من خلال العنوان أعلاه، يبدو أن رهان هذه السلسلة من المقالات يتمثل في قراءة ما قاله اوكتبه الفلاسفة عن مفهومي الحقيقة والحرية. أما عن المنهجية التي سيخضع لها البحث فستكون ضمنية وتلقائية، تستمد مقوماتها وتوجهاتها من نصوص بعض المؤلفين التي سوف يتم تقديمها واعتمادها.
البداية بالفصل الثالث من كتاب مارسيل كونش "أساس الأخلاق" المنشور في طبعة فرنسية أولى سنة 2003. وقد كان الكاتب قيد حياته (ولد يوم 27:مارس 1922 ومات يوم 27 فبراير 2022) فيلسوفا فرنسيا وأستاذا فخريا بجامعة السوربون.
يستهل الكاتب فصله بالإشارة إلى أن الأمر يتعلق بالإجابة على سؤال أساس الأخلاق من خلال التحدث إلى شخص يستمع. وتساءل:كيف أعرف ما إذا كان يستمع لي؟ وأحاب بأنه يعرف ذلك عندما يتحدث بدوره، وليس بأي طريقة أخرى: يجب أن تتوافق كلماته مع كلمات كونش، سواء أجاب أو رد. وحتى يجيب السامع، يجب أن يسأل. ويعرف الكاتب أنه لا يسأل إلا كائنا قادرا ليس فقط على الإجابة، بل قادر أيضا على أن يسألىبدوره. لأنه لكي يجيب، عليه أولاً أن يعيد السؤال على نفسه كسؤال. وما يطلبىه منه يطلبه من نفسه.
والفكرة التي أراد كونش الوصول إليها هي أن سلطة السؤال لا يمكن أن تكون من جانب واحد فقط. يمكن للشخص الذي يجيب أيضا أن يطرح السؤال علي وعلى نفسه. وقد حدث أن محاور سقراط كان يسأل هو ىالٱخر. وهذا هو الحوار سؤال/جواب.
من هنا فصاعدا، لست وحدي من أتوقع من محاوري أن يجيب بصدق، أي أن يقول ما يراه كما يبدو له، ولكنه يتوقع مني ذلك أيضا. يفترض كل محاور أن الآخر قادر على قول الحقيقة أو عدم قولها (إما أنه كاذب أو خاطئ). لذا، فكل منهما يفترض أن الآخر قادر على الحقيقة، capax veritatis. نحن نتحاور تحت فكرة الحقيقة. ولكن هذا يعني أننا نتصور ونفهم بعضنا البعض ككائنات حرة. هذه هي الحقيقة الأولى التي يجب على المحاور أن يعترف بها معي.
يواصل كونش حديثه قائلا: المحتوى الكوني الأول لفكرة الحقيقة هو فكرة الحرية. حتى الٱن، ليس لدينا سوى حقائق خاصة قلنا إنه ينبغي تجاهلها هنا. إن وجوب تبادل المتحاورين الاعتراف بكونهم أحرارا يمثل النقطة الأولى التي يجب أن يتفقوا عليها، ليس بطريقة مشروطة، بمحض الصدفة مع قناعاتهم، ولكن بطريقة ضرورية؛ إنها الحقيقة الكونية الأولى. ولكن سيقال إن الحقيقة التي يتم تحديدها من خلال الاتفاق الضروري بين المتحاورين ربما تكون، "بالمعنى المطلق"، باطلا. هذا غير مهم. ما نسعى إليه هو الحقيقة الإنسانية، أساس الأخلاق الإنسانية، وليس الحقيقة الأخلاقية الخاصة بالملائكة أو الصدفيات.
لا يتعلق الأمر، يتابع مارسيل كونش، سوى بإجبار المحاور، الذي افترضته، من خلال نوع من العدمية المنهجية، على عدم الاتفاق معي على أي شيء، باستثناء بدء الحوار، وإجباره، كما أقول، على قول نفس الشيء الذي أقوله. وءلك لنفس الأسباب التي أتقاسمها معه (هذه "القوة"، إذن، ليست قوةة إكراه، بل قوة العقل). ،يبد أنه لا يمكنه أن يمتنع أولاً عن إدراك أننا، في الحوار، من خلال سؤاله أو هو من خلال سؤالي، نفترض أنفسنا بشكل متبادل أننا قادرون على قول الحقيقة، أي ما يبدو لنا أنه كذلك (لأنه، بين قول الحقيقة وقول ما يبدو لنا كذلك، دون أن يتم دحض أي مظهر في الوقت الحالي، ليس هناك فرق). ومع ذلك، فإن رغبتي في إجبار محاوري على قول نفس الشيء مثلي، سأجبره أولاً على الاعتراف والقول إن الكائن القادر على الحقيقة هو كائن حر. ثم سنقول نفس الشيء. وبما أننا محاورون بلا خصوصيات، فإن هذه ستكون حقيقة كونية.
ويرى كوتش أن فكرة "الحرية" تتعارض هنا مع فكرة "الحتمية السببية"، كما هو الحال عند كانط. عندما يتم تحديد النتيجة بواسطة سبب، وقد وقع الحدث-السبب، لا يمكن أن يمتنع الحدث السبب عن الحدوث. أطرح السؤال: "هل تعاني من صداع في الرأس؟". أفترض أن المحاور يجيب: "نعم، أعاني من صداع في الرأس". هل الحدث العقلي والصوتي "أعاني من صداع في الرأس" هو النتيجة التي كان صداع الرأس سببا فيه؟ مُطْلَقا، لا. هل يقول المحاور إنه يعاني من الصداع لأن رأسه يؤلمه مثلما يضيء المصباح عند الضغط على الزر؟ لا بالطبع. إذا قال إنه يعاني من ألمىفي الرأس،فليس ذلك لأنه يشعر بألم في الرأس، ذلك أنه لو افترضنا أنه يعاني من ألمىفي الرأس، فإبمكاته أن أو لا يقول إنه يشعر بألم في الرأس. وكذلك إذا أضاء المصباح فذلك بسبب الضغط على الزر، أما إذا قلنا أن المصباح أضاء فليس بسبب الضغط على الزر. إذا قلت: "أعاني من الصداع"، فذلك لأنه صحيح أنني أعاني من الصداع وقررت أن أقول الحقيقة لطبيبي (ربما أستطيع أن أقول: "أعاني من الصداع"، عندما لا يكون الأمر كذلك. صحيح أنني أعاني من صداع، ولكن بعد ذلك، إذا كانت هناك كذبة، فلا يزال يتعين علي أن أقول لنفسي أولاً لنفسي إنه صحيح أنني لا أعاني من صداع: لكي لا أقول الحقيقة، يجب أن يكون هناك أولاً هذه الحقيقة لا ينبغي أن تقال). في ما يسمى بالنتيجة يظهر شيء لا يمكن تفسيره من خلال ما يسمى بالسبب: حقيقة الحكم. والحال انه بدون فكرة الحقيقة هذه، لن يكون الحكم حكما على الإطلاق. لأن القول: "يبدو"، أو "إنه كذلك"، صوابًا أو خطأً - ولكن في حالة الصداع، أي الألم، يكفي أن يبدو كذلك - يعني أنه صحيح كما يبدو أو أنه كذلك. ولذلك فإن الحكم في حد ذاته، بقدر ما يقدم نفسه على أنه يحمل إحساسا بالحقيقة، لا يمكن تفسيره بسبب. الحكم الحقيقي ليس له سبب بل أساس. وهذا الأساس هو النظر إلى الحقيقة: النظرة المباشرة فيما أسماه أبيقور وديكارت "البداهة"، أو النظرة غير المباشرة من خلال وساطة الأسباب. عندما أقول الحقيقة، فأنا حر في ما يتعلق بأي سبب من الأسباب المحددة.
فضلا عن ذلك، ولأنني حر فيما أتحدث عنه، فإنني أستطيع أن أتحدث عنه "حقا". الحقيقة-حول مبنية على الحرية-تجاه.إذا كان حكمي نتيجة لسلسلة سببية، فلا يمكن أن يكون صحيحا: لا يمكننا إأن نقول إن الببغاء الذي يقول "أنا جائع" (أو، مثل شخص أعرفه، يجيب باسم سقراط: "سقراط جائع") يقول الحق، وإن كان جائعا، لأنه يقول إنه جائع في لحظة جوعه لأنه جائع، وليس لأنه صحيح أنه جائع. المعنى الحقيقي للحكم الحقيقي هو أنه لا يمكن أن ينتج عن سبب، ويرتكز، كأساس، على النظرة الحرة إلى لحقيقة. إذا استنتجت، بالتفكير، أن مجموع زوايا المثلث الإقليدي يساوي زاويتين قائمتين، فذلك لأنني أرى أن هذا صحيح (أو، إذا أردت، أن القضية صادقة) وأنه "لا يمكن أن يكون خلاف ذلك" ليس لأنني لا أستطيع أن أفعل غير أن أقول ذلك: إذا قلت ذلك فلأنني، تحت تأثير ضرورة سببية، لا أستطيع أن أفعل غير أن أقول ذلك، فلن أقول ذلك بعد الآن لأنه صحيح، وحكمي، بعد فقدانه لمعنى الحقيقة، لن يكون حكما.
فهل هذا يكفي بالنسبة لنا لنعتبر حريتنا، الأساس السلبي للأخلاق، مبررة؟ هل نعترض على أساس أن لا أحد - ربما - يقول الحقيقة؟ لا يهم: يمكنه أن يقولها، على الأقل بمعنى أن كل شخص يمكنه أن يقول ما يبدو له، أي أن يقول ما يبدو بالنسبة إليه صحيحا. ولكن ربما لا أحد يقول بصدق ما يبدو له؟ لا يزال الأمر غير مهم: قول ما يبدو له يظل ممكنا. ولكن إذا كان قول الحقيقة ممكناً فقط، ألا ينبغي لنا أن نتحدث عن حرية ممكنة فقط؟ لا، لأني بقولي: "يمكن لكل واحد أن يقول الحقيقة" (ما يبدو له كذلك)، فأنا أقول الحقيقة بالفعل، ويجب أن يتفق المحاور معها. لذلك أنا حر حقًا، وأعترف بالمحاور، ويجب على المحاور أن يعترف بي على أنني حر حقا. إذا كان صحيحا أنني أستطيع أن أقول الحقيقة، أو، على أي حال، ما يبدو لي كذلك، فأنا حر، وأي إنسان هو، مثلي، كائن حر، لأن أي إنسان يعرف ويؤمن بأنه يمكن دائما إما أن يكذب أو يقول الحقيقة
في المحطة الثانية من هذه الجولة، ارتأيت إدراج مقالة لألكسندرا رو المنشورة في "المجلة الفلسفية لفرنسا والخارج" منذ فبراير 2014 تحت عنوان"ما تدين به الحرية للحقيقة في الفلسفة الأخيرة لشيلبنج".
وفي تعريف مختصر بالكاتبة، نجد أنها خريجة الفلسفة (1993) وحاصلة على دكتوراه في الفلسفة (أكتوبر 2000). كما أنها محاضرة في الفلسفة بجامعة بواتييه منذ عام 2007، وأستاذة باحثة في مركز أبحاث هيجل والمثالية الألمانية بجامعة بواتييه منذ عام 2000.
افترضت الكاتبة في بداية دراستها عنوانًا مختلفًا تمامًا: "ما تدين به الحقيقة للحرية"، معلنة أن هذا العنوان كان سيعكس جانبًا واحدًا فقط من العلاقة الدقيقة بين العقلانية ومصدر جميع الأفعال، عند شيلينج الأخير، أي الحقيقة والحرية الإلهية. وحددت هدف دراستها في كون شيلينج ارتبط في كتاباته الأخيرة، ليس فقط بالتفكير في ما هو غير قابل للاختزال في الحرية كما هي، بل بالتفكير أيضا في ما تدين به الحرية للحقيقة.
وإذا كان هذا الجانب الأخير لا يعني أن العقلانية الخالصة تنتصر سرا في فلسفة شيلينج "الإيجابية"، فإنه يساهم مع ذلك في حمايتها من اللاعقلانية.
اعتدنا بالفعل، تتابع رو، على الإصرار على فكرة أن شيلينج، في فترته الأخيرة، كان يروج للحرية على حساب العقل، بحيث يمكن لنا أن نعتقد أنه بالنسبة للفيلسوف الذي يضع الحرية الإلهية فوق كل شيء آخر، فإن الحقيقة تصبح مدينة لها: كيف يمكن أن تكون الحرية في الواقع مدينة للحقيقة نفسها إذا كان الحق معادلاً للعقلاني على نحو خالص، وإذا كانت الحرية، من جانبها، تتجاهل العقلانية؟ نحن لا نرى أن الحرية يمكن أن تدين بأي شيء لعالم الحقائق. ومع ذلك، فإن شيلينج في كتاباته الأخيرة، بعيد عن كونه مروجا لفلسفة، مثل فلسفة ديكارت، تجعل العقلانية معتمدة على الله. إن كون الحرية أولية وسيادية لا يعني أنها تقرر العقلانية. إنها مفارقة الفلسفة التي، وهي تنقسم إلى قسمين، تنفصل لتتحد من جديد، تحتفظ بمكان منفصل لما هو حر، لغير المتوقع، وغير المتنبئ به، لتزاوجه بالحقيقي. ما هو حر منعزل، لكنه غير منفصل عن الحقيقة نفسها؛ إنه يضع أمام عينيه عالم الحقائق، الذي يدين له على الأقل بأن يكون حرا لأجل الآخر، أن يكون حرا في إنتاج شخص آخر غير نفسه. كيف، والحالة هاته، يمكننا أن نتحدث عن "ما تدين به الحقيقة التي تدين للحرية"؟ لنشر دون تأخير إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك شك في أن الحقيقة أو الحرية تدين بما هي عليه لأي شخص آخر غير نفسها: ما يمكن أن تدين به الحقيقة للحرية على وجه التحديد ليس وضعها كحقيقة؛ وما يمكن أن تدين به الحرية للحقيقة ليس على وجه التحديد وضعها كحرية.
من أجل فك الارتباط بين هاتين الفكرتين المركزيتين في كتابات شيلينج الأخيرة، اختارت الكاتبة أن تلفت الانتباه إلى حقيقة ينبغي أن تفاجئنا والتي تدخل في مناقشة ذات صلة وثقى، وإن كانت ضمنية، مع التقاليد ومع التحكيم الذي اقترحه لايبنتز. هذه الحقيقة هي دافع مزدوج نجده في نصوص شيلينج الأخيرة: سيكون هناك قانونان ، يوصفان بـ "ساميين" ولا يمكن لأي واقعة أو حقيقة أن تحيد عنهما، قاعدة العدالة وقانون الوحدة بين الوجود والفكر. عندئذ تطرح علينا ثلاثة أسئلة لا أقل ولا أكثر:
أولا، مسألة المنافسة المحتملة بينهما: كيف يمكن لقانونين أن يكونا متساويين في السيادة؟ ألا ينبغي أن يكون أحدهما أكثر أساسية؟
ثانيا، مسألة تصالحهما مع الحرية: كيف يمكن أن تكون لهما أيضا قوة القوانين حيال الإله الحر دون أن تكون حريته مقيدة بذلك؟
ثالثا وأخيرا، مسألة أصلهما: إذا كان هذان القانونان مفروضين على الله نفسه، فمن أين يأتيان بالضبط؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة ستمكن من توضيح العلاقة الضرورية التي تربط الحرية بما يسميه التقليد منذ العصور الوسطى "مصدر الحقائق الأبدية" والذي يعتبره شيلينج العقلانية. سوف تتعامل الكاتبة مع هذه الأسئلة واحدا تلو الآخر. ولن تجيب عنها منذ البداية، بل ستبدأ بتوضيح المعنى الذي يمكن أن تأخذه عند شيلينج صيغة عنوانها: "ما تدين به الحقيقة للحرية" (1). وانطلاقا من هنا ستوضح القانون أو قاعدة العدالة (2)، وسوف ترى بأي معنى يمكننا أن نقول إن هذا القانون هو قانون خارجي (3). وسوف تكون قادرة بعد ذلك على تأسيس وظيفة وسيادة قانون الحقيقة (4). ولكن بعد ذلك، سينشأ السؤال حول كيف يمكن للحرية الإلهية أن تتكيف مع ضرورتها؛ ستبين بعد ذلك أنه من خلال مواجهة مسألة مصدرها، اعتقد شيلينج أنه يستطيع الجمع بين الحرية الإلهية وضرورة قانون الحقيقة؛ وسنرى شيلينج يتجادل مع لايبنتز، ومن خلاله، مع التقليد حول الأصل الدقيق لعالم الحقائق (5). في الخطوة الأخيرة، سنرى أن شيلينج يقترح حلاً غير مسبوق على الأقل، والذي يتكون من التفكير في الدين الذي تعاقدت عليه الحرية نفسها باعتباره الارتباط الدقيق للهبة الذاتية لعالم الحقائق (6).
1 – ما تدين به الحقيقة للحرية: ثيمة الحياة الزائفة
ركزت الكاتبة في البداية على أصالة شيلينج عندما تحدث عن الزيف ليس لوصف أي عبارة، بل لوصف أسلوب وجود أو أسلوب حياة. ذلك أن الحياة الأخلاقية لها عنده جذور تسبق الأخلاق، وهي جذور ميتافيزيقية. إن الواجب في النهاية هو دائما أمر لا بد منه، وهو أمر لا بد منه يتضمن توازنا معينا بين الطاقات والقوى المتناقضة. وقيمة الحياة الطيبة تكمن في هذا التوازن، وقيمة الحياة الزائفة تكمن في عكسه. ولا يمكن قياس أي قيمة أخلاقية دون الإشارة إلى صراع القوى التي تشكل الحياة كلها. ولا يمكن تصور التوازن المعني على أنه مساواة حسابية بحتة، ولا حتى على أنه تناسب. إنه ينطوي على قوى متميزة حقا من الناحية النوعية.
القوة الأولى أساسية في تناقضها، ولا يمكن أن يحدث شيء إذا لم نجعل أساسا هذا الغموض الذي يميزها. لأن القوة الأولى هي كذلك بحيث تميل من تلقاء ذاتها إلى الموضوعية ولا يجب أن تميل إليها. إنها تريد أن تكون لأجل ذاتها رغم أنها يجب أن تكون لأجل الآخر. إنها تتحول بشكل أعمى من القوة إلى الفعل بينما يجب أن تظل قوة خالصة وبسيطة. إنها تميل إلى أن تأخذ مكانها في الموضوعية بينما يجب أن تكون بمثابة دعم وركيزة لموضوعية القوة الثانية. التوليفة الوحيدة التي يمكن التفكير فيها لا يمكنها التضحية بميلها الأعمى إلى أن تريد ذاتها أو بتوجهها إلى محو ذاتها من أجل الآخر. بمجرد ما تريد ذاتها، بمجرد ما تتحول إلى فعل، تجد نفسها مقدرا لها أن يتم قمعها من قبل القوة الثانية. وبالتالي، فإن قمع القوة الأولى هو التوليفة النشطة لاتجاهها الخاص وواجب وجودها.
بيد أن مثل هذه التوليفة تتضمن راهنية القوة الثانية، وبالتالي، من باب أولى، الجوهر النوعي لهذه القوة الثانية. من السهل أن نفهم أن هذه هي القوة الثانية: لأنها لا تفعل إلا من أجل الاستجابة للقوة الأولى. عملها، بهذا المعنى، ثانوي منطقيا. ذلك لأن قدرها احتلال مكان الموضوعية. لذا فإن مكانتها تُغتصب بكل بساطة عندما تصبح القوة الأولى راهنة، ويحدث كل شيء بعد ذلك كما لو أنها وجدت نفسها مطرودة من المكان الذي ينبغي أن تنتمي إليه. من هنا نشاطها كتفاعلية، مجهود لاستعادة التوازن المتأثر، لتأكيد حقها في الموضوعية. بدلا من أن نكون أمام اتجاها، نكون أمام مجهود لمقاومة الفعل المقاوم للقوة الأولى. ولأن القوة الأولى بميلها تقاوم القوة الثانية، فإنها لا تسمح لنفسها بأن تُهزم، أو تُهزم بضربة واحدة؛ إنها لا تفسح مكان الموضوعية للقوة الثانية بطريقة مباشرة: لكي تكون ما يجب أن تكون عليه، دعما أو أساسا، نقطة انطلاق أو مسند قدم، يجب أن تصبح كذلك ، يجب أن يكون ميلها إلى الموضوعية على هذا النحو مستنفذا، معبرا عنه بالكامل.
إذن ما هي الحياة الزائفة؟ حياة تدوم ولكنها، كما هي، ليست لها الكلمة الأخيرة. إنها حياة تفسر بمصادرة الموضوعية من قبل القوة الأولى. الحياة التي لا تستجيب لواجب وجود القوى. إنها حياة تثيرها القوة الأولى بمجرد أن تحقق ميلها نحو الموضوعية. حياة كما لو كانت في الاتجاه المعاكس، حيث يتم عكس النظام. إنها حياة تتأثر بالضبط بما يسميه شيلينج بالشر. إنما في أشهر كتابات شيلينج تكون المقاربة الميتافيزيقية للوجود الأخلاقي أكثر لفتا للانتباه: يتعلق الأمر ب "أبحاث" 1809 "حول جوهر الحرية الإنسانية". فيها أثبت شيلينج أن الانقلاب يكون من قدرة الإنسان وحده بقدر ما يكون حرا لأجل الخير والشر. الحياة الزائفة ليست سوى حياة ممزقة، أو حياة نجت من تقطع الرابط الذي يضمن توازن القوى المنظم. هذا الرابط ليس حلقة تربط بين القوى المتساوية في الحقوق، بل هو رابط يوحد بالتبعية، بإخضاع الإرادة الذاتية للإرادة الكونية. والإرادة الإنسانية هي، في جوهرها، هذه الرابط الذي ينظم القوى، وبالتالي يوحدها. فإذا أنكرت الإرادة الذاتية خضوعها أو تبعيتها للوحدة التي تشكلها مع نقيضتها، تنزل الأخيرة إلى ما دون صفتها الخاصة، الأمر الذي يتعارض مع نظام المبادئ. إن واجب الوجود هو النظام، أي وحدة المبادئ المنظمة. وطالما ظلت هذه الوحدة دون عائق، يكون الوجود وواجب الوجود غير متمايزين: باستخدام صورة شهيرة للمسيحية، مثل الإنسان الذي خرج من يدي الخالق، فإن الوحدة تُعطى ولكن دون أن تعاش، دون أن تكون واعية بذاتها، دون أن يقع التفكير فيها. إن الحياة الإنسانية حقًا تتطلب المزيد: أن يضطرب النظام، وأن تترك القوة الأولى المكان للذات وتستنفد نفسها رغما عنها لتحتل هذا المكان الذي لا يناسبها – هكذا تعمل، تتفق بشكل أعمى، مع توجهها. إن الحياة الزائفة تتعارض بلا شك مع واجب وجود القوى الحاضرة. ولكن بدونها لن تكون الحياة الحقيقية فعالة: يتم التغلب على الحياة الحقيقية، والوحدة حية لأنها أعيد تأسيسها، وتبرز الحياة الطيبة ضد الحياة السيئة، إنها الحياة التي تخرج منتصرة من المعركة ضد غزو الإرادة الذاتية. وبما أن الحياة الزائفة تعتمد على الفعل الحر (وهو فعل الإنسان)، فكذلك الحياة الحقيقية.
إن ما تدين به الحقيقة للحرية هو أن تكون فعالة، وأن تكون لنفسها، وأن تنعكس في شخص الإنسان. وهكذا، فإن الكذب والحقيقة، كصفتين للحياة الفعالة، يفترضان وجود فجوة بين الوجود وما ينبغي أن يكون. يكمن زيف الحياة في هذه الفجوة، وحقيقة الحياة في امتثال الوجود لواجب الوجود الذي يجب التغلب عليه في هذه الفجوة. والباطل هو ما لا يتفق مع واجب وجود القوتين الأوليين. إن ما يخرج منتصرا من الصراع لصالح الباطل هو الحق: إن دينه للباطل هو ما يتوسط دينه للحرية.
2 - قاعدة العدالة
لننغمس الٱن في عالم الإمكانات، ودون أي اعتبار للفعالية: فحتى الأسوأ ممكن، والحياة الزائفة جزء من الإمكانات، مثل تشييئ القوة الأولى؛ وكأي شيء آخر، فإن ما لا يتوافق مع نظام القوى هو من بين الإمكانات. ليس هناك سوى حقائق في عالم الإمكانات، من بينها الحياة الزائفة التي ليست مستحيلة. إن جميع أشكال الشر تتلقى إلى هذا الحد تبريرا قبليا بحتا، أي تبريرا عقلانيا، مستمدا من العقل، من مملكة الإمكانات. لأنها جميعا ضرورية، ضرورية بنفس القدر في نفس الوقت ومتميزة نوعيا: ذلك لأنها جميعها مستنبطة من صراع القوى، مستنبطة كمنتجات لتشييئ القوى التدريجي. إن واقعة زيادة حدة الصراع تتوافق مع تدرج على مستوى المنتجات، التي تجسد مظهرا حادا بشكل متزايد للقوتين الأوليين بصفتهما الخاصة، وتعميق القوة المظلمة وتحرير القوة المضيئة. الشر عقلاني، وكل الأشكال التي يمكن أن يتخذها هي جزء من الإمكانات، بحيث أن القانون الذي يحدد لكل شخص مكانه في الواقع يعترف أيضا بكل شكل من هذه الأشكال. هل سينحاز شيلينج إلى أطروحة لايبنتز بعد أن انتقدها على نطاق واسع في رسالته الشهيرة لعام 1809؟ لا شيء أكثر غموضا.
هنا تقوم ألكسندرا رو بالتذكير بأحد الانتقادات التي صاغها شيلينج: إن إمكان الشر عند لايبنتز، لأنه أبدي، هو سلبي دائما، أي أنه لا يتضمن أي تنشيك محتمل للقوة الأولى؛ إنها فقط الفدية أو الثمن الذي يجب دفعه مقابل محدودية الإنسان وعدم كماله. ومن أجل التفكير في الشر باعتباره ممكنا أو عقلانيا، فإن شيلينج، على العكس من ذلك، يبني هذا الإمكان على إمكان تمرد القوة الأولى.
لننتقل إلى قانون العدالة.
من الناحية الموضوعية، لا توجد حقائق ليست في نفس الوقت إمكانات. ويجب أن نضيف: ليس بمقدور الإمكانات ألا تصبح فعالة حالما عدنا إلى الفعالية. وهنا يتدخل قانون العدالة، ما يجعل هاتين الجهتين متطابقتين، الإمكان والواقع. كل ما هو ممكن يجب أن يتحقق. الواقعي خال من بقية الإمكاتات. تأمل شيلينغ في هذه البديهية في وقت مبكر جدا، أولاً للتعبير عن كمال الكل، الكلية التي لا ينقص منها شيء: كل ما هو ممكن، أي مثالي، هو في نفس الوقت حقيقي؛ لا شيء ممكنا بمستطاعه أن يكون غير واقعي، أي خارج كل الواقع. ولذلك فإن كل ما هو محتمل يجد نفسه مرفوضا خارج الواقع، خارج الممكن. فالمحتمل ليس حتى ممكنا، والممكن ليس هو اللامتناقض (الممكن المنطقي) بل هو ما يجب أن ينتج عن الطبيعة الإلهية (الممكن الوجودي). وبالتالي فالإمكان لا يختلف عن الضرورة. لم يكن نوفاليس بعيدا عن تصور مماثل عندما كتب يقول: "الطبيعة هي المثال. إن المثال الحقيقي ممكن، واقعي وضروري في آن واحد". إن شعار الكل يتطلب تحديد المقولات الثلاثة للجهة: الإمكان، الواقع والضرورة.
اختبر شيلينغ ذلك في ما يسمى بفلسفة "الهوية"، حيث جعل المبدأ والكل، المثالي والواقعي، وبالتالي الإمكان والضرورة، متطابقين منذ الأزل. ومن دون أن يتخلى أبدا عن هذه الهوية، قام بالتوسط بينها أو جعلها مؤقتة: لقد عهد إلى الزمن بمهمة كشف عالم الإمكانات، وبعبارة أخرى، أعطى هذه الأهيرى الوقت لتحدث، لتدرك نفسها، لتتحقق كلها. البديهية آمنة وسليمة، كما يشير كزافييه تيلييت: "ما يتم تحقيقه هو الممكن حقا". ولذلك فإن تحقيق الإمكانات يجب أن يكون كاملاً، ويجب أن يستغرق الأمر وقتا طويلاً حتى تصبح جميعها حقائق. إذا كانت صور الشر في حد ذاتها إمكانات، فإنها لا تفلت من هذه الضرورة. وهكذا فإن قاعدة العدالة تشمل الحق الطبيعي لكل الأشياء أو الإمكانات في الواقع، وفي الموضوعية. فهي تعترف بـ"المكان الذي لكل واحد الحق الطبيعي أو الفطري في شغله ضمن هذا العالم".
لا يتعلق الأمر إذن بالتضحية بالأسوإ لصالح الأفضل؛ يجب أن يحدث الأسوأ، وتتشوه الحياة أولاً، حتى ينتصر الخير وتؤكد الحياة الحقيقية نفسها. وهنا نجد فكرة كان شيلينج قد وضعها في ذهنه بالفعل في رسالته الشهيرة لعام 1809: لا ينتصر الضوء إلا إذا انتشر الظلام لأول مرة، واستنفد عمله". لا بد أن دناءة البشر وحقدهم بذلا كل ما في وسعهما لكي يسود الخير في عالم الروح. كل ما هو ممكن، بما في ذلك الأسوأ، يجب أن يتحقق. وهذه الضرورة هي التي توضح أن قانون العدالة الفعال في فعاليته يحمل كل مظاهر القاعدة التي لا ترحم. هذا يطرح سؤال معرفة من أين تأتي: من أين يجب أن يأتي لتظهر لنا هكذا، وحتى لتفرض نفسها على الحر بشكل مطلق؟
3- بأي معنى يمكن أن نقول إن قانون العدالة هو قانون خارجي؟
تأمل شيلينغ في "ديكي" الذي لا يرحم في المأساة اليونانية، ليجعل منه رمزا لقانون العدالة هذا الذي يسود على الإمكانات وواقعها: يجب أن يظهر هذا القانون كقوة في حد ذاتها، مستقلة، عنيدة، ومستقلة إلى حد ظهورها لا مستقلة عن الإنسان فحسب، بل عن الله كذلك. والسؤال هو ما إذا كانت كذلك حقا .
إنها مستقلة عن الإنسان بلا شك: لم يضع الإنسان قاعدة العدالة هذه. كونها مؤلمة، أو أنها تبدو قاسية بالنسبة إليه، يأتي من واقعة أنها لم تعد موجهة - بسبب السقوط - إلى العقل، بل إلى الإرادة، إلى حد استيعابها كقانون خارجي. ومن ثم، لم تعد موضوع المعرفة الحميمية أو الداخلية: إنها تفرض نفسه كقانون خارجي تماما عن إرادتنا؛ تأتي لتعنفها وتبذل جهدا عليها. إن صرامة كانط تعطينا، وفقا لشيلنج، فكرة قريبة عن هذه الحتمية، حيث نشعر بأن القانون الأخلاقي مؤلم رغم استيعابه واستبطانه. الآن، بالنسبة إلى شيلنج، هناك سبب لهذه الواقعة: هو أن الإرادة البشرية قد تمزقت، وسلطتها الأنانية تجلت ضد الكوني؛ انقلب نظام القوى، وذلك بسبب خطإ الإنسان. كما أن كل قسوة قانون العدالة تفسر بهذا الخطإ.
ومع ذلك، فإن هذه القاعدة ليست مطلقة من الناحية الخارجية. أولا، تجدر الإشارة إلى أن الأمر ليس خارجا عن الإمكانات التي يُقدَّر لها، وفقا لها، أن تتحقق بطريقة شاملة: فالإمكانات تنطوي في داخلها على نوع من نفاد صبر على تحققها، نفاد صبر غير نشط طالما أن الله لا يدخل في الفعالية، بل نفاد صبر نشط حالما يطلق العنان للقوى بحرية. يعبر بالضرورة ميل كل منها عن نفسه، بحيث تصبح جميع الإمكانات حقيقية: إنها مسألة وقت فقط، عاجلاً أم آجلاً سوف يملأ كل واحد منها بدوره كأس الواقع. يرفض شيلينج، دون أن يقول ذلك، التصور الذي اقترحه لايبنتز عن الخلق الإلهي: بالنسبة لشيلنج، فقط ما يميل في الواقع إلى أن يصبح حقيقيا هو الممكن. نجد عند لايبنتز فكرة أن الإمكانات كلها لها "ادعاء بالوجود"، "متطلب معين للوجود". لكن مثل هذا الشرط له معنى هرمي وليس دينامي: فالإمكانات، كما كتب لايبنتز في أحد كتيباته، "حق متساو في الوجود، بما يتناسب مع درجة الكمال التي تنطوي عليها". قانون آخر غير قانون العدالة كما رٱه شيلينج هو الذي يسود عند لايبنتز: إنه قانون الإمكانات القصوى المحققة. يفترض تحليل لايبنتز وجود فائض من الإمكانات في ما يتعلق بالمخلوق. ليس من المستغرب أن يطرح مسألة ما هو متماكن وما هو ليس كذلك. وهكذا، بالنسبة إلى لايبنتز، فإن "العالم المتحقق هو الذي يحقق الحد الأقصى من الإمكانات"، بينما بالنسبة إلى شيلنغ، فإن العالم المتحقق هو بالأحرى العالم الذي يحققها كل جميعا.
قاعدة العدالة لا تأتي من الإنسان، لكن هل تأتي من الله؟ لا شيء أكثر سواء! فهل يعني هذا أن هذا القانون خارج عن الله ويفرض نفسه عليه كما يفرض نفسه على الإنسان؟ مصدره هو العقل الذي، في الواقع، بالنسبة إلى شيلنج، لا يتلقى قاعدة العدالة هذه من الله. كل شيء ممكن موجود في العقل أو في الكوني. في الواقع، كل إمكان هو ما يجب التفكير فيه أولاً، قدر الإمكان، أي تبجيله والاعتراف به وتثبيته وفقا للعقل وحده. ومن ثم فإن العدالة عقلانية تماما، وقانون العدالة هو قانون العلم ذاته. وهو ما يؤكد أن المعنى الذي كان يحمله هذا القانون في ما يسمى بنظام “الهوية” قد تم الحفاظ عليه. إنه يحتفظ ببعد أبدي، أو عقلاني بحت، يمكن أن يشع منه إلى الفعالية: كل ما هو ممكن يشكل في نفس الوقت كل ما هو واقعي. لأن كل إمكان له الحق في الوجود، وفي الفعالية، بحيث أنه بافتراض هذه الفعالية، فإن كل ما هو ممكن يجب أن يتحقق. لذلك يجب علينا أن نستنتج أن كل شيء عقلاني يجب أن يتحقق، منذ اللحظة التي يقرر فيها الله الذهاب بطريقة ما إلى الفعالية.
وهو متميز بأصله عن الخالق الحر، لا يُفرض عليه هذا القانون من الخارج. لأننا لا نستطيع أن نقول إن الله، كإرادة، يجعل نفسه مستقلاً عن قاعدة العدالة، كما هو الحال مع الإنسان. باعتباره حرية، الله مستقل عن قانون العدالة. إنه غير قابل للاختزال إلى العقل في حد ذاته، وبالتالي إلى هذه القاعدة ذات المصدر العقلاني. هل هذا يعني أنها غريبة عنه تماماً؟ يعتقد شيلينج على العكس من ذلك أن العقل نفسه، الذي منه تأتي هذه القاعدة، مرتبط بالله بطريقة ضرورية. ولكن كيف يمكن تصور ذلك إذا كان الله هو الحرية؟
(يتبع)
________________________
- المرجع:
https://www.cairn.info/fondement-de- la-morale--9782130536635-page-36.htm