بينما كانت الفلسفة ذائعة في فكر العصور الوسطى، وأوروبا تعيش تحت سيطرة الكنيسة واللاهوت، ظهرت جهات وشخصيات تمردت بفكرها على النظام الفكري الذي كان يسود في العصر القروسطي. من المعاناة التي عاشها الفكر، انبثق فكر جديد، فكر لا يدرس الوجود بل يدرس المعرفة وكيفية نشأتها، لا يدرس الأنطولوجيا بل يدرس الإبستيمولوجيا. وعلى سبيل المثال، المذهب العقلاني مع الفيلسوف ديكارت الذي خصص منهجًا وطريقًا للعقل، وكذلك في إنجلترا انبثق المنهج التجريبي مع فرانسيس بيكون ونقده للمنطق الأرسطي وتسليطه الضوء على الأوهام المحيطة بالعقل البشري. وهكذا كانت بداية لفلسفة جديدة وعصر جديد فكريا وهو العصر الحديث ، الذي تمرد فيه على اللاهوت وفتح آفاقًا للعقل، وكانت بداية لخروج أوروبا من ظلمات العصر الوسيط، أي الظلام من جهة الحروب التي كانت تعيشها في تلك الفترة والسيطرة الكنسية .
التأسيس الفعلي للفكر والفلسفة في العصر الحديث يبدأ مع ديكارت وتركيزه على الهيمنة على الطبيعة ويصبح الانسان حاكم الطبيعة . هكذا اعتبر البعض أن العصر الحديث بدأ مع ديكارت.
وللغوص في فكر العصر الحديث، لا بد لنا من ذكر الفلاسفة الذين ساهموا في تحقيق ثورة ونهضة فكرية على المستوى الأوروبي وافكارهم ، وكذلك الظروف المساعدة على تحسين الفكر من التعصب والانغلاق إلى الانفتاح والتسامح والتطور.
الفكر لا يتغير إلا بظهور فكر أفضل ومقنع أكثر. بدايةً، شهدت أوروبا تحولاتٍ كثيرة في شتى المجالات مما جعل النهضة الفكرية حليفها. قاد هذه الثورة الفلاسفة ، بدايةً مع رينيه ديكارت(1650-1596) الذي خصص قواعدًا للمنهج وجعل الشك سبيلًا للتفكير، خاصةً الشك في الأمور كلها باستثناء الدين والسياسة استبعدهما ورغم أنه شك في وجود الله ومسح الطاولة ، إلا أنه ظل وفيا للكنيسة . وظهر بعده باروخ سبينوزا (1677-1632)من نفس المذهب لكي يسقط القناع عن السياسة و يواجه الاستبداد الديني من خلال كتابه " رسالة في اللاهوت والسياسة " ، وأيضا كتابه " علم الأخلاق " ،ويمكن القول إن باروخ سبينوزا واحد من أعظم فلاسفة القرن السابع عشر وأحد أهم مكتسبات الحداثة الأوروبية الذي كان قد جاء قبل أوانه في عصر لا يزال غارقا في الظلام ولم تكن حتى بوادر التنوير قد ظهرت بشكلها المعروف، لذلك كان المُفكر المُفترى عليه من المتدينين اليهود والمسيحيين في أوروبا للدرجة التي جعلت أحد اللاهوتيين يكتب عبارة لتوضع على قبر سبينوزا تقول “هنا يرقد سبينوزا.. أبصقوا على قبره”.([ 1 ])
كما قال هاشم صالح "سبينوزا جاء قبل الأوان بوقت طويل…" ([2]) ، ويقصد هنا أنه أتى قبل زمن التنوير الأوروبي الذي من ابرز من قاده ، على سبيل الذكر نذكر كانط وجان جاك روسو وأيضا فولتير .
وكذلك ظهر التجريبيون في انجلترا في نفس فترة ديكارت ، أولهم فرانسيس بيكون (1626-1561) مؤسس المنهج التجريبي الذي انتقد منطق أرسطو بشراسة واعتبره منطقًا عليلًا وأنه سبب تأخر العلوم. وأيضًا من جهة أخرى، أنتج المنهج الاستقرائي وكذلك تحدث في كتابه الأورغانون الجديد عن أربعة أوهام محيطة بالعقل البشري ويجب تخطيها، وهي (أوهام القبيلة) و(أوهام الكهف) و(أوهام السوق) و(أوهام المسرح).
أما (أوهام القبيلة) فهي مشكلة عقل الإنسان، لأنه مرآة مقعرة، على نحو ما، بمعنى أنه يرى الأشياء في ضوء الهوى والتقاليد التي نشأ فيها. أما (أوهام الكهف) فهي شخصية، كما وصفها (أفلاطون)، أن أحدنا يسكن في كهف من التصورات، وأن النور الذي يأتي من الخارج يترك ظلاله على جدران الكهف؛ فلا نرى الحقيقة إلا بعمل عقلي مجرد.
أما (أوهام السوق) فهي تنشأ من عالم المال والأعمال، واجتماع الناس وتأثر بعضهم ببعض. وأما (أوهام المسرح) فهي التي انتقلت إلينا من الفلاسفة والمفكرين، أي تلك الأفكار التي نتلقاها دون تمحيص.([3])
وبعده جاء جون لوك (1704-1632) من نفس التيار ليعتبر العقل صفحة بيضاء وأننا نملؤها بالتجارب. وجون لوك الذي كانت له نفس غاية ديكارت ونفس غاية كل فلاسفة عصر النهضة وعصر التنوير أي الانتقال من الظلمات إلى النور ، و اعتبر أن المعرفة تأتي من الخارج، من الحواس وليس من الداخل أي من العقل. وبين الصراع والتكامل الذي كان يعيشه الفكر في أوروبا بين التجريبيين والعقلانيين، جاء كانط (1804-1724) بعد هؤلاء لكي يتجاوز التيارين من خلال مذهبه أي الفلسفة النقدية، ليدرس العقل ذاته. كانط زعيم التنوير الأوروبي الذي أنتج لنا المفاهيم مثل النومين وغيره من المفاهيم الاخرى، و مبدع المفاهيم هو الفيلسوف الحق ، و كانط قد أنتج لنا العديد من البشر الذين تجرأوا على استخدام عقلهم الخاص ، وعندما نتحدث عن كانط فإننا نتحدث عن رمز الثورة الإنسانية في عصر التنوير الأوروبي ، تحدث عن التنوير ذاته في مقالته ، " ما التنوير ؟ " ليعبر عنه بأنه " خروج الإنسان من القصور الذي ارتكبه في حق نفسه من خلال عدم إستعماله لعقله إلا بتوجيه من إنسان أخر "*
وركز على الحرية الكاملة للعقل وان لا سلطان على العقل إلا هو نفسه .
ومن أهم العوامل التي ساهمت في ظهور الفلسفة الحديثة وبداية العصر الحديث نجد على رأس الأسباب الثورة العلمية، حيث بدأ الناس يستعملون العقل بدل التأويلات الدينية. بدل الملاحظة، قاموا بالتجربة، وألغوا الخرافات التأويلية التي سادت في العصور الوسطى. كأن أوروبا أتاها الحنين إلى العصر اليوناني، بعدما ضلت الطريق في القرون الوسطى.
وهذه الثورة العلمية تتمثل، مثلاً، في اكتشافات كوبرنيكوس (1543-1473) الذي طور نظرية مركزية الشمس ووضعها في قالب علمي رصين، وطورها بعده جاليليو وغيره. وهنا نستنتج أيضًا أن العلم عبارة عن نظرية تستمر لمدة طويلة، أي أن العلم عبارة عن اتصالات بين العلوم وليس انفصالًا. لأن نفس النظرية نجد لها وجودًا عند أرسطرخس في اليونان قديمًا وكذلك في العصر الوسيط عند نيكولاس الكوسي. النظرية تستمر لمدة طويلة لكن قد يظهر براديغم جديد كما قال عنه ذلك بيير دوهيم.
وهناك عوامل أخرى بالإضافة إلى الثورة العلمية مثل الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ميلادي الذي قاده مارتن لوثر وآخرون من اجل تحرير العقل من سطوة الكنيسة، وهذا العامل فتح باب النقاش في جميع المسائل التي كان لابد لحضور التعصب فيها. في جانب ذكر التعصب، على سبيل الذكر نجد أن التاريخ لم يعرف شخصًا كرس حياته لمواجهة التعصب كما فعل فولتير .([4]) كما قال عنه ذلك هاشم صالح. فولتير واجه التعصب في متنه ، وهذا العامل كان مهمًا جدًا بالنسبة للحرية في التفكير ، تمرد على ما كان سائدا هو و جان جاك روسو وغيره ، وهذا كان سبيلاً لبداية الثورة الفرنسية وتكريس الفكر الأنواري .
نكتفي بهذا القدر، لكن لا ننسى أن هناك عوامل مثل الاكتشافات الجغرافية والنهضة الأوروبية وغير ذلك الكثير. وهكذا مرت أوروبا من عالم الجهل إلى عالم التفكير الصحيح، من الظلمات إلى النور ومن سيطرة الكنيسة إلى سيطرة العقل. بدأ الأوروبيون منذ القرن السابع عشر ميلادي الاهتمام بالعلم والفلسفة وكل ما هو سبيل لتطورهم، خاصة في مرحلة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر ميلادي مع ظهور منورين لعقول الناس الذين ركزوا على النقد، نقد كل ما كان يستحيل نقده سابقا كالمجال الديني والسياسي.
أوروبا التي كانت تعيش في ظلمة التاريخ بسبب الحروب وما غير ذلك، انتقلت لتعيش السلام والسلام الفكري خاصة حتى اللحظة الراهنة. فهل لنا نحن أيضًا أبناء الحضارة العربية الإسلامية ربيع إسلامي ننتقل فيه من العصور الوسطى إلى العصر الحالي؟ بإعتبار سلفنا العرب المسلمين ذوي مساهمة مهمة في تكوين الحضارة الغربية الحديثة.
المراجع:
https://alarab.co.uk/إما-أن-تكون-سبينوزيا-وإما-ألا-ت
https://anfasse.info/فلسفةـ-وـ-تربية/36-فلسفة/889-2010-07-04-23-33-50
https://www.aleqt.com/2009/08/13/article_262449.htm
هاشم صالح ، مدخل إلى التنوير الأوروبي ، دار الطليعة ، بيروت.