استمرارا لما قاله بيليدور في بداية الجزء الأول، أكد على أن الحقيقة كتطابق الشيء (المخلوق) مع العقل (الإلهي) تضمن الحقيقة كتطابق الفهم (البشري) مع الاشياء (المخلوقة). الحقيقة تعني في كل مكان وفي الأساس المطابقة، انسجام المخلوقات مع الخالق، "تناغما" محددا إذن بنظام الخلق. لكن هذا النظام، المنفصل عن أي فكرة عن الخلق، يمكن أيضا تمثيله بطريقة عامة وغير محددة كنظام للعالم. ماذا يحدث بمجرد التخلي عن فكرة الخلق؟ منطقيا، التعريف، من حيث التطابق، وحقيقة القضية، ينبغي الاعتراف من الآن فصاعدا بأنهما بدون أساس. وبدلاً من نظام الخلق المتصور لاهوتياً، ينشأ تنظيم ممكن لجميع الأشياء بواسطة العقل الذي، باعتباره مادة كونية، يمنح لذاته قانونه وهكذا يسلم بالمعقولية المباشرة للخطوات التي تشكل مساره (ما نعتبره "منطق الفكرة").
من خلال التفكير بهذه الطريقة، يلمح هايدجر إلى "فينومينولوجيا الروح" لهيجل الذي رفض أيضا صراحةً التطابق، رفضا يعني بوضوح إلغاء التعريف التقليدي للحقيقة، وجاء هايدجر ليحذو حذوه. من ثمة لم يعد من الضروري أن نبرر على وجه التحديد أن جوهر حقيقة الحكم يكمن في تطابق العبارة.
إن استبدال نظام العالم بالنظام الإلهي يقدم ميزة مزدوجة: يسمح، من ناحية، بالتخلي عن ضرورة وجود أساس لحقيقة القضية في حقيقة الشيء، بتقليص "مكان" الحقيقة (أي قصر الأخيرة على مجال القضية وحده)، وتخليصه من كل تدخل لاهوتي؛ ويسمح، من ناحية أخرى، من خلال الاحتفاظ بفوائد هذا الأساس طي الكتمان، بعدم المساس بسلامة "طبيعة" الحقيقة. ومتى سعينا جاهدين مع فشل ملحوظ في شرح كيفية إثبات المطابقة، إلا ونقوم بافتراضها مسبقا باعتبارها جوهر الحقيقة. بالمثل، تعني حقيقة الشيء دائما مطابقة الشيء المعطى لمفهومه الأساسي كما يتصوره "العقل". ما يسعى هايدجر إلى جعله مفهوما هنا هي هذه الحركة المزدوجة التي من خلالها أضفى تقليد معين المشروعية على تعريف الحقيقة كتطابق (من خلال تأسيس هذه التطابق في النظام الإلهي) ومنح لهذا الأخير بداهته؛ ليتلاشى بعد ذلك لصالح هذه البداهة بالذات، التي تم منذ ذلك الحين الاحتفاظ بها وحدها، على أعتبار أنها تأسست مع ذلك بطريقة سرية على أرضية لاهوتية تدعي أنها تخلصت منها.
هذا هو التحديد، الخالص ظاهريا، غير المؤسس مع ذلك، لماهية الحقيقة الذي راج في تاريخ الفلسفة من أقصاه إلى أقصاه، من أفلاطون إلى نيتشه. تمت صياغته أيضا بوضوح منذ بداية هذا التاريخ كما يلي: "تتمثل الحقيقة في تطابق (omoiosis) الكلمة (logos) مع الشيء (pragma). لهذا السبب جاز ل"الوجود والزمان"، دون الدخول في تحليلات "في ماهية الحقيقة"، محاضرة ألقيت في بريمن عام 1930، أي بعد ثلاث سنوات من "الوجود والزمان"، أن يقتصر على تلخيص التعريف التقليدي للحقيقة من خلال الأطروحتين التاليتين:[(1) "مكان" الحقيقة هو العبارة (الحكم)؛ (2) ماهية الحقيقة تكمن في "توافق" الحكم مع موضوعه]. هذا النص (في ماهية الحقيقة) الذي جرى تنقيحه عدة مرات حتى عام 1943م تاريخ طبعته الأولى، احتفظ المؤلف دائمًا بنسخة منه منفصلة. يمكننا أن نقول إن هذه الصفحات العشرين تشكل الخيط الناظم لجميع كتابات هايدجر اللاحقة. ما يميزها، يتابع هو نفسه، هو أن الفتح الحاسم ل"الوجود والزمان"، أي تأويل الوجود تحت أفق الزمان، لم يحدث فيها بشكل مقصود. هذا لا يعني أن هايدجر تراجع منذ عام 1930 عن "الوجود والزمان"، لكن ما يقوله لا يعني أنه بكل بساطة تتمة كتلك التي نتوقعها في رواية مسلسلة. تحت سطوة بداهة هذا المفهوم عن الحقيقة، وما أن يتم بالكاد النظر إليه في أسسه، حتى نسلم بأنه من البديهي كذلك أن يكون للحقيقة نقيضها وأن توجد اللاحقيقة. لاحقيقة الحكم (عدم المطابقة) هي عدم توافق الكلمة مع الشيء.
لاحقيقة (لاأصالة) الشيء تعني عدم توافق الموجود مع ماهيته. لذلك جرى فهم اللاحقيقة في كل مرة على أنها لااتفاق. هكذا إذن يسقط الأخير خارج ماهية الحقيقة. لهذا السبب يمكن إهمال اللاحقيقة، باعتبارها نقيضا للحقيقة، عندما يتعلق الأمر بإدراك الجوهر الخالص لهذه الأخيرة. أمام ذلك كله، كيف يمكننا تحديد الموقف الهايدجري بشكل صحيح؟ لم يسبق له أبدا أن أكد أن تصور الحقيقة الذي تم التذكير به للتو كان خاطئا: لكنه مشتق. لهذا ما تعلق الأمر إطلاقا عنده برفصه ولا حتى بتجاوزه، بل بتأسيسه. هذا العزم وحده يسمح لنا بفهم الأسئلة التي طرحها على التعريف التقليدي للحقيقة، والتي تتعلق كلها بشروط الإمكان عنده. الشرط الرئيسي والأول هو هذا: ما أن يصبح فعلا اللاهوت، الذي أسس سرا "التطابق"، مهجورا، يحق لنا أن نتساءل: ماذا تعني "المطابقة"؟، وبأي شيء هي ممكنة؟ سوف نرى أن مثل هذا التساؤل يوفر قوة دافعة حاسمة لرجوع متدرج، سوف يقود الحقيقة، خارج النظام الحملي، نحو النظام الكينوني، ثم خارج النظام الأخير، نحو النظام الوجودي (الأنطولوجي) الذي سيتعين علينا تحديده لاحقا.
إذا تبنى هايدجر مثل هذا النهج، فذلك يعني أن الحقيقة بالنسبة إليه ليست ذات إقامة أصلية في الحكم، ومثل متجول منعزل، تنطلق في طريقها نحو فتح هذه الإقامة الأصلية. ووفقا له، تستعير مطابقة الحكم مظهر إدراك ماهية الحقيقة بالاعتماد على أساس يحاول هايدجر اكتشافه.
والٱن، ماذا عن إلغاء التعريف التقليدي للحقيقة وأساس تمكين المطابقة؟. تمهيدا للإجابة على السؤال، طرح بيليدور سؤالا ٱخر: "ماذا يعني تطابق مع عبارة مع شيء؟ طالما أننا نريد احترام البيانات الأكثر بدائية للمعرفة، فالجواب لا يعتريه أدنى شك: الكلمة توافق الشيء، فهي مطابقة أو مناسبة إذا عبرت عن الشيء كما هو. يمكننا أن نتحدث عن التطابق بمعان مختلفة. نقول، مثلا، في حضرة قطعتين نقديتين من فئة خمسة سنتات: هناك تطابق بينهما. إنهما متطابقتان بتماثل مظهرهما. لديهما إذن هذا الجانب المشترك، ومن وجهة النظر هذه، فهما متماثلتان. دائما نتحدث التطابق عندما نقول مثلاً عن إحدى القطع النقدية: هذه القطعة النقدية دائرية. لم تعد العلاقة الآن قائمة بين شيء وشيء، بل بين عبارة وشيء.
يتساءل هايدغر عما يجعل الشيء والعبارة يتلاءمان؟، (هل) عندما يختلف بوضوح حدا العلاقة تختلف في مظهرهما؟ القطعة النقدية مصنوعة من المعدن، العبارة ليست مادية بأي حال من الأحوال. القطعة النقدية مستديرة، بينما العبارة لا خاصية مكانية لها. تتيح لك القطعة النقدية شراء شيء ما، بينما العبارة ليست وسيلة أداء. ولكن رغم كل هذه الاختلافات، يستخلص هايدجر، تتطابق العبارة المعنية، باعتبارها صادقة، مع القطعة النقدية. وهذا الاتفاق، وفق مفهوم الحقيقة المتداول، يجب أن يُنظر إليه على أنه مطابقة. ولكن كيف لما هو مختلف تماما، العبارة، أن تجعل من نفسها متطابقة مع القطعة التقدية؟ يجب أن تصبح هذه العبارة قطعة نقدية وهكذا تتوقف تماما عن أن تكون هي نفسها. هذا ما لا يمكن أن يحدث، يتابع هايدغر. في الوقت الذي يحدث فيه مثل هذا التحويل، فسيكون من المستحيل أن تستطيع العبارة، باعتبارها كذلك، أن تكون متطابقة مع الشيء. نحن نعلم أن أفلاطون كان يتصور الحقيقة على وجه التحديد على أنها تماثل في المظهر (Eidos)، في علاقة بالشكل المعقول الموجود مسبقا. ولتحقيق الملاءمة، يجب أن تبقى العبارة، أو حتى أن تصبح، ما تكون حقا. فيم تتمثب إذن ماهيتها، المختلفة جوهريا عن ماهية كل شيء؟
كيف يمكن أن تكون عبارة، مع الحفاظ على ماهيتها، متطابقة مع الٱخر، مع شيء؟ ولا يمكن أن تعني المطابقة هنا واقعة وجود شيئين من طبيعة مختلفة يصبحان فعلا متماثلين. وينبغي أن نستنتجةمن ذلك أن جوهر المطابقة يتحدد بطبيعة العلاقة القائمة بين العبارة والشيء. يقترح هايدجر ما يلي: طالما تبقى هذه "العلاقة" غير محددة ولا أساس لها في جوهرها، فكل نقاش حول الإمكان أو الاستحالة، حول طبيعة هذه المطابقة ودرجتها، يجري في فراغ. ترتبط العبارة المتعلقة بالقطعة النقدية بهذا الشيء من حيث أنه يستحضر ويقول ما هو مستحضر بحسب المنظور الموجه للنظر. لنفهم أن كلمة "استحضر" بمعناها الاشتقاقي تعني: "جعل [شيئا] حاضرا" أمامه، مع استبعاد أي فكرة عن التمثيل بالمعنى الذي يتلقاه هذا المصطلح عادة في الإبستيمولوحيا أو علم النفس. العبارة المستحضرة (اسم مفعول) لما تقوله عن الشيء المستحضر (اسم فاعل)، تعبر عنه كما هو. ال"كما هو" يهم الاستحضار وما استحضره. "استحضر" يعني أيضا، مع وضع جميع التحيزات "النفسية" و"الإبستيمولوجية" جانبا، واقعة ترك الشيء يظهر أمامنا كشيء.
هذا الذي يواجهنا إذن، في موقف من هذا القبيل، وجب أن يقيس مجالا منفتحا على لقائنا، بل عليه كذلك أن يبقى الشيء كما هو ويظهر ذاته في حال من الاستقرار، أي في موقفه. هذا الظهور للشيء باعتباره يقيس مجال اللقاء، يتم تحقيقه ضمن انفتاح لم تنشأ طبيعة انفتاحه بالاستحضار، ولكن الأخير استثمره وتولاه كمجال علائقي. إن علاقة التلفظ الاستحضاري بالشيء هي بمثابة تحقيق لهذه الإحالة التي يتم تنفيذها في الأصل وفي كل مرة كتنشيط لسلوك ما. كل سلوك، يؤكد هايدجر، إلا ويتميز بكونه، وهو يثبت نفسه ضمن المنفتح، متمسكا دائما بما هو ظاهر كما هو.
هذا الشيء الوحيد الذي يكون، بالمعنى الدقيق للكلمة، ظاهرا اعتبره الفكر الغربي في وقت مبكر "ما هو حاضر" { fi.as Anwesende ) وامتلكه لفترة طويلة تحت اسم "الموجود" ("das Seiende"). السلوك مفتوح على الموجود. كل علاقة {بواسطتها ننفتح على...) هي سلوك. الفاتحية [apérité] (التعبير عن فكرة الانفتاح) تختلف وفق طبيعة الموجود وطريقة السلوك. كل عمل وكل إنجاز، كل فعل وكل توقع إلا وينشأ في انفتاح مجال مفتوح فيه يتموقع الموجود بشكل صحيح ويجعل نفسه قادرا بشكل صحيح على التعبير عن ذاته كما هو وكيف هو. وهذا ما لا يحدث إلا عندما يقترح الموجود نفسه في التلفظ الذي استحضره، بحيث يخضع هذا التلفظ لتعليمة التعبير عن الموجود كما هو. هكذا إذن، بقدر ما يطيع التلفظ هذه التعليمة، بقدر ما يتطابق مع الموجود. التعبير الخاضع لهذه التعليمة مطابق (صحيح). يجب على العبارة أن تستعير مطابقتها من انفتاح السلوك. ذلك لأنه فقط بواسطة هذا الانفتاح يمكن أن يصبح الظاهر، بشكل عام، المعيار التوجيهي للأفهمة المناسبة.
لكن السلوك المنفتح نفسه يجب أن يقبل الاسترشاد بهذا المعيار. هذا يعني بالنسبة إلى هايدجر أنه يجب على السلوك أن يقبل الهبة المسبقة لهذا المعبار الموجه لكل استحصار. وهذا أمر متأصل في فاتحية السلوك. يمكن تأسيس الاستدلال المقنع على النحو التالي: "لكن إذا كان فقط من خلال فاتحية السلوك تصبح المطابقة (الحقيقة) للعبارة ممكنة، فإن ما يجعل المطابقة ممكنة له حق أكثر أصالة في اعتباره جوهر الحقيقة. وهكذا يسقط الإسناد التقليدي والحصري للحقيقة إلى الحكم (العبارة)، الذي يعتبر مكانها الأساسي الوحيد. إنها تقع أولا على مستوى انفتاح الوجود هنا باعتباره الوجود-في-العالم. الآن، بما أن الحقيقة الحملية تم هجرانها للتو، يجب أن نخطو خطوة اسفل النظام الحملي من خلال التوجه نحو النظام الأنطيقي (الكينوني) في صحبة هايدجر. لندرك أن الأنطيقي يعني الموجود بما هو موجود، كما هو، في حين أن المستوى الأنطولوجي، أي ما يجعل الوجود يكون كما هو، سوف ينضم إلى انفتاح الوجود-في-العالم كما هو.
وهو في بحث دائم عن أساس الإمكان الجوهري لفاتحية السلوك، يتساءل هايدجر: من أين يستمد التلفظ الاستحضاري تعليمة توجيهه نحو الشيء وتطابقه وفق قانون المطابقة؟ لماذا تعد هذه المطابقة شريكا في تحديد ماهية الحقيقة؟ كيف يمكن أن تتحقق الهبة المسبقة لمعيار؟ وكيف يتم إنتاج الأمر بالمطابقة؟ هذا ما لن يحدث إلا إذا جعلنا هذا التبرع المسبق أحرارا عند المنفتح بالنسبة إلى ما يظهر فيه وما سيربط كل استحضار. التحرر من إكراه المعيار لا يكون ممكنا إلا إذا كنا أحرارا تجاه ما هو ظاهر من داخل المنفتح. تحيل هذه الطريقة في التمتع بالحرية إلى الماهية التي أسيء فهمها حتى الآن للحرية التي سنعمل على التطرق لها في الجزء الثاني.
إن فاتحية السلوك، التي تجعل التوافق ممكنا، ترتكز على الحرية. وبأخذ هذا المرتكز كشرط أساسي، يمكننا القول أن ماهية الحقيقة هي الحرية. لكن هذا التأكيد على ماهية المطابقة ألا يحل "بداهة" محل أخرى؟ لا يمكن أن يتم الفعل إلا من خلال حرية الشخص الذي يفعل. هذا هو الحال أيضا مع فعل التلفظ بالاستحضار، ومرة أخرى مع السلوك أو رفض "حقيقة". ورغم ذلك، هذه الأطروحة لا تعني أنه من أجل استكمال العبارة، من أجل توصيلها أو استيعابها، يجب أن نتصرف دون إكراه، لكنها تقول: الحرية هي ماهية الحقيقة ذاتها.
ونعني هنا بـ "الماهية" أساس الإمكان الجوهري لما هو مقبول مباشرة وبشكل عام كمعروف.. إلا أننا لا نفكر بواسطة مفهوم الحرية في الحقيقة، ناهيك عن ماهيتها. وبما أن أساس إمكان المطابقة صار معروفا، فهل يجب أن نستنتج أنه تم التوصل إلى ماهية الحقيقة؟ ظاهريا، لا. في البحث عن هذه الماهية، يحق لنا أن نتناول البعد الثاني من النهج الهيدجري من خلال تسليط الضوء على الحقيقة الأنطيقية.
قلنا سابقا إن ما هو ظاهر، بالمعنى الدقيق للكلمة، ما هو موجود، اختبره الفكر الغربي في وقت مبكر على أنه "ما هو حاضر" وسماه منذ ذلك الحين لفترة طويلة ب"الموجود". بهذا التأكيد، ندد هايدجر بالمشكلة التي واجهت تقليديا نظريات المعرفة: مشكلة “الجسر” الذي يربط الذات بالموضوع، النفسي بالجسدي، الوعي بالواقعي. ينطلق النهج الهايدجري برمته من الموجود إلى الوجود أو من الكينوني إلى الأونطولوجي. في القول بأن التلفظ هو تبيان الشيء نفسه دعم للأطروحة الديكارتية عن الذاتية. ما هي، بالفعل، "الذات" في التقليد الفلسفي، وريث ديكارت؟ إنها تتميز بـ "الوعي" الذي، وهو مرتبط بـ "الأشياء"، يستطيع تشكيل "التمثلات". إذن للزوج ذات-موضوع كشرط للمعقولية زوج استعاري داخل-خارج: «خارج»، هناك أشياء وعالم، بمعنى آخر أشياء؛ "داخل" هو المأوى الراسخ، ملجأ الباطنية، حرمة الوعي. هذا التعارض المزدوج ذات-موضوع، داخل-خارج، يتوقف هو الٱخر على تعارض أكثر أصالة إنغلاق-انفتاح: إذا كان ال«خارج» ممتدا بلا تحفظ، فإن ال«داخل» انغلاق على ذاته، "تغليف" في النطاق الداخلي. يكفي أن يتطاير هذا النطاق الداخلي شظايا حتى يتم في نفس الوقت تقويض إحكام مثل هذين الزوجين المتعارضين بالمفارقة التاريخانية.
لكن هذا ما يحدث عندما يتم طرح "الوعي" باعتباره لا يشكل إلاىشيئا واحدا مع انفتاحه الخاص على العالم: منفصلا عن أي استعارة انغلاقية، يصبح من الاعلى إلى الأسفل ظهورا أو انفصالا عن الذات، قدرة على أن يكون خارج الذات، تعاليا. سوف ندرك بالطبع، في هذا الانفجار لـ "الشيء الذي يفكر" الديكارتي، ما أسماه هوسرل بمصطلح القصدية. تتمثل القصدية الفينومينولوجية أساسا، بالنسبة إلى هوسرل، في تحديد الفكر والوجود. فالوعي لا يعتبر الفكر صفة أساسية للشيء الذي يفكر. وعندما ينكر هوسرل أنه يمكن القول بأن الوعي يوجد أولا ويتجه نحوةموضوعه في ما بعد، فإنه يؤكد في الواقع أن وجود الوعي ذاته يكمن في الفكر الذي ليس له شرط أونطولوجي. الفكر نفسه هو الأنطولوجيا. الوجود لم يعد وجودا لتلك الركيزة، بل وجودا للوعي ذاته. لكن عند هايدجر تنتقل تبادلية الوجود من الوعي باعتباره ارتباطا مقاصديا بالأنا المتعالي وبالموضوع كمستهدف إلى الوجود كانتماء متبادل للدازاين ولانكشاف الوجود.
في هذه النقطة، يقدم هايدجر نفسه كمتابع مخلص للفينومينولوجيا الهوسرلية. هذا هو المعنى الكامل لنصوص في"الوجود والزمان" يسخر فيها كاتبها من التصور المعتبر مكانيا بشكل تقليدي عن للمعرفة التي تفهم كحركة خروج من "ملجإ" الوعي، ثم عودة الذات "محملة بغنيمتها" إلى كل استعارات "التغليف": لا يخرج الدازاين من نطاقه الداخلي، الذي سيتم تغليفه فيه، ولكن نمطه الأساسي في الوجود هو ما يجد نفسه دائما بالفعل في الخارج. يتعلق الأمر بتوضيح نمط وجود المعرفة، من خلال تحليل ظاهرة الحقيقة التي هي قلبها. لا تتضح الحقيقة بشكل ظاهر إلا في فعل المعرفة، عندما يقال عن هذه الأخيرة أنها صحيحة. إنما في هذه الظاهرة المحددة لمعرفه صحيحة،(لعبارة معطاة على أنها صحيحة) قام هايدجر بتوضيح علاقة المطابقة. وقد رأينا للتو أن هايدجر يدين العلاقة ذات-موضوع. التلفظ، بالنسبة إليه، لا يعني التمثيل بطريقة نفسية، ولا إعادة إنتاج صور سبقت مشاهدتها.
بالنسبة إلى هايدجر، التلفظ يعني أن تكون قريبا من الشيء الموجود. هو الموجود ذاته المشار إليه في العبارة. إن العلاقة الأنطولوجية للتلفظ بما هو هي إظهار الموجود. التلفظ هو وجود الشيء ذاته. ما يأتي لأن يقال هو أن الوجود المعبر بالنسبة إلى الشيء المعبر عنه هو إظهار للموجود، إنه يكشف غن الكائن الذي يرتبط به. "ظهور المعرفة لا يقوم على تطابق المعرفة مع الموضوع، لكنه يقوم على الوجود- الكاشف للموجود ذاته، بل على الوجود- المكشوف" الخاص به. يتأكد هذا الأخير بكون الشيء المعبر عنه، أي الموجود ذاته يظهر نفسه كما هو نفسه.
التأكيد يعني: إظهار الموجود في هويته. التأكيد يتم إنجازه على أساس ظهور الوجود. ولكن هذا لا يكون ممكنا إلا بقدر ما تكون هذه المعرفة التي تتلفط وتتأكد هي نفسها، من حيث معناها الأونطولوجي، الوجود-الكاشف للموجود الواقعي. عندما نقول إن العبارة صحيحة، فإننا نعني أنها تكشف عن الموجود في ذاته. إنها تعبر، تظهر، "تجعل مرئيا" الموجود افي وجوده المكشوف.
يجب أن يُفهم الوجود الحقيقي (wahrsein)، الحقيقة الأنطيقية (الكينونية) للعبارة على أنها "وجود-كاشف". الحقيقة الأنطيقية أو الوجود-الحقيقي كوجود كاشف، ليست ممكنة إلا على أساس الوجود-في-العالم. اعترف هايدجر بهذه الظاهرة كتشكيل أساسي للدازاين. إنها أساس الظاهرة الأصلية للحقيقة التي من المناسب الآن سبر أغوارها من خلال تقديم بلورة البعد الثالث للنهج الهيدجري نحو الحقيقة الجوهرية حقا، وهي: الحقيقة الأنطولوجية.
(يتبع)
المرجع:
RUBENS BÉLIDORA propos de la problématique de l Être: L ESSENCE DE LA VÉRITÉ ET DE LA LIBERTÉ HUMAINE CHEZ HEIDEGGER