توطئة
نجد في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة على السواء أفكارا فجّة ابتذالية تم تسويقها للعالم قاطبة قبل تسويقها في منشئها الاول دول الغرب (اوربا) تحديدا على أنها أفكار لعظماء الفلاسفة وعباقرتها في التاريخ الانساني، ولو لم تكن مباحث الفلسفة الغربية نشأتها القديمة العظيمة في اليونان وغيرها من بلدان العالم القديم في العراق ومصر وبلاد المغرب العربي وبلاد الشام والاندلس وبلاد فارس والهند والصين، لكانت الفلسفة الاوربية الحديثة مهزلة من مهازل العبث بالتفكير الفلسفي والعلمي الهادف الذي دفع الانسانية نحو مراحل علمية نهضوية تقدمية لم تكن إسهامات الفلسفة مقارنة بمنجزات العلم شيئا يستحق حتى الاشارة له.والمتابع لمقالاتي الفلسفية ومؤلفاتي يجدها نقدا متداخلا في مراجعة قطوعات من تاريخ الفلسفة الغربية هي أمثلة لما ذكرناه. ولا أتوخّى من وراء هذه الممارسة الفكرية النقدية المنهجية المسؤولة مجرد الانتفاص والتشهير بفلسفة غربية نحن اليوم وقبل اليوم نتتلمذ على أفكارها تلاميذا نجباء لم يتعوّد أحدنا أن يقول عن بعض الافكار الفلسفية الغربية أنها تافهة لامعنى لها، وإنما كان هدفي ولايزال الإسهام على قدر المستطاع إشاعة روحية النقد البنّاء لدينا إذا ما أردنا الخروج من شرنقة الدوران وراء عروض فلسفية أغلبها مترجمة لما اعتاده المشهد الثقافي والادبي والفلسفي الركض بلا روّية وتأن وراء أفكار فلسفية أصابها البلى الغربي في وجوب مغادرة تقديسها والانبهار المبالغ بها .
الارادة والادراك
كان ميراث الفلسفة المثالية الغزير الذي ورثه شوبنهاور عن العديد من الفلاسفة الذين سبقوه كافيا أن يجعل منه فيلسوفا مثاليا في تطرف لا يجاريه فيه سوى بيركلي في مثاليته. حيث وصلت مثالية شوبنهور المتطرفة نكرانه وجود العالم الخارجي بدون وجود ذات تدركه، معتبرا لا وجود لعالم خارجي لا تدركه الذات.
ليس بمعنى الإتاحة المشتركة لوجودهما البيني معا، بل في التفاوت الزمني في وجودهما الانطولوجي. بمعنى حين يكون العالم الخارجي وجودا أزليا محدودا ومحكوما بالبقاء في وجوده الطبيعي بقوانين طبيعية مادية ثابتة لا تستطيع الغاء وجود ما هو مادي (العالم الخارجي) المتجانس معها، فلا يبقى هناك معنى أن لا يكون هذا العالم الخارجي غير موجود بغياب ذات انسانية تدركه.
والاكثر استهجانا لا معنى لوجود عالم في غير مزامنته لذات تدركه. لا أعتقد من السهولة استحضار الذات كوجود يستبق أولوية حضور العالم الخارجي كوجود طبيعي مادي تحكمه قوانين في اشتراط ساذج أنه لا وجود لعالم خارجي من دون محايثة وجود ذات تزامنه الحضور إدراكيا.
واستمد شوبنهور من كانط مقولته المثالية "إن تنظيم الإحساسات في موضوعات الإدراك ترجع الى الصور القبلية التي يفرضها الذهن على تلك الإحساسات"1
هذا الاقتباس القصير يحيلنا الى تعقيب ونقد الخطوط العريضة في المنهج المثالي الفلسفي عموما:
- هناك مسلمّة يعتمدها المنهج المادي أن وجود العالم الخارجي يسبق الإدراك الحسّي والعقلي له بكل حلقاته بدءا بالحواس وانتهاء بالدماغ في تركيبته العضوية. وجود العالم الخارجي لا ينفي وجوده عدم إدراكه ولا ينفيه عدم التعبير الفكري اللغوي عنه كما لا تنفيه الذات في عدم إدراكها له في تحقيق وجودها المغاير في حضور ذلك الوجود كما في غيابه الحسّي.
صحيح جدا الوعي الذاتي لا يتحقق بدون موضوع يلازمه الإدراك لكن تحقق الوجود المادي في العالم الخارجي لا يشترط توفر إدراك الذات له كي يحقق وجوده الموجود سلفا في الطبيعة بقوانينها الثابتة. الوجود لا يحتاج من يدركه بل الانسان في وجوده المغاير النوعي لموجودات الطبيعة له يحتاج إدراك الوجود وتفسيره ومعرفته ذلك الوجود.
- الصور القبلية المفترضة كخزين معرفي بالذهن لا صحة لها لسببين الاول لا يوجد خزين معرفي بالذهن لم تسبقه موجودات عالم مادي واقعي كانت مصدرا لتلك التصورات المعرفية الخزين بالذاكرة وليس بالذهن، والثاني أن الذهن لا ينوب عن الذاكرة في تخزين المعارف المكتسبة، كما ولا ينوب الذهن عن العقل بالتفكير.
- الصور القبلية لإدراك الاشياء لا تعمل في فراغ، بمعنى مصدر كل إدراك صوري تجريدي قبلي هو خبرة مكتسبة عن موجودات وأشياء خارجية. صحيح لا يتم الإدراك العقلي - الذهني عن شيء لا يسبقه معرفة قبلية عنه، وهذه المعرفة القبلية هي خزين فكري لغوي لم يتح له الإفصاح عن مدركاته. لكن معرفة الشيء بتصورات قبلية عنه لا يجعل من ذلك الشيء موضوعا معرفيا جديدا تخلعه لغة الادراك العقلية والتعبيرية الجديدة عليه.
- الفكر والإدراك التجريدي لا يخلق الوجود المادي لتلك الاشياء. كل مدرك مادي مستمد من الواقع الخارجي أو موضوعا مستمدا من الذاكرة - المخيلة يستحث منظومة العقل الادراكية التفكير به بما هو يحمله من خواص وليس بما تعرفه عنه الذات المدركة من تصورات قبلية ومعرفة مخزّنة بالذاكرة عنه. وجود الشيء في حاضر إدراكه لا يطابق وجوده في ماضي إدراكه. .
- وسيلة الذهن إفصاحه عن مدركاته لا تجعله يتقدّم العالم الخارجي بالأسبقية لا بالوجود ولا بالإدراك بل الذهن يتلقى الإنطباعات عن الإحساسات العابرة له من خلاله دونما أسبقية العقل التعامل مع تلك الانطباعات.
من المسائل التي يجري الخلط بها هو اعتبار الذهن مستودع تخزين (الافكار) التي هي في حقيقتها حلقة عبور انطباعات إدراكية لإحساسات مصدرها الواقع المادي، وهي عابرة للذهن وليست أفكارا يختزنها الذهن بالتفكير بها، والخطأ الثاني اعتبار الذهن مستودع التفكير لمدركات العالم الخارجي وله خاصّية إعطاء مقولاته الارتدادية في أن ينوب عن العقل في تمّثلات التعبير عن تلك الاشياء ألمدركة بردود الافعال الصادرة عنه.
ولتوضيح هذا الإرباك يمكننا العودة الى آراء جورج بيركلي المثالية الذي يرى إحساسات مدركات العالم الخارجي التي تنطبع بالذهن تخرج من الذهن بنفس بساطة دخولها ومغادرتها له بلا تغيير. لذا يعتبر خزين الأفكار بعد فقدانها لقيمتها الزمانية يتم تخزينها بالمخيّلة وفي الذاكرة وليس تخزينها في الذهن بإعتباره حلقة مرور الإنطباعات الحسّية.
الذهن يمكننا معرفة بعض الإنطباعات على لوحته التي تكون مادة خام فيه، لكن عندما نريد معرفة افكار إدراكية نهائية عن شيء نجدها بتعبيرات العقل كمقولات إدراكية فكرية حاسمة وليست إنطباعات ذهنية ومن العبث التفتيش عن الافكار بالذهن قبل صدورها عن العقل.
- وسائل حلقات المنظومة الادراكية للعقل مثل الذهن، الوعي، المخيلة، الذاكرة، في التعبير عن المدركات العقلية يكون بوسيلة تلازم الفكر واللغة الصادرة عن مقولات العقل. أي التصورات والتمّثلات التجريدية اللغوية، كون حقيقة الإدراك هو لغة، كما هي حقيقة الوعي هو لغة، وحقيقة الذاكرة لغة والعقل بكليّته الموجودية هو جوهر ماهيته التفكير اللغوي المجرد حسب تعريف ديكارت.. لا يمكن إدراك شيء موجود بدون لغة تحتويه وتتمثله حتى الإدراك العقلي للوجود كما ذكرنا هو تعبير لغوي تمّثلي صوري تجريدي لعالم الموجودات.
الارادة والوجود بذاته
من الأمور الاخرى التي أراد شوبنهاور عبور كانط بها هي موضوعة (الوجود بذاته) النومين الذي إدّعى يمكنه عبور مقولة كانط التي أراد بها ما معناه أن الوجود بذاته لا يمكننا القول أو التعبير عن حقيقته بأفكار هي لم تدركه أصلا، لكننا نجد شوبنهاور يقول " الوعي بذاته هو الإرادة، فالحقيقة الثابتة الواقعية هي الإرادة " 2، بخلاف هذا التعبير المنكفيء ذاتيا جوّانيا في تحقيق الإرادة على مستوى الفهم الخارجي للوجود، نجد بول ريكور يذهب أبعد من ذلك في تصويره المثالي قوله الإرادة ليست حدودها عالمنا الإدراكي وإنما هي رغبة فهم ميتافيزيقا الوجود في تعبيره "الارادة ذات سعة ومجال بلا نهاية".
ولا نعرف مدى تطابق الإرادتين الفلسفيتين الاولى لشوبنهاور والثانية لبول ريكور في مثالية فلسفية لا تقدم ولا تؤخر.. كون الإرادة لا هي منهج عملي محدود الأمد في التطبيق كما في تواضع عنونة شوبنهاور أو كانت الارادة ذات سعة بلا نهاية كما يعبّر عنها ريكور.
ملاحظات حول عدم صحة تعبير شوبنهاور الوعي بذاته حقيقته الثابتة هو الإرادة :
- الشيء بذاته وجود غير مدرك لا بالماهية ولا بالصفات هذا ما ذهب له كانط وهوسرل في الفينامينالوجيا وفلاسفة الوجودية بلا استثناء، لذا يكون بالحتمية الواقعية المنطقية الشيء بذاته لا ينتج عنه ما هو حقيقي يدركه العقل يسمى "الارادة " التي هي سلوك قصدي غير متحقق لا بالفعل ولا بالتعبير عنه بوسيلة الفكر واللغة.
الإرادة مصطلح غائم يمكننا تفسيره بمرجعية علم النفس، أما أن تكون الإرادة وسيلة معرفتنا وإدراكنا العالم من حولنا بموجوداته وظواهره تحت عنوان العالم إرادة وتمّثّل فهو أمر مشكوك به.
إلارادة ليست ما ترغبه أن يكون عليه العالم بل الإرادة الحقيقية هي إمكانية ما تستطيع تحقيقه إرادة التنفيذ في تغيير ذلك العالم وليس في تسطيح تفسيره..الإرادة الفاعلة هي تلك الإرادة التي تهتدي بمنهج فكري تقوم بتنفيذه، وهذا ما نجده واضحا في أدبيات الماركسية وفي أدبيات البراجماتية الامريكية على حد سواء رغم البون الاختلافي الشاسع بينهما.
- الشيء بذاته هو وجود قاصر ذاتيا في الإفصاح عن نفسه تحكمه طبيعته الموجودية الانطولوجية، أي هو وجود بذاته مشكوك به لعدم توافر إمكانية إدراكه عقليا، وكونه موجود افتراضي مغلق في عدم معرفة ماهيته.
لذا تكون الإرادة هي خاصيّة سلوكية نفسية غير متحققة في الواقع، وليست لها قدرة وإمكانية تمكنها إدراك الوجود بها كحقيقة عابرة لكل موانع العقل والإدراك السوي الحقيقي، فالإرادة ألمثالية لا تحتمل أكثر من تفسير علم النفس السلوكي لها، أنها رغبة مكبوتة مجردة من قابليتها الادراكية بالفعل (براكسيس) في إثبات وجودها قبل أن تكون وسيلة معرفية لفهمنا العالم من حولنا وإثبات وجودها بالتصور الذي جاء به شوبنهاور عنها.
- الإرادة خاصيّة انسانية مقعدة عن إمكانية التنفيذ لما ترغب التعبير عنه وتحققه، الإرادة هي رغبة تحقيق ذاتها بتموضعها الإدراكي بموجودات وظواهر العالم الخارجي. وهي إرادة القيام بفعل شعوري نفسي لا يتحقق بدلالة غيره.. والارادة فعل قصدي فاقد إمكانية تحوله الى سلوك معرفي حقيقي، حتى في حال تكون قصدية الإرادة تحتكم لأحكام العقل بتوجيهها. والإرادة تصّور قصدي لا يتّخذ صفة الإفصاح عن موضوعه قبل تحقق فعل الإرادة في الواقع المادي للأشياء.
- وحينما نقول العالم محكوم بإرادة الادراك والتغيير الذاتيتين فهذا ليس كافيا، اختزال كل المعارف العلمية والفكرية وتراجعها أمام مقولة شوبنهاور أن وسيلة فهم وإدراك العالم هو إرادة وتمّثل موجودات ذلك العالم الذي يكون تمّثله اللغوي التجريدي من بديهيات مباحث الفلسفة التي لا تقوم على الإرادة فقط التي هي نزعة مثالية طوباوية لا أكثر. الإرادة ليست وسيلة إدراك العالم من حولنا، بل هي رغبة نفسية لإدراك ذلك العالم تفتقد وسائل التنفيذ.
الارادة وتموضع الطبيعة
في كتابه (العالم ارادة وتمّثل) بعد إعادة الاعتبار له بعد إهماله بشكل مزري لفترة زمنية طويلة أراد شوبنهاور تطوير مذهب الإرادة من حيث أن الإرادة تعني تموضع الذات الانسانية في الطبيعة، وعن طريق التمّثلات يعي الانسان جسمه، من حيث أنه موضوع طبيعي في عالم متموضع فيه جزء منه. يقول شوبنهور" الإرادة متموضعة في الطبيعة، وعن طريق التمّثلات يعي الانسان جسمه من حيث أنه موضوع طبيعي في عالم تلك الموضوعات ." 3
لنا التعقيب التالي :
- الإرادة بالفهم الفلسفي وعلم النفس ليست (ادراكا) عقلانيا تسبق موضوعها المادي في تمّثلاتها أشياء متموضعة بالطبيعة منها الانسان على حد تعبير شوبنهاور. ويكون تموضع الإدراك من خلال التعبير عن مدركاته هو تعبير لغوي وتمّثل تصوّري تجريدي صرف لا علاقة له بالتموضع العضوي في الطبيعة من حيث الادراك هو إلزام وعي الاشياء في وجودها المادي بالطبيعة، وهذا الإلزام هو خصيصة الإنسان في وجوده كائنا عقليا. حقيقة التموضع في الطبيعة هو وجود أنطولوجي وليس وسيلة إدراك تجريدي.
- كل تموضع في الطبيعة لأشياء وموجودات يدركها العقل بوسيلة تجريد اللغة في التعبير عنها. والانسان بإعتباره أحد مواضيع الطبيعة كما وصفه شوبنهاور. وأن إدراكه المتموضع كموضوع في الطبيعة لا يتم بغير تمّثلات الإرادة كسلوك معرفي عقلي يجد فيه الانسان حقيقته الوجودية.
الانسان الوجود المادي، أو الكائن المتموضع بالطبيعة كما يرغب شوبنهاور لا يلزم بالضرورة أن يكون إدراكه بوسيلة الإرادة التي هي وعي نفسي يعي ذاته والمحيط. إرادة الانسان في وعيه ذاته لا تحتاج إرادة اختيار ولا إرادة نفسية قصدية ولا إرادة غريزية متموضعة بالطبيعة، وعي الانسان لذاته وعي إدراكي قبلي ومعرفي وخاصّية فطرية يدركها الانسان بمجرد أن يمتلك قابلية التفكير وتعبير اللغة عن قلقه الوجودي بالحياة. وهذا الإدراك للإنسان لا معنى ولا علاقة تربطه في تموضعه بالطبيعة.
- لم أجد معنى فلسفي أفهمه يتوقف عنده المتلقي مثل تعبيرات شوبنهاور الفلسفية المتهالكة التالية :
" عن طريق الحدس المباشر يعي الانسان إرادته، وجسمه ناتج الإرادة وأداتها، وقدماه تموضع لرغبة الحركة، وأعضاؤه الهضمية تموضع لرغبة الجوع، ومخّه تموضع للرغبة في المعرفة، وإذا لم يكن كل هذا من أجل الإرادة لن يكون له جسم على الاطلاق." 4
لا تعليق تهضمه هذه التعبيرات الفارغة التي لا معنى لها، ولا تمّت بأدنى صلة لفهم التموضع الانساني بالطبيعة، ولا لتشريح جسم الانسان بايولوجيا حسب الوظيفة العضوية، لتأكيد أن كل شيء خاضع للارادة كما يرغب شوبنهاور تسويقه. الإرادة ليست منهجا في معرفة حقيقة العالم بتمّثلات الذهن... الإرادة الانسانية بلا منهج نظري يتقدمها ويقودها تبقى وعيا قاصرا في محاولة فهم موجودات الطبيعة والعالم والحياة.
الإرادة وفلسفة من هنا وهناك
كي لا نغادر إنشائية شوبنهاور الفلسفية كمثال لما ذكرناه نأخذ نموذجين من الهراء الفلسفي له الاول الإرادة والطبيعة والانسان إذ يقول " هل يستطيع شخص ما أن ينظر الى كل الموضوعات الموجودة مثل الاشخاص الآخرين والحيوانات والنباتات والاشياء العضوية من حيث أنها تمّثلات لا توجد إلا بالنسبة له، أي بوصفها أدوات لإرادته الفردية بدون أساس آخر للوجود سوى وعيه بها " 5
من الواضح الخاطئ معا هو اعتبار واختزال شوبنهاور الأنا الفردية حتى في حال افتراضنا أنها تمّثل وعيا جمعيا تنوب الذاتية الفردية عنه، أن تكون الأنا هي مجمل معرفتنا حقيقة الوجود في وعينا له بالإرادة الخّلاقة التي يقترحها فيلسوفنا. ومن دونها لا يتبقى وسيلة أخرى ندرك بها العالم على حقيقته .
وعي الذات في إدراك العالم ليس مقتصرا على تحقيق حلم الإرادة كما يرغب شوبنهاور، جميع كائنات العالم الخارجي والطبيعة إنما هي وسائل ليست لمعرفته ومعرفة مصير الانسان فيه، وإنما هي لجعل كل مدركات الوعي الفردي أدوات تنفيذ رغبة الإرادة إشباع الحاجات الانسانية الاساسية للفرد. إرادة الانسان ليست وسيلة إثبات وجود العالم الطبيعي ولا وسيلة إثبات وعي الذات المتموضع بالطبيعة كموضوع من موضوعاتها.
والعالم لا يستمّد وجوده إلا بإرادة الوعي به كما يرى شوبنهاور، وبانتفاء الوعي الذي تحكمه الارادة لا يبقى هناك معنى لوجود. كي لا نطيل بكلمات لا معنى لها بتفسير كلمات لا معنى لها نقول الطبيعة لم يكن وجودها متوقف على إدراك الانسان لها وتموضعه بها كإرادة يتحسس جسمه بدلالتها، ولا على تلبية حاجاته لها، ولا لأهمية الارادة في تموضعه بها.
الانسان لم يخلق جزءا ملحقا بالطبيعة غير العاقلة بأي شكل من الاشكال، بل لا تزال مسيرة البشرية الانثروبولوجية تشير الى أهمية وعي الانسان مهادنة الطبيعة والتكيّف معها في محاولة معرفة قوانينها الثابتة ومدى تأثيرها على الوجود الانساني. الانسان كموجود محايث لوجود الطبيعة هو في حقيقته الانطولوجية وجود طارئ على الطبيعة جزء منفصل عنها بقدرات لا تمتلكها الطبيعة، وعي الانسان لا يقتصر على كيفية أن يكون كل شيء بالوجود هو من أجل خدمة الانسان وما لم تتحقق مثل هذه الفاعلية فلامعنى لوجود عالم مستقل عنّا تحكمه قوانين لا إمكانية للانسان العبث بها من غير التكيّف العلمي معها في محاولة اكتشاف نظامها لوضعها في خدمته.
في مثال ابتذالي سطحي ثان يعّبر شوبنهاور" العلم لم ولا يخبرنا بشيء على الإطلاق عن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تصّنفها، ولا عن نظام الظواهر المنتظم الذي تصفه، العلم لا يكشف شيئا عن الطبيعة الحقيقية لأي شيء، فلا نستطيع معرفة كيف يكشف العلم القوة التي بناء عليها يسقط حجر الى الارض. ولا كيف يدفع جسما لجسم آخر، أو ما الذي يسبب نمو النباتات أو حركات الحيوان، لا يستطيع العلم إكتشاف هذه وغيرها." 6
هل من المعقول عند أبسط انسان يعيش منجزات العلم الهائلة تصديق أن يتراجع العلم الى الوراء فقط كي نعتبر كلام شوبنهاور السطحي في إدانته وتشكيكه بتقصير العلم مقارنة بما تعرفه الفلسفة من علوم يعرفها بعض الفلاسفة دون غيرهم؟ هل اكتشافات علوم الفيزياء والفلك منذ كوبرنيكوس 1543 والى قوانين نيوتن في الجاذبية والرياضيات التي سبقه بها كلا من برونو وغاليليو وكبلر وصولا الى نسبيتي انشتاين الخاصة والعامة جميعها كانت العاب أطفال تتقاذفها ارادة شوبنهاور الفلسفية ؟ هل حقا لم يعرف العلم كيف يصنع النبات غذائه ذاتيا في إدامة حياته، هل علوم الحيوان لم تتوصل معرفة دوافع حركات الحيوان وسلوكه في الطبيعة؟ هل العلم الذي وصل فك شفرات كروموسومات الحمض النووي، والاستنساخ من خلية حيّة كائنا نوعيا آخر منها؟ كل منجزات العلم بالذرة والتكنولوجيا وغيرها من مجالات كان العلم يهتدي الوصول لها بإرادة شوبنهاور الفلسفية التي تبعث أسئلة ساذجة عن العلم ؟؟ شيء من العبث مناقشته.
بقي الفلاسفة المحترمون في نطاق تخصصاتهم الفلسفية لا يقربون التدخل في مجال اشتغالات العلم الطبيعي التخصصية لأنهم بذلك يعمدون عن جهل تخريب وتعويق مسيرة العلوم الى أمام. ولم تكن الفلسفة متقدمة على العلم في أيّ مجال من مجالات الحياة على إمتداد عصور طويلة من تاريخ العلم والفلسفة عدا الاسهامات البسيطة التي حاولت الفلسفة إفادة العلم بها.
الفلسفة علما طبيعيا قائما بذاته يلازم الانسان في البحث عن اجابات لتساؤلاته، ولم تكن ولن تكون الفلسفة إرادة تجريدية تحاول خلق العلوم الطبيعية. العلم منجزات محدودة بالزمان والمكان في اجتراحاته التجريبية، بينما تكون الفلسفة نهجا غير نهائي ولا محدود بفضاء تفكيري مجرد لأنها ليست محدداتها التجربة وميدان التطبيق كما هي خاصية العلوم الطبيعية.( هذا لا ينطبق على كل من الفلسفتين الماركسية، والذرائعية "البراجماتية" الامريكية كونهما منهجين فلسفيين يصنعان الحياة ويغيّرانها بالتطبيق العملاني كما العلم الطبيعي تماما).
الادراك والارادة
يمكننا القول بخلاف شوبنهاور أن الإرادة لا تقود الإدراك كغريزة فطرية تحكم الانسان كموجود متعالق بالطبيعة بالتمايز النوعي عنها. الإرادة سلوك نفسي مبعثه معرفة الاشياء في وجودها الطبيعي، بينما يكون الإدراك فعل حيوي عقلي يتوفر على الوعي القصدي في تساؤله لماذا يجب معرفة العالم وليس معرفة كيفية إدراكه فقط؟. الانسان لا يتمّثل موجودات العالم من حوله لمجرد امتلاكه التمايز النوعي عليها في إدراكه لها وعدم إدراكها هي له.
موجودات العالم حول الانسان لا تلزمه وجوب إدراكها، كونها لا تعقل وجودها ولا وجود الانسان المحايث لها. الوعي القصدي هو الذي يتمّثل ارادة الانسان لأهمية إدراكه العالم المادي الطبيعي من حوله.
نعود أيضا لاقتباس من كتاب شوبنهاور "العالم ارادة وتمثل" قوله " العالم هو تمّثلي وهي حقيقة لا يعيها تماما سوى الانسان الذي يستطيع أن يقررها بصورة مجردة على الرغم من أنها تصدق بالنسبة لكل شيء يعيش ويعرف، أن العالم الموجود أمام الانسان لا يوجد إلا من حيث تمّثل بالنسبة لذهنه" 7
تحليل وتعقيب نقدي
- تمّثل موجودات العالم والطبيعة تجريديا لغويا إدراكيا هي خاصّية انسانية عقلية نوعية لا يمتلكها سوى الانسان، ولا تصدق على كل شيء يعيش ويعرف كما ورد في عبارة شوبنهور. فالحيوان يعيش ويعرف أنه يعيش لكنه لا يستطيع تمّثل وجوده ولا العالم من حوله، كما يفعل الانسان في إمتلاكه خاصّية العقل الذكي بوسيلة التعبير الفكر واللغة.
- موجودات العالم لا يتوقف وجودها على تمّثل الانسان لها كنوع لا يجاريه فيه كائنا غيره. العالم وجود متحقق قبل ارادة الانسان تمّثله للعالم، واختلاف موجودات العالم أنها لا تكافئ مساواة الانسان بوجوده ووعيه المتفرد للطبيعة. وخاصيّة الانسان المتاحة له فقط في إدراكه العالم من حوله هي فطرة بيولوجية قبل أن تكون إرادة تحكم كل شيء كما يزعم فيلسوفنا شوبنهاور.
- إدعاء شوبنهور إرادة الانسان معرفة العالم، ليست سببا كافيا لإثبات وجود العالم الموجود بفعل إرادة الانسان، كما وليست إثبات تحصيل حاصل أن الانسان موجود يتوّجب عليه إدراك وجوده الذاتي والموضوعي وسط عالم متنوّع تصعب على إرادة الانسان تطويع كل شيء لتمّثلاته كما في اعتباره عنونة كتابه "العالم ارادة وتمثل". بمعنى من غير الارادة والتمّثل لشوبنهور لا وجود لمنهج علمي ولا فلسفي يفهم به الانسان العالم من حوله ووجوده بالحياة.
- ليس من الصحيح لإرادة شوبنهاور أن تمثلات الانسان للعالم والوعي الادراكي له متاحة لغيره و يمكن تكرارها أو استنساخها لاعتبارات خاصّية انفراد الانسان بإدراك العالم بذكائه العقلي قبل إرادته النفسية العزلاء التي تقوم على تمّثلات العالم تجريديا بالإرادة، وخاصّية العالم من حوله المحكوم بقوانين تحكمه من غير وعيه بها ومن غير وعيه صنعها غير تكبيله بمحددات ثابتة. لذا يكون إدراك الانسان للعالم هو ضرورة حياتية قبل أن تكون ضرورة معرفية. بمعنى وجود الانسان وسط العالم والطبيعة ليس لإثبات وجوده فيها بمغايرته الجوهرية عنها في تنوّع موجوداتها وكائناتها الحيّة وغير الحيّة، بل لإثبات كيف ولماذا يدركها؟ وأين يكون وجوده بين هذه العوالم والمدركات التي لا تحد لكثرة تنوّعها وتعالقاتها وتشعبّاتها في ظواهرها وغيرها ..
علي محمد اليوسف /الموصل
هوامش
- وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة /ت: محمود سيد احمد/مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح امام/ ص 351
- نفسه ص 357
- نفسه ص 357
- نفسه ص 358
- نفسه نفس الصفحة
- نفسه نفس الصفحة
- نفسه ص 356