلسفة" بِـﭑلنسبَةِ لِـلْإنسان فِي وُجُوده بِهذا ﭐلعالَم. لَكن هذا ﭐلتساؤلَ لا يأتِي فقط، كما قد يَـبْدُو لِأوَّلِ وَهْلَةٍ، من كَوْنِ "ﭐلفلسفة" تَدَّعِي تناولَ ﭐلْمشكلات ﭐلْأساسية فِي ﭐلوجود ﭐلْإنسانِي، مِمَّا يُوجِب بـﭑلتأكيد ﭐلْميلَ نَحو معرفة ما يُمْكِنها أن تقدمه من فائدة (أي من حلول) لِـلْإِنسان ﭐلعادِيِّ، الذي يُعانِي بشكلٍ يَوْمِيٍّ وعَيْنِيٍّ ﭐلوجودَ فِي ضرورته وتَعَقُّده، وإنَّما هو تساؤلٌ يزداد إِلْحَاحًا -فِي ﭐلواقع ﭐلْمعاصر- بفعلِ تَنَامِي ﭐلنظرة ﭐلنَّفْعِيَّة وﭐلْعَمَلِيَّةِ إلَى كُلِّ مَوَادِّ ﭐلتعليم/ﭐلتدريس، من جَرَّاءِ تَقَدُّمِ سَيْرُورَةِ ﭐلتعقيل وﭐلترشيد ﭐلقائمة على إِيـجَادِ ﭐلْآليات ﭐلْمعرفية وﭐلتقنية ﭐلكفيلة بِـﭑلِاستجابة، على ﭐلْمستوى ﭐلعملي، لِحاجات وتَحَدِّيَات ﭐلْحياة ﭐلْإنسانية فِي تَنَوُّعِها وتطورِها وتَعَقُّدِها ؛ وهو ﭐلْإلْحاحُ الذي تَتِمُّ تَرْجَمَـتُهُ ﭐلفعليَّةُ من خلال ﭐلعمل على ﭐلصياغة ﭐلتقنية وﭐلْإجرائية (أي ﭐلْخطاب ﭐلتنظيـري ﭐلْمُتَكَاثِرِ، مُنْذُ عِدَّةِ عُقُودٍ، حول ﭐلْأهداف وﭐلْكَفَاءاتِ) لِطُرُقِ ومضاميـن تعليم/تعلُّم ﭐلْموادِّ ﭐللَّتِي يُمكن أن تكون موضوعا للدراسة وﭐلتدريس فِي أي مستوًى من مستويات ﭐلتعليم/ﭐلتعلُّمِ. ولِهذا فإن "ﭐلفلسفة" أصبحت، هي أيضا، تَخضع (وتُخْضَعُ) لِسُؤَال ﭐلفائدة ﭐلباحث عن تَبَـيُّنِ مدى جَدْوَى هذه ﭐلْمَادَّةِ فِي ﭐلتعليم وقيمتها ﭐلنَّفْعِيَّةِ.
ويُمْكِنُ، كذالكـ، أن يُجَابَ عن سُؤَالِ فائدة "ﭐلفلسفة"، ببساطةٍ بَالِغَةٍ، من مَوْقِعِ ﭐلِاسْتِسْهَالِ ﭐلْمُسْتَفْحِلِ بَيْن ﭐلناس بـﭑلقول إن "ﭐلفلسفة"، بِما هي مُمارسة تشتهر بـﭑلقيام على ﭐلتأمل ﭐلْمجرد مُعتبَرًا كَـتَرَفٍ فكري وعملي، ليست سوى مَضْيَعَةٍ للوقت، وبـﭑلتالِي فإن فائدتَها تتمثل، بـﭑلنسبة للمُعلم وﭐلْمتعلم معًا، فِي كونِها حاجزا يُضاف إلَى مَجموع حواجز ﭐلدخول أو ﭐلعُبُور ﭐللَّتِي يُنْتِجُها -بـﭑلضرورة- كل نظام ﭐجتماعي، خصوصا على مستوى ﭐلنظام ﭐلتعليمي لِـﭑمْتِحانِ ﭐلناشئيـن وﭐلطامعيـن ﭐلْجُدُد. وهكذا فإن ﭐلْحديث، من هذا ﭐلْمنظور، عن فائدةٍ مُعَيَّنَةٍ لِـ"ﭐلفلسفة" ليس سوى دفاعٍ عن مصالِح ﭐلْمنتفعيـن من تعليم/تعلُّم "ﭐلفلسفة" (أي ﭐلْمتفلسفيـن، ﭐلْمؤلفيـن، ﭐلناشرين، ﭐلْمُدَرِّسيـن). وبـﭑلفعل فإن هؤلاء هُمْ أوَّلُ ﭐلْمَعْنِييـنَ بإبراز فوائد "ﭐلفلسفة". وكل تَغَاضٍ عن هذا ﭐلْأمر يَرْجِعُ إلَى تأكيد ﭐلْمصالِح ﭐلْمتضمَّنَة فِي أيِّ دعوةٍ أو مُحَاوَلةٍ للدفاع عن "ﭐلفلسفة"، وهي ﭐلْمصالِح ﭐللَّتِي لا يُراد، لِأسباب ﭐجتماعية ومعرفية، ﭐلِاعتراف بِها. ولِهذا فإنَّ أوَّلَ مَا يَجْدُر تأكيدُه هو أن فائدة "ﭐلفلسفة" ثابتةٌ بكلِّ وُضُوحٍ لِلْمُستفيدِين، بشكل مباشر أو غيْر مباشر، من تعلُّمِها/تدريسها. لكن، ماذا يُمكن أن تُفِيدَ "ﭐلفلسفةُ" جُمهورَ ﭐلْمُتَلَقِّيـنَ (أي ﭐلْمتعلميـن وﭐلقراء)، أي مَجموع الذين يتحددون بصفتهم مُسْتَهْلِكيـنَ للمنتجات ﭐلْمتعلقة بِمادة "ﭐلفلسفة" (مُنْتَجَات تتجسد فِي صورة دروس، مُحاضرات، مقالات، كراسات، مُحاضرات) ؟
إن ﭐلنظر فِي وضع ﭐلْجمهور ﭐلْمتلقي لـ"ﭐلفلسفة" يَجعلنا نتساءل عن حاجاته ﭐلْأساسية. وهنا نَجد، أولًا، أن ﭐلْإنسانَ ﭐلعادِيَّ لا يَحتاجُ لشيءٍ أكثر من ﭐحتياجِهِ إلَى أن "يَعِيشَ"، أي أن يستجيب إلَى حاجاته ﭐلضرورية، ﭐلعملية وﭐلْمباشرة وﭐلِاستعجالية (مأكل، مشرب، ملبس، مسكن، منكح، ملَهى). ومن ﭐلْمفارقة أن حاجات ﭐلْجمهور ﭐلْخاص (مُنْتِجِي ومُسَوِّقِي "ﭐلفلسفة") هي أيضا تَؤُول، فِي ﭐلنهاية، إلَى مثل هذه ﭐلْحاجات ﭐلْحيوية ﭐلْأساسية، بل إن أي تَوْضِيعٍ لِمَسَارات ﭐلْمُنْتِجيـن فِي مَجال "ﭐلفلسفة" ينتهي إلَى تَبَيُّنِ أنَّ "ﭐلفيلسوف" أو "ﭐلْمتفلسف" هو، كذالكـ، له قَدْرٌ هَامٌّ من هذه ﭐلْحاجات، على ﭐلرغم من أن ﭐلفلاسفة حرصوا ولا يزالون على تأكيد أن إنتاجهم ﭐلفلسفي إنَّما هو نِتَاجُ تَعَالِـيهِم على ضرورات ﭐلْحياة ﭐليومية، هذا ﭐلتَّعَالِي الذي يَجعلهم يتفرغون للفكر ويُعْرِضُون عن كل ﭐلْأغراض ﭐلعملية ﭐلْمباشرة (بِما فيها تلكـ ﭐللَّتِي ترتبط بـﭑلبُروز ﭐلِاجتماعي وﭐلشهرة وﭐللَّتِي تدفعهم إلَى ﭐلتنافس). وهذا هو سِرُّ تأكيد أن "ﭐلفلسفة" فكرٌ نظرِيٌّ مُجَرَّدٌ (مُجرد، فِي زعم هؤلاء، عن كل تَحديد حِسِّي-مَادِّي مُتَدَنٍّ ومُبتذَل).
ومَا إِنْ نَتَكَلَّمْ عن ﭐلْحاجات ﭐلْأساسية لِلْإِنسان ﭐلعادِيِّ حَتَّى تَبْرُزَ أمامنا ﭐلْمجالاتُ ﭐللَّتِي لا يتردد أصحابُها فِي إعلان ﭐهتمامها بتلبية هذه ﭐلْحاجات : ﭐلدين، ﭐلِاقتصاد، ﭐلسياسة، ﭐلعلم، ﭐلْأدب، ﭐلفن، ﭐلرياضة، وَسَائِلُ ﭐلِاتصال ﭐلْجماهيـري (ﭐلصحف، ﭐلْإذاعة، ﭐلتلفزة، ﭐلْأنترنت). فـ"ﭐلدين" يسهر على إنتاج وتربِية جُملة ﭐلِاعتقادات وﭐلشعائر ﭐللَّتِي تُعطي للوجود معناهُ وتُوَفِّرُ لِلْإِنسان سَبَبًا لِتَحَمُّلِ أعباء ﭐلْحياة، إنه مَجالٌ يقوم على ترسيخ "ﭐلْإيـمان" بأن ﭐلوجود فِي هذا ﭐلعالَم يستحق أن يُعَاشَ مهما تَكُنْ قساوتُه وهشاشتُه، لِأن هذا ﭐلبلاء هو ﭐلسبيل ﭐلوحيد إلَى تَطهيـرِ ﭐلنفس ﭐلْمُفْضِي إِلَى نَيْلِ ﭐلرِّضَى ﭐلْإلاهي. وَ"ﭐلِاقتصادُ" فِي ﭐهتمامه بِطُرُق إنتاج وتلبية ﭐلْحاجات ﭐلْأساسية يَعْتَبِرُ نفسه ﭐلْخادمَ ﭐلْأولَ لِلْإنسان، فهو يُوَفِّرُ وسائلَ ﭐستثمارِ ما يَمتلكه ﭐلْإِنسان من طاقاتٍ ومواردَ ماديَّةٍ ومعنويَّةٍ لِتَيْسِيـرِ سُبُل ﭐلعيش وﭐلتخفيف من عَنَاءِ ﭐلْحياة. وتأتِي "ﭐلسياسةُ" لِتَـتَكَفَّل بِتَدْبِيـر ﭐلشأن ﭐلعامِّ وإدارة ﭐلْمُعامَلات وﭐلتفاعُلاتِ فِي "ﭐلْمجتمع" على نَحْوٍ "مَدَنِيٍّ" يسمح بتداولٍ تشارُكِيٍّ وتكامُلِيٍّ لِأَقْدَارِ ﭐلسلطة بِمَا يَحْفَظُ ﭐلْأمن وﭐلْحرية وﭐلْمُسَاواة بَيْنَ ﭐلْمتنافسيـن (ﭐلْأعضاء فِي ﭐلْمدينة-ﭐلْمجتمع بِما هُمْ مُواطنون). وينهض "ﭐلعلمُ" بواجب بناء معرفةٍ حقيقيَّةٍ بـﭑلواقع ﭐلطبيعي وﭐلْإنسانِي بشكلٍ يُؤدِّي من ﭐلْإجابة عن ﭐلْأسئلة ﭐلْمُقْلِقة وتَحْضِيـر ﭐلوصفات ﭐلتقنية ﭐللَّتِي تُمَكِّنُ من تسخيـر ﭐلعالَم وبَسْطِ سيطرة ﭐلْإنسان عليه. ويتضافَرُ (أو بـﭑلْأحرى صار يتضافر) كُلٌّ من ﭐلْأدب وﭐلفن وﭐلرياضة على صياغة ﭐلصورة "ﭐلشعرية" (ﭐلسحرية) للعالَم من خلال ﭐستعراض ﭐلْقُوَى ﭐلبِنَائِيَّة وﭐلتشكيلية للقدرات ﭐلْخَيَالية لدى ﭐلْإنسان طَلَبًا لتنمية إمكانات ﭐلتناوُل ﭐلْمَرِح (بواسطة ﭐللَّعِب وﭐللهو) للضرورة ﭐلْمُلازِمة لِسَيْرِ ﭐلعالَم. وأخيـرًا وليس حقيـرًا، تأتِي وسائلُ ﭐلِاتصال ﭐلْجماهيـري لِتُبَلْوِرَ (أوْ تَلُفَّ) كُلَّ ثَمرات ﭐلعمل ﭐلْإنتاجي لِلْإنسان فِي صُورَةِ تَسْلِيَةٍ (وَتَلْهِيَةٍ) من خلالِ ما تَمتلكه من قدرة على ﭐلنشر ﭐلواسع وﭐلدائم، وذالكـ بشكل يزيد فِي ﭐستثمار وﭐستنفار إمكانات ﭐلْحياة ﭐلْمتاحة تاريـخيا وﭐجتماعيا للناس فِي هذا العالَم. ولَعَلَّ أهَمَّ ما يُمَيِّزُ هذه ﭐلْمجالات هو أنَّها تتكامل إلَى حدِّ ﭐلتداخل فيما بينها، كما يظهر بوضوحٍ شديدٍ فِي ﭐلتعالقات بَيْن "ﭐلدين" و"ﭐلسياسة" و"ﭐلِاقتصاد" و"ﭐلرياضة" أو بَيْن "ﭐلْأدب" و"ﭐلفن" و"ﭐلعلم"، وهو ﭐلتداخل الذي ﭐزداد قُوَّةً وﭐتِّساعًا بفضل ما صارت تُتِيحُه وسائلُ ﭐلِاتصال ﭐلْجماهيـري من إمكاناتٍ فِي ﭐلتسويق وﭐلِاستهلاكِـ و، من ثَم، إعادة ﭐلْإنتاج.
تُرَى ماذا تتركـ هذه ﭐلْمجالات، ﭐلْمُحْتَرِفة فِي إنتاج ﭐلْمطالب ﭐلْأساسية للوجود ﭐلْإنسانِي، لِـ"ﭐلفلسفة" ؟ يُجيب ﭐلفيلسوف أو ﭐلْمتفلسف : يبقى للفلسفة شيء كثيـر، بل يَتَبَقَّى لَها ﭐلْأهم، وهو شيء يُفْلِت من ﭐلقدرات ﭐلْإدراكية لتلكـ ﭐلْمجالات. ذالكـ بأن ﭐلْأمر يتعلق، ﭐبتداء، بِمجموعةٍ من ﭐلْمجالات ﭐللَّتِي لا تَهتم إلا بـﭑلِاستجابة للمنفعة ﭐلعملية ﭐلْمباشرة فِي تَغَيُّرها وتناقُضِها، وهو ﭐلِاهتمام الذي يَجعلُها خاضعةً لِإكراهات ﭐلضرورة ﭐلْجُزْئِية وﭐلْمستعجِلَة ويَحْرِمُها، من ثَم، ﭐمتيازاتِ ﭐلنظر ﭐلْمُعْرِض عن كلِّ قصدٍ غَيْر قصد ﭐلفهم فِي ذاته، ﭐلقصد ﭐلْخالص الذي يطلبُ ﭐلْمعرفةَ مُجردةً عن كل ﭐلْأغراض ﭐلْشَّاغِلَة وﭐلْمُضَلِّلَة، وهذا هو ﭐلشرط الذي يضمن للفكر –فِي ظن ﭐلفلاسفة- أن يُمْسِكـ بِحقيقة ﭐلوجود وأن يَكُون مُحَرِّرًا. ويتعلق ﭐلْأمر، ثانيا، بِمجالاتٍ تقوم على ﭐلْمعرفة "ﭐلْموضوعية" (بل "ﭐلْموضوعانية") ﭐللَّتِي لا تتجاوز فِي إدراكها (أو تَجربتها) للْأشياء مستوى "ﭐلظاهر" وﭐللَّتِي لا قدرة لَها على ﭐلنفاذ (لِـﭑفتقادها ﭐلْحدس كمعرفةٍ مباشرة وحَيَّة) إلَى "ﭐلباطن" الذي يُمثل ﭐلْمَحَلَّ ﭐلطبيعي لـ"ﭐلْحقيقة"، أي أننا –فِي ﭐلواقع- أمام مَجالاتٍ "لا تُفَكِّر" (وَفْقَ تأكيد هَيْدِﮔِـر). ولِهذا كله، فإن ﭐلفلسفة تَتَحَدَّدُ كفكرٍ عامٍّ وعميقٍ، فِكْرٍ "بَعْدِيّ" ("مِيتَا-فيزيقا")، يأتِي "بَعْدَ" ﭐلتجربة ﭐلعادية/ﭐلْمألوفة للعالَم و"بعد" ﭐلْمعرفة ﭐلطبيعية بـﭑلواقع. لكن من ﭐلْمُفَارقة أن ﭐلفلاسفةَ ظلوا يستفرغون كُلَّ وُسْعِهم لِقَلْبِ "بَعْدَ" لكي تُفْهَم بِمعنَى "قَبْل"، فـﭑلتجربة ﭐللَّتِي تسبق فكرَ ﭐلفيلسوف لا تؤثر مطلقا فيه، لِأنَّها مُجرد قِشْرَة حاجبة ومضللة ("ظن")، لا تستحق سوى أن تُستبْعَد وتُنْبَذ، لكي تفسح ﭐلطريق أمام "ﭐلفلسفة" بِما هي فكرٌ قَبْلِيٌّ ومُتَعَالٍ، أي فكرٌ "فَوْقِيٌّ" (وَ"فَوْقَانِيٌّ) له كل ﭐلامتيازات ﭐللَّتِي تُعْطيه (وتضمن له) ﭐلتَّفَوُّق على ما عَدَاهُ، حيث يصيـر فِكْرًا لا فِكْرَ أفضل وأشرف منه (أي أعلم منه). تُرَى، إِذَا تَجاوزنا كل مظاهر ﭐلزِّينَة ﭐللَّتِي ما فتئت "ﭐلفلسفة" تعرض بِها نفسها، ماذا نَجِدُ من شيءٍ "حقيقي" ؟ ما هو هذا ﭐلشيء الذي تُنتِجه "ﭐلفلسفةُ" وتستطيع أن تَبِيعَه فِي سُوق ﭐلْخَيْرات ﭐلْمادية وﭐلرمزية بِدُنيا ﭐلناس ؟ إن "ﭐلفلسفة"، مهما تَجْهَدْ فِي ﭐلتَّمَيُّز، لا تستطيع أن تُثْبِتَ نفسَها إِلا بِمَا هي مَجالٌ للِاشتغال ﭐلْمنهجي يقومُ بإنتاج وجهة نظرٍ خاصةٍ عن ﭐلواقع، أي أنَّها مُمارسةٌ فكريةٌ-خِطَابِيَّةٌ تَعمل على قَوْلِ حقيقةِ ما تفكرُ فيه وتُعَبِّر عنه. ومن هنا فإنه لا يُمكنها إلا أن تكون واقعةً (وخاضعةً) لشروط ﭐلتنازع حول "ﭐلْحقيقة" فِي هذا ﭐلعالَم. إنَّها وِجهةُ نَظَرٍ من بَيْنِ وجهاتِ نظرٍ أخرى مُمكنة، أي أنَّها –بِما هي وجهة أو زاوية للنظر – وجهةٌ أو زاويةٌ مُحددَةٌ تاريـخيا وﭐجتماعيا و، من ثَم، متحيزة معرفيًّا. فـ"ﭐلفيلسوف" لا يَنْظُر (بـﭑلْمعنَى ﭐلْمُزدَوِج) إِلا من موقعٍ مُحدَّدٍ بِمجموع ﭐلشروط ﭐللَّتِي تَحَكَّمَتْ فِي مسارِ تَكَوُّنِهِ وجعلته يَنْبَنِي كفاعلٍ فِي مَجَالٍ (قائم على ﭐلصراع وﭐلتنافس) يَختص بِإنتاج نوعٍ من ﭐلْمنتجات ﭐللَّتِي لَها، بِهذا ﭐلقَدْر أو ذاكـ، قِيمَةٌ (نِسْبِيَّةٌ) فِي سوق ﭐلقيم ﭐلثقافية بِمجتمعه ﭐلْخاص. وهكذا فإننا، حينما نَمضي فِي توضيعنا للتفلسف إلَى أبعدِ حَدٍّ، ننفتح على ما هو "ﭐعتباطي"، أي ما لا يُمكن تعليلُه (إدراكه على نَحو عقلي) إلا بـﭑلنسبة إلَى شُرُوط إنتاجه وتداوله ﭐلْخاصة ضمن مَجموع ﭐلشروط (ﭐلِاقتصادية وﭐلِاجتماعية وﭐلتاريـخية) ﭐللَّتِي تُحدد –بـﭑلضرورة- نسقَ ﭐلْممارسات ﭐلْإنسانية فِي هذا ﭐلعالَم. ويترتب على هذا أن "ﭐلتفلسف" لا يتخذ جدارتَهُ (جَدْوَاه) ﭐلكاملة إلا بِتَعْيِينِهِ فِي سَيْرُورَةٍ تاريِخِيةٍ وﭐجتماعيةٍ لِتَيْسِيـرِ قيام فضاآتٍ لِمُمَارسةِ نَوْعٍ من "ﭐلتَّنْسِيبِ ﭐلْمتبادل" فِي كُلِّ مَجالات ﭐلفكر وﭐلْخطاب، على نَحو يسمح بتأسيسِ وُصُولٍ جَمَاعِيٍّ (أي مشتركـ وحقيقي) إِلَى ﭐمتيازات "ﭐلثقافة"، من خلال نشر أدوات (أو أسلحة) مقاومة "ﭐلعنف ﭐلرمزي" (ﭐلْمرتبط بأنْماط ﭐلسيطرة وﭐلسلطة ﭐلرمزية) فِي عالَمٍ لا يتميز بشيء بقدر ما يتميز بكونه يزداد بُطْلان (أو إِبْطَالُ) سِحْرِه. ولذا فإن "ﭐلفلسفة"، إن كانت تُريد أن تُثبت أهَميتَها فِي ﭐلْمجتمع ﭐلْمعاصر، مطالبَةٌ بـﭑلِانْخراط فِي مهمَّةٍ لبيان حُدُود ﭐلْخطاب وﭐلفكر، وذالكـ من أجل ﭐلتمكن من فضح ﭐلِاستعمال ﭐلسُّوفِسْطائي (أي ﭐللافَلْسَفِي) لِأشكال ﭐلتعبيـر وﭐلتفكيـر، وهو ﭐلِاستعمال الذي لا يَتَوَرَّعُ عن إتيانه، بشكل مُحْتَرِفٍ جِدًّا ومنذ ﭐلقدم، كثيـرٌ من ﭐلفلاسفة. وهذا معناهُ أن فائدة "ﭐلفلسفة" لا تتحدَّدُ (ولا تزدادُ) إِلا بقدر ما يَتِمُّ ﭐلتواضُعُ فِي إدراكـ مُهِمَّتِهَا أو، بعبارة أخرى، وَفْقَ ما يقوله هِيـﮕَـل :« لكي نقول أيضا كلمةً عن ﭐدِّعاءِ تَعْلِيمِ كيف يَجب أن يكون ﭐلعالَمُ، نُـلاحِظُ أن ﭐلفلسفةَ، على كل حالٍ، لا تأتِي دائما إلا متأخرة جِدًّا. إِذْ بِما هي فِكْرٌ حول ﭐلعالَم، فإنَّها تظهر فقط حينما يُكْمِلُ ﭐلواقع ويُنْهِي سَيْرورة تَكَوُّنِه. وما يُعَلِّمُنا إياه ﭐلْمفهوم، يُـبَـيِّنُه لنا ﭐلتاريخ بنفس ﭐلضرورة : ففي نُضْجِ ﭐلكائنات يظهر ﭐلْمثالِي فِي مواجهة ﭐلواقعي ؛ وبعد أن يكون قد أمسكـ بـﭑلعالَم نفسِه فِي جوهره، فإنه يُعيد بناءه فِي صورةِ مَملكةٍ من ﭐلْفِكَرِ. وحينما تضع ﭐلفلسفة لونَها ﭐلباهت على ﭐلصباغة ﭐلرمادية، يكون أحدُ تَجليات ﭐلْحياة قد كادَ يَشِيخُ. فلا يُستطاعُ أن يُعَادَ إليه شبابه بوضع لونٍ رماديٍّ على آخرَ رمادِيٍّ، ولكن يُمكن فقط أن يُعْرَف. إنَّ بُومَة مِنِرْﭬَـا لا تأخذ فِي ﭐلطيَران إلا عند بداية ﭐلغروب.» (أصول فلسفة ﭐلْحق). وتبقى لبورديو بَقِيَّةٌ (هي ﭐللَّتِي تَصْنَعُ ﭐلفَرْقَ كله) لكي يضيف : « تُوجِبُ، مع ذالكـ، ﭐلْملاحظةُ ﭐلنبيهةُ لِسَيْـرِ ﭐلعالَمِ ﭐلْمَيْلَ إلَى مَزِيدٍ من ﭐلتواضعِ، ما دام من ﭐلواضح أن ﭐلقدرات ﭐلفكرية لا تكون ُأبدًا ناجعةً إلا حينما تُمَارَسُ بِمُسَايِرَةِ ﭐلِاتِّجاهاتِ ﭐلْمُلازِمةِ للنظام ﭐلِاجتماعي، حيث تُضَاعِفُ على نَحْوٍ غيْر قابل للنقاش، بواسطة ﭐلْإغفال أو ﭐلتواطؤ، آثارَ قُوَى ﭐلعالَم، ﭐللَّتِي تُعَبِّر عن نفسها أيضا منْ خِلالِهَا.» (تَـأَمُّلات بَـسْكَالِيَّة).