الوعي بين النفس والعقل - علي محمد اليوسف

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

يتبنى هوسرل في فلسفة الفينامينالوجيا مقولة الوعي هو موضوع نفسي. ويعزو سبب ذلك الى حقيقة الوعي ليس موضوعا يقبل المشاهدة او الملاحظة الخارجية بل هو حقيقة نفسية تستلزم ضربا من من التحليل القصدي على حد تعبيره الخاطيء.

الوعي اشمل من ان يكون حقيقة نفسية وليس حقيقة عقلية. طالما نعجز عن تعريف ماهو الوعي؟ بذلك نكون اخرجنا ان يكون الوعي موضوعا للنفس وحتى موضوعا مستقلا للعقل لكن يبقى وعينا الاشياء ومعرفتها وادراكها هو وسيلة العقل في تنظيم وتخارج معرفي بين الوعي والاشياء. بعلاقات لا حصر لها مع موجودات عالمنا الخارجي من ضمنها عالم الشعور النفسي...

 ميزة الوعي هو الذاتية الانفرادية في دخول معرفتنا العقلية وخبراتنا مع المدركات. اذا اجزنا لانفسنا استعارة مقولة ديكارت العقل اعدل قسمة مشتركة بين بني البشر فنكون مطمئنين القول الوعي هو اعدل قسمة يمتلكها جميع البشر الاسوياء لكن باختلافات نوعية.

ولا يحتاج الوعي الى ضرب من التحليل القصدي النفسي حسب ما يرغبه تعبير هوسرل وذهب الى ان التحليل القصدي يمهد الطريق كي يستخلص من المعاني الكامنة في كل من الشعور والادراك الحسي والتصور الذهني ماهياتها الفينامينالوجية.

الوعي وسيلة وظائفية للعقل الانفرادي أي ما يدركه (س) من الناس هو غير مايدركه آخرين للموضوع المشترك الواحد. الوعي بمفهومه النفسي كما يطرحه برجسون يعجز عن استخلاص المعاني الكامنة في الشعور والادراك الحسي والتصور الذهني وصولا الى معرفة الماهيات.

هذه القصديات الذاتية السلوكية النفسية التي ادرجها هوسرل يحققها الوعي العقلي وليس الوعي النفسي. هنا نود تثبيت الوعي كمصطلح مفهومي أنه جوهر خاصية النوع البشري حاله حال العقل واللغة والزمن والوجود.

الوعي وبعدد بما لا يمكننا حصره بمجالات اشتغاله لكنه وعي عقلي واحد لا ينقسم الى كثرة من الوعي. نستطيع الجزم القاطع ان الانسان والطبيعة والعالم الخارجي وكل المدركات الارضية والكونية هي وعي عقلي واحد لاغيره فلا يوجد فبركة فلسفية ابتدعها هوسرل اسماها الوعي القصدي فالوعي تفكير قصدي مجرد في حقيقته ناتج عقلي.. فليس هناك وعي خاص بالنفس وآخر خاص باللغة وثالث خاص بالحواس وهكذا. الوعي هو وسيلة العقل في معرفة وجودنا بمجمل طبيعتنا الادراكية. والوعي بخلاف الزمن غير محايد في علاقته بموضوعه.

لذا عمد ديكارت الى اختزال كل هذه الحالات والتجليّات الوجودية في عبارته ان الانسان موجود لانه يفكّر ولم يقل يفكر بماذا معتبرا التفكير بذاته وعيا بموضوع من الواقع او من الخيال... التفكير المجرد عن معناه مجردا بالضرورة الاستباقية الاولى هي لا تفكير له معنى ليس له موضوعا.، لان ذلك بديهية لوظيفة العقل الذي يفكرموضوعيا وتجريديا فكريا ايضا، بمعنى اوضح لاوجود لتفكير من فراغ او عدم بلا موضوع متعيّن يفكّر العقل به يكون محايث الادراك والتفكير في اثبات الوجود النوعي للانسان، حتى وان كان موضوع التفكير متخيّلا فكريا خارج المعطى المحسوس او العياني الواقعي للاشياء.

على اعتبار ان تخيّل الشيء ذهنيا لا ادراكيا حسيّا عقليا يدل على فعالية واشتغال (العقل) في اثبات وجود الشخص تأمليا مفكرا وذاتا تعي وجودها والمحيط من حولها.وان الخيال العقلاني المفكر الصامت يختلف عن الحوار المتعيّن وجودا ادراكيا في وعي الذات والتعبير عن موضوع لغويا. وحوار اللغة صمتا تفكيريا يكون بين الذات ووعيها لمدركاتها الموضوعية، بخلاف الخيال المعبّر عنه في اللغة المكتوبة او المنطوقة او الصورية او الفنية فيكون تفكيرا واقعيا.

كذلك فان وجود اي شخص كوعي ذاتي وادراك عقلي او حسي يعي الموجودات من حوله، يصبح مفروغا منه، في عبارة ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) ليس من تفكيره حتى الخيالي بشيء معين دون غيره وحسب، وانما وجود الانسان الواقعي الفاعل المتواصل الدائم يأتي من قدرة الانسان على التفكير وامتلاكه ملكة العقل والذكاء والخيال واللغة في ما لا نهاية له من ادراكات الموضوعات والاشياء الواقعية او المتخيّلة التي تشغل التفكير ويكون تثبيت الوجود الذاتي والموضوعي معا بها ومن خلالها كعلّة وسبب. 

ان الموجودات والاشياء اللامتناهية في الطبيعة والكوني التي يريد الشخص ادراكها ومعرفتها هي التي تمنحه وجوده الفاعل بالحياة، ووعي الذات لا يكون في غياب الموضوعات او الاشياء عنه عقليا ولا تخييليا. فليس الانسان موجود لانه يفكر تجريديا ذهنيا فقط كما يذهب له ديكارت، بل هو موجود في امتلاكه اثبات قدراته العقلية الذهنية اللغوية وملكته على الفهم والادراك لوجوده ووجود الاشياء من حوله أيضا وفي إمكانية التاثير المتبادل بينهما.

أي ان وعي الذات لايقوم على التفكير المجرد في وعي الوجود الذاتي لنفسه فقط من دون حضور الاشياء المفكر بها،لان وعي الوجود مرهون بالسبب المحايث للتفكير الذي هو وجود الموجودات والاشياء اللانهائية المادية وغير المادية وعلاقة الانسان بها.،

فوعي الوجود لا يتم الا بوعي الموجودات والمحيط واقعيا أو خياليا صامتا عندما لايعبّر الوعي عن التفكير الذهني الصامت لغويا،على اعتبار الخيال هو تفكير او حوار لغوي داخلي صامت يتم في الذهن المتخيّل عقليا تجريديا فقط، وعندما لا يتحول التفكير الخيالي الى لغة ناطقة تداولية او فعالية تعبيرية فنية تخاطب الاخر، فان فاعلية الخيال المنتج تتوقف عن تحويل موضوع الخيال المفكر به، مدركا كان او متعيّنا واقعيا مستقلا بوجوده، اوموجودا باللغة او غيرها من وسائط التواصل في التعريف بذلك الموجود او الموضوع المفكر به.

وفي تغييب هذه الخاصية التنظيمية للافكار لا يكون للخيال أي معنى او مغزى بل يصبح تهويما داخليا في العقل لا علاقة له بالتنظيم اللغوي السليم ولا في قدرة الخيال تحويل الموضوع المفكّر به الى موجود متعين او خيالي يمتلك تداولية القبول به مع الاخر، وهذا النوع من التخيلات العقيمة نجدها في هلاوس المجانين والانفصاميين العصابيين ومرضى الذهان العقلي وغيرها من عوامل تجعل الوجود المرضي وتفكيره بلا معنى، فهو عندهم تفكير غير معقلن لا يتوسط اللغة تداوليا، كسبب وعي الوجود وكذلك المحيط والموضوعات من حوله.

بمعنى ان التفكيرالعقلي الذهني الصامت المجرد وسيلة افتراقه عن الخيال المريض هي أن هذا الاخير عاجز عن تعيين وجوده وغيره من الموجودت بواسطة نظام اللغة التواصلي.

وفي التوضيح اكثر هو ان فاعلية الفكر بادراك الشيء والوعي به مصدرها الاحساس بالموضوع اولا ومرجعية العقل ثانيا، عليه نضع انفسنا امام استحالة ادراكية – عقلية وذهنية في الوعي بشيء مادي او غير مادي، بمجرد قولنا حسب هوسرل (ان الاشياء ومواضيع الادراك غير موجودة ولا فائدة منها بمجرد عدم وعينا وادراكنا لها). هذا كلام فارغ فموجودات الوجود لا تحدد وجودها الادراكي رغبة الانسان من عدمها فالموجودات مستقلة موجودة قبل رغبة الادراك العقلي فهمها.

وهنا يكون الادراك مثاليا في ادراك ذهني لا علاقة له بالخيال المنتج او ادراك الواقع. وهذا النوع من الادراك تم تجاوزه فلسفيا كما موجود في فلسفة هيجل المثالية الجدلية، على يد ماركس في المادية الديالكتيكية والتاريخية التي تذهب عكس ما ذهب له هوسرل في أسبقية الوعي على المادة، وبأن المادة حسب ماركس أسبق على الوعي المفروز عنها. أي وجود الشيء مسبقا يحدد تفكيرنا به لاحقا، وليس العكس ان وعي البشر هو الذي يحدد وجود الاشياء، بل العكس ان وجود الناس الاجتماعي والطبقي هو الذي يحدد وعيهم الفكري والثقافي والفني والديني.

كما ان ما لا ندركه لا أهمية له لدى هوسرل ربما تنطبق صحته الوهمية الساذجة في عدم حاجتنا او بعضنا التفكير في امور الميتافيزيقا ومسائل الدين في الجنة والنار وغيرها من غيبيات اللاهوت، فهي لا تعني كل الناس في اهمية ووجوب التفكير بها عقليا ادراكيا والتوصّل الى يقينيات بشأنها، وانما الايمان والتسليم بها غيبيا في القلب هي الغالبة.

ومن دعوة هوسرل (انه لا ذات بلا موضوع) التي هي سليمة وصحيحة الى حد ما،اذا ما فهمت الجملة بصيغة الجدل الديالكتيكي في تبادل التاثير المتناوب بين الذات والموضوع، وتصبح باطلة غير صحيحة في قول هوسرل: (ليس هناك من حاجة او اهمية  لفصل الذات عن الموضوع!! والذات والموضوع متداخلان لايمكن ولا يجوز الفصل بينهما، والذات والموضوع شيء واحد) حسب ادبيات فلسفته الظاهراتية (الفينامينالوجيا).

هنا يكرر هوسرل مفهوم الدائرة المغلقة عند شوبنهاور، بان الوجود الانساني هو الحلقة الدائرية التي يحياها الانسان في تعاقب ابدي هو فهم مستمد من نيتشه انه لا حقيقة نعيش من اجلها الحياة، ولا حقيقة نعيش من اجلها وهم الخلود بعد الموت، وان دورة الحياة الدائرية انما هي تبدا بنقطة افتراضية وهمية ولا تنتهي بنقطة تتوقف عندها بعد الممات.

 وفي فهم هوسرل ان (الانسان ذات وموضوع في وقت واحد) التي أخذها عن شوبنهاور، هو فهم صحيح بالنسبة للانسان وحده كوجود مستقل عن الاخر وعالم الاشياء الخارجية المحيطة به تماما،  في ادراك الانسان ذاته ووعيه بها عندما يتأمل وجوده كموضوع، الموضوع المتداخل مع ذاته في كينونة مستقلة واحدة تجمعهما، اما في حال ادراك الانسان للمواضيع والاشياء الخارجية عنه، فهنا تكون الذات والموضوع كلا منهما وجودا مستقلا عن الاخر، وفي استقلالية وجودية احدهما عن الاخر، ولا تبقى الذات والموضوع واحدا في وحدة اندماجية لا يتم التفريق بينهما او يتعذر ذلك الفصل المطلوب بينهما.

هنا احاول أن اضرب مثالا هو القول بعدم امكانية فصل الموضوع عن الذات وهم فلسفي غير صائب. لو اخذنا بالقانون الميكانيكي الفيزيائي (لكل فعل رد فعل يعاكسه بالاتجاه ويساويه بالمقدار) هذا بدا بالقانون الفعل هو الموضوع الاستفزازي للذات بالرد (الذات) على الموضوع الصادر عنه الفعل برد فعل يعاكسه الاتجاه ويساويه بالمقدار. ولو كانت الذات هي والموضوع جوهرا واحدا لابطلنا صحة القانون الفيزيائي لانه فرّق بين الذات والموضوع.

اضرب مثالا آخر على خطل وعدم صواب ان تكون الذات هي موضوعها وكلاهما جوهر واحد لا انفكاك بينهما. توجد للمؤرخ العالم بتاريخ نشوء وشيخوخة الحضارات هو شبنجلر. القانون الذي اخترعه الالماني اوسفولد شبنجلر فيلسوف ومؤرخ وعالم تاريخ الحضارات 1880-1936 هو قانون (التحدي والاستجابة) الذي هو نسخة اسقاطية للقانون الفيزيائي الذي مررنا عليه (لكل فعل رد فعل....الخ) على نظرية نشوء الحضارات. انه بداية نشوء كل حضارة هي استفزاز الظروف الموضوعية والتاريخية لارادة الانسان بوجوب المواجهة ووجوب وضع الحلول للافضل بالحياة.

التفكير لا يكون آلية بيولوجية - فيزيائية

 ان امتلاك الانسان قدرة وآلية التفكير الواقعي او التجريدي لا  تجعل من الانسان مفكرّا، الا بعد ان يكون في وعيه وادراكه او حتى في خياله موضوعا او شيئا متعيّنا مفكّرا به اي يكون موضوعا للتفكير، وبهذا الفهم تصبح مقولة هوسرل انا افكر بشيء اذن انا موجود صحيحة، وهي مشروطة بعدم وجود فعالية تفكيرية عقلانية يحوزها الانسان فقط، من غير موضوع او موجود مستقل مفكّر به سواء ادركه العقل ام لم يدركه حسيا او تخييليا، وحتى الصمت الخيالي هو في حقيقته تفكير وحوار داخلي لا يعبّر عنه باللغة التداولية، لكنه يبقى تفكيرا ذهنيا تنعدم فيه اللغة المنطوقة او المكتوبة او المعبّر عنها باللغة الحركية الصورية الايحائية، ولا يمكننا الحديث عن ادراك للذات بدون موضوع او شيء مغاير عنها ( شيء آخر غير الانا المفكّرة). ووعي الانسان بذاته لا يتحقق من دون ارتباطه واقترانه بشيء مغاير لذاته. ولا يمكننا التأكد من حضورنا كذوات مفكّرة وموجودة دون وجود الغير المتعّين او الاشياء بأي شكل او صيغة بدت لنا، ولا نتوحد معها كيفيا في تطابق بالصفات بالنسبة للنوع كبشر، أي وعي الناس بوجودهم المفكر ذاتيا لا يكون حقيقيا من دون احساسهم بالوجود الخارجي للأشياء المفارق لوجودهم وتفكيرهم.

 ان الوجود ممثلا بالطبيعة وقوانينها المستقلة عن الوجود الانساني، وفي مختلف التجليات لوجود الاشياء هو وجود قائم بذاته خارج رغباتنا. وجود الذات هو في المغايرة مع وجود الآخر كمتعيّن حاضر في علاقة الارتباط بغيره من الاشياء. وان وعي الانسان بوجود انسان آخر مثله، لا يعني تطابقهما الكيفي بادراك الذات او الوجود المغاير، حتى في الموضوع الواحد المشترك بينهما، وانما بالتقاء صفاتهما او بعضها في الجنس الواحد كنوع جامع لهما، لكنهما يبقيان محتفظان بادراكهما المتمايز المختلف في فهم الوجود والاشياء وهو ما يصح تعميمه على الوجود البشري عامة، بأن جميع الادراكات مختلفة ومتنوعة بعدد البشر ولا نهائية الاشياء والموجودات والكوني وفي لا نهائية ولادة البشر وموتهم جيلا بعد جيل.

علي محمد اليوسف

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟