تحت تأثير كارثتي الزلزال والفيضان اللتين ضربتا على التوالي وبشكل متزامن بلدين عربيين مغاربيين (المغرب وليبيا)، قلت في قرارة نفسي: كيف قاربت الفلسفة إشكالية الكوارث؟ لمحاولة إيجاد جواب عن هذا السؤال، عثرت على مقال بالعنوان أعلاه كتبه فلوران بوسي الحاصل على دكتوراه في الفلسفة. كان مدرسا لهذه المادة في المدرسة الثانوية، قبل أن يتم تعيينه محاضرا في جامعة روان الفرنسية (2006-2013). ألف العديد من الكتب ونشر العديد من المقالات، ويتعاون حاليا مع مجلة “Les Zindigné(e)s”، التي يديرها بول أريس.
المقال:
إن التفكير في الكوارث المعاصرة يجب أن يجعل من الممكن تسليط الضوء على خصوصياتها، بما يتجاوز القواسم المشتركة الواضحة للأحداث المؤلمة التي عانى منها البشر منذ بداية تاريخهم. ومن الضروري بالفعل تجنب الوقوع في مأزق الارتباك التاريخي الذي يتجاهل حقيقة أن عصرنا يحمل في داخله الكارثة، لأنه يثيرها ولأنه ينفيها.
إن معرفة الكوارث الحالية والمستقبلية الجديدة تظهر أولاً كاعتراف بما يجعلها كوارث “خاصة بنا”. ولا يمكن للسياسة أن ترقى إلى مستوى تحديات العصر إلا بهذا الشرط، وهو أيضا ثمن (يؤدى).
إن التفكير في الكوارث العالمية كثيرا ما يثير السخرية، لأن الوجود الحالي للعالم سيكون دليلاً من لحم ودم على أنه تم تجنب الكوارث أو أن آثارها كانت جزئية فقط. “لا داعي لجلد قطة”، “ترهات دعاة نهاية العالم”، هذا ما يقوله الذين يسمون بالمفكرين الواقعيين.
ومع ذلك، فإن وضعنا يقاوم ما يسمى بواقعية القياس والحس السليم، لأن شيئا ما قد تغير في طبيعة الكوارث التي يواجهها الناس بشكل دوري، وهو الأمر الذي يجعل من المستحيل بالنسبة لنا أن نعلن ببساطة، بشكل عرضي أو موثوق، أن العالم، غدا كما اليوم (اليوم كما ألبارحة)، سوف يتعافى من العنف الذي هزه لبعض الوقت. هذا هو التغيير الذي نقترح مساءلته هنا، لأنه يتعلق بحالة الإنسان المعاصر.
سوف ندرك بسهولة أن هذه الكوارث تجد مصادرها في أفعال البشر. ولكن، بعيداً عما هو واضح، هناك الرابط الذي يوحد الكوارث التي تجتاحنا اليوم، والتي تستمر حدتها في النمو ـ بالعلاقة التي يحافظ عليها أناس الحداثة المتقدمة مع الطبيعة والعالم والوجود.
نحن نتحدث هنا عن “كوارثنا”، لأن الكوارث التي من المناسب التفكير فيها، والتي تشكل الحقيقة الكبرى في عصرنا (وبخاصة تلك التي لم تحدث بعد ولكن تم الإعلان عنها)، تأتي منا، بدلاً من أن تحدث لنا على أنها “كوارث طبيعية” أو “غضب إلهي”.
انفجرت «كوارثنا» على الشاشة، وتردد الأخبار اليوم أصداء الكوارث من جميع الأنواع التي تخلّلت تاريخ العالم. ومع ذلك، فالأمر يتعلق باللامفكر فيه لعصرنا، الذي لا تأخذه أي سياسة، ولا أي تحليل إعلامي في الاعتبار، لأن الأمر يتعلق، لا أكثر ولا أقل، ببشر منشغلين بمهام أكثر إلحاحا وجدية من أن يفكروا في أنفسهم.
لا جدال في أن المفهوم الذي يتوقعه العصر منا هو مطلب حقيقي: قفزة حقيقية إلى نقيضه يتعين علينا أن نقوم بها.
إن التفكير في الكوارث يدين بالكثير لعمل وأعمال غونتر أندرس، المؤلف الألماني الذي شارك في النضال من أجل نزع السلاح النووي، والذي لم يكن معروفاً منذ فترة طويلة، وخاصة في فرنسا، ولكن السنوات الأخيرة جعلته فيلسوفاً كبيراً.
منذ انفجار القنبلتين الذريتين، أخذ أندرس يفكر في كوارث من نوع جديد، مصدرها أفعال البشر. انتقل تفكيره من التفكير الأنطولوجي الكلاسيكي إلى الحاجة إلى فهم الوضع الجديد، حالة الطوارئ الحيوية، التي تجد البشرية نفسها في مواجهتها. يهدف هذا التصور للفلسفة إلى مواجهة تحديات العصر، وحال الإنسان في الحداثة المتقدمة، بعيدا عن النزعة الأكاديمية للفلسفة الجامعية.
يندد أندرس بما يسميه “التفاوت البروميثيوسي” في عصرنا، أي حقيقة أن ملكاتنا (الفعل، الفكر، الخيال، المشاعر، المسؤولية) لا تنجح في الاتفاق، لكل منها إيقاعه الخاص: الناس غير قادرة على التفكير في ما تفعل، على فهم معنى ما تعرف، على الشعور أو تخيل ما تنتج.
هكذا «لا نقاش في كوننا ‘نعرف’ العواقب التي قد تترتب عن حرب نووية. لكننا ‘نعرف’، على وجه التحديد، ذلك فقط. هذه ال’فقط’ تعني أن ‘معرفتنا’ هاته هي في الواقع قريبة جدا من الجهل. وهو أقرب منه إلى الفهم”. (2006، 296)
يبدو الناس منقسمين في ما بينهم، رغم أنهم اكتسبوا قوة لم يسبق لها مثيل. إننا نشهد استخفافا شديدا بالشر، مما يجعله غير محسوس وغير مفهوم. يبتعد الوعي عن كل مسؤولية وعن كل عاطفة. وهكذا أصبحت القنبلة النووية اختراعا تقنيا كأي اختراع آخر. إن حقيقة كون السلاح النووي الحراري يمكن أن يقتل عدة ملايين من الأشخاص لا ينبغي أن تعيق عملية التصميم والتصنيع.
فشل الخيال يعني أننا “لسنا في مستوى ‘بروميثيوس الذي فينا'” يلخص “التفاوت البروميثيوسي” عدم حساسية الإنسان المعاصر تجاه المعاناة التي يساهم فيها. يخضع الناس لعمليات تحيط بهم وتصبح أفقهم الفكري الوحيد، فهم غالبا ما يتصرفون، في إطار مهنهم، أنشطتهم الترفيهية واستهلاكهم، بما يتجاوز الخير والشر، دون أي اعتبار للتبعات الأخلاقية المحتملة لما يفعون على الناس ابآخرين، على الطبيعة أو على المستقبل. وهذا يمنحهم الاستقرار العقلي، حيث يتحررون من عبء حرية الوعي الذاتي.
“إن الشعور بالأمان هو الثمن الذي ندفعه مقابل مسؤوليتنا، أي حريتنا. وهذا الشعور بالأمان يتدفق نحونا بشكل عفوي وتلقائي مثل الماء أو الغاز أو الصور التلفزيونية أو أي تدفق يصل إلينا”. (2006، 270)
سوف توجه تحليلات أندرس دراستنا للكوارث، لأنها تسلط الضوء على ما يشكل ينابيعها النفسية الرئيسية، أي اللاوعي وانعدام المسؤولية.
منذ وقوع كارثة تسونامي التي دمرت سواحل جنوب شرق آسيا في ديسمبر 2004، أصبحت صور الكوارث مألوفة بالنسبة إلينا، وذلك بفضل انتشار وسائل التسجيل المصغرة. لقد رأينا أنه من خلال اختراق المياه للأرض، يمكن للمياه أن تحمل الحافلات والقطارات والمنازل وجميع الأشخاص الموجودين في طريقها. لقد أذهلتنا أيضا الفرص العديدة التي تحكم موت الأشخاص أو بقاءهم على قيد الحياة أثناء وقوع الكارثة. أحيانا تلفظ حيوات أنفاسها في بضع ثوانٍ فقط، وغالبا ما يكون الجهل وفقدان الوعي حاسمين.
إن السمة الأساسية للكوارث (هجمات، فيضانات، انهيارات أرضية، عواصف، إلخ..) هي الظهور كنتيجة لآليات عمياء يعاني منها ضحايا أبرياء لا حول لهم ولا قوة، وبالتالي كشر شامل، دون عزاء ممكن.
يتم تجريم الأنشطة الإنسانية، وفي الحالة الأولى (هجمات) تتم إدانة الإرهابيين. يمكننا أيضا أن نتحدث عن طرق إلهية لا تسلك ويمكنها، بطريقة أو بأخرى، أن تجلب تبريرا أو عزاء أو وعدا بالانتقام أو دعما بسيطا. لكننا نسارع إلى نسيان هذه الأسباب الحاسمة أو تهميشها، والاحتفاظ فقط بالكارثة في طبيعتها الخام، لأن كل الأسباب المقدمة ليست كافية لطمس "فضيحة البراءة المنتهكة"، التي تكشفها الصور متى شئنا.
هذه البداهة - التي يعد التلفزيون ناقلها الرئيس - تفرض نفسها على ضمير الجميع: أفعال الإنسان، إرادته وفكره لا علاقة لها بالكوارث التي تعبر عن بؤس الحالة الطبيعية للإنسان. إن الفيضانات المتكررة في بنغلاديش تسلط الضوء، كما لو كانت هذه البداهة ضرورية، على المحنة التي يواجهها الناس طوال حياتهم، تماماً كما رافقتهم الأمراض والموت منذ بداية تاريخهم.
ويجب ألا ننسى أيضا أن جميع الأسباب المقدمة لتبرير الكارثة هي في حد ذاتها سيئة، لأنها تبحث عن تفسيرات في تصرفات الضحايا، مما يضفي الشرعية الأخلاقية على الشر الذي عانوا منه. إنه لأمر فظيع أن نرى في سوء الحظ تكفيرا عن خطإ ظاهر أو خفي.
ومع ذلك، كتب جان جاك روسو في رسالته إلى السيد دي فولتير يقول: "أعتقد أنني أوضحت أنه باستثناء الموت، الذي يكاد يكون شرا فقط بسبب الاستعدادات التي جعلناها سابقة عليه، فإن معظم شرورنا الجسدية لا تزال من صنعنا. دون أن نترك حديثنا عن لشبونة، نتفق، على سبيل المثال، على أن الطبيعة لم تجمع هناك عشرين ألف منزل من ستة إلى سبعة طوابق، وأنه لو تم توزيع سكان هذه المدينة الكبيرة بشكل أكثر توازنا، وبإسكان أقل كثافة، لكان الضرر أقل من ذلك بكثير، وربما كان منعدما. ولكان بإمكان الجميع الإفلات بجلدهم عند الهزة الأولى". (Jean-Jacques Rousseau, Lettre à Voltaire (18 août 1756), in Œuvres complètes, Paris, Gallimard, « Bibliothèque de la Pléiade », 1969, Volume IV, p. 1061)
وليس من المناسب، كما فعل روسو، تحميل ضحايا الكوارث المسؤولية عن مصيرهم. وهذا من شأنه أن يضيف الازدراء، الوحشية وحتى الفضيحة إلى المأساة، لأنه يعني أن أولئك الذين ليسوا ضحايا أي كارثة هم أبرياء من أي خطإ. وهذا ما انتقده جان بيير دوبوي في قول روسو. وبتطبيقه على عصرنا، يعطينا ذلك:
"لم تدم براءة تسونامي آسيا إلا بضعة أيام. وبطبيعة الحال، تم الاعتراف مرارا وتكرارا بأن الكارثة لا يمكن أن تكون إلا "طبيعية"، ولكن مع مرور الوقت بدأ هذا اليقين في التفكك. لقد تعلمنا أنه لو لم يتم تدمير الشعاب المرجانية وأشجار المانجروف الساحلية بلا رحمة بسبب التحضر وتربية الأحياء المائية والاحتباس الحراري، لكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى إبطاء تقدم الموجة القاتلة وتقليص حجم الكارثة بشكل كبير. ثم جاءت اللحظة، يا لسخرية التغطية الإعلامية للعالم، عندما فوجئنا بأننا أولينا بأنفسنا كل هذا الاهتمام للكارثة. ولم يستغرق الأمر وقتا طويلًا للعثور على التفسير المناسب: لم يحدث الزلزال بالكامل في صحراء، أي في زاوية نائية من العالم الثالث، مثل ذلك الذي ضرب مدينة بم الإيرانية سنة 2005، ولكن في أماكن يسكنها "سادة المدينة" الذين يطلق عليهم اليوم السياح. وبسرعة كبيرة، اتخذ التسونامي هوية عامل مساعد بسيط للعمليات الاجتماعية بنسبة 100%، تلك التي تساهم في زيادة الظلم الاجتماعي في العالم بلا هوادة. ومرة أخرى، كان معذبو الأرض هم الذين دفعوا الثمن". (Jean-Pierre Dupuy, Petite métaphysique des tsunamis, Paris, Seuil, 2005, p. 43)
ويجب علينا بلا شك أن نؤكد على الاحتمالية التي لا ترحم لوجود الإنسان وجهله الذي لا يمكن تجاوزه، وألا نحرم إخواننا من البشر، ضحايا الكوارث، مثل كارثة عام 2004، من تعاطفنا، من تضامننا ومن مساعدتنا. ومع ذلك، فإننا نرى على الفور ما هي العواقب التي تترتب على هذه البداهة في الواقع: طالما انه لا وجود لمسؤولية إنسانية في إثارة الكوارث، في تطورها وفي حصيلتها، فلا يمكننا فعل أي شيء حيالها، ولا يمكننا منعها (وهو شيء آخر غير مجرد التنبؤ بها) أو حتى التفكير فيها. لا يمكننا إلا أن نلاحظها، ونتهيأ لها بأفضل طريقة ممكنة ونتحملها دون ألم قدر الإمكان. وسيُعاد الإنسان إلى عجزه الطبيعي، إلى ما هو أبعد من الأسطورة الديكارتية المتمثلة في "جعل أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها".
تستعيد الطبيعة حقوقها، وبالتالي تدعو الإنسان إلى مزيد من التواضع. تكون الكارثة بمثابة فرصة لا مثيل لها لتقدير وضع الإنسان في العالم والتشكيك في الأسطورة الحديثة حول التقدم اللامحدود في السيطرة على الطبيعة.
يعيش إنسان الحداثة هنا تجربة أسلافه، وهكذا يجعل إعصار كاترينا الأمريكيين أقرب إلى البنعلاديشيين أو الهولنديين في القرون السابقة.
ومع ذلك، لا شيء أقل يقينا. لا شيء في خطابات السياسيين يشير إلى أن كبار المسؤولين الغربيين يعتقدون أنهم قريبون من كوارث كبرى تدعو إلى التشكيك في أنماط حياتنا وأنماط استهلاكنا، ويعتبرون أنه من الضروري العمل باسم مصير مشترك للإنسانية لا يمكن إنكاره.
يقول غونتر أندرس: "من غير المجدي التأكيد على أن عبارة "كارثة طبيعية" التي ينبغي أن تساعد في محو كل المسؤولية الأخلاقية هي مجرد صوت ريح (flatus vocis) . لأنه على وجه التحديد في حقيقة أننا سعينا لإعطاء جريمتنا شكل كارثة طبيعية تكمن جريمتنا". (2006، 287-288)
هذا عنوان استفزازي للغاية. لا تزال هناك العديد من الكوارث التي تنتجها الطبيعة، بشكل مستقل عن أي عمل بشري (زلازل، تسونامي، انفجارات بركانية). لكن هذه الكوارث ليست "كوارثنا" - كوارث العصر الحاضر - بل هي تلك الكوارث الخالدة التي يمكن أن تصيب أي كائن حي، لأنها جزء لا يتجزأ من الطبيعة.
تظهر الكوارث دائما على شكل أعمال مأساوية تدور أحداثها بين الحدث والضحية. لكن انتشار الصور يجعلنا قصيري النظر في مواجهة العوامل المحددة للكوارث الحديثة. وتشكل العلاقات التي تربط الإنسان ببيئته أحد هذه العوامل. من الثورة الشديدة ضد الطبيعة إلى الاستسلام لمجرى الأمور، تصور هذه التقارير وجوها مختلفة للكارثة. إن اختفاء طابعها المأساوي من خلال الخضوع التام للطبيعة هو بلا شك وهم، ولكن في عصرنا، فإن الكارثة تختفي بالفعل، لأنها مكبوتة في اللاوعي، ما يسمح لنا بالاستمتاع بالحياة الطبيعية المطمئنة.
لا يمكننا أن نتجاهل أن الكوارث المعاصرة هي جزء من الصراع بين عملاقين، عملاق الطبيعة وعملاق التقنيات البشرية. وفي أوقات أخرى، عكست الكارثة الغضب الإلهي، أو اختلال التوازن الطبيعي (في أوقات بعض الأحداث الهامة، مثل الولادة) أو ببساطة قوة الطبيعة. اليوم، تُختبر الكارثة باعتبارها قطيعة، ليس فقط بين ما قبل وما بعد، بين حالة أولية وقديمة في كثير من الأحيان، واهتزاز مفاجئ وعميق، ولكن بين حق وواقعة، بين قاعدة وانتهاكها.
يتم التعامل مع أي حدث كارثي باعتباره اقتحاما، باعتباره انحرافا يجب أن تعمل التكنولوجيا على نسيانه أو على تصحيحه في أسرع وقت ممكن. ليس لأن العصر يحمل بصمات فلسفة عقلانية حول التاريخ، كما هي بعض اللحظات من القرن التاسع عشر الأوروبي. ولكن بعيداً عن خيبة الأمل التاريخية التي أحدثتها الكوارث التكنولوجية الكبرى، تهيمن فلسفة تقنوية على مجتمعاتنا. القنبلة الذرية لم تفعل شيئا، وكذلك تشيرنوبيل. وفي مواجهة اللامركزية الشمسية، جعل البشر التاريخ مطلقا. وفي مواجهة أزمة التاريخ، قدسوا التكنولوجيا.
هكذا تبدو كل كارثة وكأنها حادث. كل ما نعرفه من حولنا هو الحوادث، أي الأحداث التي يمكن تجنبها أو يمكن تجنبها في المستقبل، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي. إذا كانت الحوادث المتبقية هي نتاج طبيعة لا تزال تهرب منا، فهي بحكم القانون محكوم عليها بالاختفاء. ومع ذلك، فإن الحوادث تخلق مقاومة: فكلما زاد تدخل البشر في الطبيعة، كلما تضاءلت قدرتهم على التنبؤ بالتأثيرات والتحكم في عواقبها. نحن نواجه المجهول بشكل متزايد، ليس بسبب قوة الطبيعة أو الغضب الإلهي، ولكن بسبب نمو قوتنا.
إن الأمل التكنولوجي لا يمكن أن ينجح إلا لأننا نفترض مسبقاً أن الطبيعة قد تحولت إلى مادة خاملة تقريباً، قابلة للطرق حسب الرغبة، وأن بيئتنا لا تشكل كلاً متماسكاً حيث يتفاعل كل جزء مع الأجزاء الأخرى.
فضلا عن ذلك، في عالم لا نهائي، كان من المتصور أن نستفيد من موارد لا تنضب، وهذا ليس هو الحال في عالم محدود، حيث تتفاعل الكائنات الحية مع بعضها البعض ومع بيئتها.
نحن جميعا نعرف ذلك، ونحن جميعا نشعر بالقلق إزاءه، ولكن لا شيء يتغير جوهريا من وجهة نظر سياسية واقتصادية واجتماعية. بل على العكس من ذلك، فإن الجهود القليلة الواضحة تفسح المجال على الفور للتحايل على النوايا الحسنة. نحن على استعداد لفرض بعض الضرائب هنا وهناك، لكن يجب علينا أن ننتج ونستهلك المزيد والمزيد. لا شيء يتغير، لأنه لا ينبغي أن يتغير شيء.
إن الأزمة البيئية التي تهددنا مكبوتة بالمعنى التحليلنفسي، على الرغم من أننا نتحدث عن ذلك فقط. وخلف خطابات الواجهة، لا أحد يعتقد أن ما يهددنا هو كوارث على نطاق عالمي، لا يعطينا حدث مثل تسونامي ديسمبر 2004 سوى فكرة تقريبية عنها.
ما هو كارثي في عصرنا ليس فقط أننا ننتج ونستهلك بلا حدود، وأننا نتحرك باستمرار، بل أننا نرفض التفكير في آثار هذه الممارسات. ونحن نعلم أن هناك صعوبات خطيرة تلوح في الأفق، وقد بدأنا في تقييمها. ومع ذلك، في الوقت نفسه، نستمر في إنكار حقيقته أو تحويل انتباهنا عنه، من خلال عمليات مختلفة: الإفراط في الاستهلاك و"الإكثار منه دائما"، والافتتان بالتقدم الذي لا يمكن إنكاره للتقنيات، والاعتقاد بأن العلم سيستمر. إتياننا بحل دائم، وهو الواجب الذي نعهده إلى السياسيين لتولي مهمة الخلاص هذه. عقيدتنا القديمة الآن هي أن التقدم مستمر وأن لا شيء سيوقفه، على الرغم من خيبات الأمل في القرن العشرين. في الوقت نفسه، نفضل الابتعاد عما هو غير سار ونعتقد أننا قد اتخذنا التدابير اللازمة له من خلال تغيير بعض طرق الاستهلاك بشكل هامشي، أي دون التأثير فعليا على أنماط حياتنا. ومن خلال رفض التفكير في حقيقة الكوارث الجديدة المقبلة، أصبح معاصرونا في الواقع غير قادرين على القيام بذلك.
على المستوى السياسي، تشكل الكارثة أيضا أمرا لا يمكن تصوره، حيث حل العمل الإنساني محل التحليل والعمل العام. عندما تتدخل المنظمات الإنسانية في حالات الطوارئ، فإنها تجعل الشر الذي يقف وراء المصائب يختفي، بطريقة تكاد تكون سحرية، مما يستبعد أي إجراء فعال ضدها. يتم الخلط بين الضحايا والمجرمين، والإبادة الجماعية والأحداث الطبيعية، لأن سوء الحظ عالمي. وهكذا يلاحظ روني براومان، فيما يتعلق بموقف الانتظار والترقب الذي تبنته الأمم المتحدة في مواجهة الإبادة الجماعية للتوتسي الروانديين: "إن مشهد الإسعافات الأولية يمكن الآن أن يحل محل السياسة. […] إن الإبادة الجماعية، وهي جريمة من الجرائم، تتطلب تدخلاً دولياً مسلحاً، لأن ضمير الإنسانية ذاته هو الذي جرحها وسيظل يجرحها”. ( Rony Brauman, Devant le mal. Rwanda, un génocide en --dir--ect, Paris, Arléa, 1994, p. 27)
في مواجهة الشر الذي تمثله تصرفات بعض الدول، كثيرا ما تخفي السلطات الدولية جبنها وعماها وراء تدخلات ذات طابع إنساني. يتم تجاهل - كبت - المصادر والسياق السياسي والتاريخي للكارثة لصالح فهم موحد للحدث. تلم علامة أخرى على أن الكارثة في عصرنا هي في داخلنا، في عدم قدرتنا على التفكير فيها وبالتالي توقعها
نحن نعيش في زمن خيالي. ليس لأننا تحررنا من الندرة والمعاناة والموت، ولكن لأن أنماط حياتنا (من الواضح أن هناك تفاوتات خطيرة في هذا المجال) تجعلنا نحتقرها. لقد أصبح الاستهلاك أفيون الإنسانية، مسكنا ومخدرا في آن واحد. الكوارث القادمة ستكون أكثر صعوبة لأننا بذلنا كل ما في وسعنا لإنكارها، وبالتالي لم نكن مستعدين لها.
للقيام بذلك، علينا أن نبدأ بالتخلي عن خيال قدرتنا المطلقة. ومع ذلك، نعتقد أننا قد حللنا تناقضات الحالة الإنسانية، واندرج الخيال في أنماط حياتنا، وتغلغل بعمق في أحشائنا، في معتقداتنا، عاداتنا، وقيمنا. من الملك الطفل إلى معجزات الطب، من التقنيات المبتكرة (تقنيات النانو مليئة بالأوهام بشكل خاص، لأن الأمر يتعلق بأن يصير الإنسان سيد الوجود من قلبه) إلى نمو الاستهلاك، من تقدم العلاقات الإنسانية التي مكنتها التقنيات الجديدة للإعلام والاتصال إلى وعود بالطاقة النظيفة بلا حدود الناتجة عن الاندماج النووي، تبقى خيالاتنا هي التي ينبغي مهاجمتها. لكن ألا يعني هذا التخلي عن التقدم الذي يستفيد منه الجميع؟
يتمثل المطلب الفلسفي في عدم الانخداع بمظاهر نهاية التاريخ، والسعادة والسلام العالميين، والإنسانية كجنس آل أخيرا إلى ذاته. ذلك أن خيالاتنا تكلف ثمناً باهظاً: تفاوتات متزايدة، كوارث بيئية، عدم التضامن بين الأجيال، فقدان الموجهات. ولا نستطيع أن ننكر التقدم الذي نستفيد منه، ولكن من واجبنا اليوم أن نفهم حدوده وآثاره السلبية، بدلا من أن ننظر إليه على أنه شرط لفردوس جديد على الأرض. للقيام بذلك، سيكون من الضروري إعادة اكتشاف معنى الحدود، التي سكنت بالضرورة تاريخ البشرية بأكمله حتى وقت قريب جدا.
لقد سمحت لنا الأوهام التي تبثها الأنظمة الشمولية برؤية الكوارث التي يمكن أن يؤدي إليها غياب الإحساس بالحدود. كما ظل الإرهاب النووي ــ خيال إبادة الآخرين ــ يهدد البشرية لعدة عقود من الزمن. اليوم أصبحت الكوارث «ديمقراطية»، تهم الجميع والكل يساهم فيها. إن "إعادة اكتشاف الإحساس بالحدود" يعني أننا قادرون على استعادة السيطرة على مصيرنا.
من أجل جعل وجودهم ممكنا، استمر الناس، منذ بداية تاريخهم، في تنظيم العالم: تكنولوجيا، أخلاق، سياسة، دين، علوم، واقتصاد، كل ذلك شكل بمجموعه الثقافة. بل على العكس من ذلك، فإن الطريقة التي ساهمت بها التكنولوجيا والاقتصاد اليوم في تهميش الأبعاد الأخرى لوجودنا، أدت إلى تجريدنا من أسلحتنا في مواجهة وضعنا، الذي نتمرد عليه دون أن نعرف كيف نتكيف معه. الآن، هذه الوضع، إذا لم يحكم علينا بشكل لا راد له بالتعاسة والعوز، فإنه يمنعنا مع ذلك من الاعتقاد بأننا يمكن أن نتحرر منه نهائيا.
إن "إعادة اكتشاف معنى الحدود" يعني استعادة انتمائنا إلى الطبيعة. الطبيعة هي اللامفكر فيه في الحداثة، ما يتم إنكاره باستمرار، يعني ذلك، كما عرفنا من فرويد، المعروف والمنكر. الإنكار هو تعبير عن الرغبة اللاواعية في القدرة المطلقة، وله نظيره في الفتيشات، التي تحقق الخيال، هنا فتيشات التكنولوجيا والأنسنة الكاملة للطبيعة.
في ختام كتابها "أصول الشمولية"، كتبت حنة أرندت: "إن النتيجة الكارثية الأولى لوصول الإنسان إلى مرحلة النضج هي أن الإنسان الحديث أصبح مستاءً من كل ما وهب له، حتى من وجوده الخاص - مستاءً من حقيقة أنه ليس خالق نفسه ولا خالق الكون. […] إن البديل لهذا الاستياء، وهو الأساس النفسي للعدمية المعاصرة، سيكون امتنانا أساسيا للأشياء الأولية القليلة التي تُمنح لنا حقا ودائما، مثل الحياة نفسها، ووجود الإنسان والعالم". (Hannah Arendt, « En guise de conclusion », in Les Origines du totalitarisme. Eichmann à Jérusalem, édition de P. Bouretz, Paris, Gallimard « Quarto », 2002, p. 872)
نحن نتعامل مع نفس البديل: إما الاستياء من وضعنا، الذي يحكم علينا بكوارث غير مسبوقة، لأننا نمتلك الوسائل التقنية لتعطيل العالم بطريقة غير مسبوقة، أو الامتنان لاحترام الوجود، الذي يشكل بقية أخيرة من الحكمة الإنسانية، والذي يتيح لنا أن نفكر في علاقتنا بالحياة بخلاف الحرب ضد الطبيعة، ضد العالم، ضد محدوديتنا.
في كتاب آخر بعنوان "وضع الإنسان الحديث"، تقول أرندت: "هذا الإنسان المستقبلي، الذي سينتجه العلماء، كما يقولون لنا، في ما لا يزيد عن قرن من الزمان، يبدو فريسة للثورة على الوجود الإنساني، كما هو معطى، هدية لا نعرف من أين جاءت (علمانيا) والذ يريد، إذا جاز التعبير، أن يستبدله بعمل من صنع يديه. ليس هناك سبب للشك في أننا قادرون على إجراء هذا الاستبدال، تماما كما لا يوجد سبب للشك في أننا قادرون الآن على تدمير كل أشكال الحياة العضوية على الأرض. والسؤال الوحيد هو ما إذا كنا نرغب في استخدام معرفتنا العلمية والتقنية الجديدة في هذا الاتجاه، وهذا لا يمكن تحديده بالطرق العلمية. إنها مسألة سياسية أولية، وبالتالي، لا يمكن تركها لمحترفي العلم أو للعاملين في السياسة". ( Hannah Arendt, Condition de l’homme moderne, trad. G. Fradier, Paris, Calmann-Lévy, 1961, rééd. Presses Pocket « Agora (1988, p. 35
لقد تحولت السياسة تدريجيا إلى إدارة الشؤون الإنسانية، متخلية عن الأسئلة الأساسية (ماذا يعني العيش المشترك؟ ماذا نريد؟). وفي الوقت الحالي، يبدو الأمر الأساسي في مكان آخر، لأن الساسة تخلوا إلى حد كبير عن قدرتهم على العمل، لصالح الخبراء وكبار رجال الأعمال. ومع ذلك، فإن إعادة اكتشاف الإحساس بالحدود والامتنان تجاه الوجود هو قبل كل شيء إعادة اكتشاف السياسة، التي يتأكد الناس من خلالها بشكل مشترك بمحدوديتهم.
الرابط: https://journals.openedition.org/leportique/2013